ملفات خاصة

 
 
 
 
 
 
 

عماد حمدي:

فارس الأحزان المهزوم

 

بقلم: كمال رمزي

 
 
 
 
 
 

ما الذي رآه كامل التلمساني في ذلك الموظف المغمور باستوديو مصر، ودفعه كي يغامر بأن يسند له بطولة "السوق السوداء" عام 1944؟

 كان التلمساني يبحث عن بطل من نوع جديد، بطل قادم من أحراش الحياة، وليس آتيا من السماء... بطل واقعي من لحم ودم، وليس مجرد بطل وهمي من النوع السائد في الأربعينيات، سواء المصرية أو الهوليودية.. بطل لا يميزه جمال الوجه ونعومة الشعر وسحر التقاطيع، أو حلاوة الصوت ورشاقة الجسم وأناقة الأزياء، ولكن يتميز بوضوح شخصيته وقوة روحه وتطابق ملامحه مع ملامح ملايين الرجال العاديين، فمشكلة بطل "السوق السوداء" تتجاوز، من حيث العمق والشمول، مشكلة العاشق الولهان، الذي يضنيه حب فتاة تقف العقبات بينهما.. فبطل التلمساني ليس صاحب مشكلة بقدر ما هو صاحب قضية عامة... وتتمثل قضيته في الوقوف بوجه تجار السوق السوداء، الذين امتصوا دماء الشعب، بلا رحمة، خلال الحرب العالمية الثانية.. ويدرك بطل الفيلم، المشبع بالأفكار التقدمية، ذات النزعة الاشتراكية، والمؤمن بدور الجماهير في تغيير واقعها، مهما كانت قوته، لن ينتصر وحده على التجار الذين ماتت ضمائرهم، ولكنه سينتصر، حتما، إذا تحرك الناس معه، إذا واجهوا مستغليهم وقاوموهم لذلك فانه يقوم بدور المحرض.. ولعلها المرة الأولى التي تطالعنا فيها السينما المصرية برجل بيث الوعي في عقول سكان الحارة، ويدفعهم إلى أن يصفوا حسابهم، بأنفسهم، مع جلاديهم ويقنعهم بأن المجاعة ليست قدرًا، ولكنها من صنع اللصوص، لذلك فان القضاء عليها إلا عن طريق المتضررين منها.. وهو يضطر، في صراعه، إلى أن يخسر حبيبته، بعد أن يشهر عداءه تجاه والدها الذي تحول من صاحب مخبز طيب، إلى تاجر بالغ القسوة، كلما زادت ثروته، ازداد إيغالًا في الشراهة والافتراء.. ويحاول التاجر المجرم أن يضم بطلنا إلى معسكره، مرة بالترغيب، ومرة بالترهيب.. إلا ان البطل الجديد، يمشي فوق قلبه، ويختار بحسم، وبإرادة كاملة، جانب الجموع، ويقبل بلا تردد، أن يربط مصيره بمصيرهم.

لا شك أن المخرج المفكر، كامل التلمساني، الفنان التشكيلي والعضو النشط في "جماعة الخبز والحرية" - التي عبرت عن أفكارها من خلال الأعداد القليلة التي صدرت من مجلة "التطور" عام 1940، والتي اهتمت بإبراز الدور الاجتماعي والسياسي للفن، وهاجمت نظرية الفن للفن –لا شك أن التلمساني الذي كان أحد الأسماء اللامعة في يسار الأربعينيات، وجد في وجه عماد حمدي ما كان يبحث عنه.

اكتشف، بحسه المرهف، ما ينطوي عليه وجه ذلك الوافد الجديد من ألفة ودفء، ووضوح وطيبة.. طيبة لا تأتي نتيجة إدراك ساذج للحياة، ولكنها تأتى من ينابيع داخلية عميقة، ونظرا لأن عماد حمدي لم يكن شابا في مقتبل العمر، عندما وقع نظر المخرج عليه، ولكنه كان في الخامسة والثلاثين من عمره، لذلك فإن التجاعيد والخطوط المبكرة، الخفيفة، في جبهته وحول شفتيه، أعطت احساسا بأن صاحبها يعاني من متاعب لا تشغله عن متاعب الآخرين، وأنه ليس من سلالة أرستقراطية، ولكنه قادم من قبل الطبقة المتوسطة، بكل متاعبها وأشواقها.. وهو يوحي بالقوة والثقة، وقوته لا تكمن في عضلاته، ولكنها تكمن في روحه الصلبة التي ترفض التنازلات والمساومات، وتكمن في وعيه الذي يستطيع أن يفسر به ظواهر الواقع تفسيرا علميا، وهو يتمتع بالقدرة على التأثير في الآخرين، وفي نظرته يترقرق حلم ما.. حلم جماعي عذب على الرغم من كدر همومه الخاصة ويعكس صوته الواضح، الناضج، الممتلئ بالمشاعر، الصادق، والذي لا يكاد يعلو أبدا، شيئا من الشجن، ويبعث على الاقتناع والارتياح.

 نشأ عماد حمدي في أسرة ميسورة الحال، تقف على أرض اقتصادية صلبة، فوالده الذي نال دبلوم الهندسة من باريس التحق بالعمل في السكة الحديد المصرية بمرتب كبير، الأمر الذي جعل الأسرة تعيش في مأمن من تقلبات الأوضاع الاقتصادية –وأتيح لعماد حمدي، منذ البداية أن يدرس أكثر من لغة أجنبية، فوالدته الفرنسية علمته لغة موطنها ألأصلي، بينما أصر والده، بحكم درايته باللغة الإنجليزية من جهة، والاحتلال البريطاني من جهة أخرى، أن يتعلم الأبناء تلك اللغة التي رأى أن المستقبل لها.

وكانت النتيجة الطيبة لإصرار الوالدين على تعليم الأبناء لغتين مختلفتين هي ان عماد حمدي، عندما أصبح شابا، كان يجيد إلى جانب اللغة العربية ـ ومن الإلقاء الذي تعلمه على يد الأستاذ الكبير عبد الوارث عسر عندما كان الأخير مدربا مسرحيا لفريق التمثيل بمدرسة التوفيقية الثانوية ـ اللغة الفرنسية والإنجليزية.. وإذا كان عماد حمدي قد تعرف على دقائق اللفة الفرنسية من خلال الحياة اليومية مع والدته، فإنه تعلم الإنجليزية من خلال الأدب والثقافة عندما توفر له ذلك المدرس الخاص، الفنان، والشاعر، والمسرحي... بديع خيري.

عاش عماد حمدي طفولته وشبابه في جو من العزلة النسبية، فهو، بحكم وضع أسرته الطبقي، لم يخالط أبناء الأحياء الشعبية في المدن، ولم يكن لوالده بذور ريفية، وبالتالي لم يتعرف على القرية وعالم الفلاحين، وربما هذا ما يفسر، بشكل ما، عدم قيام عماد حمدي. إلا فيما ندر، بأدوار الفلاحين والعمال أو الرجال الشعبيين... حقًا أن والد عماد حمدي لم يكن باشا، ولم تكن أسرته تملك قصرًا أرستقراطيًا، ولم يكن أيضًا مجرد أفندي مهدد بالمتاعب.. لكنه وصل، بحكم تعليمه ووظيفته إلى رتبة "بك".. وانتقل عماد حمدي، في طفولته، من فيلا إلى أخرى، دون أن تتعرض أسرته لأية عواصف، إلا أن عماد حمدي روى، أكثر من مرة، وبلهجة تفيض بالألم تلك النكبة التي عاشها عندما اختطف الموت شقيقته الشابة، التي كان يكن لها حبًا خاصًا، بعد فترة مرض قصيرة بداء السار.

إذا لم يصبح عماد حمدي ممثلًا لكان أحد المشتغلين بالفن أو الثقافة، وذلك بسبب المناخ الثقافي الذي وجد نفسه فيه.. بل هو قد حاول، مع أحد أصدقائه، أن يترجم إحدى مسرحيات الكاتب الانجليزي جون جالزورثي الذي يبدو أن كتاباته قد صادفت هوى في وجدانه.. كان الكاتب الإنجليزي يتعرض في أعماله إلى عالم الطبقة الأرستقراطية وهو يتهاوى أمام قوى اجتماعية أخرى صاعدة، في طريقها لتفتيت تركة الاقطاعيين وتوزيعها على أفراد طبقة أخرى ناهضة، أكثر استغلال ولكنها أكثر تفهمًا لعصر جديد.. إن أدب جالزورثي الذي لمس أوتار قلب عماد حمدي، والذي وجده مرضيًا لمزاجه، يمتلئ بالمراثي وينجح في "إهاجة العواطف واستثارة الرحمة" على حد تعبير الناقد "بول دوتان".

 بدأت ميول عماد حمدي للتمثيل في المرحلة الثانوية، وكان من الطبيعي أن يتابع عروض فرق "جورج أبيض" و"رمسيس" و"فاطمة رشدي".. وربما يكون من الملفت للنظر أن أسلوب عماد حمدي في الأداء، منذ أول أفلامه، مختلفا عن الأسلوب التقليدي السائد في تمثيل الثلاثينيات، والأربعينيات، فهو يبتعد تماما عن الفخامة والحرارة الزائدة والزخرفة وتغليب نبرات الصوت على معانى الكلمات والميل للغنائية في الإلقاء والتي تبلغ أحيانا حد التكلف، وهذه السمات التي انتشرت، خلال عقدين من الزمان أو أكثر قد ترجع، في بُعد من أبعادها، إلى طبيعة النصوص التي اعتمدت عليها هذه الفرق من جهة، وذوق الجمهور الذي كان يميل إلى الاندماج الكامل في طوفان العواطف والانفعالات المتدفق من فوق خشبة المسرح: كان مزاج الجمهور وأداء الممثلين يتماشيان مع طبيعة التراجيديات التي يقدمها جورج أبيض الميلودرامات التي تخصص فيها يوسف وهبي والمآسي التي عشقتها فاطمة رشدي.

 جاء أسلوب عماد حمدي مختلفا، ففيما يبدو أنه قد تفهّم من الأستاذ الكبير عبد الوارث عسر ضرورة ألا يندفع الممثل مع انفعالاته إلى الدرجة التي يطمس فيها عقله ويفقد السيطرة على أعصابه ولكن من المؤكد أن الدرس الأساسي العميق وقد تعلمه عماد حمدي على يد كامل التلمساني الذي طالما نادى بواقعية الأداء طالما أن العمل الفني كان يستند إلى الواقع.. إن فيلم "السوق السوداء" يور في حارة شعبية، شخصياتها كلها لها أبعادها الاجتماعية والنفسية المحددة والواضحة وهي لا تعيش بمعزل عما يدور في الحياة وفي العالم الخارجي، فهي تدخل في سلسلة طويلة من الأفعال وردود الأفعال، لذلك فإنها تتطور وتتشكل، على نحو منطقي صحيح، وبالتالي فإن أداء الممثلين كان لابد وأن يتسم بالواقعية، ويبتعد عن النغامة والمغالاة.

بدأ عماد حمدي، في أول أفلامه، ممثلًا بالغ البساطة، يعتمد في أدائه على التفهم والصدق الداخلي، وبالتالي ينساب أداؤه بصدق وبطبيعية كاملة.. وإذا كان عماد حمدي قد نجح بجدارة في أول أفلامه إلا أن هذا النجاح كاد يضيع مع السقوط التجاري المروع للسوق السوداء. ففي ليلة العرض الأولى، في شتاء 1945، كان ثمة قطاع من جمهور "ستوديو مصر" أو "ريتس" من ذات الطبقة المنحطة، المستفيدة من الحرب، المسيطرة، الفاسدة، التي قام الفيلم الشجاع بهجائها وتعريتها والتنديد بها. وبقدر عنف الفيلم جاء عنف الجمهور الذي يملك ثمن تذاكر الحلفة الأولى، والذي احتل شارع عماد الدين خلال الحرب.. فما إن ظهرت كلمة النهاية، بعد معركة ينتصر فيها سكان الحارة على تجار السوق السوداء، حتى بدأ الجمهور يكسر مقاعد دار العرض، ثم تلفت حوله باحثًا عن المخرج المتهور، طالبا القصاص الفوري.. واضطر فرسان ذلك الفيلم الشريف، الذي يعد من أهم الأفلام العربية، إلى التسلل خارج دار العرض، هربا بجلودهم.

 كانت تجربة "السوق السوداء" بالغة المرارة، لم يكررها كامل التلمساني، وكادت تضيع إيجابياتها الحقيقية في ذهن عماد حمدي، فهو لم يعد يتذكر التفاصيل الداخلية لدوره في هذا الفيلم البديع، إلا على نحو ضبابي.. وكل ما يقوله عندما يتكلم عن بطولته الأولى أنه يحمد الله لأنه لم يسقط مع سقوط الفيلم.

 عموما، ظلت بعض ملامحه الخارجية التي ظهر بها في السوق السوداء ملازمة له، في أفلامه التالية، بعد أن استبعد منها صناع أفلامه ـ بحزم ـ تلك الميزة العظيمة التي ظهر بها في أول أفلامه، وأقصد بها عنصر الوعي الذي جعله مؤمنا بالناس، ومحرضًا لهم، على تصفية حسابهم مع مستغليهم.. ومنذ الآن، او بعد "السوق السوداء" لن يعود عماد حمدي صاحب قضية، إلا فيما ندر، ولكنه سيصبح صاحب مشكلة، فهمومه، منذ فيلمه الثاني "دايما في قلبي" لصلاح أبو سيف 1946 ـ والمأخوذ عن "جسر واترلو" الذي قدمته "فيفيان لي" و"روبرت تايلور" من إخراج ميرفن ليروي ـ لا تتجاوز الذات العليلة التي تعاني معاناة فريدة، وتكاد تغلق كافة النوافذ التي من الممكن أن تحمل شيئًا من نسيم الواقع.. إن بطل "دايما في قلبي" يخفق قلبه بحب فتاة.. وبينما تهيأت الحبيبة للزواج تغرق السفينة التي يقلها بمن فيها، كما تقول الأخبار، وتنحرف الفتاة، ويعود الحبيب الذي أُنقذ بأعجوبة ليبحث عنها بحثًا جنونيًا: فالحب، مند الآن، سيضبح هو محور الهموم والمآسي، والاقتران بالحبيبة أو التضحية في سبيلها، هما الهدفان الأسمى للحياة.

 بفيلم "سجى الليل" الذي أخرجه بركات1947 تحددت أبعاد عماد حمدي التي سيطالعنا بها في العشرات من أفلامه التالية.. انه هنا يعمل طبيبا في أحد المستشفيات ـ والطب من أكثر المهن انتشارا في السينما المصرية ـ يحب فتاة رقيقة "ليلى فوزي" تبادله ذات المشاعر.. ويستعد الحبيبان لبناء عش الزوجية.. لكن الطبيب المتفاني في العمل يصاب بداء السل الذي ينتقل له من أحد مرضاه.. ولأن عماد حمدي يشفق على حبيبته من الآلام النفسية التي ستعانيها إذا ما عرفت بمرضه فإنه ـ بدافع الرحمة والتضحية ـ يوحي لها بأنه يحب فتاة أخرى، ويدفع صديقه، كمال الشناوي، إلى أن يخفف عن حبيبته، بل إلى أن يقترن بها. فمنتهى أمله أن يرى من خفق لها قلبه سعيدة.. وبالفعل ينفذ الصديق ما طلبه منه ويوم الزفاف تعرف الحبيبة القصة كاملة، فتهرع إلى المستشفى حيث حبيبها المريض يعاني سكرات الموت.. وسرعان ما يفارق الحياة بين يديها.

 والفيلم يفيض بالحزن، حتى أن العديد من المتفرجات كان يغمى عليهن بانتظام، في كل حفلة، وينقلن إلى عربة إسعاف تقف عند باب السينما، من شدة البكاء.. ونظرا لكمية الدموع الضخمة التي سالت من عيون المتفرجين، كان النجاح بالتالي كبيرا، فالنجاح يرتبط طرديا بالدموع، وهذا المعيار التقليدي يذكرنا بالنجاح المقرون بالدموع المسفوحة من أجل "غادة الكاميليا" سواء مثلتها روز اليوسف أو فاطمة رشدي، ويذكرنا بعذاب المتفرجين واستمتاعهم بآلام سيرانو دي برجراك وأحدب نوتردام.

لقد خاطب عماد حمدي، في "سجى الليل" قطاعا ضخما من جمهور تكوَّن ذوقه من خلال كتابات مصطفي لطفي المنفلوطي ومسرحيات يوسف وهبي، ومن الواضح أن صناع أفلامه قد اكتشفوا أن أضمن وسيلة لاستمرار نجاح بطلهم هي أن يجعلوه يدور، بلا نهاية، في دوائر مغلقة من الحب والقدر والتضحية والألم.

وفي أعوام قليلة، وخلال العديد من الأفلام، أصبح عماد حمدي فتى الشاشة الأول، ومعشوق الجمهور الذي وجد فيه إنسان يتحلى بصفات متميزة وساحرة، ويعبر، بشكل ما عن المثل العليا السائدة خلال الخمسينيات ومنتصف الستينيات.. انه أبعد ما يكون عن المرح، يعيش مثل معظم الرومانسيين معزولًا عن الحياة، صاحب نفس عزيزية، سريعة التأثر، يتسم بسمو الروح وطهارة القلب، يعتز بكرامته، ولا يعرف الكره إلى قلبه سبيلا، هو بالغ النقاء، بالغ الإخلاص، وفي شخصيته تمتزج الرومانسية بالميلودراما، فهو في وحدته يأتي الأمل ممثلا في علاقة روحية شفافة مع فتاة تبادله حبا بحب، لكن العراقيل تقف في طريقهما، فيصبح نهبا للأحزان، وفي الكثير من الأفلام يتعرض للغدر والخيانة والمؤامرات، وإذا كانت السينما المصرية تنهي أفلامها عادة بنهاية سعيدة، فإن أنجح أفلام عماد حمدي ـ جماهيريًا ـ هي التي انتهت نهاية فاجعة!

 التضحية بالذات واحدة من أهم القيم التي يمثلها عماد حمدي، وهي قيمة شأنها شأن بقية القيم، لا يمكن الحكم عليها بشكل مطلق. ذلك أنها من الممكن أن تكون قيمة إيجابية بقدر ما يمكن أن تكون قيمة سلبية. فالسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: التضحية من أجل ماذا؟

من قلب عشرات الأفلام التي مثلها عماد حمدي ستأتيك الإجابة.. من أجل لا شيء، أو التضحية من أجل التضحية! ولكن قبل أن نتعرض بالتفصيل لنماذج التضحية نتوقف عند فيلم "الله معنا" الذي أخرجه بدرخان ١٩٥٢، ذلك انه الفيلم الوحيد ء بعد ‌"السوق السوداء" الذي يبدو فيه عماد حمدي صاحب قضية، ومدافع عن مبادئ، تهم الوطن كله، وهو على استعداد أن يضحي، في سبيل هذه المبادئ، وأن يدفع من جسمه وروحه.. الثمن كاملا.

في ‌«الله معنا‌» يذهب عماد حمدي إلى أرض فلسطين ليشارك في حرب ١٩٤٨.. وهناك يفقد ذراعه ويعود إلى الوطن بعد إعلان دولة إسرائيل.. وهو ممتلئ بالمرارة من أجل ضياع فلسطين، وفي أكثر من موقفه، وعلى نحو بالغ التأثير، لأنه بالغ الصدق، يتحدث عماد حمدي، بلهجة تفيض بالشجن، عن ذلك الوطن المغتصب، الذي ضاعت منه أجزاء، كما ضاعت من جسده أجزا ء، ويعبر بوضوح عن حقيقة بالغة الأهمية، هي أن ما يعذبه أن التضحية بذراعه ذهبت بلا مقابل، فلأعداء، لم يدفعوا ثمنها، ذلك انها كانت نتيجة خيانة، حدثت إثر انفجار ذخيرة فاسدة، بالتالي فإنه يقرر أن يصفي حسابه مع الخونة أولا، وهو على استعداد أن يضحي بحياته كلها.. وبكل حماسة.. طالما أن الغد سيصبح بلا خونة.

 في أفلام عماد حمدي إعلاء مطلق لقيمة التضحية، وهي تمتزج وتختلط بقيم أخرى ذات طابع محبب، مثل الوفاء، والحب الروحي، وغالبا ما يتم التعبير عن هذه القيم شكل يجمع بين الرومانسية والميلودراما.

في الفيلم المبكر "وداعًا يا غرامي" الذي أخرجه عمر جميعي 1950 يلقى عماد حمدي درسا طويلا مؤداه أنه إذا ما تعرضت الزوجة لفقد زوجها فعليها أن تضحي بكل شيء في سبيل أطفالها، وأن تبعد تماما عن ذهنها فكرة الاقتران بآخر، أيا كار هذا الآخر.

يبدأ الفيلم بعماد حمدي ـ المحامي الكبير، في مكتبه الفخم ـ وهو يحكي لأرملة شابة من عميلاته، جاءت تسأله عما إذا كان من المناسب أن تتزوج برجل يحترمها ويتعهد بأن يرعى معها أبناءها؟ أن عماد حمدي يحكي قصة حياته هو، يحكي للسيدة عن مأساة ذلك الابن الذي تزوجت والدته برجل آخر بعد وفاة والده.. ويبدأ الرجل في تعذيبها وابتزاز أموالها، وعندما يهم الابن ـ الذي لا يزال طالبا بكلية الحقوق ـ في مقاومة الرجل الشرير "فريد شوقي" يندفع الأخير في التآمر ضد الشاب فيبلغ السلطات انه هارب من التجنيد، وينتزع الشاب من بيته ومن كليته ومن خطيبته وجارته فاتن حمامة لينخرط في صفوف الجيش بعد أن يرفض زوج والدته أن يدفع له "البدلية" وتنقطع علاقة الشبا بعالمه القديم.. وينقل إلى منقباد ليصبح جندي مراسلة للضابط الكبير عباس فارس.. وفي فيلا الضابط الكبير، الممتلئة بالخدم، يعيش شقيقه الأصغر عمر الحريري الشاب العابث، المقامر، شبه المنحرف! ويذهب عماد حمدي، في صباح أحد الأيام، مع قائده لاستقبال زوجته القادمة بالقطار، ويفاجأ، ونفاجأ معه، أن زوجته ليت سوى حبيبته القديمة فابتن حمامة. وفي العربة التي يقودها عماد حمدي نشاهده في أحد المواقف التقليدية: إنه يستمع بوجه يفيض باللوعة والألم إلى حديث الأشواق الذي يبثه الضابط لزوجته.

 من باب الوفاء للقائد يقدم عماد حمدي طلبا يتضمن رغبته في ترك المكان والعودة إلى المعسكر، إلا أن الضابط الكبير يرجئ النظر في الموضوع.. ويحاول عماد حمدي المُعذب، أن يتهرب من مقابلة فاتن حمامة التي تريد أن تشرح له ما حدث، ولكن عبثا، فالحبيبة القديمة تصر إصرارا شديدا. وتتسلل المرأة إلى حجرة مكتب زوجها لتحدث حبيبها الذي ينتظرها في ذات الوقت الذي يتسلل فيه الشاب العابث كي يسرق مبلغا من المال.. وسرعان ما يكتشف أمر المال المسروق، وتحوم بعض الشبهات حول عماد حمدي حيث تشهد خادمة بأنها رأته وهو يعود إلى حجرته مع الفجر.

من باب التضحية بالذات، في سبيل إنقاذ سمعة الحبيبة، يدّعي عماد حمدي انه هو الذي سرق المال، لكن فاتن حمامة تعترف لزوجها بكل شيء فيمسك بمسدسه لتنطلق رصاصة طائشة تصيبها في مقتل وتموت بين ذراعي حبيبها.

 يعود الفيلم إلى البداية ليواصل الراوي قصته عن ذلك الشاب النبيل، الظاهر، المعذب، الذي أمر أن يستكمل تعليمه بعد انتهاء مدة الخدمة العسكرية، ويؤكد الدرس الذي تقتنع به الأرملة من خلال أمثولة حياته، وهو فرورة التضحية، مهما كانت الظروف، وضرورة الوفاء، مهما كان الثمن، وبينما ينظر إلى صورة حبيبته المتوفاة، والتي سيعيش على ذكراها، إلى الأبد، تنصرف المرأة وقد اتخذت قرارا نهائيا بأن تظل هكذا أرملة.. مدى الحياة.

لكن بعيدا عن المغالاة في التأكيد على قيمتي التضحية والوفاء، نلمس دعوة أخلاقية إيجابية في بعض الأفلام، تحض على نوع عقلاني من التضحية من أجل الأبناء.. فمثلا في "الحرمان" 1953 من اخراج عاطف سالم تنفصل زوزو ماضي عن زوجها الجاد، المحترم، لأنها تريد أن تعمل بالتمثيل، وترتبك حياة الزوج الحائر مع ابنته الطفلة فيروز التي يصحبها معه إلى المصنع الذي يعمل به كمهندس. وتتسبب الطفلة أثناء لعبها في حادث يصاب فيه والدها فتهرب من المكان.. وينخرط والدها مع والدتها ـ في البحث المضنى عن وحيدتهما ـ ومن خلال البحث يدركان أن مصيرهما مشترك وأن عليهما ان يتفاهما من أجل مستقبلهما المتمثل في الابنة.

وفي "حياة أو موت" 1954 لكمال الشيخ يظهر عماد حمدي كمريض بالقلب، ترتبط زوجته بوالدتها على نحو يهدد كيان الأسرة.. ويمر الزوج بظروف صعبة عندما يفصل من العمل ليعود إلى البيت منكسرا "ليلة العيد".. وتصر زوجته على الذهاب إلى والدتها، وعندا يرفض تتركه مع ابنتها وتغادر الشقة، ويصاب الرجل بنوبة قلبية.. وتذهب الطفلة لتحضر له الدواء. ويخطئ الصيدلي في تركيب الدواء فيضع مادة سامة بدلا من مادة أخرى.. وينتبه الصيدلي للخطأ فيبلغ الشرطة. وتتوه الطفلة في شوارع القاهرة.. وتناشد الإذاعة المواطنين المرة تلو المرة، للمشاركة في البحث عن طفلة تحمل زجاجة بها مادة سامة.. وتستمع الأم للنداء، وتدرك الزوجة وهي تستمع للنداء، انها كانت أبعد ما تكون عن الإحساس بالمسئولية، وأنها لم تعرف شيئا عن فضيلة التضحية، فطالما انها رزقت بطفلة، فإنه يصبح لزاما عليها أن تبقى إلى جانبها، وألا تحرمها من والدها، حتى لو كان هذا الوالد يعاني من المرض، ويعيش في ظروف مالية صعبة.

وفي "شاطئ الذكريات" لعز الدين ذو الفقار ١٩٥٥ نلمس فكرة بناءة وبديعة، تعطي لهذا الفيلم قيمة خاصة، بل وتجعله من أفضل الأفلام التي أعطت معنى عميقا لمفهوم التضحية بل ولمفهوم الأبناء.. شكري سرحان في هذا الفيلم هو شقيق عماد حمدي لكنه على النقيض منه، فهو مستهتر لا أخلاق له، أقرب إلى الإجرام، وهو يغتصب شادية التي تصبح حاملا منه.. ويتقدم عماد حمدي، الفارس النبيل، لينقذ سمعتها ويتزوج منها ويعطي اسمه لوليدها.. ويدخل الأخ الفاسد السجن عقابا على جرائم متعددة.. وطوال الفيلم يزداد تعلق عماد حمدي بالطفل الذي ينمو بين يديه، ويصبح شغوفا به، بل قطعة من نفسه، وبعد سنوات يخرج الشقيق من السجن وينطلق كالعاصفة مهددا عالم عماد حمدي الآمن، مطالبا بابنه.. إلا أن عماد حمدي الذي يعتبر نفسه الوالد الحقيقي للطفل يصارع، من أجله، بكل ما أوتي من قوة، وهو على استعداد للتضحية من أجله، إلى آخر مدى.. فهنا، في شاطئ الذكريات، الطفل لمن يربيه، ولمن يرعاه ويشقى من أجله لا لن ينجبه.

ينتهي فيلم "وداعا يا غرامي" بعماد حمدي وهو على مشارف الكهولة، فالشعر الأبيض يغطي جوانب رأسه، وهو، كما سبق الاشارة يضع صورة حبيبته التي فارقت الحياة إلى جانب سريره حتى تكون أول ما يراه عندما يستيقظ وآخر ما يراه عندما ينام.. والفيلم يوحي، بل يؤكد بأن العاشق الوحيد، الناجح عمليا، الحزين، سيعيش حياته الخاصة، إلى الأبد على هذا المنوال من الوقار.

وإذا كانت التضحية من أجل الأبناء في الأفلام السابقة، تتضمن معاني إيجابية، بدرجات متفاوتة، فإن الوفاء هنا يصبح قيمة سلبية، ستزداد سلبية في أفلام تالية، فالماضي يصبح أقوى من الحاضر، بل هو يصادر المستقبل أيضا.. ان الموتى، في العديد من أفلام عماد حمدي، يسيطرن على الأحياء.. وتتجه الإرادة الانسانية بكاملها، لا إلى تشكيل الحياة القادمة، ولكن إلى اجترار ذكريات الأيام الخوالي.. إن الوفاء كما يمثله عماد حمدي، في بعد من أبعاده، ليس سوى هزيمة كاملة في مواجهة الواقع وفي تجاوز الماضي ومنع المستقبل.. ان الوفاء هي الستارة الجميلة التي تخفي ورائها عجزا مروعا واستسلاما مهينا لتحديات الحياة.. وربما يثير دهشتنا الآن، ونحن نراجع، أكثر أفلام عماد حمدي نجاحا، من الناحية الجماهيرية، أن نتبين فيها ما تتضمنه من ضعف وتهالك الإرادة، إلى درجة تقترب من الانتحار.. فلننظر إلى "إني راحلة" 1955، و‌"بين الأطلال" 1959، والفيلمان عن روايتين ليوسف السباعي، ومن اخراج عز الدين ذو الفقار.

تقول مديحة يسرى، بطلة ومنتجة ‌"إني راحلة"، في الكتالوج الذي وزع مع عرض الفيلم ‌"لم أشأ التدخل في اختيار النجم الذي يصلح للقيام بدور البطولة في هذه القصة. بل تركت هذه المهمة للجمهور نفسه إذ عقدت مسابقة لاختيار هذا البطل، فلما أجمعت أغلب الآراء على عماد حمدي سارعت فاتفقت معه على دور البطولة". وسواء كانت مشاركة الجمهور في اختيار البطل تمت أم لا، فإن عماد حمدي، فتى الشاشة الأول، بحزنه، ووفائه، وقدرته على الحب، واستعداده للتضحية، كان انسب الوجوه للقيام بدور العاشق المهزوم.

يبدأن "إني راحلة" في مكان منعزل تمامًا.. العاشق الذي فارق الحياة ممددا على الفراش بينما تكتب البطلة رسالة طويلة تحكي فيها القصة كاملة: عايدة أو مديحة يسري تحب الضابط أحمد أو عماد حمدي، والدها واحد من الأثرياء الكبار، يرشح لها الشاب الخليع توتو بك أو رشدي أباظة، سليل الباشوات، والجميع أقرباء، تتفاوت درجة قراباتهم.. وبعد تذمر هذيل، ترضخ الفتاة لمطالب والدها، ويتزوج عماد حمدي بفتاة لا يحبها.. وتتوالى الأحداث القليلة، ذات الطابع الفجائي فتموت زوجة عماد حمدي، وترفض مديحة يسرى الحياة مع رجل يخونها بانتظام.. ويلتقي الحبيبان مرة أخرى، بعد أن تحررا من روابطهما.. وها هما يختليان في مكان بعيد عن العيون والضغوط فماذا بعد؟

 إن المصير التعس، لسبب ما، ينتظرهما، فالحبيب يصاب بانفجار في أمعائه ويفارق الحياة بين ذراعيها قبل أن تتمكن من إسعافه.. وسرعان ما تقتنع بأن الوفاء يحتم عليها أن ترحل إلى الحبيب في عالم الأموات! هكذا.. بلا تردد.. أو إعمال تفكير.. تكتب رسالتها الطويلة المملة، ذات الطابع السقيم، والممتلئة بتساؤلات متكلفة من نوع تلك التساؤلات التي طبعت في الاعلانات والتي تقول "ألا يحتمل أن تعود إلى الحياة؟ أليس الله بقادر على كل شيء؟ قادر أن يحيي العظام وهي رميم؟ هذه ليست عظاما ولا رميما بل لم تصبح كذلك بعد.. فهي مازالت.. كما هو.. وكما كان دائما"! وبعد أن تنتهي من رسالتها تشعل النار في المكان لتحترق مع حبيبها الميت.

ولا يمكن أن نرجع صورة عماد حمدي كبطل فردي معذب، مهزوم، يضنيه الحب، إلى رغبته الخاصة أو حتى إلى رغبة صناع أفلامه ولكنها ترجع إلى المناخ الفكري والنفسي السائد، والذي ينتمي إلى نوع من الرومانسية السلبية، الممزوجة بالميلودراما.. فالتيار السائد في الرومانسية المصرية، كما يمثلها مصطفى لطفي المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبدالله ويوسف السباعي، تقدم شخصيات هشة، هزيلة نفسيا، محدودة الآفاق، خائرة الإرادة، متورمة عاطفيا. تحتج احتجاجا مترددا وضعيفا ضد قيم مجتمعنا، ولكنها في النهاية إما أن تخضع له، أو تكتفي بالانتحار.. وتأتي الميلودراما هنا بما تحمله من صدفة ومفاجآت ويد طولى للقدر لتعوض شيئا من ضعف التحليل الاجتماعي وضآلة الوعي بتناقضات الواقع، وعدم اتخاذ مواقف واضحة من الصراعات المعتملة في قلب المجتمع.. إن عماد حمدي، فارس الأحزان المهزوم، يبدو، كما لو كان في بعد من أبعاده، نتاج ذلك المزيج من الرومانسية السلبية والميلودراما المؤمنة بالصدفة والقدر.

 عملت الصحافة على الربط بين صورة الفني الأول على الشاشة وبين صورته في الواقع، فعندما انفصل عماد حمدي عن زوجته شادية عام 1956 تابعت الصحافة الفنية هذا الموضوع كما لو كان أحد الأفلام السينمائية، فمثلا، قامت مجلة الكواكب في ٢٩ مايو 1956 بنشر موضوع طويل تحت عنوان "قصة الطلاق الذي تأخر عاما كاملا" جاء فيه: "لقد كان كاتب قصته الأخيرة من غير البشر، كان القدر! وهو اليوم يبكي. ترى هل تشفع دموعه عند القدر فيخفف من قسوة الخاتمة".

ونشرت المجلة صورة حورية محمد ثم فتحية شريف ثم شادية. وتحت الصورة الأولى كتب تعليق "حبه الأول" ثم "حبه الثاني" وكتب تحت صورة شادية " حبه الثالث الذي انتهى بمأساة" أما صورة عماد حمدي وهو في حالة شجن فمكتوب تحتها "دعوني لهمي وأحزاني".

 وفي الوقت الذي دأبت فيه مجلة روز اليوسف على رسم عماد حمدي في شكل طائر البشاروش الحزين، أخذ عماد حمدي يتكلم، بذات الطريقة التي يتحدث بها في أفلامه، فهو يقول للصحفي محمد السيد شوشة الذي أصدر عنه كتابا صغيرا باسم "الدون جوان الحزين" بعد الانفصال بأسابيع قليلة ـ يقول بلهجة مبللة بالدموع "كانت شادية تحمل اسمي.. إن شعورا عميقا بما أصابني من ظلم وغبن يسيطر على أعصابي، ولكن الإيمان يملأ قلبي، لأني أثق في العدالة الإلهية ثقة عمياء، ولهذا أحب أن أكون ضحية إلى النهاية لتقول العدالة الإلهية كلمتها الحاسمة".

هكذا ساهمت العديد من العناصر في رسم أبعاد عماد حمدي: الذوق العام للجمهور، طبيعة الرومانسية في الأدب والفن المصري، بما يشوبها من سلبية وضعف، والميل لمعالجة الأمور في قصص الأفلام معالجة ميلودرامية، تقوم فيها الصدفة والقدر بدور البطولة غير المنظورة، ثم تكوين عماد حمدي الشخصي، فضلا عن الصحافة الفنية التي أكدت أنه في الحياة، شأنه شأن الفن، يعيش معذبا، وحيدا فريسة للظلم، نبيلا، مؤمنا بالعدالة الشاعرية، ضحية، يستعذب الألم ويقبله برحابة صدر.

في "بين الأطلال" أكثر أفلام عماد حمدي نجاحا، يظهر ككاتب للروايا، ولا نكاد نعرف شيئا عن نوع رواياته، أو حتى ميوله الفكرية.. كل ما نعرفه أنه يسكن قصرا جميلا، متزوج من ابنه عمه المريضة، طريحة الفراش.. وهو يقع في الحب ـ من أول نظرة ـ عندما يرى الفتاة الرقيقة منى "أو فاتن حمامة" جالسة كالملاك الطاهر في حديقة أحد الأندية، تقرأ برضاء واحدة من رواياته، وهي، على عكس بقية الشباب، لا تميل إلى الانطلاق ولا تنغمس في الرقص، وسرعان ما تبادله حبا بحب.. ولكنه من باب الوفاء لزوجته ـ والتي لا يحبها ـ يرفض فكرة الزواج من منى وتتزوج هي من رجل لا تحبه، وتسافر معه إلى بلاد بعيدة، لكنهما يتناجيان عن بعد.. وكعادة العشاق المنهارين يغرق أحمد في الخمر، وتشعر زوجته العليلة بما يعانيه زوجها من وحدة وشقاء، فتقدم على التضحية بنفسها عندما تقبل أن تحمل جنينا تعرف أنه سيكون سببا في وفاتها.. ومع الأيام يزداد الروائي انهيارا.. وينتقل إلى المستشفى في حالة خطرة إثر حادث أليم وقع لسيارته وهو يقودها بجنون بعد أن تجرع منكرا كثيرا، وعندما تعود منى ـ التي أصبحت أما ـ وعلمت بالحادث تهرول إلى المستشفى لتعيش في خدمته خلال أيامه الأخيرة.. ويضطر زوجها إلى طلاقها فتنتقل إلى مسكن أحمد لرعاية زوجته المريضة التي على وشك الوضع، وتموت زوجة الروائي وهي تضع وليدة تتولى منى تربيتها في ذلك القصر الذي يصب مثل الأطلال، ولكن أطلال معبد لا تزال البطلة مؤمنة بعقيدته وطقوسه، وبالتالي فهي تنسحب من الحياة كلها لتعيش راهبة، متعبدة، بين الأطلال.

 وتدور أحداث الفيلم ومشاهده إما داخل الأماكن المغلقة أو حدائق الأندية، أو أمام المناظر الطبيعية، ففي مثل هذا النوع من الأفلام لن تجد أثرا من دفء الحياة في شوارع الواقع.. وعلى طريقة "إني راحلة" تتردد عبارات إنشائية لها قرع الطبول مثل "أيتها الشمس لا ترحلي حتى تشهدي على أن حبي لها خالد مثلك" أو "وأنت.. أنت يا توأم الروح.. يا منية النفس الدائمة الخالدة. يا أنشودة القلب في كل زمان ومكان.. مهما نأيت.. ومهما هجرت، عندما تشاهدين القرص الأحمر الدامي على وشك الغروب.. أرقبيه جيدًا، فإذا ما رأيت مغيبة.. فأذكريني..".

 وبالطبع كانت هذه الكلمات التي طبعت في الإعلانات من أشهر الجمل المأثورة في فترة عرض الفيلم.. إن رواية "بين الاطلال"، مثلها كمثل "إني راحلة" - تكاد تقل فيها الحركة المادية، فهي لا تهتم بالأحداث بقدر اهتمامها المفرط بوصف طوفان المشاعر الذي يتدفق عبر مئات الصفحات.. وجاء الفيلم ترجمة لهذه الحقيقة، فعماد حمدي يقف عند النافذة مرددا كلمة "منى" مرات متعددة. أو يتجه نحو الشجرة الجرداء التي كان يجلس تحتها مع حبيبته، ليركع على ركبتيه صوب الشمس الغاربة، مرددا فقرات عاطفية كالسالفة الذكر.

 وربما تلمس في "بين الاطلال" حرفية متقدمة من جانب المخرج الفنان عز الدين ذو الفقار، وسيلفت نظرنا عماد حمدي، في العديد من المواقف، بقوة أدائه وصدقه، فضلا عن تفهمه الداخلي الكامل لتطور انفعالاته.. فمثلا، عندما تدخل زوجته المريضة إلى حجرته لتقدم له فنجانا من القهوة، تهتز يدها الضعيفة بالقرب من مكتبه فتنسكب القهوة على الأوراق التي انتهى من كتابتها، فينتفض واقفا لتلمع عيناه بالغضب، للحظة واحدة فقط، فعندما يرى وجهها المفعم بالألم والشعور بالذنب والهوان، تحل الرحمة سريعا مكان الغضب، فيبدو مشفقا عليها تماما.

سنجد في "بين الاطلال" تصويرا جيدا، وايقاعا متدفقا، والعديد من المزايا الأخرى، لكن الفيلم، في مجمله، يبدو لنا الآن كما لو كان عملا موغلا في القدم، ربما بسبب رؤيته الرومانسية ذات الطابع السلبي، والتي يشوبها بعض الميلودراما، والتي تكاد لا ترى من فرط العواطف الذاتية المتورمة، فهنا، ليس في العالم سوى رجل يحب امرأة.. بلا أمل.. ولأن الرجل يريد أن يكون وفيا، فإنه يظل مبقيا على زواجه من ابنة عمه العليلة والتي لم يحبها يوما! وهو، على الرغم من وفائه لها، إلا أنه ببساطة، يعيش بخياله وقلبه وعقله مع حبيبته "منى"!

المهنة التي يعمل بها بطل ‌«بين الأطلال‌» هي تأليف الروايات أي أن لديه خبرة بالحياة، إلا أن هذه الخبرة لا تظهر في أي موقف من مواقف الفيلم.. فالمتفرج لا يراه إلا وهو يبث لواعج الغرام، أو في حالة هيام، يذكر الحبيبة، أو هو يترنح من شدة السكر.. لينسى!... هو يموت مرتين.. يموت معنويا عندما تتركه حبيبته فيستسلم لليأس، ومرة ثانية يغادر الحياة عندما يقع له حادث التصادم الذي كان محتما منذ البداية.. انه عالم مغلق تماما، ضيق إلى حد الاختناق، كئيب كآبة مروعة، آسن، لا تعب عليه أية نسائم من الواقع.

عفوا، هنا بعض القسوة في تقييم الفيلم، ربما لأننا لم نضع في الاعتبار أن ثمة ربع قرن يفصلنا عن تاريخ عرض الفيلم، لذلك فإنه يمكن ان نقول بأن "بين الأطلال" كان يعبر بأسلوب بليغ عن قيم ومشاعر واهتمامات قطاع لا يستهان به من جمهور تلك الفترة.. وجدير بنا أن نلاحظ ذلك الاستقبال النقدي ـ المتحمس للفيلم ـ والذي يشي بغلبة الذوق الرومانسي، المشبع بالميلودراما على الذوق العام. ففي  ٢٦/٢/١٩٥٩ كتبت صباح الخير تقول: "الفيلم كله ينقلك إلى سحابة جميلة، خارج نفسك وحياتك وعالمك ومشاكلك.. وأقول سحابة جميلة رغم إنك ستخرج دامع العينين مصهور الفؤاد"، وكتب زكي طليمات في مجلة الكواكب ٣/ ٣/1959 يقول: "مثلما طلب العاشق ابن الخمسين من معشوقته ابنة العشرين أن تذكره كلما انحدر قرص الشمس الدامي نحو المغيب، فإننا نطلب إلى الجمهور أن يذكر هذا الفيلم كلما ساء ظنه في السينما المصرية".

 ولعل شهادة الكاتب أنور عبد الملك أن تكون أكثر الشهادات دلالة، فالمفكر اليساري يقول، في مجلة الاذاعة ٢٨/ ٢/ ٥٩.. ‌"فشلت في أن أظل ناقدا أمام بين الاطلال وسرعان ما تحولت إلى متفرج كالآخرين من حولي، إلى إنسان يمارس مأساة انسانية، ويتألم لها ويعيش فيها بكل جوارحه.. وكنت، بين الآونة والاخرى، أشعر انني أستعيد قدرتي على التحليل النقدي، فأتبين نقطة ضعف أو نقص، وأتمنى لو كان هذا الأمر أو ذاك أحسن مما كان، لكن هذه اللحظات الموضوعية لم تصمد أمام المشاعر الجياشة التي ثارت في تلبى حذه الليلة".

 اذن فقد كان "بين الاطلال" تعبير نموذجي عن الذوق السائد في أواخر الخمسينيات، وهذا ما يفسر، بشكل ما، ذلك الفشل الكبير الذي أصاب فيلم ‌"اذكريني" الذي أخرجه هنري بركات عن ذات الرواية عام ١٩٧٧.. حقا كان من الصعب أن تقوم نجلاء فتحي بدور قامت به فاتن حمامة من قبل، لكن محمود ياسين كان معقولا، وبذل بركات جهدا جادا وموفقا. لكن مقتل الفيلم كان على يد الجمهور 1977 القلق، المؤرق بمشاكل يومية ملحة، ذو النزعة العملية، النفعية، الذي كان من العسير عليه جدا أن يتحمل متابعة عذاب عاشقين لمدة ساعتين.

 يموت عماد حمدي في "بين الاطلال" كما مات من قبل في "إني راحلة" وعشرات الأفلام الأخرى، وكما سيموت في عشرات الأفلام اللاحقة وهذا ما يعني، جوهريا، انه بطل لا يحمل مقومات بقائه على قيد الحياة، فهو بقلبه الكسير، وروحه الهائمة، وطيبته المتناهية، لا يكاد يقوى على خوض الصراعات، وبالتالي يبدو مهزوما أو في طريقه الهزيمة.

 عماد حمدي هو الممثل الوحيد باستثناء حسين صدقي، الذي لم يؤد دور الشرير، كثيرًا، وفي المرات التالية التي بدا فيها قريبا من المسلك الشرير، فإن صناع أفلامه يحرصون على إحاطة هذا المسلك بسلسلة من المبررات القوية، من خارج روح البطل الذي لا تشوبها شائبة.. ففي ‌"ليلة من عمري" لعاطف سالم 1954، يتزوج عماد حمدي سرا من شادية ويسافر قبل أن يعرف أنها حامل منه.. وبعد عودته تحاوك الاتصال به، ولكن القدر ـ صاحب اليد الطولى ـ يتدخل فتصاب الزوجة في حادث تفقد الذاكرة على أثره.. وصدفة يعثر عليها عماد حمدي.. وتعود لها ذاكرتها بعد أن ترى طفلها.

وفي ‌"موعد على مع السعادة" يغتصب حمدي الفتاة التي تحبه فاتن حمامة.. ولكنه كان في حالة سكر شديد، حتى انه عندما يفيق، لا يكاد يتذكر شيئا عن هذه الواقعة.

 لقد حافظت السينما المصرية على نقاء فتاها الأول إلى درجة جعلته أقرب إلى الملائكة منه إلى البشر، وربما لن نستطيع أن نتذكر ـ إلا بصعوبة شديدة ـ صورة عماد حمدي وهو بملابس الفلاحين أو وهو يتصبب عرقا أمام إحدى الماكينات، أو وهو بجلباب رجل شعبي.. وليس مصادفة ألا يلتقي مع توفيق صالح مثلا، مخرج "درب المهابيل" و"صراع الأبطال" و"المتمردون" و"يوميات نائب في الأرياف" و"السيد البلطي"، وهذه كلها أفلام واقعية، وليست مصادفة أيضا ألا يلتقي بيوسف شاهين، ولو مرة واحدة، ذلك ان أبطال يوسف شاهين، إجمالا إما يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة، وإما يعبرون عن هموم تتجاوز مجرد العذاب من أجل حب ضائع.. وحتى صلاح أبو سيف، بعد أن أسند البطولة لعماد حمدي، في الفيلم الرومانسي "دايما في قبي" لم يلتق به، طوال، انغماسه الخلاق في أفلامه الواقعية الشهيرة: "لك يوم يا ظالم" و"الأسطى حسن" و"ريا وسكينة"‌ و"الوحش" و"شباب امرأة" و"الفتوة"، ولم يلتق به إلا من خلال إحدى شخصيات احسان عبد القدوس في رواية "لا أنام".

في المقابل، كان من طبائع الأمور أن يصبح عماد حمدي القاسم المشترك في أفلام المخرجين الذين يميلون إلى الرومانسية مثل عز الدين ذو الفقار وبركات وأحمد ضياء الدين ومحمود ذو الفقار أو يميلون إلى الميلودراما مثل حسن الامام وحلمي رفلة.

 بمرور الأيام، ومع تقدم العمر، وازديا زحف التجاعيد ـ بصرامة ـ فوق وجه عماد حمدي، كان لابد أن يتخلى عن دور الفتى الأول، الضائع في السحاب، ليقوم بدور الكهل الذي يواجه حياة قاسية، وهو على مشارف الشيخوخة.

في هذه المرحلة، اقترب عماد حمدي من الأرض، حقا ظل حاملا معه عناصر الهزيمة، ولكنها لم تكن بسبب القدر، كما كانت في الأيام الماضية، ذلك أن الواقع، بكل ثقله وتناقضاته وصراعاته، أصبح منذ الآن، يقتحم حياة رجل في طور الافول.

 بالطبع ثمة عشرات الأفلام الهزيلة، المكررة، قدمت عماد حمدي في دور العجوز المراهق، الذي يظل يطارد البطلة، طوال نصف الفيلم، حتى يحصل عليها، ويتعرض طوال النصف الثاني، إلى العديد من الإهانات.

 بعيدا عن هذه النوعية من الأفلام، تبرز أدوار عماد حمدي التي تعد من أفضل انجازات السينما المصرية.. أحمد عاكف في "خان الخليلي" الذي أخرجه عاطف سالم ١٩٦٦، و"أنيس زكي" في "ثرثرة فوق النيل" لحسين كمال عام ١٩٧١ وسلطان في "سواق الأتوبيس" لعاطف الطيب ١٩٨٧.. وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

 استفاد عماد حمدي، وهو يقوم بدور أحمد عاكف بخبرته الطويلة ودرايته بمشاعر تلك الشخصية البديعة التي صاغها نجيب محفوظ حلال روايته الشهيرة.. إن أحمد عاكف كما يقول الدكتور محمد مندور في كتابه "قضايا جديدة في أدبنا الحديث"، "نموذج بشري لتلك الطبقة الوسطى، التي تكون العمود الفقري في المجتمع المصري، وتكون همزة الوصل بين طبقة العمال الكادحين والسادة المترفين، بل لعلها الطبقة القلقة المعذبة، التي لا تريد أم تطمئن إلى الحياة كما تطمئن الطبقة الدنيا، كما لا تستطيع أن تشبع طموحها، فترتفع كما تطمئن الطبقة العليا، وتدخل بين صفوفها لتتمتع بما تنعم به تلك الطبقة من مال وجاه وسلطان، وبالرغم من هذا القلق والعذاب المقيم. فإن تلك الطبقة لا تخلو من فضائل رائعة. بل لعلها تنفرد دون غيرها بطائفة من الفضائل التي ترفع من قيمة الإنسانية. وفي رأس تلك الفضائل يأتي الإحساس الصارم بالمسئولية، والتضحية في سبيل الأسرة، والتفاني في سبيل الأهل والأخوة".

تدور أحداث الرواية، زمنيا، في دوامة الحرب العالمية الثانية ومكانيا، في قلب القاهرة الشعبية، وها هو عماد حمدي يأتي إلى الحارة قادما، من السكاكيني، كان عليه أن يقوم بدور مسئول الأسرة بعد خروج والده من العمل، وينجح، بصعوبة. أن يوفر لشقيقه الأصغر فرصة التعليم العالي لكي ينتشل الأسرة، فيما بعد، من حال لحال.. لكنه يكتشف أن قطار الزمن السريع، القاسي، تركه كهلا.. لكن العزاء يأتي عن طريق قناعة أحمد عاكف بأنه "عبقرية مضطهدة"  يعبر عنها عماد حمدي بنظرة استعلاء خجولة، لا تكاد تتبدى من خلال إحباطاته المتوالية وملابسه ذات الطابع الرث، ويقتحم الأمل حياته، من خلال حبه لجارته الشابة الصغيرة نوال "سميرة أحمد"، ولكن هذا الأمل سرعان ما يتحطم بقسوة على يد شقيقه "حسن يوسف" الذي نقل حديثا من أسيوط إلى القاهرة، ويضطر بطلنا البائس إلى التضحية مرة أخرى فيزداد انغلاقا على نفسه، ومع تتابع المشاهد، يجعلنا عماد حمدي، باقتدار هائل، نحس، وبقوة، مأساة ابن الأسرة المتوسطة التي أغلقت أمامه كل الطرق إلا طريق المزيد من التضحيات.. ويمرض الشقيق نتيجة تبديده لطاقته وسحته، ويموت مسلولا، وبهذا يضيع انجاز أحمد عاكف الوحيد.. وفي مشهد بالغ التأثير، يجهش عماد حمدي بالبكاء، ويلقي بنفسه على سرير شقيقه الخالي، كما لو كان يرثي حياته كلها، فضلا عن بكاء شقيقه الراحل، والذي راهن عليه.. فلم يخسر الرهان فحسب، بل خسر كل شيء.

 هزيمة عماد حمدي في "خان الخليلي" هي تعبير عن هزيمة طبقة حائرة، مسحوقة، في ظل وطن مستعمر، مطالب بأن يدفع فاتورة حرب يخوضها ضد المستعمر.

في "ثرثرة فوق النيل" يطالعنا عماد حمدي في دور الرجل المنسي، الوحيد، الضائع، "أنيس زكي" الذي يقترب من أعتاب الشيخوخة.. وإذا كان الموظف المعذب في‌ "خان الخليلي" وجد شيئا من التوازن النفسي بأن يعيش بوهم انه "عبقرية مضطهدة"، فإن الموظف الذي ضاعت حياته، بلا إنجازات تذكر، وجد خلاصه الفردي في أن يغرق وعيه وعقله أو بقايا وعيه وعقله في المخدرات التي يدخنها بشراهة ما بعدها شراهة.. ان هزيمته هنا، مثل أحمد عاكف، تأتى لأسباب واقعية تماما، وليست لأسباب رومانسية، كما كان الحال في مراحل سابقة. عماد حمدي في الثرثرة، شأنه شأن الملايين لم يدعى للمشاركة، فأمور الوطن تسيرها، في النهاية، مجموعة صغيرة، وطنية في جوهرها، ولكنها أبوية، يصبح الملايين في ظلها أقرب إلى الرعايا منهم إلى المواطنين.. "أنيس زكي" معزول لأسباب خارجة عن إرادته.. هو بمرور الوقت، يستمرى، هذه العزلة، ويتكيف معها.. لكن أحداث الوطن تقتحم حياته، وفي مشهد بديع، في مدينة السويس المحطمة، المجهورة، بعد هزيمة ١٩٦٧ يتلفت عماد حمدي حوله فيكاد يسمع صوت أطفال وهميين يلعبون ويتصايحون، إلا أن البيوت المدمرة، والشوارع الخالية الموحشة وأرجوحة الأطفال التي علاها تراب، والنوافذ المحترقة، كلها صور تقتحم وعيه بقوة فيبدو كما لو كان يفيق من آثار الدخان الأزرق المتراكم في ثنايا عقله فتغرورق عيناه بالدموع ويصرخ من أعماقه، دون أن يفتح فمه ‌"فين الناس.. راحوا فين؟" هنا في هذا المشهد الهائل يعبر عماد حمدي، على نحو صادق، عن شعوره الدامي بوطن يتعرض للضياع.

بدأ عماد حمدي حياته السينمائية بدوره القوى في فيلم "السوق السوداء"، ومن الفارقات أن يكون آخر دور له، على الشاشة هو "سلطان" رب الأسرة العجوز، في الفيلم الهام "سواق الأتوبيس".. في الفيلم الأخير وشائج صلة حميمة تربطه بالفيلم الأول. كان "السوق السوداء" يقف موقفا عنيفا من طبقة المستغلين، اللصوص، التي بدأت تطفو على سطح المجتمع المصري، خلال الحرب العالمية الثانية وجاء "سواق الأتوبيس" ليفضح طبقة طفيلية شرهة بدأت تنهب خيرات البلاد، خلال سنوات الانفتاح.. ‌"سلطان" هو صاحب ورشة نجارة بناها بجهده وعرقه وذراعيه، وجعلها تنبض بالحياة والانتاج ولكن قيم الانفتاح الفاسدة التي توغلت في أرواح أزواج بناته سرعان ما تتحول إلى رغبة مشينة في الاستيلاء على الورشة لتحويلها إما إلى بوتيكات أو معارض موبيليات.. ويشهد عماد حمدي عالمه وهو يتهاوى، حقا، أن ابنه حسن "نور الشريف" يقاتل من أجل أن يبقى الورشة ـ رمز العمل الشريف ـ حيا، لكن أصحاب النفوس الضعيفة، والذين تعلموا ان المكسب السريع، بأي طريقة هو السبيل، الوحيد للبقاء، يتكالبون لمحاصرة العجوز وابنه.. وأحسب أن ثمة مشهدين، لا يمكن نسيانهما، في هذا الفيلم، سيعدان، مستقبلا من كلاسيكيات السينما المصرية، التي ستصلح للدراسة والتأمل.. المشهد الأول عندما يعود نور الشريف إلى والده العليل بعد رحلته الخائبة إلى شقيقاته في بورسعيد ودمياط، بحثا عمن يقف إلى جانب بقاء الورشة واستمرارها.. في شقة سلطان البسيطة الأثاث تلتقي عيون الابن والأب، وبنظرة واحدة يعرف الأب ما حدث فيحل الحزن محل القلق والترقب، وبنظرة واحدة يعبر الابن عن مزيج من الألم والشفقة.. لقطة أغنى وأقوى من أي حوار.. وفي مشهد لاحق ينسحب سلطان من الصالة ليدخل حجرته طالبا من زوجته أن تغلق النافذة، ويتمدد على فراشة مستسلما للموت المادي بعد أن قتل معنويا وروحيا.. هذه هي اللقطة الأخيرة لعماد حمدي، فارس الأحزان المهزوم، وهي، من خلال روح الفيلم، تحملنا مسئولية الوقوف، بشكل ما، مع بقاء واستمرار، الورشة، وتشحننا، على نحو فريد، كي نقف ضد القيم التي تمثلها البوتيكات، الإنجاز البائس لسنوات من العبث والضياع.

 
 
 
 
 
 

نشرت هذه الدراسة لأول مرة في مجلة أدب ونقد المصرية ـ في عام 1985

 

وقد خصنا بها الناقد الكبير كمال رمزي لإعادة نشرها، في هذه الاحتفالية الإستثنائية.

 
 
 
 
 
 
 

«سينماتك» في

 

17.07.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004