ملفات خاصة

 
 
 

صلاح السعدنى والمستحيلات الثلاثة

والسر الذى أخفاه عنى

بقلم: د. وليد سيف

عن رحيل العمدة

صلاح السعدني

   
 
 
 
 
 
 

برحيل الفنان الكبير صلاح السعدنى فى التاسع عشر من ابريل الحالى  فقد الفن المصرى واحدا من أخلص أبنائه وأكثرهم احتراما لذاته وموهبته التمثيلية، وقد أثارت وفاته ثلاث تساؤلات حول: عدم وصوله لعرش النجومية فى السينما..  عدم تكريمه من مهرجان القاهرة السينمائى.. وأخيرا تفاوت المستوى بين أعماله..

فى رأيى أن ما أنجزه السعدنى فى مشواره الفنى الذى يتجاوز 200 عمل مسرحى وإذاعى وتليفزيونى وسينمائى هو المستحيل بعينه، فطبيعة السعدنى المؤكدة تكشف عن درجة عالية من الكبرياء وهى مسألة كفيلة بأن تقلص فرص أصحابها لأقصى الحدود فى ظل منافسة قوية وأجواء متقلبة فى الظروف الفنية والعملية الإنتاجية.

هذا الكبرياء الذى يجعله لا يسعى وراء عمل ولا يتقرب من أحد ولا يشكو من أحد ولا يطلب أى شىء من أى أحد، لهذا كان السعدنى فى معظم الأحوال ليس المرشح الأول لكثير من أهم الأدوار التى لعبها، صدق أو لا تصدق حدث هذا فى ليالى الحلمية كما حدث أيضا فى أرابيسك، وهو فى أوج توهجه ونجوميته التليفزيونية.

 فى مقابل هذا الكبرياء كانت لديه درجة عالية من المهنية والسماحة فكان يقدر زملاءه ويترفع عن لوم أى صديق مقرب إذا لم يرشحه من البداية، كانت مهنيته تنبع من أنه عندما يجد دورا أيا كانت مساحته يستطيع من خلاله أن يكشف من خلاله عن جانب جديد من موهبته، فيعمل بكل إخلاص على تحقيقه بأعلى درجة من الصدق والتمكن.

على المستوى الشخصى لمست هذا المزيج العبقرى فى مهرجان الإسكندرية لعام 2012 الذى شهد تكريمه المستحق، كنت وقتها رئيسا للمهرجان، لم يسبق للسعدنى أبدا أن طلب التكريم أو ألمح له لكنه أبدى قبولا وترحيبا وشرفنا وأسعدنا بحضوره وإن لم يكن كغيره من النجوم الذين يحرصون على التواجد والظهور فى كل مناسبة للتصوير واللقاءات الصحفية، أثناء فعاليات المهرجان توفى المخرج الكبير اسماعيل عبد الحافظ وطالبنى البعض بإقامة ندوة تكريم له لكنى رفضت بشدة لأننى كنت شديد الصرامة فى الالتزام بجدول أعمال المهرجان، عرفت لاحقا أن السعدنى كان يرغب فى ذلك جدا لكن كبرياءه منعه من أن يطلب منى ذلك، كما أنه لم يعاتبنى أو يراجعنى حين عرف برفضى للمسألة مع أنه النجم المكرم بالمهرجان ويستطيع أن يثير ضدى الصحفيين والإعلاميين لكنه كان أكبر من ذلك واحترم مهنيتى واكتفى بالصمت النبيل.

أما عن عدم تكريمه فى مهرجان القاهرة السينمائى فإنه تأخر كثيرا بكل تأكيد ربما لأن كان هناك من أبناء جيله من تفوقوا كنجوم سينمائيين، وإن لم يختلف أحد حول موهبته ومكانته الكبيرة كممثل سينمائى ونجم تليفزيونى ومسرحى، غالبا فكرت إدارة المهرجان فى تكريمه متأخرا  لكنها رأت تأجيله لبعض الوقت حتى لا يبدو أنهم يتبعون مهرجان الإسكندرية، لكن تدهور الحالة الصحية للسعدنى دفعتهم غالبا للتفكير فى آخرين، فحضور النجم للتكريم يضفى على المناسبة مزيدا من الألق هكذا يرى صناع المهرجانات، لكنى لا أعتقد أن المهرجان سيغفل عن تكريم إسمه الكريم فى الدورة القادمة، فمالم يتحقق فى حياته لابد على الأقل أن يتحقق بعد وفاته.

نأتى للسؤال الثالث عن تفاوت مستوى الأعمال ومساحة الأدوار التى قدمها، فى اعتقادى أن السعدنى ينتمى إلى نوع من الفنانين الذين يحيون بالتمثيل مثل العظيم محمود المليجى، لذلك فإن كم أعمالهم ومشاركتهم غالبا ما تكون أكثر من الآخرين، لكن المؤكد أيضا أن ثقافة السعدنى كانت تدفعه إلى حسن الاختيار بين المعروض عليه، بالتأكيد ليست كل أعماله السينمائية مثل أدواره فى ملف فى الآداب ولا زمن حاتم زهران ولا شحاتين ونبلاء، ولا أعماله التليفزيونية كلها فى مستوى ليالى الحلمية وأرابيسك والناس فى كفر عسكر لكن المؤكد أنه لم يشارك فى اعمال مبتذلة ولم يشارك إلا نادرا فى أفلام المقاولات التى أثق يقينا أنها كانت تسعى إليه.

جمع السعدنى فى توليفة إنسانية نادرة بين الكبرياء والسماحة والرضا مع الاجتهاد فى تحقيق فنه بأفضل صورة، عندما يأتيه دورا ثانيا او صغيرا يحققه بمنتهى الإخلاص والبراعة، ذلك بداية من ظهوره التليفزيونى المبكر المميز فى مسلسل الساقية بدور أبو المكارم إبن القرية الأخرس الضعيف بلا حول ولا قوة ليترك بصمة وعلامة لم تنمحى، هو أيضا الفلاح الفقير المعدم المتهور الذى يمتلك جرأة من لا يملك إلا شبابه وخفة ظله فى فيلم الأرض، وهو فى مسلسل لا تطفىء الشمس الشاب العصرى المتحرر إبن الطبقة المتوسطة العليا الذى يسعى لتحقيق ذاته بطريقة عملية وحين يلقى مصرعه فى حادث عبثى تحزن عليه جماهير مصر كلها كأنها فقدت الإبن البار الجدع.

عندما ينتقل إلى أدوار البطولة نراه الضابط الذى يتصيد قضية بصبر وإصرار ودأب فى فيلم ملف فى الآداب، وهو المثقف المتحذلق إلى حد مثير للضحك فى فوزية البرجوازية، وهو المؤلف القادم من أحراش الريف إلى المدينة باحثا عن فرصة فى مسلسل سفر الأحلام، وهو رجل الأعمال الفاسد الانتهازى الذى يسعى لامتلاك كل شىء فى تحت الصفر، وهو من قبل ومن بعد العمدة سليمان غانم فى ليالى الحلمية عبر خمس أجزاء انتقل فيها من مرحلة الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة، يعطى لكل مرحلة مذاقها دون أن تفقد الشخصية رعونتها وروحها المرحة المشاكسة، وهو حسن أرابيسك الحرفى الفنان الأصيل وريث الصنعة أبا عن جد المعتز بصنعته وفنه دون تراجع أو تنازل.

شارك السعدنى فى البطولة فى عدة أفلام سينمائية لكنه انفرد بالبطولة المطلقة فى بعض منها، فهو فى كونشرتو فى درب سعادة الموظف البسيط بدار الأوبرا المكلف بمصاحبة السوليست العالمية ذات الأصول المصرية فتنتابه حالة من الإنبهار والعشق الصامت لتلك المرأة حتى يوشك على الجنون، وهو فى المراكبى الرجل الذى يعيش على هامش الهامش فى مركب صيد على النهر لا يكاد يعرف أى شىء مما يدور على اليابسة، يتقن النظرة والحركة واللهجة والصوت والانفعال الذى يعكس حالة شخصية شديدة الندرة والغرابة، فتصدقه كما صدقته فى كل أدواره المتنوعة من قبل التى أداها بمنتهى البراعة.

حقق السعدنى المستحيل بأن أنجز كل نجاحاته بموهبته فقط دون الاعتماد على واسطة أو صداقة أو شلة وهو المثقف المقرب منذ صباه من كبار المثقفين والفنانين بصحبة شقيقه الكاتب الكبير محمود السعدنى وهو الصديق الأعز والأقرب لنجمى جيله عادل إمام ونور الشريف، وهو بذلك سيظل نموذجا نادرا لفنان حافظ على كبريائه ولم يستسلم لأى ضغوط أو إغراءات، وهو علاوة على هذا تميز بأعلى درجات السماحة والمحبة الخالصة لكل زملائه، لم يهاجم أحدا ولم يحقد على أحد ولم يتوقف للحظة ليتساءل لماذا سبقنى هذا أو ذاك فى الشهرة أو النجومية، ذلك لأنه آمن بأنه بموهبته وإخلاصه لفنه سينال ما يستحق ولو بعد حين، " فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. صدق الله العظيم".

 

جريدة القاهرة في

30.04.2024

 
 
 
 
 

السعدنى.. رحلة بدأت بالرحيل

كتب رؤية كتبها: د. هانى حجاج

إحدى الحقائق المخيفة التى يعرفها كل ممثل ولا يصرح بها علنًا، فى مصر وفى هوليوود، هى أنه فى لحظة حتمية عليه أن يقرر وجوده على الشاشة بين فنان مؤثر وبين الاختفاء. فى الحالتين يجيد عمله، ابتساماته محسوبه، هتافاته وانفعالاته، عنف الفعل وذكاء رده، لكن ضميره يلجمه فى المقام الأول عن تنازلات خفيفة، أيضًا إرادته الفنية تجبره على الحفاظ على شخصيته فلا يكون استبداله بالأمر الهيِّن. وهذا هو صلاح السعدنى، نجمنا الحبيب.

بالطبع سوف تجد الكلام عن كفاح البدايات والأرقام بجوار قائمة الأعمال مكتوبة فى كل مقال يتحدث عنه، فلا معنى لتكرار ما سوف تجده فى ويكيبيديا بسهولة، ودعنا نناقش هذه الطاقة الفنية بهدوء، ما لها وما عليها. أين تكمن موهبته، وفيم أخطأ؟ من المهم أن تتذكر أنه قد بدأ فى مطلع الستينيات، كان ذلك فى مسلسل (الرحيل) عندما كان كل شىء فى الدراما يكتبه عبدالمنعم الصاوى ويخرجه نور الدمرداش، الديكور بائس يضع بعض الجريد على الجدار فيكون الريف، والإضاء تحرق البواريك وتذيب المكياج، وفى هذا المسلسل سترى بوضوح تمكنه من تخليق المشاعر المطلوبة بين جمهرة من المحترفين فى دراما تلك الأيام (حمدى غيث، ناهد سمير، شفيق نور الدين، عبدالغنى قمر). لكنه اختفى بعدها لأربع سنوات كاملة، ربما للحصول على مسار مناسب لأكل العيش ببكالوريوس الزراعة, خصوصا أن السينما وقتها كانت تلهث، ولم يعد هناك طاقة إلا لأفلام بوليسية لفريد شوقى وحسام الدين مصطفى أو الغراميات الساذجة، وشارك السعدنى فى بعضها على مضض، وسوف ترى حركاته الغريبة ونظراته الشاردة بينما بقية الزملاء يهرجون مع عادل إمام ونادية لطفى وعبدالمنعم إبراهيم فى (كيف تسرق مليونير) عام 1968، و(شياطين الليل) من إخراج نيازى مصطفى عام 1966، وبعض الأدوار الصغيرة فى المسرحيات مثل الفراش فى (السكرتير الفنى) مع فؤاد المهندس وشويكار، و(لوكاندة الفردوس) مع أمين الهنيدى، ومسرحيات جادة يندر أن تجدها فى أى مكان الآن: الملوك يدخلون القرية- زهرة الصبار- مسحوق الذكاء- معروف الإسكافى، وسرعان ما انصرف عن أفلام والبحث عن الألماظ وقرر الاشتراك فى القصص الجيدة قدر المستطاع.

فى أواخر الستينيات من خلال (زوجة بلا رجل) مع نيللى وكمال الشناوى ونور الشريف، تأليف يوسف جوهر وإخراج عبدالرحمن شريف فى أفضل أفلام هذا الأخير (وهو مخرج متواضع، بدأ بأفلام معقولة لفاتن حمامة ثم استسلم للسخافات. تأمل عناوين أفلامه: مال ونساء، الجسد، حب حتى العبادة، قلوب العذارى!) فاختاره المخرج الكبير يوسف شاهين ليشارك فى فيلمه (الأرض)  فى دور علوانى، وفيما بعد فى دور الدجال المهرج عاشق السينما الذى يرتدى عباءة النجوم طيلة الليل فى (اليوم السادس) أمام داليدا ومحسن محيى الدين.

وللأسف لم يتمكن أحد من إدارة هذه الموهبة العظيمة، لأن شاهين صاحب مزاج ولا يمكن الاعتماد على خياراته فى المستقبل، لذلك عاد مُكرهًا لأفلام الطلبة المشاغبين المتنكرة فى قضايا جادة، وهى مقتبسة من أفلام أجنبية، فتلى (الأرض) عام 1972، فيلم (مدرستى الحسناء) لإبراهيم عمارة، مع هند رستم وحسين فهمى وسعيد صالح وسناء مظهر وسهير زكى، المُدرسة نادية تنتقل لمدرسة بنين، وعدة أفلام من هذا النوع، (أعظم طفل فى العالم) مع رشدى أباظة وميرفت أمين، (شلة المشاغبين) مع صباح ومحمد صبحى وعادل إمام، (الحب والثمن) مع أحمد مظهر.

بعدها وجد صلاح السعدنى أن بناء وتكوين الأعمال التليفزيونية هو الأنسب لشخصيته الأقرب للتحفظ فشارك فى المسلسل الشهير (القاهرة والناس) مع نور الشريف فى بداياته التليفزيونية.

وقام بصوت عزت فى المسلسلة الإذاعية (أبو عرام) مع محمد رضا ونبيلة السيد وصفاء أبوالسعود وصديقه سعيد صالح، ثم مسلسل (المعجزة) عام 1973 مع شريهان وعمر الحريرى.

وهى أعمال أدخلته البيوت والقلوب من أوسع الأبواب ومنحته ما لم تستطع أن تقدمه له السينما ببهرجها الظالم أحيانًا، لكنه لم يهجرها تمامًا، فعاد لأفلام جادة مهمة مثل (الرصاصة لا تزال فى جيبي) عام 1974، و(أغنية على الممر) عام 1972، والفيلم المرح (شقة فى وسط البلد) من إخراج محمد فاضل فى تجربة أكثر رصانة بقليل من السائد وقتها، قام فى الفيلم بدور الشاب حمدى، صديق نور الشريف ومحمود ياسين حيث هناك بعض العبث والمطاردات الغرامية خلف ميرفت أمين وشهيرة إلى آخر هذا الكلام.

ثم (شهيرة) و(حكمتك يارب) وبعض المسرحيات الجادة (الدنيا مزيكا- العمر لحظة- حب وفركشة- قصة الحى الغربي) ليعود من جديد وبسرعة لدراما التليفزيون بمسلسل (أم العروسة) فى منتصف السبعينيات، عن قصة عبد الحميد جودة السحار مع عماد حمدى ومشيرة إسماعيل وزهرة العلا، ثم تعود الأفلام كالقدر وهذه المرة يسرف فى الظهور بأدوار قصيرة غير مؤثرة فى (الحساب يا مدموزيل) و(طائر الليل الحزين) و(بدون زواج أفضل).

كانت هذه فترة ارتباك شامل سيطر فيها كل نجم رومانسى على مساحته مكررا نفسه إلى ما لا نهاية، وكل كوميديان راح يتشقلب ويتلقى الصفعات حتى لا يضيع بعد الانفتاح، وعادل إمام قد أفلت من هذه المعمعة بنجاح.

لكن السعدنى تحت مظلة الفتى الهادئ الشريف كان سينهار بنيانه فى الحال إذا ارتدى ثوبًا لا يليق به، فارتضى بأقل الخسائر واكتفى بالظهور المحدود دون المغامرة ولا تعرف هل تلومه على هذا أم تقول رحم الله امرأً عرف قدر نفسه؟ بالقياس لوجوه كثيرة ظنت أن ما تقدمه يمت لعالم الفن، نحن نشكره من الأعماق، أما بحجم موهبته الحقيقى الظاهر أمام مسلسلات طويلة عظيمة فإننا نعاتبه فعلا على غيابه.

أولى دعائم هذا العتاب تتمثل فى نجاحه الأكبر على مدار تاريخه على يد الكاتب الأهم فى التليفزيون، أسامة أنور عكاشة، فى دور حسن أرابيسك، ودور العمدة فى ليالى الحلمية. وكان السعدنى قد تمكن من الحفاظ على مكانة معقولة على الشاشة فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بأدوار: سعيد جابر فى (صيام صيام)، حجازى فى (ولسه بحلم بيوم)، أمين شحاتة/ الدكتور أمين فى (أبواب المدينة) بجزأيه ثم (أديب) و(وقال البحر) ثم (بين السرايات) و(الشوارع الخلفية) (كرروا العناوين فى ما بعد).

وظهر فى دور صغير هو حسن أبو ضيف وكيل النيابة الذى يشارك رأى صديقه عادل عيسى (عادل إمام) الرأى فى مقاومة الفساد ولكن بالقانون فى (الغول)، ثم دور حمدون صديق البطل فى (عصر الحب) عن قصة نجيب محفوظ، وسمير الفتى العابث فى (فتوة الناس الغلابة)، وكمال شلبى الميكانيكى النقى الذى يقع فى براثن مديحة كامل فى (انحراف).

هكذا تتحدد ملامح شخصية صلاح السعدنى الفنية: إنه رجل طاهر الضمير.

لذلك قدم دور العمدة (صلاح السعدني) فى المسلسل الطويل الخالد (ليالى الحلمية) كأبرع ما يكون، وإن غلب الهزل على دوره فى الأجزاء الأخيرة، لكن المقصود هو شخصية رجل من أعيان الريف تجمع صفاته بين لؤم الفلاحين ونقاء السريرة.

إنه ماكر ينوى الانتقام من الباشا سليم البدرى الذى تسبب والده فى تدمير سمعة عائلته، لكنه يحارب بشرف ودون طعنات غادرة، على عكس الباشا الأنيق الراقى الذى لا يتورع عن مضاربته ماليًا فى مقتل على حين غرة.

ملامح السعدنى تجمع بين سماحة الوجه وبراءة الابتسامة، العيون المندهشة لا تخون ولا تُخوِّن، لذلك تمكن بسهولة أن يقنعنا بالوقوع فى إغراء نازك السلحدار (صفية العمري) وبأنه يفخر باندماجه وسط أبناء حى الحلمية الشعبى فلا يضيع الخط الرمادى الذى يجب أن يراه المشاهد فى نص عكاشة: ابن القرية النزيه المسالم لا يخلو من بعض الانتهازية والطمع فى النفوذ.

من ذلك المشاهد التى يبكى فيها بحرارة لاستشهاد ابنه تمام فى الحرب، لكنه يتماسك بذكاء ليعلن على رؤوس الأشهاد أن أسرته قدمت ابنها البار ثمنًا لأرض الوطن، بينما تكتشف بسرعة أن عينه على انتخابات البرلمان وهكذا يكتسب شعبية جارفة فى دائرة الحلمية.

هو أيضا أب صارم لكن دعابات ابنته زهرة كافية لتحيله إلى طفل فى الحال، يتكور خدّيه وتتسع ابتسامته كمن يدغدغه أحد فى جانبه، ضحكة صافية لا تصدق أن صاحبها يلاعب بسّة النصاب (محمد متولي) ويقهر ابنه الجاحد زاهر بزجرة وزغرة عين.

أرابيسك

تمسك أسامة أنور عكاشة باختياره للسعدنى فى دور الأسطى حسن فى (أرابيسك)، رغم عدم اهتمامه المطلق بمن يؤدى شخصياته على الورق، وكان لا يعنيه فى كثير أو قليل أن ينصرف أحد الممثلين أو كلهم أو يطالبون بزيادة الأجر فى الأجزاء التالية لمسلسلاته كما حدث مرارًا، وبشكل خاص وواضح فى زيزينيا. وكان قد قدم السعدنى معه الدور المهم أمام فردوس عبدالحميد فى (النوة) وهو شخص شرير لكنه لا يخلو من لمسة إنسانية، وتكمن البراعة فى أن الممثل عليه أن يقدم هذا الملمح بشكل خافت لا يمكن أن يظهر بوضوح وإلا أصبحت شخصية سكيزوفرينية لا تعبر عن أغراض الكاتب.

أما دور حسن أرابيسك فقد رشح الإنتاج الكبير له فى البداية عادل إمام لكن هذا الأخير خسر محطة عظيمة فى تاريخه (وخسرناه نحن طبعا).

واستطاع السعدنى أن يُلم بتلابيب شخصية الصنايعى الفنان الضائع، يبدد جهده فى معارك مع رعاع الحارة، ووقته فى قعدة الحشيش، حائر بين حبه لبنت البلد توحيدة (هالة صدقي) والفتاة المتعلمة أنوار (لوسى)، لا يعرف كيف يوائم بين معاملاته التجارية مع زوج شقيقته الشرير رمضان الخضرى (المنتصر بالله) وتفاهمه مع شقيقه الطموح حسنى (هشام سليم) وشراكته مع صديقه مهندس الديكور شريف ظاظا (شوقى شامخ) وفى ذيله محاميه مصطفى بطاطا (محمد متولى).

تتبلور فى هذا الدور شخصية الثقافة المصرية بكامل تفردها وتشتتها، حتى يضيق ذرعا بأحواله ويهدم فيلا عالم الفيزياء النووية ليبدأ البنيان من جديد على صفحة بيضاء!

لكن السعدنى انصرف بعد هذا الدور الهام والمؤثر وارتكن لكسله المعتاد والأسوأ أنه ابتعد عن عكاشة ليجرب شكلا جديدا للنجاح على شاشة التليفزيون.

لكن الأسوأ كان محاولة استنساخ تجربة أرابيسك فى علبة باهتة لا مذاق لها ولا هدف، فى مسلسل (حلم الجنوبي) بقلم محمد صفاء عامر الذى بهره نجاح أرابيسك وقرر أن يقدم نسخته الصعيدية منه.

نفس الحدوتة عن أثر تاريخى تحتال جهة أجنبية لسرقته، وتحيط بالبطل مجموعة من نماذج شعبية ومتعلمين وفنانين للدفاع عنه، لتقديم بانوراما اجتماعية شاملة، وباستخدام أغانى سيد حجاب (الوحيد الذى قدم رؤيته الصحيحة هنا لتختلف عن رؤيته لأرابيسك فى التتر الذى كتبه لكل من المسلسلين) وموسيقى عمار الشريعى ونفس مجموعة الممثلين تقريبا وحتى نفس الرجل أجنبى الملامح شامى اللهجة الذى كان يحوم حول الدكتور برهان (كرم مطاوع) فى (أرابيسك).

وكانت تجربة بها ملاحظات نسى أصحابها أنه لا توجد فى مجال الدراما أفكار عظيمة بقدر ما توجد رؤية خاصة خلفها فلسفة شديدة العمق.

نجاح السعدنى كان مدويًا فى الأعمال التى كتبها فنان بارع مثل عكاشة أو قدمها السعدنى بتلقائية مثل دوره الظريف فى شخصية ياسين فى مسلسل (بين القصرين) و(قصر الشوق)، أو دوره فى مسلسل (الأصدقاء) -عالم الذرة عزيز محفوظ- مع محمد وفيق وفاروق الفيشاوى، تأليف كرم جابر وإخراج إسماعيل عبد الحافظ.

صلاح السعدنى نموذج للفنان المثقف، حيث لا تفيد الثقافة كثيرًا بقدر ما يفيد الذكاء فى أوساط فنية كالتى اعتدنا عليها.  

 

####

 

رحل تاركا إرثا فنيا لا يمحوه الزمن

العمدة «صلاح السعدنى» يتحدث عن نفسه

كتب محمد عبدالرحمن

رغم غيابه لأكثر من 10 سنوات بسبب حالته الصحية، لكن العمدة «صلاح السعدنى» لم يغب أبدا عن ذاكرة الجمهور، ليس لأن مسلسلاته ودرره الفنية كانت تعاد باستمرار وفى مقدمتها «ليالى الحلمية» و«أرابيسك» ولكن لأن السعدنى انتمى لطراز نادر من الفنانين يمكن أن نطلق عليه «الفنان الملتزم» الذى يضع قضايا وطنه ومجتمعه فوق كل اعتبار، لهذا خلا مشواره الفنى الطويل من أى أعمال دون المستوى أو لنقل أعمال مصنوعة بلا هدف، فنال احترام الجمهور الذى ودعه بحرارة وبعيون باكية بعد إعلان خبر وفاته يوم الجمعة 19 أبريل 2024 عن عمر ناهز 81 عاما تاركا إرثا فنيا لا يمحوه الزمن.

كثيرون كتبوا عن أعماله وذكرياتهم معه، لكننا فى صباح الخير اخترنا أن نعود لأرشيفه الصحفى ونختار منه الكلمات التى عبر من خلالها عمدة الدراما المصرية عن أفكاره وثقافته العريضة وكيف يرى الناس والفن والحياة

فى حوار صحفى يعود تاريخه لعام 2001، يقول صلاح السعدنى: «الفن هو شاغلى الأول ولكن السياسة حرفتى وهوايتى، فأنا معجون فى «مية» السياسة، تخرجت من كلية مليئة بالسياسة، وكانت السياسة لعبة طلبتها والفن هواياتهم لذا فلقد ضمت هذه الكلية المعروفة باسم كلية الزراعة بجامعة القاهرة قائمة مكدسة من السياسيين اللامعين فى مقدمتهم الدكتور الجريدلى والمهندس سيد مرعى رئيس البرلمان المصرى الاسبق والدكتور الجنزورى رئيس الوزراء السابق والدكتور يوسف والى نائب رئيس الوزراء الحالى.

أما عن قائمة الفنانين يأتى فى مقدمتهم الفنان عادل إمام وسمير غانم وزوجته دلال عبدالعزيز والفنان المنتصر بالله فضلا عن بيئة أسرية، طعام إفطارها سياسة وهمومها سياسة. فشقيقى الأكبر هو الكاتب المشاكس محمود السعدنى».

يكمل العمدة: «فى طفولتى وحتى مرحلتى الجامعية كنت أحضر نفسى لكى أكون زعيم الأمة عندما كان يقال صلاح الدين الأيوبى كنت أعتقد أنهم يقولون صلاح الدين السعدنى وكنت أتخيل أننى سوف أصبح مثل جمال عبدالناصر لأن السياسة كما قلت كانت شاغلى الأول فى تلك المرحلة، بينما الفن كنت أمارسه منذ أن كنت فى الثانوية العامة. وعندما قابلت الفنان عادل إمام ووجدت بداخله هذا الحب الشديد للفن واشتركت معه فى فرقة التمثيل بكلية الزراعة اقنعنى أن الفن هو مستقبلى، وتصادف مع هذا طلب مسرح التليفزيون خريجى المعاهد والكليات لأتقدم بطلبى ونبدأ مرحلة جديدة وقطعنا أولى خطواتنا فى الفن على الرغم من إننا كنا مازلنا طلبة ندرس بكلية الزراعة فأصبح الفن كل حياتى ولكن فى الحقيقة التى لا يمكن أن أنكرها أنه لولا عادل إمام ربما كنت حاليا فى السجن أو زعيما سياسيا لا أعلم. ولكن الغالب أننى كنت فى السجن».

الفن برؤية سياسية 

يكمل السعدنى حديثه بحزن عاجلته الأيام والنجاحات: «لك أن تتخيل أنه فى بداية السبعينيات من القرن الماضى حدثت لى بعض الظروف السياسية لأن الرئيس أنور السادات رحمه الله فصلنى من هيئة المسرح مع توفيق الحكيم وأحمد بهاء الدين وكيانات أخرى كثيرة وشخصيات عامة لها وزنها مما أثر فى مسيرتى الفنية كثيرا وكاد يقضى على آمالى وطموحاتى لابتعاد معظم الفنانين عن التعامل معى من منطلق «الرئيس لا يحبه ابعدوا عنه». كما أن أخى الأكبر الكاتب الصحفى محمود السعدنى كان فى السجن وهاجر إلى الخارج فور الإفراج عنه بالرغم من أننى فى تلك الفترة لم يكن لى أى ممارسات سياسية لكن قضيتنا فى العالم الثالث أنه ما دام هناك غضب على شقيقى الأكبر فلا بد من أن ينالنى نفس العقاب والجزاء وإذا مارس أخى حقه فى الممارسة السياسية وأضير بسببها فلا بد الجزاء يعمم فكان أنهم فصلونى من الاتحاد الاشتراكى على الرغم من أننى لست عضوا فيه». 

ولكننى الآن أمارس السياسة الفنية وهى رؤى سياسية ووجه من أوجه السياسة المتعددة وأكثر أهمية لأنه إذا كانت السياسة بألف وجه فهناك الفن بمليون وجه ورسالته مؤثرة ومدوية فى جميع أنحاء العالم، فالسياسة قديما «كانت تصنع فى دهاليز القصور لكنها الآن فى كل شيء فى رغيف العيش وفى أزمة المواصلات وفى سرير المستشفى وفى السيولة النقدية وفى الأزمة الاقتصادية».

أعمال يعتز بها

عن العمل الذى يعتز به قال صلاح السعدنى: «جميع أعمالى الفنية اعتز بها بداية من أول عمل سينمائى وهو «شياطين الليل». وهناك «ليالى الحلمية» كمسلسل تليفزيونى وشحاتين ونبلاء الذى حصلت عنه على 11 جائزة «أما اللون الفنى الذى أفضله فأقول: لى أشياء كثيرة ممكن تصل إلى المتناقضات ولكنها الحقيقة فأنا أجد نفسى فى دور ابن البلد وأعشق كتابات الساخر أحمد رجب واقرأ لمحمود السعدنى وأنيس منصور ونجيب محفوظ وأخشى ركوب الطائرات والأتوبيس والسيارة والأماكن المرتفعة مثل الجبال والأبراج العالية، ومن عاداتى الاستلقاء على ظهرى أثناء القراءة فى أوقات فراغى لمعاناتى من آلام الغضروف وأحضرت كنبة خصيصا بمنزلى للاستلقاء عليها».

الزعيم تفوق على الريحانى

فى حوار آخر منشور عام 2010 يقول السعدنى ما يؤكد رضاءه عن مسيرته وانتصاره على مشاعر الغيرة والمنافسة خصوصا على مستوى السينما «عادل إمام هو الوحيد الذى لم تبتعد السينما عنه، فهو ممثل كل الأجيال، وهو فى رأيى من أهم ممثلى القرن العشرين، وتفوق على نجيب الريحانى ونجح أكثر منه. أما أنا فلست أحد نجوم السينما ولكننى من نجوم التمثيل فى كل الفنون والألوان وخصوصا التليفزيون الذى هو الأقرب إلى نفسى دائما، وأضف إلى ذلك أن السينما هى التى ابتعدت عن ممثلى جيلى وليس العكس»، وعن كيفية اختيار أدواره يقول «يهمنى أن يمس العمل المجتمع ومشكلاته وأن تكون شخصياته من صميم الحياة فلا يمكن أن أوافق على عمل يتحدث عن فكرة غير مطابقة للواقع ولا تلمس المواطن البسيط فأنا أحب أن أقدم كل شرائح المجتمع ولا أحب أن أكرر نفسى وعندما أقدم دور الشرير يجب أن أقدم دور الطيب».

هكذا فسر صلاح السعدنى كتالوج اختيار الأدوار وهو ما يتطابق مع كل أدواره بلا استثناء، ما يشير إلى فنان اتسق مع نفسه فاحترمه جمهوره، وفى رده على سؤال حول الوصول إلى هذه المرحلة من النضج الفنى يجيب «ببساطة شديدة هذا نتاج الاطلاع والقراءة الحرة فى جميع المجالات والرغبة فى الثقافة، ثم المعايشة الجيدة للواقع، وبعدها يأتى دور الفنان الذى يحاول التركيز فى أى عمل يقدمه وأن يعشق مهنته ويتفاعل مع مشاكل مجتمعه والتعبير عما فى داخل الناس.. وأعتقد أننى حاولت الوصول إلى مفردات هذه المعادلة الصعبة».

العلاقة مع المخرجين 

تحدث السعدنى كذا عن العلاقة مع المخرجين وعن شروطه للتعامل معهم سواء الجدد أو أصحاب الخبرة: «أنا بعيد تمامًا عن أى شروط لأننى من مدرسة تحترم المخرج، وأحيانا تكون لى وجهة نظر قبل التصوير أناقشها مع المخرج واحترم جميع المخرجين وخاصة الصغار أما الكبار فهم أصدقائى وليس عيبا أن يتدخل الفنان ما دامت لديه خبرة لكن يبقى المخرج هو القائد ويجب احترام توجيهاته».

وفى تلك الفترة قبل نحو 20 عاما، كانت هناك فكرة منتشرة بأن نجوم السينما عندما بدأوا العمل فى المسلسلات غيروا كثيرا فى المعادلة سلبيا، وكان للسعدنى كالعادة وجهة نظر «النجم ليس منتجا فنيا ولكنه مسئول فقط عن اختياراته فإذا اختار أعمالا رديئة يكون قد ساهم فى استغلال اسمه بشكل يسىء إليه لكن المشكلة فى غياب المنتج الفنى الذى يمتلك الوعى بهذه العملية الإبداعية ولو استعين فى عمل متوسط بنجم كبير فماذا سيفعل؟ فى رأيى إن تردى أى عمل فنى هو مسئولية مشتركة بين الجميع بداية من المنتج والمؤلف ونهاية بالمخرج والممثلين فأى طرف يقدم تنازلا فى العملية أو يتهاون يفسد العمل بالكامل ولا علاقة للأمر بأن النجم ممثل سينما أو مسرح». 

نوادر فنية

كالعادة عندما يطغى نجاح عمل معين يقارن الصحفيون دائما ما بعده ويضعون الفنان فى دائرة أنه لم يكرر ذات النجاح، كما حدث مع مسلسل «ليالى الحلمية» لكن لصلاح السعدنى رأى آخر فى هذا الصدد «أنا أعتبر الحلمية وأرابيسك وحلم الجنوبى والناس فى كفر عسكر نوادر فنية وأنا اسعدنى الحظ أن أكون عمدة الحلمية، كما إننى قدمت عملا فى بدايتى الفنية يكاد يكون له قيمة الحلمية، لكن فى وقت لم يكن فى مصر كلها أكثر من عشرة آلاف جهاز تلفزيون، والعالم العربى لم يكن فيه أكثر من 4 محطات تلفزيونية، كان ذلك فى نهاية الستينيات من خلال خماسية «الساقية» التى قدمناها فى ثلاثة اجزاء هى «الضحية- الرحيل- والنصيب» وجمعت وقتها كل نجوم مصر منذ أيام هذا المسلسل حتى جاءت الحلمية، وأنا أعتقد أن الفنان عليه انتقاء أدواره التى من الممكن أن تحمل عملا واحدا يشتهر به الفنان مثال على ذلك الفنان محمود المليجى فى فيلم «الأرض» فى عام 1968 وحتى رحيله فى عام 86 لم يقدم دورا مثل دور محمد أبو سويلم فى «الأرض» والناس لم تقل له أنت لم تقدم أدوارك التالية مثل محمد أبو سويلم، ولهذا يظل دورى فى «ليالى الحلمية» درة اعمالى التلفزيونية « ويكمل حديثه الصحفى قائلا «حتى الكاتب نفسه، فمثلا نجيب محفوظ الذى قدم الثلاثية والتى شاركت فى بطولتها، ليس مطالبا بأن يقدم ثلاثية أخرى وهذا لا يعيبه ولا يقلل من قيمته، وكل عمل له قيمته وظروفه ولا يمكن أن نقيس عملا على عمل آخر حتى لا نظلم الأعمال فهناك أعمال كثيرة وعلى مستوى جيد فى رصيدى مثل أرابيسك وحلم الجنوبى والناس فى كفر عسكر، أراها لا تقل بحال من الأحوال عن الحلمية، كما هناك أعمال أخرى فى رصيد الآخرين كانت جيدة وعظيمة مثل رأفت الهجان والنوة والراية البيضاء وضمير أبلة حكمت وبوابة الحلوانى والعائلة والليل وآخره كانت على مستوى جيد جدا».

 

صباح الخير المصرية في

01.05.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004