ملفات خاصة

 
 
 

فيلم «الجوكر» في نسخته الثانية:

آرثر فليك لايجد خلاصه

نسرين سيد أحمد

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

لندن – «القدس العربي»: لا يمكن الحديث عن فيلم «جوكر: فولي آ دو»  لتود فيلبس، الذي يعرض في دور العرض في لندن والعديد من الدول حاليا، بمعزل عن الجزء الأول من الفيلم، وهو فيلم «جوكر» (2019)، الذي حقق نجاحا جماهيريا ونقديا ضخما، وحاز جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا لذلك العام، كما حصد بطله واكين فينيكس جائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسا وجائزة أوسكار أفضل ممثل عام 2020 عن أدائه لشخصية آرثر فليك، الشخصية المحورية في الفيلم.

كما لا يمكن الحديث عن «جوكر» بجزئيه دون الحديث عن شخصية آرثر فليك، والتعمق في دراستها، فهي جوهر الفيلم ومحوره وقلبه النابض. حين تتبادر إلى أذهاننا شخصية الجوكر، كما عرفناها في العديد من الافلام، يمثل أمامنا المهرج الذي يخفي اضطرابه النفسي وراء قناع من المكياج الصارخ وابتسامة زائفة، ويخطط لعنف دام وعالم تسود فيه الفوضى. أصبح الجوكر، كما جسده من قبل جاك نيكلسون وهيث ليدجر، رمزا للعدمية، والرغبة في الفناء وإفناء العالم.  أصبح الجوكر بتجسيداته السينمائية المتعددة أسطورة وشخصية مؤسسة في ميثولوجيا العدميين. وحين قرر تود فيلبس التطرق إليها في فيلمه «جوكر» عام 2019، كان التساؤل، أو ربما الاستهجان، هو ما الجديد الذي يمكن لفيلبس أن يقدمه بعد كل التجليات السينمائية السابقة للجوكر. كان التخوف الرئيسي هو أن يقدم فيلبس نسخة مكررة من الجوكر كما شاهدناه في أفلام سابقة. ولكن ما قدمه فيلبس كان أصيلا جديدا لا يشبه ما جاء قبله من صور للجوكر. جاء جوكر تود فيلبس شخصية خذلها العالم، ولم يلق منه حباً أو تفهما، على الرغم من أنه كان يسعى حقا إلى إسعاد الناس ورسم ابتسامة بهجة على وجوههم عن طريق عمله كمهرج.

جاءنا الجوكر في فيلم فيلبس قبل أن يرتدي قناعه الدامي المخيف، جاءنا حاملا اسمه الأصلي آرثر فليك، ذلك الشاب الذي خذله الجميع وتنصل منه المجتمع. آرثر يكاد يكون طفلا في جسد رجل، لم يبرح بيت أمه، ويمنعه خجله الجم وعدم تكيفه الاجتماعي من أن يكون له أصدقاء أو حبيبة. هو شخص يتعرض للتنمر ويلفظه المجتمع، ويخذله النظام الصحي في مدينته غوثام، حيث يعيش، بعد أن تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى إغلاق المراكز الصحية التي كان يتلقى منها الدواء اللازم لحالته النفسية. ورغم كل هذا الألم يعيش آرثر بحلم واحد هو إضحاك الجميع. زرعت أمه في نفسه الاعتقاد بأن مرضه بالضحك اللاإرادي جاء لحكمة كونية، فمهمته التي أرادتها له الحياة هو أن يُضحك الناس وأن يبث فيهم السعادة. يعيش آرثر بهدف واحد وهو أن يصبح كوميديا عظيما، يتفتق ذهنه عن نكات تضحك الجميع وتسعدهم.

لا يدور فيلم فيلبس بجزئيه عن القتل والعنف، ولكن جوهره هو البحث عن الحب والرحمة والتفهم، في عالم بالغ القسوة. لا يبادر آرثر قط بالقسوة أو العنف، وكل ما يبحث عنه هو بعض التفهم لحالته المرضية وآلامه النفسية، وعن فرصة لإضحاك الآخرين بنكاته. يبحث آرثر عن سند أو عن بعض الحب فلا يجده إلا في أمه التي تحاول أن تشجع حلمه الطفولي في إضحاك الناس وإسعادهم، كما يصبح المذيع التلفزيوني الشهير، موراي فرانكلين (روبرت دي نيرو) الرمز والقدوة والمثال بالنسبة له. لكن ذلك العالم الطفولي الهش الذي بناه آرثر لنفسه يتداعى عندما يعرف أن أمه ليست والدته ولكن أمه بالتبني، بينما أمه الحقيقية مريضة عقليا، تجرع آرثر صنوف البطش والتحرش والاعتداء على يد أزواجها، دون أن تحاول حماية صغيرها من هذا الاعتداء والتنكيل. ويكتمل انهيار عالم آرثر عندما يتعرض للتنمر والسخرية والاستهزاء على يد نجمه المفضل وقدوته، موراي فرانكلين، الذي يعرض مقطعا يتلعثم فيه آرثر، وهو يلقي نكاته، فيجعل من آرثر أضحوكة في برنامجه التلفزيوني الشهير الذي يشاهده الملايين.

حقق الجزء الأول من الجوكر نجاحا باهرا على الصعيدين الجماهيري والنقدي، والآن يقف فيلبس أمام مواجهة جديدة، فهو يقدم جزءا جديدا من الفيلم، وكان السؤال الذي يتبادر للأذهان هل يحقق الجزء الثاني النجاح نفسه الذي حققه الجزء الأول؟ وفي الجزء الثاني لا يواجه فيلبس توقعات الجمهور فحسب، بل يواجه تحديه الفني والتقني لذاته، حيث اختار أن يكون الجزء الثاني من الفيلم غنائيا موسيقيا، فكيف لعالم آرثر فليك المحطم نفسيا الملفوظ مجتمعيا أن يتحول لعالم استعراضي موسيقي.

لكن فيلبس ينجح في إقناعنا بأن الغناء والموسيقى جزء لا يتجزأ من عالم آرثر. نحن نعلم أن آرثر يحلم بأن يكون كوميديا شهيرا ويحلم بالأضواء وبإضحاك جمهوره، وهو في عالمه كمهرج كثيرا ما يتمايل مع الموسيقى، كما أننا نشاهده في الجزء الأول يتمايل على أنغام موسيقى لا يسمعها إلا سواه بينما يتداعى عالم مدينته غوثام. يحاول آرثر إسكات ضجيج العالم غير المفهوم المفتقر للرحمة بالعيش في فقاعته الخاصة التي يعيش فيها، على نغمات إيقاع يفصله عن العالم المرير. يعيش آرثر في عالمه الداخلي المنعزل عن ضجيج العالم، ويعيش وفقا لإيقاعه الخاص وموسيقاه، وبعد أن يتحول إلى أسطورة الجوكر التي تلتف حولها الجماهير في شوارع غوثام، يظل كما هو الشخص الوحيد الذي يعيش في عالمه الخاص ويتراقص على موسيقاه الداخلية، رغم جموع المعجبين والأعداء المحيطة به. يتخذ فيلبس هذا الرابط الموسيقي بين الفيلمين ليصحبنا في رحلة داخل عقل آرثر المعتل وداخل شخصيته التي تتراوح بين العنف الدامي المفرط والهشاشة والرهافة المفرطة، ولكن هل هناك ما يدعو حقا إلى هذه الرحلة الموسيقية التي نشاهدها في الجزء الثاني؟ ألم يعرفنا الجزء الأول من الفيلم بما يكفي على شخصية آرثر؟ ألم يؤسس الجزء الأول من الفيلم بصورة لا لبس فيها الخراب الداخلي لآرثر وأسبابه لأن يكون ما أصبح عليه؟

وتتزايد تساؤلاتنا عن الجدوى من الجزء الثاني من الفيلم عندما يقرر فيلبس تقديم شخصية هارلي كوين (ليدي غاغا) لتكون حبيبة آرثر وداعمته وملاذه. في الجزء الأول يلاقي آرثر الخذلان على يد الجميع، حتى من تصور أنهم ملاذه، فهل تخذله هارلي في الجزء الثاني؟ ولكن وجودها يجعلنا نتساءل هل أضاف حضورها شيئا إلى الفيلم؟ هل قدمت بعدا لا نعرفه عن آرثر؟

نشاهد الجزء الثاني من الجوكر آملين في أن يقدم لنا إضاءة جديدة لشخصية آرثر أو رؤية جديدة، أو حتى تعمقا بمعرفتنا به ولكن الفيلم في توسعه ليشمل شخصية هارلي كوين وليقدم ما يعانيه آرثر في سجنه لا يقدم جديدا ولا يمنحنا فهما معمقا لشخصية آرثر التي خبرناها جيدا في الجزء الأول.

 

القدس العربي اللندنية في

16.10.2024

 
 
 
 
 

"جوكر: جنون مشترك".. فوضى سردية تفقد شخصية الجوكر بريقها

عبدالرحيم الشافعي

محاولة مكشوفة لتأنيث شخصية الجوكر في الأجزاء القادمة.

بعد نجاح الجزء الأول منه شغل الجزء الثاني من فيلم "الجوكر" محبي السينما، منتظرين ما ستؤول إليه الأحداث المبهرة، إلا أنه جاء مخيبا لآمال الكثيرين، حيث يعتمد سيناريو غير متماسك ويبدو أن صنّاعه يمهدون لتأنيث شخصية البطل التي منحت خواكين فينيكس جائزة الأوسكار عام 2020.

الرباطتدور أحداث فيلم “جوكر: جنون مشترك” للمخرج الأميركي تود فيليبس حول قصة ممثل كوميدي فاشل يُدعى آرثر فليك، والذي يلتقي بحب حياته هارلي كوين أثناء احتجازه في مستشفى أركام بعد خروجهم من السجن، يخوض الثنائي مغامرة رومانسية مليئة بالتحديات في مدينة جوثام التي تعاني من الفساد، لكنها مغامرة محكومة بالفشل. والفيلم من سيناريو تود فيليبس، وبطولة خواكين فينيكس، ليدي غاغا، زازي بيتز، بريندان جليسون، كاثرين كينر، وكين ليونج.

من البداية، يظهر الفيلم ضعفا واضحا في سرد القصة، حيث تبدأ الافتتاحية بمشاهد كرتونية باهتة لا تضيف قيمة حقيقية للأحداث، ما يجعلها تبدو كإضافة عشوائية بدلا من أن تكون جزءا متكاملا من الحبكة الدرامية، فمشهد الظل الذي يسرق زي الجوكر ويحبس فليك في خزانة يأتي بطريقة مبالغ فيها وغير مقنعة، كما أن المواجهة التي تحدث على خشبة المسرح تبدو غير مبررة دراميًا، حيث تتحول الأحداث بسرعة كبيرة ودون تبرير منطقي كاف لتصرفات الشخصيات.

تنتقل الأحداث إلى مستشفى أركام، حيث يتجلى عيب آخر في سرد الأحداث؛ فيظهر آرثر كشخصية مظلومة ومعذبة بطريقة سطحية ومكررة، ما يجعل المحاولات لإثارة التعاطف معه تفشل، ومشاهد إساءة المعاملة في المستشفى تبدو مبتذلة وتقليدية، وكأنها مأخوذة من كليشيهات أفلام الأمراض النفسية دون أيّ ابتكار، أما الدفاع الذي تقدمه المحامية ماريان عن آرثر باستخدام اضطراب الهوية الانفصامية فيبدو غير مقنع وغير مدعوم بأيّ تفاصيل أو بناء درامي عميق لهذه الشخصية.

كذلك المشهد الذي يلتقي فيه فليك بلي كوينزيل، التي تجسدها ليدي غاغا، يظهر بسطحية شديدة؛ فبدلا من أن تكون هذه الشخصية مضافة لتعميق القصة، تبدو وكأنها مجرد حشو لا فائدة منه، حيث أن تصريحاتها بإعجابها بأفعال الجوكر تظهر بشكل غير منطقي وغير مبرّر، خاصة مع ضحالة تفاعل الشخصيات مع بعضها، كما أن إعلان نائب المدعي العام هارفي عن محاكمة آرثر وإعدامه عبر التلفاز يأتي بطريقة متسرعة وغير متقنة، وكأنه تم إدخالها فقط لدفع الحبكة الدرامية إلى الأمام بشكل قسري.

الجزء الثاني من الفيلم يعاني من العديد من المشاكل البنيوية والسردية التي تجعل مشاهده تبدو بلا معنى وغير مترابطة مع الأحداث السابقة للجزء الأول، فأداء ليدي غاغا وخواكين فينيكس في هذا السياق يبدو باهتا ولا يحمل العمق المطلوب، ما يجعل الشخصيات تبدو وكأنها مجرد أدوات لتمرير الأحداث بدلاً من أن تكون محركًا حقيقيًا لها، نأخذ على سبيل المثال محاولة هروب فليك وكوينزيل وسط الفوضى تبدو غير مبررة وتفتقر إلى التشويق الذي كان من المفترض أن يكون موجودا في هذا المشهد، وهو ما يجعل القبض عليهما عند البوابة يبدو وكأنه مجرد حدث عابر بلا تأثير درامي.

الفيلم يعاني من مشاكل بنيوية وسردية تجعل مشاهده تبدو غير مترابطة مع أحداث الجزء الأول

أما المشهد الذي يمارس فيه آرثر وكوينزيل الجنس فهو غير مناسب للسياق الدرامي ويظهر كإضافة مفروضة لتوجيه انتباه المشاهد بعيدا عن الفوضى السردية، بينما يظل دون مغزى حقيقي يخدم الحبكة الدرامية، كما أن المقابلة التلفزيونية التي تُفترض أنها محاولة لإظهار آرثر بصورة إيجابية تتحول بشكل غير مبرر إلى فوضى، وغناء فليك لكوينزيل عبر شاشة التلفزيون يأتي بلا سياق واضح، ما يجعل هذا الجزء من الفيلم غامضا، بينما التحفيز غير المبرر لآرثر عندما يرى المؤيدين خلال طريقه إلى المحكمة يزيد من الفجوة بين تطور الشخصية والأحداث.

يبرز تكوين اللقطات في اليوم الأول من المحاكمة واستدعاء الشهود وردودهم بطريقة سطحية وغير معبرة عن أيّ عمق قانوني أو درامي، وهو ما يزيد من الإحباط لدى المتابع، أما كشف ماريان لفليك بأنه لم يحرق منزل والديه وأنها تتلاعب به، فيبدو كأنه محاولة ضعيفة لتعقيد الحبكة، لكنه يأتي في النهاية بلا تأثير حقيقي أو مفاجأة تُحدث تغييرًا ملموسًا في مسار الأحداث.

 إيقاع الفيلم يعاني من بطء شديد في تطور الأحداث، ما يؤدي إلى فقدان الزخم الذي قد يجذب الجمهور، إذ أن المشاهد التي تعود إلى المحكمة تبرز ثغرات واضحة في السيناريو، حيث يبدو أن السماح لآرثر بارتداء مكياج الجوكر وملابسه داخل المحكمة قرار غير منطقي وغير مبرر، خاصة بالنظر إلى خطورة الجرائم التي ارتكبها، وهذا النوع من التفاصيل يجعل المشاهد يتساءل عن مدى واقعية الأحداث وما إذا كانت مجرد محاولة لإضافة إثارة سطحية إلى الحبكة.

وتقديم زميل الجوكر السابق غاري كشاهد يأتي بطريقة غير مؤثرة دراميًا، إذ يبدو هذا المشهد غير قادر على إضافة تعقيد نفسي أو قانوني حقيقي، كما أن قرار آرثر بعدم تقديم دفاع بعد شهادة بودلز يعكس عدم اهتمام بتطوير شخصيته بشكل منطقي، حيث أن التحول من هذه اللحظة إلى إعلان آرثر نهاية المحاكمة بجوّ من النصر وتهليل أنصاره يشعر بأنه غير مبرر وغير مدعوم بسياق كافٍ.

ويعاني السيناريو مرة أخرى من الثغرات خاصة في المشاهد التي تصور آرثر على أنه ضحية للعنف المفرط من الحراس بقيادة جاكي، ومشهد القتل في الحبس الانفرادي، حيث يخنق آرثر سوليفان ويقتل ريكي، يبدو أنه مضاف فقط لزيادة صدمة المشاهد دون أن يقدم تطورًا حقيقيًا في شخصية آرثر أو تقدمًا دراميًا مبررًا.

اللحظة التي يتذكر فيها آرثر جرائمه الأولى ومسح دهانات المهرج عن وجهه تكشف عن ضعف في كتابة الشخصية، حيث كان من الممكن أن تكون هذه اللحظة لحظة انعكاس أعمق عن التحول النفسي لشخصية الجوكر، بينما تبدو هذه اللحظة فارغة، حيث يتم التعامل مع شخصية الجوكر كواجهة سطحية دون أيّ تعمق في الاضطرابات النفسية التي يمكن أن تكون محورًا أقوى للفيلم.

الفيلم يعاني بشكل واضح من فوضى في السرد وتوزيع غير منطقي للمشاهد، حيث تظهر عناصر مكلفة، مثل المكياج والمشاهد المتقنة، دون أن تكون لها تأثير فعلي على الحبكة أو تعمق في الشخصيات، فعلى سبيل المثال مشهد وضع كوينزيل للمكياج وسيره إلى المحكمة يبدو كأنه مجرد محاولة لإضافة لمسة بصرية دون أيّ معنى درامي حقيقي، بينما الإعلان المفاجئ من قبل فليك بأنه لم يكن هناك جوكر أبدًا وتحمله المسؤولية الكاملة عن أفعاله، بما في ذلك اغتيال والدته، هو التفاف غير مبرر ومفاجئ، ويبدو أنه تم وضعه فقط لإحداث صدمة للجمهور دون أيّ بناء نفسي مسبق، كما أن خروج لي والمؤيدين من المحكمة بعد هذا الإعلان يزيد من التشوش، حيث لا يوجد تفسير منطقي لتحولهم المفاجئ من الدعم إلى الهروب.

ناقد سينمائي مغربي

 

العرب اللندنية في

17.10.2024

 
 
 
 
 

«داهومي»… تصفية حساب سينمائية مع الاستعمار

سليم البيك

في عام 2021، انتشلت السلطات الفرنسية آثارا من متحف «كي برانلي» في باريس، لتوضيبها وإعادتها إلى بلادها الأصلية، بعد 130 عاماً من السطو والاستيلاء عليها. 29 من كنوز مملكة داهومي عادت إلى ما صارت اليوم جمهورية بينين، غربيّ القارة الافريقية.

لا يشكل هذا الرقم الصغير سوى فئة من آلاف الآثار التي نهبها المستعمرون الفرنسيون مع غزو المنطقة عام 1892، وهي بطبيعة الحال ضمن فئات واسعة وشاسعة مما نهبه هؤلاء من بلاد وثقافات افريقية وآسيوية، بوصفها قوة استعمار طاغية تستحلّ أملاك المستضعَفين، المادية والمعنوية.

هذا العام، تعدت الحقائق أعلاه زوايا أخبار تفصيلية أو منوعة هنا وهناك، لتكون موضوع فيلم وثائقي للفرنسية من أصل سنغالي ماتي ديوب، ويدخل الوثائقي الممتد لساعة فقط، المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي هذا العام، وينال جائزة دبّه الذهبي، لتنال بذلك هذه الواقعة، أو الحقائق أعلاه، مساحات ما كانت ستنالها من دون الوثائقي والجائزة.

الفيلم «داهومي» (Dahomey)، غير تقليدي في وثائقيته، رغم غنى الموضوع وإغرائه في تحويل العمل إلى وثائقي تلفزيوني يعود إلى التاريخ، بمشاهد تمثيلية ربما وأرشيفية، وبمقابلات مع مختصين وباحثين، ليكون فيلماً طويلاً أو بحلقات، له غاية أولى هو المعلومة والخبر. لم يكن هذا حال فيلمنا.

اتخذت ماتي ديوب منحى الفن، لا المعلومة، في فيلم أراد لموضوعه أن يكون طازجاً، راهناً لا تاريخاً، فنقّلت المصوَّر من دون تعليقات، كأنها مشاهد لا غاية لها سوى توثيق اللحظة، بالصمت، بصوت المصوَّر، وسوى تأمل اللحظة التاريخية التي تعود فيها ممتلكات شعب إليه بعد 130 عاماً من النهب. لا سياق تاريخياً هنا يشرح الراهن، بل الراهن وحسب بوصفه حدثاً تاريخياً، وحيّاً يتلو عملية نهب استعمارية لم يكترث الفيلم بتفاصيلها في حينه، بقدر ما فعل تجاه امتداداتها اليوم.

رافقت المخرجة بالكاميرا عمليات حفظ الآثار في صناديق وإعادتها إلى بلادها، ثم فتح الصناديق وتثبيت التماثيل في أمكنتها الجديدة، ثم رافقت نقاشات جماعية لطلاب في بينين، حول معنى هذه الاستعادة في سياق حالة الاستعمار وما بعده. وذلك كله مجاوراً لتعليقات كتبتها، على لسان أحد التماثيل الملَكيّة، التي كانت رقماً في «كي برانلي»، وعادت لتكون رقماً في بلدها الأصلي، أيقونة ثابتة في مكانها، في الظلام وبدرجة تكييف آمنة.

قد يكون انحياز ديوب للجانب السينمائي، هو المبرر في الخيار الفني الذي اتخذته، وإلا لكان وثائقياً تلفزيونياً يستقصي المعلومة ويتقصد الإعلام. لا معلومات بكلمات نتلقاها هنا، بل مراقبة من الخارج، لمشاهد تفكيك التماثيل من المتحف الفرنسي وتركيبها في موطنها، إضافة إلى كلام الطلاب واصلاً كما هو. كأن المخرجة أرادت أن تنزع عن موضوعها كل ما هو استعماري مقحَم، كل ما هو دون كلام أصحاب البلاد وكنوزها، وصورهم، ما أضفى على الفيلم جانبه التأملي منحّياً أي جانب إرشادي.

هذه الميزة الأقوى في الفيلم بالعلاقة مع موضوع، هي كذلك مأخذ على الفيلم من ناحية سينمائيته. فهو، بمدة ساعة، وبفقدانه العمق والبحث واكتفائه بالمراقبة الحيادية، غير جدير بمسابقة رسمية لمهرجان كالبرلينالي، ولا بجائزته الأولى، التي بدت هنا أقرب إلى موقف هو ضروري أخلاقياً، قبل أن يكون سياسياً وتاريخياً، لكن ليس فنياً، تحديداً بجوار أفلام ممتازة شهدها المهرجان، بان منح الدب الذهبي لهذا الفيلم خارج المعايير السينمائية.

أخيراً، وعودة إلى الأسطر الأولى، كانت الجائزة نافذةً للفيلم ومن بعده الموضوع، للوصول بقدرٍ ما كان له أن يناله بخلاف ذلك، لا موضوعه الخاص وحسب، بل الموضوع العام وهو إسقاط هذه الحالة على مئات غيرها، في علاقة المتاحف الأوروبية كمخازن لغنائم الاستعمار، بالثقافات المستعمَرة وكنوزها المصادَرة.

هي مسألة خارج النطاق السينمائي. أما امتياز الفيلم، وإن اضطر لأسلوب فني، فكان في استحضار الموضوع إلى صالات السينما، ومنحه ما هو أكبر من قصص صحافية إخبارية.

كاتب فلسطيني/ سوري

 

القدس العربي اللندنية في

20.10.2024

 
 
 
 
 

"الجوكر 2".. نهاية أسطورة بائسة !

محمود عبد الشكور

نشاهد الأفلام كما صنعها أصحابها، محاولين إلغاء فكرة التوقعات، حتى لا يعمل فيلم موازٍ فى أذهاننا، يشوش على الفيلم المعروض، لكن الجزء الثانى من الفيلم الأمريكي الجوكر ، وعنوانه كاملاً: « الجوكر .. جنون ثنائي »، يبدو عملا رديئا ومشوشا ومتعثرا، سواء لمن ذهب وفى ذهنه نجاح الجزء الأول، وأحداثه المثيرة، التى دفعت بطله آرثر فليك ( الجوكر ) أن يقتل خمسة، من بينهم مذيع شهير استضافه على الهواء، ولعب دوره روبرت دى نيرو، مثلما سيبدو الجزء الثانى أيضا عملا رديئا ومفتعلا، لمن لم يشاهد الجزء الأول، وبالتالى لا يمتلك أى توقعات إيجابية تجاه الجزء الجديد.

الغريب أن مخرج الجزء الثاني، والذى اشترك أيضًا فى كتابته، هو تود فيليبس، مخرج وكاتب الجزء الأول، الذى صنع شيئا يهدم تماما كل ما صنعه من قبل، ويحول شخصية الجوكر إلى شبح باهت، ثم يتخلص منها فى النهاية!

لا مشكلة عندى فى كسر "كتالوج" صنع الأجزاء على الطريقة الأمريكية، والذى يحافظ على عناصر التميز فى الشخصية المحورية، ويطورها، ويضيف إليها، أو يأخذها إلى آفاق أوسع وأعمق، وربما كانت فكرة فيليبس أن يهدم أسطورته، أو ينتصر للواقع فى مقابل العالم الخيالى الذى يعيش فيه الجوكر.

لا بأس أبدا فى ذلك، لكن المفترض أن يتم ذلك بصورة متماسكة وناضجة ومقنعة، أما أن يضيق عالم الجوكر، ويضيق عالم الفيلم، فنتحرك من السجن إلى المحكمة وبالعكس، ثم تضاف أغنيات يؤديها بطل الفيلم خواكين فينيكس، مع بطلته الليدى جاجا، بصورة تقليدية على طريقة الأربعينيات، وبصورة رومانتيكية متكررة، توقف تدفق السرد، فإن هذه الخطة البديلة تبدو فاشلة بل كارثية، فلا أنت قدمت وطورت عالم الشخصية الأصلي، ولا أنت قدمت شيئا جديدا ومبتكرا، بل إن الجزء الثانى يدمر تماما الأساس الذى قام عليه الجزء الأول.

الحقيقة أن الخلل موجود أيضا فى الجزء الأول، الذى حقق نجاحا ضخما، وحصد مليارا من الدولارات، وفاز الجزء الأول بالأسد الذهبى من مهرجان فينيسيا ، وبجائزتى أوسكار ، وغطت وقائع القتل، وحضور مدينة جوثام بناسها وشوارعها، وارتباطها الواضح بالمدينة الأمريكية المعاصرة، ولعب الأداء الفذ لخواكين فينيكس فى دور الجوكر، دورا محوريا فى التغطية على خلل درامى كبير، بتحويل مريض نفسى إلى رمز للتمرد، ومحاربة الظلم، وهذا سبب شعبيته وسط الناس. إنه البطل الضد فى حالة مرضيّة واضحة، والفارق، كما ذكرت فى مقال تحليلى للجزء الأول، أن الاضطراب العقلى مرض يدمر الوعي، بينما يبدو التمرد موقفا واعيا ضد المدينة، وضد سطوة الآخر، وبين الاضطراب والوعى مسافة شاسعة.

السيد تود فيليبس فرح طبعا بالنجاح، لكنه يبدو فى الجزء الثاني، محتارا فيما يفعله بالشخصية الجذابة، وممثلها الفذ، فالمطلوب هنا أن يقع الجوكر فى الحب، وأن تكون هناك مقدمة كارتونية مغناة يؤديها الجوكر مع شبيه له، تتحدث عن قلة الحب فى العالم، لكن ما إن ندخل إلى عالم السجن، حتى نرى آرثر وقد أصبح نحيفا للغاية، ممتثلا لتناول الدواء، يسأله الحراس عن آخر نكتة، ويفترض أن محاميته تريد إثبات أنه مريض بالفصام، وأن بداخله شخصا شرسا اسمه الجوكر، هو من ارتكب جرائم القتل الخمسة، يضاف إليها جريمة سادسة هى قتل أمه، وهى جريمة اعترف بها آرثر فى فيلمنا الجديد.

على ضوء إثبات جنون آرثر أو وعيه ستتحدد مسئوليته فى محاكمته، التى ستثتأثر بمعظم الفيلم تقريبا، لكن ليس قبل أن يتعرف آرثر على الفتاة لي، وبطريقة ساذجة تمامًا، فنحن نظن فى البداية أنها مريضة، تنتظم فى دروس علاج بالموسيقى، ثم نكتشف أنها دارسة لعلم النفس، تطوعت إعجابا بعنف آرثر، فأخذت تغنى معه أكثر من مرة، وأخذ هو يتخيلها فى عالمه الخاص، بل تقول له فى أحد المشاهد إنها حامل (منه بالتأكيد)، وتحاول أن يهربا معا، حتى يبنيا جبلا كما تقول، ولكن محاولة الهرب تفشل، ويساق أرثر إلى المحاكمة، محاميته تريد تأكيد مرضه، ولى تطلب منه محو هذه الفكرة، لأنه ارتكب جرائمه واعيا ومتمردا، ومخلصا للمدينة من أشرارها!

ثغرات بالجملة فى هذه الخطوط، فلا يمكن لآرثر أن يعيد الثقة بسهولة فى لي، رغم معرفته أنها خدعته أيضا كالآخرين، والمكان الذى يقبع فيه، ليس مفهوما بالضبط هل هو سجن أم مستشفى؟! وحصول آرثر على حبوب للعلاج كما شاهدناه عدة مرات، يؤكد أنه مريض، فما الحاجة إلى إثبات ذلك من جديد؟! وإذا كان آرثر مريضا يتناول أدوية تسيطر على سلوكه العنيف، فكيف يبنى الفيلم كله على مشاهد محاكمته؟! وحتى إذا لم يتناول آرثر الدواء، فنحن نرى بالنظرات والهيئة وبالخيالات التى يعيش فيها أنه مضطرب بالفعل، فكيف سيحاول وكيل المدعى العام إثبات وعيه وإرادته؟! هل يمكن أن يكون ممثلا بارعا إلى هذا الحد؟!

لكن الثغرة الأكبر أن هذا الخنوع الذى يظهر عليه الجوكر يؤسس لانفجار لن يحدث، ف الجوكر سيدافع عن نفسه، مؤكدا أنه غير مجنون، كما أرادت لي، لكنه يواجه أحد جيرانه فى المحاكمة، وينتهى إلى القول بأن شخصية الجوكر لا وجود لها، مما يغضب لي، فتغادر المحكمة، وينفجر المكان، ليموت كثيرون، إلا آرثر الذى يخرجه أحد معجبيه، وفى مشهد آخر تتركه لى وحيدا، فقد أحبت الجوكر وليس آرثر، المجنون المتمرد، وليس الضعيف الخانع، ثم يقضى السيناريو على آرثر نهائيا بطعنة من أحد زملاء السجن المرضى!

تحطمت الأسطورة نهائيا، دون أن نفهم سبب ذلك، فإذا كان المشاهد قد ابتلع تأرجح آرثر بين الجنون والتمرد، واعتبره تجاوزا من مظاليم جوثام المدينة التى لا مكان فيها للضعفاء، وإذا كنا قد تغاضينا عن قيام شاب مختل بقيادة ثورة الضعفاء، مما يجعلنا أمام فوضى كاملة، فإن الجزء الثانى ينفى أى شبهة لتمرد واعٍ، أو لمظلومية مختل، مصيره الطبيعى هو السجن بل العقاب الرادع، وهكذا يقتل الجوكر جسدا، بعد أن قتله السيناريو كفكرة، وفى المواجهة بين آرثر، وجاره القزم الذى شهد عليه، ما يثبت أن آرثر أضر الجميع، وحتى لى الحمقاء، التى يفترض أن تشاركه الجنون، كما يقترح عنوان الفيلم، تتركه بمفرده، ويبدو أنها أكثر عبطا وسطحية من آرثر، وهكذا نمضى ما يقارب الساعتين والنصف فى مباراة من الحماقة، مع فواصل غنائية رومانسية، فأى معنى لكل هذا الهراء؟!

فى أمريكا يصنعون أيضا أفلاما رديئة، و الجوكر الشرير فى عالم الكوميكس، استدعى من جديد ليدر الملايين، منحوه ماضيا ومعاناة نفسية فى طفولته، وجعلوا جرائمه عنوانا على التمرد والرفض، وجعلوا شعاره ابتسامة مجنون، فكأن الظلم يولد الجنون والفوضى، لكن الفوضى والجنون لم تحققا عدلا، ولم تطهرا المدينة، لذلك، أنجبت هذه الفبركة مزيدا من الفوضى والتشوش، ولم ينقذ الغناء ولا الحب ولا الرومانسية ولا صوت ليدى جاجا آرثر فيليك، ولا الجوكر، ولا أداء فينيكس المميز هذا الجزء الجديد البائس.

ظل الجوكر فكرة كاذبة لا يستطيع أن يتحملها آرثر فيليك، ولا تتحملها الدراما، وظل الواقع أقوى من الخيال، والمرض أقوى من التمرد، وصارت السذاجة عنوانا على المعالجة كلها.

ومع ذلك، لن أستغرب أن يبعثوا الجوكر فى جزء ثالث، أو قد تلد لى طفلا شرسا، لتعويض شبح والده الخانع، فالمهم أن تستمر الأسطورة، وأن تعيش الفبركة تحت مظلة الإبهار والعنف والتمرد الزائف.

 

أكتوبر المصرية في

20.10.2024

 
 
 
 
 

فيلم جوكر… الرومانتيكية التي لا يتحمّلها أحد

محمد عبد الرحيم

القاهرة ــ «القدس العربي»: في القصص الشعبي ـ العربي على الأقل ـ لا يتم الاحتفاء بميلاد (البطل) إلا لو كان معبّراً وباحثاً عن خلاص اجتماعي، مشكلة تخص شعبه أو قبيلته تجد حلها على يديه، هنا يتأسطر البطل منذ لحظة ميلاده، وربما قبلها، وحتى قبل أن يتعرّف والدته امرأته. لنجد أنه على النقيض في حالة البطل الباحث عن خلاصه الفردي، هنا تنتفي الأسطورة، ويصبح بطلاً ينتمي إلى وقائعه، رغم أن معاناته ـ بما أنها وقائع ـ قد تكون أشد وأقسى. ونجد في شخصيتي أبي زيد الهلالي وعنترة العبسي، تمثيلاً لصورة البطل في الحالتين.

وبالمقاربة يصبح فيلم Joker بجزئيه ممثلاً بدوره لحالتي البطل، من شخص أسطوري، أصبح أملاً ورمزاً لجميع المغضوب عليهم من سادة النظام الاجتماعي، وقوانينهم التي لا تخدم أحدا سواهم، رمزاً لثورة جامحة ضد هؤلاء، ليتحول بعدها إلى شخص لا يبحث إلا عن خلاصه هو فقط، شخص رفض أن تتم أسطرته رغماً عنه، فما كان من المؤمنين بصورته التي يريدونها إلا (الخلاص) منه هو، ولو بالقتل، وهو الذي بدأ رحلته الثانية ـ الجزء الثاني من الفيلم ـ بأغنية رومانتيكية تقول.. «إن كل ما ينقص العالم هو الحب».

الثوري بالمصادفة

لم يكن فعل القتل الذي مارسه آرثر فليك (خواكين فينيكس) عدة مرّات في الجزء الأول، والذي يُعاقب بسببه الآن بوضعه في مصح نفسي، إلا رد فعل عن عُمر من التجاهل، هذا الشخص غير المرئي وغير المسموع صوته، إلا من خلال ضحكات هيستيرية نتيجة المرض. رد الفعل الفردي هذا بالأساس تماس وردود أفعال لآلاف من المكبوتين، خاصة جريمة القتل الأخيرة لمقدم البرامج الشهير، الذي يمثل بدوره سلطة عصر الصورة. جريمة قتل تحدث وتُبث على الهواء، ليتحقق حلمه ـ حقيقة ـ في أن يكون نجم عروض ترفيهية، وأي عرض ترفيهي يمكن أن يجمع ويمثل الأغلبية من شعب يعيش بين النفايات، أكثر من قتل كائن متأنق يتمثل مقولات النظام ويُروّج لها. مَن منا يريد أكثر من (آرثر فليك) ليقضي على خدم الأنظمة وكلابهم الضالة، الذين يطالعونا على الشاشات ليل نهار.

أنا/الآخر
حالة الفصام التي عاشها (فليك) في الجزء الأول، وجعلته يعيش قصة حب بكامل تفاصيلها المتوهَمَة، تتحقق في الجزء الثاني عن طريق هارلي كوين (ليدي غاغا)، التي تطوعت بالمجيء إلى المصح النفسي للعلاج، ولا يهم إن كانت مؤامرة في البداية لدراسة حالة (الجوكر)، أصبحت إعجاباً وولهاً بهذه الشخصية، وهذا الوجه، الذي تصر على رسمه كما في خيالها أو كما تريد، حتى توافق على مضاجعته. هنا يتحقق وجود فليك ــ من وجهة نظره ـ إلا أن هذا التحقق كما اتضح في ما بعد، لم يكن إلا في صالح الجوكر، هذه الشخصية التي نفاها فليك في النهاية، فهو يريد أن يكون نفسه، لا أكثر ولا أقل، نعم.. قاتل لخمسة أشخاص، وأضاف قتله لأمه ليزيد العدد، لم يكن يريد أن يصبح قدوة لأحد، فقط يريد أن يستمع إليه أحد.. أن يهتم لأمره أحد.. يريد أن يوجد. كل هذا لم يكن إلا بوجود (الحب)، أو كما قال في أغنيته.. «كل ما ينقص العالم». وباكتمال فليك ينتفي دروه الذي رسمه له الآخرون، الجماهير الذين صاغوه على شاكلة أحلامهم.

فورست جامب يتوقف فجأة

في فيلم «فورست جامب» وإثر أزمة يعانيها جامب (توم هانكس) ينتوي أن يعدو بلا نهاية، دون أن ينظر خلفه، وبعد قطع آلاف الأميال، وبمرور الوقت يتجمّع خلفه المريدون، مُستلهمين من تجربته الخاصة حالة يتوحدون من خلالها، هناك إرادة وأمل في تجربة هذا الرجل الذي يعدو لأيام لا يحسبونها تنتهي، فأصبح زعيماً مُلهِما دون أن يدري، فقط الإيمان بما يفعل، هذا الإيمان الذي وصل في الفيلم إلى انطباع ملامح وجه (جامب) على منشفة حينما توقف، وهو التشابه الواضح بينه وبين السيد المسيح. وعندما سُئل عن سبب توقفه بعد كل ذلك، أجاب بأنه شعر بوجوب التوقف، بس كده. مريدو (جامب) يختلفون تماماً عن مريدي (الجوكر)، الذي طلب بدوره أن يتوقف، وأن ينسلخ من ظلاله العالقه به دوماً، كلما خرج من ظل، ظهر آخر، رحلة طويلة حتى يصبح (هو). فالفكرة الأساسية لـ(جوكر) في رحلته الثانية يتم تلخيصها في بداية الفيلم في المشهد الكرتوني الساخر من الجميع، دون أن يسخر من نفسه.

وبالعودة إلى (الجمهور).. فجمهور (جامب) متسامح واستلهم التجربة من صاحبها، أما جمهور (جوكر) فلم يتحمّل أن يكتفي الرجل بكونه (آرثر فليك)، وأن تبدو الأحداث وفق زمنه النفسي، دون الزمن الواقعي أو زمن الأحداث كما في الجزء الأول، فكل ما يدور من حوله لا يهمه ولا ينتمي إليه، لذا عليه أن يتحدث بصوته هو، لا بصوت المجموع، ويغني أغنياته الرومانتيكية التي لا يتحملها أحد. هنا لا يمكن تعويض الفجيعة في الأسطورة إلا بمحوها، وبفعلة أشبه بأفعالها، وسبب مجدها .. القتل.

 

القدس العربي اللندنية في

22.10.2024

 
 
 
 
 

{جوكر2}.. الجنون المشترك

علي حمود الحسن

لدي معيار نقدي قد يبدو بسيطاً، لكنه بالنسبة لي معتبراً، هو الانطباع الأول، فالفيلم الذي أستطيع إكمال مشاهدته بلا ملل ولا منغصات، أحسبه جيداً، والعكس صحيح، وهذا ما حدث معي بعد مشاهدة فيلم "الجوكر.. جنون مشترك"(2024) للمخرج تود فيلبس الذي اتفق الجميع، نقاداً وصناع سينما وجمهوراً مهووساً بالجوكر على فشله، لكني لم أجده بهذا السوء، ربما لم يكن بمستوى الجزء الأول من فيلم "الجوكر"(2019)، لكنه من وجهة نظري: فيلم جيد شاهدته بلا ملل، متابعاً أداء خوانكين فينكس وتحولاته وقدرته على التلاعب في ملامحه وكامل جسده، فضلاً عن ضحكته الهستيرية، ورقصه وغنائه بمشاركة المغنية الشهيرة الليدي غاغا بدور حبيبته لي كوين، التي أيقظت في قلبه وجسده الناحل والمتهالك جذوة الحياة والرغبة، فغنى معها ورقص وأشجى، وهي لا تدري أنها قتلت الجوكر الملهم لها وللآلاف من عشاقه في داخله، فآرثر فليك النزيل في المصحة النفسية للمجرمين المختلين نفسياً الخطرين، والذي خضع لجرعات علاج هدت جسده وشوشت دماغه، حتى تحول إلى هيكل عظمي مشوه، لكنه كان محبوباً وملهماً للنزلاء، فهذا الجوكر الذي ارتكب ست جرائم قتل، حولته العلاجات وقسوة الشرطة إلى كائن مستلب، يكاد أن يكون مفرغاً من قدراته التي يتمتع بها ظله "الجوكر" وينتظر باستكانة محاكمته القريبة. هذه النقطة لم يفهمها معظم المتحاملين على الفيلم، فالجوكر (خواكين فينكس) منذ أن مسته شعلة العشق، وهو يسرح في خيالاته مع حبيبته التي تشاركه المصحة، والتي تغذي فيه روح التمرد والعنف وصنع الفوضى، بينما تحاول محاميته أن تركز على المرض النفسي الذي كان سبباً في ارتكاب الجرائم، مؤكدة أنه آرثر  فليك وليس الجوكر، ما يثير غضب حبيبته لي التي تعشق الجوكر فيه، يمكن القول أن آرثر بدأ رحلة للتطهر والوصول إلى إنسانيته، بعد أن وجد من يهتم به ويحنو عليه، وإن كانت رفيقته بالسجن، يطرد محاميته ويرتدي ملابس الجوكر ويدافع عن نفسه بطريقة ساخرة، لينهار في النهاية، ويقول أنا لست الجوكر أنا آرثر فليك وأقر بأني مسؤول عن كل الجرائم التي ارتكبتها، أثناء ذلك يفجر محبوه المحكمة ويهربوه في واحد من المشاهد الجميلة، لكن ظلال مشاهد من الجزء الأول واضحة على الفيلم.. لا يفكر إلا بلقاء حبيبته التي يجدها في المدرج الشهير الذي انتهى الجزء الأول فيه وصار مشهوراً في مدينة "جيثام" الكابية، يجد لي ويقول لها أنا آرثر دعينا نكمل حياتنا معاً، ترفضه بقوة، فهي أحبت الجوكر فيه وليس آرثر الإنسان، يعود خائباً فيلقى القبض عليه ويقتل غدراً من أقرب الناس إليه في السجن الذي يطعنه مرات.

الفيلم ينتمي إلى الأفلام الموسيقية، إذ شكلت الموسيقى والأغاني أكثر من ربع الفيلم، وعلى العكس مما يقوله النقاد معظم الأغاني وإن بدت مملة وأحياناً مغتربة، إلا أنها تصب في البنية السردية للفيلم.

 

الصباح العراقية في

28.10.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004