في أيّ
لقطة من أيّ فيلم له، كان المشاهد يدرك بسهولة أن ما يراه هو من صناعة يوسف
شاهين. من حركة الكاميرا. من زاوية أخذ اللقطة. من الدسامة التعبيرية لكادر
اللقطة ككل... كان الرجل صاحب لغة سينمائية. لا جديد في هذا الكلام طبعاً،
لكن فكرة الاهتداء إلى إمضاء شاهين من مجرد لقطة واحدة له ـــــ وانتشار
هذه الفكرة كمُسَلَّمة ـــــ تؤكد، بطريقة ما، إلى أيّ حد كانت لغة شاهين
شائعة كماركة مسجّلة باسمه. ينبغي أن نضيف أن ذلك كان شائعاً بين جمهور
السينما العادي أيضاً لا لدى المختصّين والمهتمّين بها فقط. حتى الذين لم
يحبوا أفلامه كانوا يعرفون أن لديه «أسبابه» السينمائية القوية والوجيهة
التي تجعله «معقَّداً» وصعب الفهم في نظرهم.
الممثلون
الذين رشحهم للعب أدوار في أفلامه، كانوا يتركون كل شيء ويتفرغون له. هؤلاء
كانوا يعرفون مسبقاً أنهم مدعوّون إلى وجبة سينمائية مختلفة، وأن العمل مع
المعلم «جو» سيضيف علامة فارقة على الفيلموغرافيا الخاصة بكل واحد منهم.
كان اختيارهم ـــــ سواء لبطولة مطلقة أو مجرد دور قصير وعابر ـــــ أشبه
بالحصول على شهادات «حُسن أداء سينمائي». ولكن ـــــ في الوقت نفسه ـــــ
كان العمل معه يخُضعهم لشرطٍ خفيّ يتحولون بموجبه إلى مواد طيِّعة بين
يديه... يعيد تكوينها وصوغها كما يريد. من حق أي مخرج أن يفرض رؤيته وأسلوب
عمله، ولكن العمل مع صاحب «اسكندرية ليه» كان يتطلب أن يتحول الممثلون إلى
مؤدّي أدوار خاضعة لمزاج شاهيني متشدد. نور الشريف هو نور شريف آخر في
أفلام شاهين. والحال كذلك بالنسبة إلى يسرا وخالد النبوي ومحمود حميدة
ونبيلة عبيد ومحمد منير وهاني سلامة... بل إن ممثلاً مثل محسن محيي الدين
الذي لعب بطولة عدد من أفلام شاهين يكاد يكون غير موجود خارج هذه الأفلام.
الإمضاء الشاهيني كان يصنع ممثلين شاهينيين.. وحين كان بعضهم يعملون بإدارة
مخرجين آخرين كانوا يفقدون «الهالة» التي منحهم شاهين إياها. كانوا أشبه
باليتامى خارج أفلامه. وها هم يتامى رحيله أيضاً.
الأخبار اللبنانية في 28
يوليو 2008
عاشق
الممثل
هناك قاسم
مشترك بين الكثير من الوجوه الشابة التي ظهرت لأول مرة على الشاشة بفضل
يوسف شاهين، من هشام سليم إلى خالد النبوي وصولاً إلى أحمد يحيى. الطول
والنحول نفسيهما تقريباً، الطريقة العصبية الحادة في الكلام، القوة في نظرة
العينين التي لطالما رأى فيها شاهين تعبيراً عن الموهبة الحقيقية لدى
الممثل. ثمة خيط واحد يجمعهم، ربما يكون قربهم من الممثل الذي حلم شاهين أن
يكونه. فكثيراً ما بُرر هذا الولع باكتشاف النجوم برغبة شاهين الدفينة في
أن يصير ممثّلاً. وقد حاول فعلاً دراسة التمثيل في أميركا، لكن شكله وحضوره
كانا عائقين أمامه. ألم يقل في لقاء صحافي مرةً «أبحث عن ممثلين أمثّل من
خلالهم، ويا ويل الممثّل الذي لا يكون أنا؟».
لقد اكتشف
هشام سليم في «عودة الابن الضال» منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ثم محسن محيي
الدين في «اليوم السادس» والثلاثيّة الإسكندرانيّة، وخالد النّبوي في
«المهاجر»، وأحمد وفيق ومصطفى شعبان في «سكوت حَنصوّر»، أما هاني سلامة،
فقبل أن يسند إليه بطولة «المصير»، أخضعه لامتحان غريب، إذ أمره بأن يستمر
في غناء مقطع من أغنية لعبد الحليم، كي يكتشف مقدرته على تجديد الانفعال
والتعبير. ومن آخر اكتشافات شاهين، الراقص أحمد يحيى الذي شاهده في باليه «زوربا»،
ليصبح بطل «إسكندرية... نيويورك»، ثم خالد صالح ومنّة شلبي في «هي فوضى».
وعبر
تاريخه الطويل، كشف المعلّم الراحل عن قدرات نجوم مكرّسين أيضاً، مثل أحمد
مظهر، وحسين فهمي، ونور الشريف، ويسرا، وصفية العمري، وشكري سرحان الذي ظل
الشاب الرومانسي إلى أن قدمه شاهين في «ابن النيل» ليصبح عنوان الفيلم
لقباً له. وهناك طبعاً محمود المليجي الذي تحوّل إلى نجم بعد أدائه شخصيّة
محمد أبو سويلم الشهيرة في فيلم «الأرض»، أحد أعظم أفلام السينما العربيّة.
وقلّة من القرّاء تعرف أن عمر الشريف نفسه مدين لشاهين بمسيرته. لقد كان
صديقه على مقاعد الدراسة في «كليّة فيكتوريا»، وعرض عليه دوره الأول أمام
فاتن حمامة في «صراع في الوادي». وهكذا انطلق إلى النجوميّة العالميّة.
أما النجم
فريد الأطرش، فقاوم طويلاً هذا المخرج الشاب الذي يريد تغييره... لكنه عاد
فاستسلم أمام إرادة شاهين في «إنت حبيبي»، وإذا بالمطرب الصعب المراس يتجدد
كممثل مع شاهين. وبعدها بعقود، تولّى إدارة مطرب آخر أمام الكاميرا هو محمد
منير في «حدّوتة مصريّة» و«المصير». ثم جاء دور ماجدة الرومي في «عودة
الابن الضال»، وأخيراً لطيفة التونسية في «سكوت حنصوّر» الذي ظهرت فيه
المغنيّة روبي أيضاً للمرّة الأولى.
كذلك أثّر
شاهين في ممثّلين عرفوا بأدوار نمطية، ليقلبهم إلى أبطال كوميديا، مثلما
حدث مع حسين رياض، أو يجعل منهم ملوكاً في التراجيديا، مثلما فعل مع محمود
المليجي شرير الشاشة، كما ذكرنا أعلاه.
الأخبار اللبنانية في 28
يوليو 2008
في عين
النقد
دراسات
ومؤلفات كثيرة خصّصت على مدار السنوات، في مختلف اللغات، لسينما يوسف
شاهين. نكتفي بالإشارة منها إلى أربعة مراجع أساسيّة:
الناقد
السينمائي وليد شميط واحد ممّن كرسوا جهداً لإجراء دراسة ضمّت حوارات مع
شاهين بعنوان «يوسف شاهين ــــ حياة للسينما» (2001 ــــ دار رياض
الريس)، وفي الدراسة بحث في هموم المخرج التي ازدادت تعقيداً مذ تورّط في
نبش الواقع بجرأة ومن دون مواربة. ويصف شميط عالم شاهين «بالمعقّد، يمتزج
فيه الذاتي بالموضوعي، ظاهره مبهرج وملوّن ومتحرّك، وباطنه عذاب وبحث وصراع
وقلق وتوتر وألم». وهو ضمن ذلك يقدم عرضاً مكثفاً لأعماله السينمائية إلى
جانب تلخيص المراحل التي رصدها شميط لتطور سينما شاهين، وهي «الألم ــــ
الوعي ـــ الالتزام».
وتطرقت
الباحثة السينمائية سعاد شوقي إلى «تطور الرؤيا والأسلوب» في أعمال شاهين،
باحثة في مفهوم الإغراق في المحلية الذي قاد شاهين إلى العالمية، كما
تناولت أدواته الفنية وتأثره بمنطق المسرح.
وكانت
سينما شاهين في مرحلة ما بعد فيلم «الأرض» وبالتحديد في 20 عاماً من 1971
إلى 1991. مدار تحقيق الناقد سمير فريد «أضواء على سينما يوسف شاهين» (1997
ــــ الهيئة المصرية العامة للكتاب) الذي تناول سبعة أفلام من الإنتاج
المصري المشترك مع الاتحاد السوفياتي والجزائر وفرنسا، وقد عرضت في عشرات
المهرجانات السينمائية الدولية.
أما
المؤلف والسناريست والناقد السوري رفيق صبّان فقد تناول سينما شاهين في
كتابه «أضواء على الماضي»، مستعرضاً رحلة السينمائي الكبير، وكيف اختلفت
رؤيته الإخراجية التي اعتمدت حضور الموضوع والذات، وظلّ أميناً لنظرته
الناقدة التي لم تغلّب جانباً على آخر.
الأخبار اللبنانية في 28
يوليو 2008
|