«لزمن
طويل بعد أن يموت الشعراء، تظل أغنياتهم تتجول في الطرقات». يوسف شاهين لم
يكن شاعر لغة، لكنه كان بالتأكيد شاعر سينما، وبالتأكيد سيبقى العدد الأكبر
من أفلامه/ قصائده، حياً في وجدان وعيون عشرات الملايين من الذين شاهدوها،
وسيشاهدونها، فسينما يوسف شاهين لا تموت، كحال السينما الكبيرة كلها. وهي
كانت وتبقى سينما كبيرة، إن لم يكن في افلامه كلها، ففي عدد كبير منها.
يوسف
شاهين الذي توفي أمس الأحد عن 82 عاماً أنجز بين الحين والآخر، أفلاماً
أرضت السوق و«الجمهور» العريض، لكنه حقق في مساره السينمائي الذي قارب
الستين عاماً، أفلاماً أخرى ربما تكون غالبية أعماله، أرضته كفنان وأرضت
النقاد والمثقفين والمحبين الحقيقيين للسينما، وإن كانت رجمت بعد عروضها
الأولى. فمن «بابا أمين» الى «هي فوضى؟» تسجل فيلموغرافيا الرجل الذي استحق
دائماً لقب «عميد السينما العربية» نحو أربعين فيلماً (بين روائي طويل
ووثائقي قصير)، سجلت في حد ذاتها، ومرحلة بعد مرحلة، علامات انعطافية في
السينما المصرية بخاصة، ولكن، بالواسطة، في بعض السينمات العربية الأخرى.
وهنا، نفكر، بالطبع، بأفلام النقد الاجتماعي وأفلام الغضب السياسي، ولا
سيما أفلام السيرة الذاتية، التي كان شاهين، وليس فقط منذ «اسكندرية ليه؟»
مفتتح تيارها والفنان الذي شق طريقها أمام عدد من متابعيه في تونس أو
لبنان، في سورية أو المغرب.
ولم تكن
ريادة شاهين في هذا الميدان مكللة بالغار، بل كلفته كثيراً، لكن «جو» الذي
كان منذ يفاعته قرر ألا تكون له مهنة في حياته غير السينما، لم يبال، بل
سار في طريقه متمرداً مشاكساً، محللاً غاضباً، لا توقفه رقابة ولا يحده
اطار. ولولا هذا لما عرفت السينما المصرية روائع تصنف دائماً في أفضل مئة
فيلم في تاريخها، من «الأرض» الى «العصفور» ومن «باب الحديد» و «الاختيار»
و «فجر يوم جديد» الى «بياع الخواتم» (في لبنان) و «المهاجر»، وخصوصاً «اسكندرية/
نيويورك».
واذا كان
شاهين اشتهر برباعية سيرته الذاتية (أفلام «الاسكندرية» الثلاثة و «حدوتة
مصرية») بوصفها سلسلة أفلام رسم فيها، من دون سرد تاريخي خطي، صوراً من
حكاية حياته وحكاية السينما في تلك الحياة، فلا بد من القول إن سينما
شاهين، ومنذ «بابا أمين»، تكاد تكون كلها سيرة متواصلة لهذا الفنان الذي،
حتى حين استقى مواضيع أفلامه من أعمال كتاب آخرين، عرف دائماً كيف يكيفها
مع تطلعاته وما يريد أن يقول.
ولدى ذكر
اخراج يوسف شاهين لـ «بياع الخواتم» عن أوبريت الأخوين رحباني الشهيرة في
بيروت، لا بد من الاشارة الى ذلك البعد العربي العام، الذي جعل من صاحب
«الأرض» واحداً من أكثر المخرجين المصريين انفتاحاً على الهموم العربية كما
تجلت خارج مصر، ما أوصله دائماً الى الشأن السياسي، في شكل مباشر أو أقل
مباشرة في أفلام دنت من القضية الفلسطينية («الأرض») أو القضية الجزائرية
(«جميلة الجزائرية») أو الحرب الأهلية اللبنانية («عودة الابن الضال») أو
حتى العولمة (اسكتش في الفيلم الجماعي «11/9»، ثم «الآخر»...) أو دور
أميركا - في رأيه - في مشاكل العالم العربي والعالم في شكل خاص («الآخر»...
و «اسكندرية/ نيويورك»).
لا يمكن
القول، بالطبع، إن هذه الأفلام كلها كانت تحفاً، لكنها وغيرها من أعمال
شاهين، كانت تعبر دائماً عن سينما حاضرة في العصر، منفتحة على العالم،
داعية الى التمرد والتسامح في آن، سواء كانت تاريخية مؤدلجة (كـ «الناصر
صلاح الدين») أو سياسية دعائية (كـ «الناس والنيل») أو أعمالاً أصلية
(كغالبية أفلامه الكبرى)، فسينما شاهين، التي لن تموت أبداً بموته الذي
سيحرمنا من جديده الذي كان دائماً بالمرصاد، كانت سينما متنوعة، ذكية،
معاصرة، وهذا ما كرس صاحبها، واحداً من كبار سينمائيي العالم، بشهادة
مهرجان «كان» وأهل المهرجان الذين خصوا شاهين، عام 1997، بأرفع جائزة أعطيت
في تاريخ المهرجان: جائزة الخمسينية (سعفة ذهبية خاصة) لمجموع أفلام شاهين
طوال مسيرته.
الحياة اللندنية في 28
يوليو 2008
... سينما يوسف شاهين في
مرآة الآخرين
رحيل صاحب «الأرض» و«المصير» يذكر بريادته في السينما المصرية
والعربية* «العالمية» التي تنبع من هموم المبدع ومجتمعه
ابراهيم العريس
يوسف
شاهين الراحل أمس الأحد عن 82 عاماً، بعد غيبوبة (في باريس والقاهرة) طالت
نحو شهر، كان بالتأكيد الأكثر عالمية بين أقرانه من السينمائيين العرب.
وانطلاقاً من مكانته المميزة في السينما المصرية، وفي مهرجان «كان» الدولي،
بين مهرجانات عدة أخرى ارتادها خلال أكثر من نصف قرن، يعتبر أحد أبرز
السينمائيين العالميين، من دون ان يصور أفلاماً كثيرة خارج مصر (باستثناء
فيلم في لبنان وآخر في المغرب وإسبانيا). ومن هنا كان الاحتفال العالمي به،
في شكل دائم، ينبع من مصريته نفسها، بل من اسكندرانيته المعلنة. وطوال
مساره الفني، عاماً بعد عام، نشرت عن شاهين مئات المقالات والدراسات وعدد
من الكتب بلغات عدة، كما ان مجلات متخصصة مثل «دفاتر السينما» و «سينما
اكسيون» أصدرت عنه اعداداً خاصة. والمجال هنا ليس كافياً، لوضع لائحة
مختصرة بما كُتب عن يوسف شاهين. لهذا، ولمناسبة رحيل الفنان الكبير، ننشر
في هذه الصفحة الخاصة آراء فيه وفي فنه، تحمل تواقيع نقاد وسينمائيين
أجانب، عرفوا أفلام شاهين عن قرب، وتعاملوا معها كجزء من تاريخ مصر
وثقافتها، وكذلك كجزء من تاريخ السينما العالمية، من دون تلك الأبوية
المعتادة للنقاد الغربيين لدى كتابتهم عن إبداعاتنا العربية، وهذا ما يضع
شاهين في مستوى واحد من الاهتمام مع المبدع المصري الراحل الآخر نجيب
محفوظ.
> لا
يمكن النظر الى يوسف شاهين باعتباره مجرد نتاج ظرفي لموضة ما. شاهين
ليس «طرازاً» بين غيره من الطرز. ولا ننسينّ هنا ان جورج سادول وصفه
منذ زمن بعيد بأنه أفضل سينمائي مصري من ابناء جيل ثورة 1952. إن سينما
شاهين تنتمي الى التاريخ المصري، وفيلماه المنتميان الى السيرة الذاتية
(«اسكندرية ليه؟» و»حدوتة مصرية») يشكلان نوعاً من التنقيب في داخل رجل
مجروح، يرسم، بعدما أجريت له عملية خطيرة في القلب، جردة لصراعه،
وآماله، وخيباته، وضروب ضعفه في بلد هزه التاريخ المعاصر هزاً، وصولاً
الى سقوط الملك فاروق، ومجيء حكم جمال عبد الناصر، وتدهور نظام هذا
الأخير حتى هزيمة 1967، ومجيء عصر السادات. إن شاهين، الذي تكوّن بفضل
السينما الأميركية عبر أفلام اغتذت بها مراهقته، ثم عبر الدراسة التي
تلقاها في «باسادينا بلاي هاوس» بولاية كاليفورنيا، عرف كيف يزاوج
دائماً بين سيطرة كبيرة على اللغة السينمائية، وبين حساسية جريحة لرجل
من العالم الثالث. أجل، إنني «وغد»، يحلو احياناً ليوسف شاهين أن يقول
وهو المتوسطي الأصيل الذي يمتلئ سعيه الجواني بحماس وتبصّر وشجاعة
كبيرة. وشاهين في هذا كله، يطرح اسئلة على العالم العربي، غير متردد في
الدنو من المواضيع الأكثر حميمية، وفي نسف الشعارات والأساطير في بيئة
اجتماعية وسياسية تظل الطائفية والدوغماتية فيها قاعدة اللعب غالباً.
ومن هنا فإن شجاعة شاهين وظمأه الى التواصل مع الآخرين، يرغمان المرء
على احترامه والإعجاب به. أما حبه المجنون للسينما فإنه يجعل منه
واحداً من السينمائيين الأكثر إبهاراً في زمننا...
كريستيان
بوسينو
(ناقد
سينمائي فرنسي أشرف على عدد خاص من مجلة «سينما كسيون» عن شاهين)
>
يوسف شاهين، في طبيعته، سينمائي لا يمكن إمساكه. فهو أبداً لا يمكنه ان
يدع لنفسه مجال أن يحصر في إطار، حتى ولو كان إطار العديد من الأشخاص
الذين قيض له أن يدنو منه، خلال لحظات متفرقة من مساره الإبداعي. شاهين
المفتون عادة بأميركا وبخاصة بهوليوود، عرف دائماً كيف يعمل على بناء
نمط جديد من الاستعراض، لا يمكن ابداً وصفه بأنه كلاسيكي او حديث.. كما
لا يمكن وسمه بالحذلقة. لديه، يُنظر الى السينما دائماً بوصفها عالماً
يلتهم كل مظاهر الحياة وتجلياتها. ومن الصعب العثور في سينماه على أي
اثر للنزعة الطبيعية. كل ما لديه هو تمثيل وإعادة تمثيل للواقع. أو
لنقل، نقلاً عن رينوار، ان الواقع لديه سحري دائماً. وهكذا، حتى حين
كان الأمر يقتضي الاتيان على ذكر الساعات الساخنة التي سبقت اندلاع حرب
الأيام الستة والهزيمة التي تلتها، كما في «العصفور»، لا يتخلى شاهين
أبداً عن عالم الحكاية. عالم «كان يا مكان...».
ولئن
كان يمكن تعريف شاهين بأنه سينمائي سياسي، وبخاصة اعتباراً من سنوات
الستين، فإنه سياسي ولكن دائماً انطلاقاً من فكرة سينمائية ما،
انطلاقاً من منطق موروث من الحكايات الكبيرة بل أفضل من هذا: من
الكوميديا الموسيقية كما هي حال فيلمه الرائع «عودة الابن الضال»، حيث
نلاحظ كيف ان أربع خطوات راقصة جديرة بفنشنتي مينيللي تأتي هنا لتزين
التراجيديا البريختية التي تُلعب امام أعيننا، تراجيديا الوعي الشقي
لبطل ثوري استولت عليه البورجوازية، لينتهي، بائساً، مندفعاً ضد الطبقة
التي ينتمي أصلاً إليها... وبالتالي ضد ذاته.
تييري جوس
(رئيس
تحرير مجلة «كراسات السينما» الفرنسية في تقديم عدد خاص من المجلة عن
شاهين)
> إن
لـ «جو» طاقة حيوية ويتمتع بسرعة تفكير مؤثرة، ويحدث دائماً أن إخراجه
لفيلم من أفلامه يتبع هذه السرعة لديه. ويقيناً أن قوة سينماه تكمن هنا
هنا. وأنا نفسي أعدت التفكير في هذا الأمر حين كنت أصور «الملكة مارغو».
لقد أعطاني شاهين الانطباع بأن السينما تخرج من بين اصابعه. وأسلوبه في
الإخراج يبدو لي قريباً جداً مما أحب ان أفعله. غالباً ما يبدو
السينمائي الأكثر حماساً من بين الآخرين لإنجاز العمل. ففي مكان
التصوير يتقاعس الجميع: ملاحظ السيناريو يريد لراكوراته ان تكون صحيحة؛
ومدير التصوير يطالب بإطاره الصحيح، والمزين بأن تكون زينته الأفضل
ويحدث ذات لحظة أن يريد السينمائي (أي المخرج) أن يقول للطاقم: اشتغلوا
بأقل جودة ممكنة، ولكن بأكبر قدر من الانطلاق. إذ يتعين على الفيلم ان
يتحقق تبعاً لإيقاع تفكير المخرج. في «الملكة مارغو» صورنا مشاهد مجزرة
سان - بارتيملي فيما لم يكن أي شيء جاهزاً. مع أن المرء يمكنه أن يمضي
حياته كلها، وهو يحسب لقطة ويتحقق منها. لكن الأساسي هو ان يتعلم المرء
كيف يرمي بنفسه في الماء. ولدى يوسف شاهين هناك هذه القدرة على
الاختراع والابتكار والارتجال الرائع. هناك ما يشبه اللهيب. إن شاهين
يصور على سرعة تفكيره. وتفكيره غني من دون حدود.
باتريس
شيرو
(ممثل
ومخرج فرنسي مسرحي وسينمائي قام بدور «بونابرت» في «وداعاً بونابرت»).
>
هناك عدد من المخرجين الأجانب (وأتحدث هنا عن الأحياء لا عن الأموات)
يجسدون بالنسبة الينا، وفي الوقت نفسه، ما هو أكثر خصوصية وذاتية في
ثقافتهم وسينماهم الأصيلة، وما يجعل من السينما فناً كونياً شاملاً،
لغة يفهمها الجميع ويتواصلون بها وربما تكون هذه اللغة أكثر قدرة على
التوصيل بين البشر من الأدب نفسه، وأولاً في ما يتعلق بما هو مشترك
لديهم. وفي هذا الإطار يمكن التفكير ببيرغمان وساتياجيت راي وكوروساوا
وفلليني وودي آلن. ويقيناً أن يوسف شاهين واحد من هؤلاء.
أنا
في الحقيقة لم أكن اعرف أفلامه حين دعوته الى مون بلانش، ليشارك في
اللقاءات التي كرسناها هناك عام 1981 للسينما المصرية والكاتالينية.
والتقيته للمناسبة مرتين: التقيته في الحياة نفسها، وفي فيلم «باب
الحديد» الذي كنا نعرضه. والحال ان التلازم بين الرجل وكرمه وحاسيته
وذكائه الحاد وثقافته، وبين الفيلم كان مكتملاً، الى درجة أنه هزني
هزاً. ويمكن أن يقال ان هذا التلازم الحميم هو، عادة، من خصائص المبدع،
وإنه الشرط الجوهري لإبداعه... ولكننا نعرف انه، مع ذلك كله، نادر
الوجود.
إن
هذه السمات التي تتضافر عن كثب لدى شاهين في اختياره مواضيعه، في مسلك
حكاياته والحب الذي يضفيه على شخصياته (حيث «الأشرار» ليسوا ابداً أقل
إنسانية من «الطيبين») وفنه في إعطاء حكاياته كثافة روائية غالباً ما
تفتقر إليها السينما، وقدرته على الكلام عن البسطاء وعن «القضية
العادلة» من دون أن يلامس أبداً حدود التبسيط، وفي المشاعر والأحاسيس
التي يعبر عنها من دون الوقوع في أية إثارة، وكذلك في البرهان على حب
للحياة، قادر على ان يكون ذا موضوعية قاسية. والحال انني من اجل هذا
كله أحس تجاه شاهين بإعجاب كبير وصداقة عميقة.
رينيه
آليو
(مخرج
فرنسي)
> إن
في إمكان شاهين أن يستعير لحسابه عبارة يقول فيها رينوار «انني لأتحدث
عن نفسي عبر الآخرين». والحال ان كلام شاهين، كسينمائي لا يقوم أبداً
من التعبير عن مشاكله، حتى وإن كان في وسعنا ان نجد في بعض أفلامه
شخصيات قد تظهر وكأنها أناه الآخر، كما هي الحال في «اسكندرية ليه؟»
حيث يطالعنا ذلك الشخص الذي، مثل شاهين في بداياته، يبدو حائراً بين ان
يصبح ممثلاً أو مخرجاً، لكن شاهين يعرف كيف ينظر اليه عبر مسافة الزمن
الضرورية. إنني اتذكر، من هذا الفيلم، مشهداً رائعاً يتحدث عن الخوف من
الربح. وأنه لأمر رائع طالما أن الناس غالباً ما يتحدثون عن خوف
الخسارة، ونادراً ما يتحدثون عن عكس ذلك، عن ذلك الأمر الذي يبدو لي
أكثر إثارة للقلق: خوف الربح. وانني احب كثيراً أيضاً فيلمه «وداعاً يا
بونابرت» الذي عرض في مهرجان كان في العام نفسه الذي عرض فيه فيلمي
«موعد».
وحتى
إذا كان الحظ قد وقف بجانبي أكثر مما وقف بجانب شاهين في ذلك العام،
فإن هذا لن يمنعني من أن أقول انني كنت حزيناً بعض الشيء بسبب
الاستقبال الظالم الذي قوبل به «وداعاً يا بونابرت»، بخاصة ان المسألة
لم تكن أبداً مسألة الفيلم، بل قضية سجال كان يخاض نوعاً ما ضد جاك
لانغ (وزير الثقافة الفرنسية في ذلك الحين والذي ساهم في جعل إنتاج
فرنسا للفيلم ممكناً). وضمن إطار ذلك السجال كان من سوء حظ شاهين أن
أدمج فيلمه. والحال ان ما هو شديد الجمال في «وداعاً يا بونابرت» إنما
هو تلك الطريقة التي بها يتوجه كافاريلي الى ذلك البلد الجديد عليه
ليندمج فيه، حيث ينتهي به الأمر الى الخسارة، فيما لا يفكر بونابرت إلا
بمصالحه كمستعمر، لا يرى أي شيء من حوله. وفي المقابل لا احب «اسكندرية
كمان وكمان» كثيراً لأن رسالته تبدو لي ثقيلة بعض الشيء. ومما لا شك
فيه ان هذا مرتبط بطابع الأنا - الآخر الذي يصوره شاهين هنا، من دون ان
يرسم المسافة الزمنية بين الأنا والأنا – الآخر... ومع هذا اعتقد ان
ثمة في هذا الفيلم مقاطع متميزة تنتمي الى كل ما له علاقة بالكوميديا
الموسيقية وسينما النوع...
أندريه
تيشينيه
(مخرج
فرنسي)
> إن
هناك ما هو بطولي في هذا الأسلوب في معالجة مشاهد الحركة (المعارك،
الأخطاء والتمرد) وكأنها مشاهد حميمة، ومعالجة المشاهد الحميمة
(خلافات، خناقات عائلية، وانفصالات) وكأنها مشاهد معارك ضخمة. وذلكم ما
هو الأجمل في هذا الفيلم (الوداع يا بونابرت): نوع من الاندفاع الجدير
بالاحترام.
في
مقاييس السينما «العادية» لا يمكن القول ان «الوداع يا بونابرت» فيلم
من دون اخطاء. فالحال أن هذه الطريقة في الاندفاع الى داخل كل زحام
تبدو لي أكثر كرماً من ان تمنعني من الشعور بالغربة، ومن أن تنتج بعداً
درامياً شديد الصخب، ومن ألا تفسد الوسائل بشيء الى الغايات. ولكن إذا
ما غضضنا الطرف عن مثل هذه الأمور، أمام مثل هذا الفيلم البطولي
والمتبصر، سيمكننا ان نقول ان يوسف شاهين هو السينمائي العربي (والعالم
ثالثي) الوحيد الذي يصرّ على ان يحقق في دياره أفلاماً تنسف الفكرة
الشهيرة الساذجة حول «العلاقة بين الشعوب». وأنه لفريد من نوعه في هذا
الإطار. هل تقولون ان فيلمه أكثر كرماً مما يجب؟ وهل تقولون ان عالمه
لا يدور في شكل تام؟ حسناً.. لكن العالم نفسه لا يدور في شكل تام،
وعالم السينما أقل من ذلك تماماً في دورته. أليس كذلك.
سيرج داني
(ناقد
فرنسي)
> ..
وذات يوم جاءتنا الصدمة في تونس مع مشاهدتنا «باب الحديد» ليوسف شاهين.
ماذا؟ نحن العرب يمكننا تحقيق مثل هذا ايضاً؟ فماذا إن تمكنا في
تونس...؟ (وكانت الصدمة الأولى قد أتت مع فيلم «سوداء فلان» للسنغالي
صمبان عثمان... ما إن رأيناه حتى صرخنا: ماذا؟ أفريقيا السوداء أيضاً؟
إذن... قد يمكننا ان نفعل أيضاً في تونس...).
منذ
ذلك الحين راح يوسف شاهين يبدو، بالنسبة الى البعض منا من الذين كانوا
ينتقدونه بقسوة في الوقت نفسه الذي يعبرون فيه عن حبهم له، راح يبدو
وكأنه سينمائي انتهازي ذو ايديولوجية متذبذبة، بسبب مساره المهني
المتنوع (حيث إنه لم يتردد أحياناً عن تمرير ميلودرامات دامعة مثل
«ودعت حبك»، وأحياناً عن تمجيد الصداقة السوفياتية المصرية كما في
«الناس والنيل»، وعن زرع عبادة الفرد: عبد الناصر عن طريق «الناصر ..
صلاح الدين»). لكني أنا لم أكن بين هؤلاء، لأنني اكتشفت شخصياً، وفي
أفلامه كلها، سمة تجريبية لم تبارح عمل شاهين أبداً. بالنسبة اليّ
شاهين عصي على التصنيف. فهو رائد أبدي، ورجل ذو فضول لا ينضب، مستعد
دائماً لطرح الأسئلة حول ذاته، وللبحث في كل مكان آخر ما أن يخيل إليه
أنه عثر على شيء ما، وللسخرية كمجنون من كل «ذوق سليم» أو اورثوذكسية
سينمائية... وكل هذا ليكون ولو لزمن فيلم واحد، على وفاق مع نفسه.
يوسف
شاهين هو، على وجه الخصوص، المؤسس الحقيقي لمعظم التيارات التي عبرت
بها وتعبرها كل «السينمات العربية الجديدة» منذ الخمسينات وحتى يومنا
هذا، وهو ما حاولت ان أبرهن عليه في فيلميي «كاميرات عربية».
ريد بو
غدير
(سينمائي
وناقد تونسي)
> كنت
اعرف معظم أفلام يوسف شاهين، إذ سبق لي ان شاهدتها في سينماتيك
الجزائر. اما «الأرض» فإنه آخر ما حققه، حتى الآن، إذ إنه يعود الى
العام 1969. وهو يشهد على تفتح شامل في وعي الرجل وأسلوبه. وانا حين
شاهدته، في بيروت الليلية وسط صمت القاعة الصغيرة في المركز العربي
للسينما، أحسست بنفس الغحساس الذي كان انتابني في قاعة قصر المهرجان في
«كان»، حين شاهدت «اندريه روبليف» لاندريه تاركوفسكي: اليقين بأنني
إنما أشاهد تحفة فنية. ولست في حاجة لأقول هذا، لأن انتظر تأكيد الزمن
له.
إن
يوسف شاهين، في هذا الفيلم، يستوحي رواية معروفة جداً في العالم
العربي، وهي رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي. وهو يحافظ على كل ما
فيها من ثراء روائي-الديمومة الزمنية، التفاعل بين الشخصيات. ثم بعد
ذلك نراه ينسج حكاية قوية سلسة لا عتمة فيها ولا ارتباك. وهذا في حد
ذاته أمر رائع. لأن النص لا يكف هنا عن ان يكون ثرياً ولا عن ان يكون
واضحاً. إذ ان فيلم «الأرض» على هذا النحو يدفعنا الى الاهتمام بعدة
مصائر أسبغ عليها الطابع الفردي، مصائر تتفرق، تتقارب احياناً، تتباعد
في احيان اخرى، تختفي ثم تعود الى الظهور تبعاً لظروف الحياة الحقيقية
ومصادفاتها.
مشهد،
لقطتان، ثلاث عبارات حوارية... هذا وحده يكفي لترسيخ هذا العامل او ذاك
في اذهاننا، بكثافة وفرادة مباشرتين. ونجد انفسنا في نهاية الأمر أمام
رواق حافل بالصور يتجابه فيه مالك الأرض الاقطاعي الذي يستفيد من
علاقاته في القاهرة لكي يضبط نظام الري لما فيه مصلحته ويمكنه من
ممارسة الضغط على القرية؛ مع الفتاة الحسناء الباحثة عن عريس ياخذها
الى المدينة؛ مع عاشقة اخرى؛ مع ذلك الفلاح ذي المزاج البركاني...
جان لوي
بوري
(ناقد
فرنسي)
>...
لقد كتبت مقالات بالمئات حول شاهين «السينمائي الملتزم» وشاهين «بطل
القومية العربية» وشاهين «المخرج التقدمي العربي» وغير ذلك من كلام
شعائري ذي سمة نضالية. من المؤكد ان هذا كله ليس خطأ. وكما قال لست
اذكر من «أن ذاك الذي لم يكن ثورياً وهو في العشرين من عمره، إنسان بلا
قلب، أما ذاك الذي يظل ثورياً في الأربعين فإنه إنسان بلا عقل». وشاهين
تجاوز نصف القرن، وهو دائماً ذلك الشغوف الشكاك، الذي لن يجد فيه
تناقضاً إلا اولئك الذين لم يدركوا ان المبدع لا يحتفظ من سنواته
العشرين ومن سنواته الأربعين إلا ما كان افضل ما لديه عند تينك السنين.
عن كل الكليشيهات العالم ثالثية التي ذكرت أعلاه صحيحة، لكنها ليست
الشيء الجوهري. فالحال ان سر الصنعة لدى يوسف شاهين ليس انخراطه في
مقارعة الاستعمار والوحدة العربية والاشتراكية، بل حياته نفسها
وكينونته... وهذه الحياة وهذه الكينونة هما ما ينقله الرجل إلينا منذ
«باب الحديد» الى «العصفور» ومنذ «صراع في الوادي» الى «وداعاً يا
بونابرت» رامياً إياهما دون هوادة، وبطريقة عبقرية في وجوهنا تحت الف
شكل سياسي، جمالي أو موسيقي.
باختصار، شاهين كان دائماً في مكان متقدم على كافة المبدعين العرب،
هؤلاء الذين لا يزالون عبيداً لألف سلطة وسلطة، تختلف عن سلطة ما يعيشه
المبدع. وشاهين، في هذا، خدع كل الناس، حتى من دون أن يدرك هو نفسه كم
خدعهم. فالحال ان الناس الأكثر حسناً هم الذين يجهلون مبلغ حسنهم...
جان-بيار
بيرونسيل-هوغو
(صحافي في
«لوموند» الفرنسية)
الحياة اللندنية في 28
يوليو 2008
|