غيب الموت
المخرج المصري الكبير يوسف شاهين عن عمر ناهز 82 عاماً بعد نحو خمسة
أسابيع من دخوله في غيبوبة نتيجة نزيف في المخ.
وقالت
وكالة «أنباء الشرق
الأوسط» ان شاهين وافته المنية يوم الأحد 27 يونيو/ حزيران
الجاري في مستشفى
المعادي للقوات المسلحة بالقاهرة التي نقل إليها قبل نحو عشرة أيام بعد
إجراء جراحة
مؤخرا في فرنسا لإصابته بنزيف دموي بالمخ.
وأقيم
قداس على روح شاهين ظهر
الاثنين التالي لوفاته في كاتدرائية القيامة في بطريركية الروم
الكاثوليك في الظاهر
بالقاهرة، ووري جثمانه الثرى بمقابر العائلة بالإسكندرية يوم الثلثاء.
وكان
شاهين وهو أشهر مخرجي مصر والعالم العربي قد تعرض لإصابة في الرأس يوم 14
يونيو/
حزيران الماضي، أدت لحدوث نزيف في المخ «تحت الأم الجافية» دخل بعدها في
غيبوبة.
ولد شاهين
في مدينة الإسكندرية الساحلية في 25 يناير/ كانون الثاني
عام 1926 لأسرة مسيحية من أصول لبنانية. ودرس الفقيد في مدرسة فكتوريا
الشهيرة
بالمدينة قبل أن يحصل على ماجستير في الدراما والفنون المسرحية من معهد
«باسا دينا»
بولاية كاليفورنيا الأميركية.
واشتهر
شاهين بإخراج طيف واسع من صنوف الدراما
السينمائية كالأفلام التاريخية والواقعية والرومانسية والذاتية، بالإضافة
إلى أفلام
ذات طابع فانتازي.
وتناول
شاهين الذي يطلق عليه «فلليني العرب» مواضيع عدة
في
أفلامه كمسألة الصراع الطبقي والقمع السياسي والكبت الجنسي قبل أن يركز في
أفلامه الأخيرة وخاصة «المهاجر» و «المصير» و«الآخر» على نقد الأصولية
الإسلامية.
بدأ شاهين
مشواره مع الشاشة الفضية في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني
العام 1950 عندما عرض أول أفلامه «بابا أمين» المقتبس عن رواية أميركية، ثم
أخرج
عدة أفلام منها «ابن النيل» و «المهرج الكبير» و«سيدة القطار» و «نساء بلا
رجال».
إلا أن
أسلوب شاهين الواقعي المتميز لم يتضح إلا بعد فيلم «باب
الحديد» الذي أنتج العام 1958 ويصور فيه شاهين الصراع بين المهمشين في كبرى
محطات
القطارات بالقاهرة بطريقة لم تكن مألوفة في السينما المصرية. إلا أن الفيلم
الذي
قام شاهين بأداء احد ادوار البطولة فيه فشل تجاريا بشكل ذريع.
ولم تبدأ
شهرة شاهين الحقيقية إلا بعد استعانته ببعض النجوم الكبار كعمر الشريف
وفاتن حمامة
اللذين اخرج معهما فيلميه «صراع في الوادي» و «صراع في الميناء».
وبدا
شاهين
رحلته مع الأفلام التاريخية بإخراج فيلم «جميلة» عن المناضلة الجزائرية
جميلة بو
حيرد في عام 1958، وفيلم «الناصر صلاح الدين» في عام 1963
والذي صور حياة صلاح
الدين الأيوبي وقتاله الصليبيين، إلا أن نقادا كثرا رأوا في الفيلم إسقاطا
على
الزعيم المصري حينها جمال عبدالناصر.
إلا أن
شاهين بدأ يطور خطا فنيا ناقدا
لمسيرة
ثورة يوليو/ تموز عام 1952 المصرية التي قادها عبدالناصر وخاصة مقولات
حماية
الفقراء ونشر العدالة الاجتماعية والحرية السياسية وذلك في أفلام الأرض
(1969)،
والاختيار (1970)، والعصفور (1972)، وعودة الابن الضال (1976).
كما صور
شاهين حياته الشخصية في ثلاثيته إسكندرية ليه (1979)، وحدوتة مصرية (1982)،
وإسكندرية كمان وكمان (1991).
وكان آخر
فيلم لشاهين هو فيلم «هي فوضى» الذي
صوره العام الماضي بالتعاون مع تلميذه خالد يوسف وحقق نجاحا جماهيرياً
كبيراً،
ويتناول فيه ظاهرة التعذيب في مصر واستغلال عناصر الشرطة لمناصبهم لتحقيق
مصالحهم
الخاصة.
وحصل
شاهين على عدة جوائز دولية منها جائزة مهرجان قرطاج عام 1970
عن
فيلم «الاختيار»، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان برلين عن فيلم
إسكندرية
ليه في عام 1979. كما حصل على جائزة مهرجان كان في عام 1997 عن
مجمل أعماله الفنية.
وشاهين
متزوج من الفرنسية «كوليت» وليس له أي أبناء.
آراء في
شاهين
على رغم
اختلاف وجهات نظر النقاد والمخرجين حول السينما التي قدمها
شاهين في سنواته الأخيرة، فان الجميع يتفق على أن شاهين هو الذي أوصل
السينما
المصرية للعالمية واحتفاء مهرجان كان به ومنحه جائزته في الذكرى الخمسين
لتأسيسه
دليل على ذلك.
يقول
الفنان نور الشريف الذي عمل معه في «حدوته مصرية» و «المصير»
و «11 سبتمبر» إن «أفضل ما يمكن قوله لوصف تجربة شاهين قبل أفلامه
(العصفور)
و(الأرض) بأنه ثوري شيطاني كما عبرت عنه أفلامه الأولى دون أية أبعاد
تنظيرية(...) لديه إحساس مبكر بتلمس هموم الوطن والمواطنين».
وأضاف
الشريف
«كان
وعيه المبكر بهذه الهموم مدهشا فمثلا فيلم (نداء العشاق) كان يحمل دعوة
مبكرة
للحفاظ على عمال المصانع وتوفير التأمين الصناعي الذي لم يكن مطروحا في تلك
الفترة
في الواقع المصري».
وكان
شاهين كذلك مهتما «بالصراع العربي الصهيوني من خلال
الاسترجاع التاريخي للحروب الصليبية في فيلم (الناصر صلاح الدين) والصراع
ضد
الاستعمار كما في (جميلة بوحيرد) إلا أن وعيه حقق قفزه جديدة بعد (الأرض) و
(العصفور) إثر احتكاكه وتعامله مع قادة الفكر الاشتراكي في مصر مثل
عبدالرحمن
الشرقاوي
ولطفي الخولي».
وشاهين لا
يمكن أن تراه بأي شكل من الأشكال مواليا
للنظام السياسي الحاكم أو للرأسمالية أو الإقطاع أو ظلم الإنسان للإنسان
وهو ما
عبرت عنه أفلامه الـ 33 بدءاً من عام 1949 مع فيلم «بابا أمين».
فهو «حارب
الإقطاع في (صراع في الوادي) والرأسمالية في (صراع في الميناء) وكان
التزامه نابعاً
من موقف أخلاقي إنساني أكثر منه بعدا أيديولوجيا»، كما يؤكد
المخرج داود عبد السيد
الذي عمل معه مساعداً في فيلم «الأرض» احد علامات السينما المصرية المميزة
وأحد 12
فيلما ليوسف شاهين اختيرت من بين أهم مئة فيلم في تاريخ السينما
المصرية.
ويرى داود
عبد السيد أن «شاهين لم يدخل في صراع مباشر مع الدولة
لكنه كان يتطرق إلى ملامح إنسانية مفقودة بسبب الظلم الواقع على الإنسان
وهذا نابع
من
تجربته كرجل جاء أهله من لبنان وولد وعاش في مدينة كوزموبوليتية شهدت
بدايات
وعيه وسط جاليات أوروبية ودرس في مدرسة مختلطة وأتقن الفرنسية
والانجليزية».
ويضيف
«على رغم سقف الحرية المنخفض وأجواء الرقابة المتشددة
استطاع شاهين اختيار اللحظة التي توافق فيها الدولة على تصوير أفلام متميزة
مثل (الأرض)
لأنها كانت تستجيب في تلك الفترة لرغبة الدولة التي بدأت مشروع الإصلاح
الزراعي ومواجهة الإقطاع».
ويعتبر
داود السيد أن ذلك «ينطبق أيضا على فيلمه
الرائع (النيل والناس) الذي يصور انتصار الإنسان على النهر بتشييد السد
العالي
والعلاقات الروسية المصرية وهو توجه كانت توافق عليه الدولة».
والى جانب
الموقف السياسي والاجتماعي والاقتصادي حارب شاهين بشجاعة التطرف الديني
ورفضه في
أكثر من فيلم. وتشير الناقدة علا الشافعي إلى أن «شاهين اخذ
على عاتقه بصورة مبكرة
مواجهة التطرف الديني وكشف الدور العالمي في تشجيع هذه الظاهرة في عدد من
أفلامه
مثل (المصير) و(الآخر)».
هذه
الاهتمامات الإنسانية والاجتماعية والسياسية
مزجها شاهين في أفلام سيرته الذاتية الأربعة خصوصا فيلم «إسكندرية ليه»
الذي صور
أوضاع مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، فقام بتصوير الحراك الاجتماعي فيها ودور
الحركة
الشيوعية في المجتمع وتأثيرها إلى جانب تأثير الحرب العالمية
الثانية ودور النازية
وتأثير ذلك على اليهود المصريين وهجرة أعداد كبيرة منهم تخوفا من وصول
النازيين إلى
مصر.
واستكمل
ذلك في فيلم «إسكندرية كمان وكمان» الذي صور مقاومة الاحتلال
البريطاني مروراً بفيلم «حدوته مصرية» وصولا إلى إدانته للسياسة الأميركية
وقطيعته
معها في آخر هذه الأفلام «إسكندرية نيويورك».
وجاء آخر
أفلامه الذي أخرجه
وتلميذه خالد يوسف «هي فوضى» ليعبر عن رفضه لما يجري في الواقع
المصري من خلال
تصويره للفساد والقمع البوليسي وتحيزه لصالح الجمهور وسيادة القانون الذي
يراعي
الإنسان وحقوقه.
وهو
الفيلم الذي قال شاهين في لقاء مع فرانس برس انه «يسعى
من
خلاله للتأكيد على حق الإنسان بالعيش بكرامة في بلاده ورفض انتشار رجال
الأمن في
كل
مكان رغبة من النظام ببث حالة من الرعب والخوف حيث يقوم مئات من الأمن
المركزي
بمحاصرة بضع عشرات من المتظاهرين الواقفين على باب نقابة
الصحافيين».
واستطاع
صاحب أهم مدرسة سينمائية عربية خرجت العديد من المخرجين
اللامعين مثل داود عبد السيد ويسري نصر الله وعلي خان ومجدي احمد علي وخالد
يوسف،
ومن الممثلين مثل عمر الشريف وخالد نبوي ومحسن محي الدين وهاني سلامة وروبي
وآخرين
أن يعلم جيلا قدم أفضل ما أنتجته السينما المصرية.
وهو كما
تصفه يسرا التي
عملت معه في خمسة أفلام أولها «حدوته مصرية» في عام 1982 ثم
«المهاجر» وصولا إلى «إسكندرية
نيويورك»، «أسطورة غير متكررة في السينما العربية
والعالمية».
وقالت
يسرا إن «تأثيراته لا يستطيع احد أن ينكرها محليا
وعالميا»، مشيرة إلى «القيمة الإنسانية التي يمثلها شاهين الذي يؤسس
لعلاقات عائلية
بين العاملين معه ويخلق أجواء تدفع الجميع للتعامل كأسرة واحدة
يحبون بعضهم ويحملون
همومهم المشتركة».
وتؤكد
الفنانة ليلى علوي ذلك بقولها «استفدت منه ليس على
الصعيد العملي فقط في فيلم المصير بل من الناحية الإنسانية فهو من القلائل
الذين
يفهمون العمق الداخلي للإنسان والفنان وقدم لي إجابات على أسئلة كثيرة تجول
في
داخلي كنت بحاجة للتأكيد عليها».
الوسط البحرينية في 31
يوليو 2008
|