ملفات خاصة

 
 
 

في دورته الأولى..

الواقع العربي يلقي بظلاله على أفلام بغداد السينمائي

رسالة بغداد: أسماء إبراهيم

بغداد السينمائي

الدورة الأولى

   
 
 
 
 
 
 

خمسة أيام ملؤها الإبداع والشغف تجري فيها أمـواج دجلة وتتراقـص على شاشات سينما الرشيد والمسرح الوطني أخـيلة الأفلام المشاركة في مهرجان بغداد السينمائي في دورته الأولى.

المهرجان الذي عُـقـد بمشاركة عربية كبيرة وحضور لافت للفنانين للمصريين استمر في الفترة ما بين 10 و14 فبراير وبميزانية تقدر بـنحو مليون وربع المليون دولار.

حملت الدورة اسم المخرج العراقي محمد شكري جميل وتم تكريمه هو والفنانين العراقيين سامي قفطان وقاسم الملاك بجوائز انجاز العمر. وفي حين كانت أجواء حفل الافتتاح براقة ومبتهجة لم تكن الأفلام بتلك الوداعة المتوقعة ولم تشي الأجواء السعيدة بمآسي قصص الأفلام التي سنعاينها على شاشات عروض المهرجان؛ سواء في الأفلام الروائية او القصيرة أو الوثائقية أو أفلام التحريك أو حتى في أفلام فضاءات عراقية وهي 10 أفلام تم انتاجها خصيصا للمشاركة في المهرجان في سابقة أظن أنها الأولى في تاريخ المهرجانات العربية وبميزانية تتراوح بين 20 و25 ألف دولار للفيلم الواحد ما يشير إلى اهتمام حقيقي من العراق بالسينما المحلية وتفريخ مواهب جديدة نرى إبداعاتها على الشاشة.

نال العراق حصة لا بأس بها من جوائز المهرجان وأولها فيلم "آخـر السعاة" من اخراج سعد العصامي، الذي حاز على جائزة أفضل سيناريو لسعد العصامي وولاء المنّـاع، وجائزة أفضل ممثل للفنان رائد محسن، الفيلم مرثية شفيفة لزمن أقل صخبا كان لساعي البريد مكانه قبل أن تندثر مهنته بفعل الرسائل القصيرة وتطبيقات الهواتف الذكية، وفي حين تتهاوى مهنته يتداعى عالمه الصغير هو الآخــر فيسـلـبه جاره الطامع بيته بمباركة شيخ العشيرة ليبحث بطلنا عن صديق قديم وعمل جديد وليبدأ رحلته هو وأسرته باحثا عن موطن وسكن جديدين وبعد مغامرات عدة لم تخلو من الأنقياء الداعمين أو الخصوم المتربصين لا يسعه هو وأسرته وصديقه الوفي وأطفاله الجدد الذين تبناهم إلا تروسيكل صغير يحتويهم جميعا سيجوبون به الطرقات بحثا عن مرفأ أو مستقر.

حين شاهدته في قاعة السينما لم أتخيل أنه كان فيلما قصيرا لصانعه وأعاد صياغته كفيلم روائي طويل. عادة ما تصاب الأفلام بالترهل إذا ما حاولنا اعتماد هذا الإجراء. لكن لطبيعة القصة ذاتها ولمهارة وحذق مخرجها أفلت فيلم "ميسي بغداد" من ذلك الشَـرَك.

يفكك سهيم عمر خليفة مخرج الفيلم قضية التطرف والتعدد الطائفي في عراق ما بعد صدام عبر صبي موهوب بكرة القدم يضطر إلى الرحيل من بغداد بعد استهداف والده المترجم لدى قوات الاحتلال الأمريكي، وبعد أن فقد الصبي إحدى رجليه جراء حادث إرهابي. ليبدأ رحلته من الطفولة إلى اليفاعة وسط مجتمع محتقن يبحث عن التعافي. الفيلم حصد تنويه خاص من لجنة التحكيم وذهبت جائزة المهرجان لأفضل ممثلة إلى بطلة الفيلم زهراء غندور.

رغم موعد عرضه المتأخر كفيلم افتتاح المهرجان وحرص العديد من الجهور على مشاهدته؛ أقيم لفيلم "وداعا جوليا" حفل إضافي آخر لإعطاء فرصة المشاهدة لأكبر عدد من جمهور السينما المتعطش للفن الرفيع. لذا لم يكن مستغربا حصوله على أفضل فيلم روائي طويل في المهرجان وليظفر المخرج السوداني محمد كردفاني بأبرز جوائز المهرجان. الفيلم يتناول قضية تقسيم السودان بشكل فني عبر قصة أسرتين من شمال وجنوب السودان يتقاطع مصيرهما في لحظة تاريخية حرجة، وبرغم حضور القضية السياسية وكونها نواة الحبكة إلا أننا نشاهد سينما خالصة وصراع درامي محبوك وقوي لوصف حقبة هامة وحيوية من تاريخ السودان الحديث.

أما الفيلم اليمني "المرهقون" لعمر جمال فيحصد جائزة أفضل تصوير لمايكل ديساي، والفيلم تتبع لمقطع زمني من حياة أسرة يمينة متوسطة أرهقتها أساليب التكيف مع الأزمة الإقتصادية الطاحنة التي ألمّـت بالبلاد فتجعلها غير قادرة على استقبال وليد جديد منتظر ولتبدأ في البحث عن سبل التخلص منه.

في حين تذهب جائزة لجنة التحكيم الخاصة للفيلم الأردني "أن شاء الله ولد" من اخراج أمجد الرشيد والذي تميز بسيناريو محكوم ولاهث نتتبع فيه مسيرة أرملة شابة تسعى للحفاظ على حقها وحق أبنائها في ظل قوانين تنتصر للرجل حتى لو شاركته المرأة صناعة ثروته.

تنافس في مسابقة الأفلام الروائية كل من الفيلم الفلسطيني "حمى البحر المتوسط" من اخراج مها الحاج، والمغربي "مطلقات الدار البيضاء" من إخراج محمد عهد بنسودة، والمصري "طرف الخيط" من اخراج شريف شعبان، والسوري "رحلة يوسف" من إخراج جود سعيد، والتونسي "بنات ألفة" من إخراج كوثر بن هنية، والكويتي "الشرنقة" من إخراج أحمد التركيت، كما عُرض الفيلم السوري "يومين" للمخرج باسل الخطيب في عرضه العربي الأول.

في مسابقة الأفلام القصيرة يفوز الفيلمين الفلسطيني "فلسطين 87" من إخراج بلال الخطيب والعراقي "ترانزيت" من إخراج باقر الربيعي بجائزة أفضل فيلم مناصفة. ورغم حضور السياسة في كلا الفيلمين إلا أن التعبير عنها جاءا في إطار بالغ الفنية حيث تنبت قصة حب وشيكة رغم مطاردات قوات الاحتلال إبّـان الانتفاضة الأولى في الفيلم الفلسطيني، في حين تلاحق استغاثات أهالي المتغيبين موظف المشرحة الذي ينفي وجود جثثهم لدفعهم للتشبث بالأمـل في الفيلم العراقي. كما نال الفيلم السوري "فوتوغراف" من إخراج المهند كلثوم تنويها خاصا من لجنة التحكيم.

أما مسابقة الأفلام الوثائقية فيحصد الفيلم اليمني "سـطـل" أفضل فيلم من إخراج عادل محمد الحيمي والذي يستعرض حياة عبد الله عامل البناء الذي يرمم مباني صنعاء الأثرية باستخدام دلوه. في حين ذهبت جائزة افضل فيلم تحريك للفيلم العراقي "سكتش" من إخراج عُدي عبد الكاظم.

أمـا جائزة مسابقة فضاءات سينمائية عراقية والتي تنافس فيها 10 أفلام من انتاج المهرجان فقد حصدها فيلم "شعلة" من إخراج هاني القريشي.

محتجزون وهاربون ولاجئون .. أطفال تحت الأنقاض وجنود سابقون هم أبطال جُـل أفلام هذه الدورة من مهرجان بغداد السينمائي التي تُـعد صدى اللحظة التاريخية الراهنة، حيث عكست شاشات العرض في بغداد وقائع عالمنا العربي على قتامتها. فشبح الحروب أو محاولات التعافي منها هي القاسم المشترك بين معظم الأفلام.. نتمنى دورة تالية أكثر ألقـا وواقعا عربيا أقـل بـؤسـا.

 

موقع "في الفن" في

20.02.2024

 
 
 
 
 

أم كلثوم أسطـــورة بغداد

ناهد صلاح

"رق الحبيب وواعدنى يوم.. وكان له مدة غايب عني/ حَرَمت عينى الليل من النوم.. لاجل النهار ما يطمّني".. صوت أم كلثوم يتجلى من مكان ما أحاول أن أدركه هنا في شارع الرشيد، الشريان الرئيسي في بغداد، يخبرني أصدقائي العراقيين أن الشارع الممتد بين باب المعظم شمالًا والباب الشرقي جنوبًا، يمثل ذاكرة البلد الفنية والثقافية، تعددت صالاته السينمائية: رويال، سنترال، الرشيد، الزوراء، الوطني، الرافدين الصيفية، كما إزدهر بمسارحه وملاهيه منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، زارته فرقة بديعة مصابني وجورج أبيض بفرقته وعرضت فاطمة رشدي أول مسرحية لفرقتها في سينما الوطني، وغنت منيرة المهدية في سينما سنترال ثم ملهى الهلال، إلى جانب العازفين اليهوديين صالح وداود الكويتي، وهما اللذان أسسا الأغنية العراقية الحديثة، فضلًا عن ناظم الغزالي وزوجته سليمة مراد، حسب تصريحات متداولة للباحث التراثي باسم عبد الحميد حمودي.. 

يخبرني العراقيون أيضًا أن الرشيد هو الشارع الذي تأسست فيه عام 1918 شركة جقماقجي لتسجيل الأسطوانات الموسيقية والغنائية، تلك التي حفظت قسمًا كبيرًا من التاريخ الموسيقي والفني العراقي، فبالإضافة إلى تسجيلها اسطوانات لرموز الغناء العراقي مثل محمد القبانجي، ناظم الغزالي، عفيفة إسكندر وغيرهم، سجلت كذلك لمحمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، فايزة أحمد، وفي مقدمة الصف كانت أم كلثوم التي يسطع صوتها الآن في جنبات الشارع، بينما تحولت شركة جقماقجي لتسجيل الأسطوانات الموسيقية والغنائية إلى محلات لبيع الملابس بعد أن تعرضت للسرقة والتخريب إثر الغزو الأمريكي للبلاد في العام 2003.

أم كلثوم لا يزال صوتها يصدح في شارع الرشيد وهي التي لاح صوتها فيه أول مرة حين غنت على مسرح الهلال عام 1932 )مغلق حاليًا، كانت تمتلكه المطربة اليهودية سليمة مراد زوجة ناظم الغزالي(، يتسلل الصوت على بعد أمتار قليلة من موقع المسرح القديم، وبالقرب من ساحة الميدان، داخل مقهى "ملتقى الأسطورة" كصهيل فرس غير مروض يوقظنا من غفوتنا، وعلى الرغم من أن 91  عامًا تفصلنا عن أول مرة غنت فيها على مسرح الهلال، 55 عامًا على إنشاء المقهى، 49  عامًا على رحيل "الست"، إلا أنها باقية كاللحظة الأبدية، تتصدر صورتها المقهى العريق، راسخة كملكة تومئ لنا بالدخول، منديلها في يدها يضبط إيقاع خطوتنا في ليلة نفتش فيها عن قطرة ضوء، طمأنينة، وبعض الرفق يعيدنا من عُسْر أيامنا سالمين، نتلمسه في صوتها الذي لا خلاف عليه تقريبًا، يصفه محمود درويش قائلًا:" في حنجرتها جوقة إنشاد وأوركسترا كاملة، وسر من أسرار الله".

بمجرد ولوجنا داخل المقهى تحركت بنا آلة الزمن إلى أجواء أكثر حميمية، الجدران ذاتها تنطق فقط بالتاريخ الطيب، بهذه المساحات التي تقطعنا عن أخبار الحروب والانفجارات والشقاء البشري الذي أصيبنا به جميعًا.. الديكور البغداي في مقاعدها وطاولاتها يتوازى مع الصور المنتشرة في أرجاء المكان، صور نادرة لأم كلثوم مع عبد الناصر والسادات والموجي وشخصيات عراقية بارزة، تُمثل رحلتها الفنية وتعد جزءًا من حكاية وطن بأكمله ثقافيًا وسياسيًا وإنسانيًا.

في المقهى شرائح وطوائف مختلفة من المجتمع العراقي، أجيال وطبقات وفئات: الطبيب، الأستاذ والطالب الجامعي، الكاتب، الشاعر، السينمائي، المطرب، العامل، الرياضي، بخلاف بعض زوار شارع المتنبي القريب جدًا، هذا هو الطابع المتنوع لرواد المقهى منذ أسسه الحاج عبد المُعين الحاج أحمد الموصلي، لقد كان في بدايته مقهى صغيرًا، ثم اتسع بازدياد المقبلين عليه، لقد قام الحاج عبد المعين بتجميع وكوَّن مكتبة موسيقية ضخمة من مصر ولبنان ضمت التسجيلات والأشرطة المتنوعة لأغنيات أم كلثوم، يُقال أنه حتى الإذاعة العراقية كانت تستعير منه بعض التسجيلات النادرة.

انتقلت ملكية المقهى إلى الحاج تحسين المياحي )أبو مروان( منذ العام 1989، وهو يحتذي إلى حد ما نهج الحاج عبد المعين في الحفاظ على تراث أم كلثوم لكن بشكل عصري، حيث يستخدم الكمبيوتر في تجميع الأغاني وتشغيلها، بينما الأجهزة القديمة تحاوطه كأنها شواهد على ماضي لم يندثر إنما ينبعث عن طريق وسائل أخرى تلائم الراهن وحداثته.. يجلس الحاج أبو مروان خلف مكتبه الذي يتوسط المقهى ويطلب منه رواده الأغنية التي يودون سماعها، والجميع يتفاعلون مع المكان وانسياب الأغنية وكوب الشاي الساخن على الطريقة العراقية

بينما اقتربت من "أبو مروان" إذ سألته عن "رق الحبيب"، فأجابني:"الأغنية اليتيمة التي جمعت أم كلثوم ومحمد القصبجي"، أشرد في كلامه المسترسل ثم يعيدني من شرودي صوت الست:" لما قرب ميعاد حبيبي .. ورحت أقابله/ هنيت فؤادي على نصيبي .. من قرب وصله"، وأتمتم لنفسي: كان لابد أن تكون هذه الأغنية يتيمة يصعب أن يخاويها القصبجي مع أم كلثوم، لديه الكثير من الأغنيات الأخرى الرائعة، لكن "رقّ الحبيب" رائعته التي اكتفت بها الست، وكف القصبحي عن التلحين وظل حاضرًا في موقعه بصدارة التخت الموسيقي خلف أم كلثوم.

يبدو الحديث هنا، عن أم كلثوم الأسطـــورة المتنقلــة، العابرة للأجيال، الثابتة في نجاحها حتى اللحظة ليس نوعًا من اجترار الذكرى والانسحاب إلى الماضي، إنما في رأيي لأن صوتها الهادر يمكنه بسهولة أن يطلق الآه من صدورنا، أنظر حولي فتلتقط عيني هذا الرجل الأربعيني الذي تتوسط طاولته المقهى وهو يضيع مع اللحن والكلمات، يستند خده على كفه ثم يهز رأسه في أسى حينًا ورجاءً أحيانًا، أراه أسير سلطان ونفوذ صوت "الست" الذي ينتشر في المكان متجاوزًا الحياة العصرية وربما القوانين الفيزيائية، حضور أسطوري لمسته منذ اليوم الأول في بغداد، فكل صباح يستقبلني صوتها في مطعم الفندق ويظل يصاحبني على مدار اليوم، وها هي تستحوذ على شارع الرشيد بمقهى يرتاده أهل المدينة ويهرول إليه المغتربون، الجميع متعطش إلى السماع والسلطنة والاحتماء بها من قسوة الواقع الخارجي، قد يفسره البعض بأن هذا الحضور الأسطوري الطاغي يليق بتربع "الست" على قمة الغناء العربي، كظاهرة فوق مستوى النقاش والجدل وكرمز وحدوي عربي وقومي مشترك، لا أعرف إن كانت هذه المصطلحات مازالت صالحة في زمننا هذا بعد كل التغيرات العاصفة التي مررنا به، لكني أشعر بالكثير من الفخر حين يناديني العراقيون يا "ست" كنوع من التهذيب، وأتماهى مع نور "ست الكل" وهي تشدو على خشبة المسرح باعتزاز، وإن كنت لم أشاهد أية سيدة تدخل مقهى "الست".

تأبى مقهى "ملتقى الأسطورة" على الاندثار، بالضبط مثل أم كلثوم راسخة، صلبة، تفتح أبوابها من السادسة صباحًا، تحاول مقاهي أخرى تعتبر من رموز بغداد التراثية والمكانية أن تحاذيها في التماسك مثل الزهاوي، الشاهبندر، وغيرهما، بل يمتد ظل أم كلثوم بمقهى أخر اسمه "كوكب الشرق" يتصدرها صورتها وتحيطها صور نجوم الغناء العربي: عبد الحليم حافظ وردة، أسمهان، فريد الأطرش، نجاة.. كأنها تقود حركة التنوير الفني وتواجه بحسارة تبدلات الزمن والتاريخ، المثير أنه ينصاع إليها عشاق يتنافسون على شيء غير ملموس، أغادر المقهى وصوت أم كلثوم يتلون مع لحن الشيخ زكريا أحمد، يدخل بمقام بياتي، هادئًا كما لو كان "وشوشة" تتساءل في دلال: هو صحيح الهوى غلاب..؟ ثم تجيب في نبرة رائقة حيادية: ما اعرفش أنا..، تترك للمستمع التخمين وتأمل الهوى وأفعاله ومواعيده وأهواله، قبل أن تتورط هي وتعلن: "جاني الهوى من غير مواعيد" ثم: "نظرة وكنت أحسبها سلام، وتمُرّ أوام"، قبل أن يسخن صوتها وتصرخ بلوعة: "يا قلبي آه .. الحب وراه، أسباب وألم، وعلى المكتوب .. ما يفيدش ندم"، وتجرنا معها إلى عبثية الأسئلة في الحب: "إزاي يا ترى، أهو دا اللي جرى .. أهو دا اللي جرى"، بينما نردد معها ونحن المتلهفين إلى لحظة جارفة الجمال في حاضرنا الضحل: وأنا ما اعرفش".

 

اليوم السابع المصرية في

21.02.2024

 
 
 
 
 

هل زرت متحف الإعلام في العراق..

بغداد للحياة وليست للفَنَاء

ناهد صلاح

هل تساءلت يومًا: أين نحن؟ كم الوقت لدينا؟ أين نعيش؟ ما شكل حياتنا المقبلة؟.. أظنها نوعية من الأسئلة الوجودية التي تفيض مع أخبار الحروب والعُسر، قبل مهرجان بغداد السينمائي بأيام قليلة أفادت وسائل الإعلام بانفجارات شرق العاصمة العراقية تتوازى مع أخبار الجرائم الصهيونية في غزة ورفح الفلسطينيتين، الجميع في حالة من الترقب. العنف والحرب تجربة لعينة، الألعن هو اعتيادها ومتابعتها على الشاشات لحظة بلحظة كأنها مسلسل تليفزيوني من نوعية دراما الأكشن والإثارة، تطبيع مُفزع  وشديد القسوة مع الدم والقتل.

كنت قد شاهدت أفلامًا عراقية عبرت عن وضع بلادها وناسها ومواطنيها، بعضها منغمس في الوجع والبؤس ومنبثق من الوحشية والفتك والتغييب، تعكس شيئًا من وقائع العيش في نكبة الحرب كما ظهر في الفيلم القصير "ترانزيت" إخراج باقر الربيعي الذي يُدين الحروب ويرفض أثارها البشعة من موت وهلاك، وبعضها يتشبث بأمل في غد مُنْشَرِح وحيوي حتى ولو بأسلوب من الفانتازيا يرسم لنا العراق بوجه مجهول، مغطى، وطفل حائر يحاول الانفلات من الأجواء الجنائزية إلى فضاء مشرق وبهي حسبما قدمه الفيلم القصير "مظلة" إخراج حيدر فهد، وبعضها يثير العديد من الأسئلة مثل هذا المشهد في فيلم "ميسي بغداد" إخراج سهيم عمر خليفة، حيث يتوغل الأطفال في الصحراء العراقية على خلفية من أجواء الانفجارات والهجمات الانتحارية، يسعى الأطفال لتجميع الأسلحة في صحراء ملغمة يعرفون كيف يتعاملون معها، الأجواء تستدعي في خاطري كتاب "لماذا تقتل يا زيد؟" لمؤلفه الخبير والإعلامي الألماني، "يورجن تودينهوفر"، بما طرحه من قضايا مهمة تخص الاحتلال الأمريكي للعراق، و"زيد" هو طالب عراقي كان يهوى لعب كرة القدم، لكن الاحتلال أحدث تغيًرا مفاجئًا فى حياته، فتحول إلى محترف لتفجير المركبات العسكرية الأمريكية دون أن يقتل الأبرياء من المدنيين، ومع أن هناك تباين واضح بين الفيلم والكتاب، بين زيد وحمودي الصبي بطل الفيلم الذي يفقد ساقه في أحد الانفجارات، إلا أن الهم والأسى واحد، وبعض هذه الأفلام كذلك كما في "آخر السعاة" الروائي الطويل للمخرج سعد العصامي وحكايته عن ساعي البريد الذي يفقد حضوره وتأثيره بسبب تطور وسائل الاتصال، يطرح فكرة التغيير الزمني والتي تتوزع بين الحنين الجارف للماضي أو على حد تعبير أوسكار وايلد:"من المضحك حقًا أن هذه الأيام التعيسة التي نحياها سوف تصير في المستقبل أيام الماضي الجميلة".

أحمل هذه الأسئلة وأضيف إليها أخرى مُترعة بالشجن حين لبيت دعوة صديقتي الفنانة التشكيلية مينا الحلو لزيارة متحف الإعلام العراقي الذي تتولى مسئولية إدارته، مينا هي ابنة الكاتب والباحث أمير الحلو مدير الاذاعة العراقية الأسبق، وابتسام عبد الله المذيعة والصحفية والمترجمة والروائية الشهيرة، هذا كافيًا ليُفسر حماس مينا للتجربة الاستثنائية وتبرعها ببعض مقتنياتها الخاصة من أجل المتحف الذي يصنع لحظة تنوير عراقية شديدة الخصوصية.. أطلقها الموسيقي ذائع الصيت نصير شمة في العام 2018، وتحمس لها رئيس شبكة الإعلام العراقي السابق مجاهد أبو الهيل، لتكون صلة فكرية بين جيل الماضي والمستقبل، حتى يتعرف الشباب على إنجازات السابقين والظروف الصعبة التي أسسوا فيها مسيرة الإعلام العراقي، حسب تصريح نصير شمة لوكالة الأنباء العراقية (واع(.

مبنى المتحف قبل افتتاحه كان هو ذاته معهد التدريب الإعلامي المغلق، ثم أُدرج ضمن مبادرة "ألَق بغداد" التي سعت إلى إعادة تأهيل الفضاءات المُهملة، المبادرة التي تلقت دعمًا من مجموعة من مؤسسات وجمعيات عراقية حكومية وأهلية، وشارك فيها البنك المركزي، ومن خلالها تأسس المتحف الذي يضم مقتنيات الإذاعة العراقية منذ تأسيسها عام 1936، وهي ثاني إذاعة عربية بعد "إذاعة القاهرة" التي تأسست عام 1934، ومقتنيات التليفزيون العراقي الذي انطلق عام 1954، كأول تليفزيون في العالم العربي.

الجمال الكامل الذي لا نقص فيه، ربما هو ما تستدعيه الذاكرة بمجرد الدخول إلى المتحف، كل شيء يصنع حالة من الاشتياق والتلهف: الكاميرات وأجهزة المونتاج وأشرطة إذاعية وغنائية ونماذج أجهزة الراديو والتسجيل والوثائق والأرشيف الصحفي من جرائد ومجلات والكاريكاتير وصور نجوم الفن والكتابة والإذاعة والتليفزيون، الموزعة بنظام مدروس ودقة متناهية على قاعات المتحف، نوستالجيا آسرة وحنين إلى ماضي قد يكون حينذاك ليس مثاليًا بالدرجة المتخيلة، لكنه مقارنة بالأوضاع الحالية هو الأفضل وهو في الذاكرة جدار الأمان الذي يُستند إليه في مواجهة التحديات وقسوة الراهن، من هذا المنطلق يكون بديهيًا التطلع صوب هذا النموذج الذي يتطابق وجزء من مع استديو البرنامج الشهير "الرياضة في أسبوع" للمعلق ولاعب كرة القدم العراقي مؤيد البدري، والذي ارتبط به الجمهور العراقي على مدار ثلاثة عقود (من بداية الستينيات حتى بداية التسعينيات)، أو إلى النسخة النادرة من المصحف التي طُبعت في مصر خلال أربعينيات القرن الماضي، واستُخدمت في الإذاعة لقراءة القرآن في البث المباشر، وتم إنقاذها من حريق مبنى الإذاعة والتليفزيون عام 2003، أو إلى "بلبل الإذاعة"، هذا البلبل الذهبي الذي كان يُصدر تغريدات عند بدء بث الإذاعة كل صباح، وهو هدية من أدولف هتلر للملك غازي الأول بمناسبة إفتتاح الإذاعة عام 1936، كان قد سُرق أثناء حريق عام 2003 واسترده المخرج العراقي خطاب عمر حين اشتراه وأصلحه ثم أهداه للمتحف.

العين تتطلع بحنين جارف لتفاصيل المتحف، والعين هي "ايكي" الشعار الذي استلهمته مينا الحلو في تصميمها للشعار من الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين القديمة.. مجهود كبير بذلته مينا الحلو والقائمين على المتحف من أجل تحقيق حلم تحمس له العديدون الذين تبرعوا بما يمتلكونه من مقتنيات، لم تكن المهمة سهلة ولكنها تحققت دون أن تتوقف عند حد معين، بل لم يزل العمل على تطويرها وتوسيعها قائمًا بما يناسب تاريخ وقيمة الإعلام العراقي، وبما يحقق ثلاثية: تأمل الماضي، التئام جروح الراهن، المشي إلى المستقبل بجذور قوية وخطوات ثابتة ترسخ أن بغداد رمز أو مدينة لا تموت، طالما هناك وعي بأن الماضي لا يتلخص في مصمصات شفاه أسيانة أو  اجترار للذكريات عن أيام الجمال والازدهار، إنما تذكره هو نوع من المقاومة، وإن كانت المقاومة مؤلمة، فحب بغداد لا يخلو من وجع.

 

اليوم السابع المصرية في

26.02.2024

 
 
 
 
 

الملتزم.. عبد العزيز مخيون

علي حمود الحسن

نشرت قبل أيام، على صفحتي الشخصية في الـ"فيسبوك"، صورة لقائي مع الممثل القدير عبد العزيز مخيون، على هامش تواجده ضيفا في مهرجان بغداد السينمائي الأول، فلفت انتباهي إجماع معظم المعلقين – من أجيال ومستويات مختلفة- على محبة هذا الفنان، الذي عشقه الجمهور العراقي في دور طه السماحي في المسلسل الشهير" ليالي الحلمية"، اذ اجمع معظم المعلقين على توصيفه بـ "الملتزم"، الذي يعني في بعض ما يعنيه أن الفنان مخلصا لأفكاره ورؤاه وانحيازه لهموم الناس، وهذا بالضبط ما فعله مخيون على مدار مسيرته الفنية الحافلة.

مخيون المولود في ابي حمص/ محافظة البحيرة عام 1946، شغف بالموسيقى والمسرح منذ بواكير طفولته، والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية وتخرج فيه.. خاض تجربة فريدة، متأثرا بما كتبه يوسف ادريس، والناقد د. علي الراعي صاحب كتاب" مسرح الشعب"، في تأصيل مسرح مصري ينتمي للناس، فعاد الى "أبو حمص" وأنجز مسرحيات قدمها الفلاحون أنفسهم، والطريف أنه اتخذ من الحقل والساقية مسرحا وكان الجمهور من الفلاحين.

مخيون الناحل والثقفي المزاج، كان خجولا وذا محمول معرفي عال، دخل عالم الاحتراف من أضيق أبوابه، فهو لا يجيد العلاقات العامة، ولا يقبل باي دور، ما أضاع فرصا كثيرة، ومع ذلك ظهر مخيون بأكثر من 46 فيلما منها: الكرنك"، و"حدوتة مصرية"، و" الهروب"، و" الجوع"،  و83 مسلسلا، ابرزها : " ليالي الحلمية"، و"الشهد والدموع"، و"الجماعة"، " أبو ضحكة جنان"، و"سقوط الحضارة"، و" زيزينيا"، فضلا عن العديد من المسرحيات والأفلام القصيرة.

 التمثيل من وجهة نظر مخيون موهبة ودربة وخبرة حياة، فالممثل كما صرح مرة لجريدة الشرق الأوسط، هو" من يذوب في الشخصية ويتقمصها ويعطيها من روحه إحساسه"

ألقت السياسة ظلالها على فن مجسد شخصية عبد الوهاب في مسلسل "ام كلثوم"، و" السندريلا"، و"أبو ضحكة جنان"، فكان معارضا لكل من ينتهك حقوق الناس، على الرغم من انتمائه الى  أسرة من اغنياء الريف، مقتربا من الأكثر تطرفا في الرفض، اذ كان صديقا للكاتب المسرحي والشاعر نجيب سرور، وقريبا من الشاعر الجميل امل دنقل، الذي كان يلقي اشعاره، وقد سجل بعضها بصوته، لا سيما قصيدة "لا تصالح" ..لكنه كان أيضا قريبا من الناقد والكاتب لويس عوض، الذي حاوره في باريس، حينما كان يكتب نقدا وحوارات وتقارير صحفية، بعد حصوله على منحة لدراسة المسرح، كما ألهمه المهندس المعماري الشهير حسن فتحي، صاحب نظرية "عمارة الفقراء"، الذي أثر كثيرا في محاولته تأصيل الفن المصري.

هذه التجربة الثرة والعصامية صاحبها دماثة خلق وصلابة وممانعة، فضلا عن محمول ثقافي، فهو بالإضافة الى ما ذكرنا، لديه اهتمام بالفن التشكيلي، حتى انه دعاني الى محاضرة عن الفن التشكيلي يلقيها في الكرادة، رغم انشغاله في فعاليات مهرجان بغداد السينمائي.

 

الصباح العراقية في

26.02.2024

 
 
 
 
 

ميسي بغداد. . يُدين الاحتلال ويعرّي النَفَس الطائفي المقيت

بغداد: عدنان حسين أحمد

ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الأولى لمهرجان بغداد السينمائي الأول التي تضمنت 12 فيلمًا روائيًا طويلاً اشترك فيلم "ميسي بغداد" للمخرج الكوردي العراقي سهيم عمر خليفة ونال عنه تنويهًا خاصًا، كما خطفت الفنانة زهراء غندور جائزة أفضل ممثلة لتجسيدها دور سلمى ببراعة وإتقان شديدين.

لم ينبثق فيلم "ميسي بغداد" للمخرج المبدع سهيم عمر خليفة من فراغ أو شطحة خيال مجنّحة فأحداث القتل والتشويه وبتر الأطراف شاعت في أثناء الغزو الأميركي على العراق وما تلاها من سنوات الاحتقان الطائفي الذي انتشرت فيه ظاهرة القتل على المذهب والهُوية الطائفية ولعل الصبي حمّودي الذي بلغ بالكاد عامه الحادي عشر يفقد ساقه اليسرى بسبب التوترات الطائفية التي رصدها كاتب السيناريو كوبي فان ستيبرج وسلّط عليها مساحة كبيرة من الضوء في قصة درامية تأخذ بتلابيب المتلقي منذ مُستهل الفيلم حتى نهايته بثيمة رئيسة تتناسل إلى ثيمات فرعية لا تقل توترًا وإثارة من الثيمة المحورية التي تضرب على وتر حساس. يمكن اعتبار هذا الفيلم الدرامي سيرة ذاتية للطفل حمودي الذي يمتلك شغفًا منقطع النظير وولعًا بكرة القدم المحلية والعالمية حيث يجد معظم الأطفال والشباب وحتى كبار السن ضالتهم في فرق كرة القدم الأوروبية والأمريكية اللاتينية على وجه التحديد.

لا يتأخرّ المخرج سهيم عمر خليفة كثيرًا ليُدخِل الجمهور في المناخ الدرامي الذي التقطه وأعدّه بدراية وعناية فائقة حيث يقول في مستهل الفيلم "بعد ست سنوات من احتلال التحالف الدولي والعنف الطائفي تحولت البلاد إلى مكان غير صالح للحياة". كما تحوّلت بغداد إلى مكان غير صالح للعيش طالما أن شبح الموت يحوم حول الجميع ويُدخلهم في دوّامة من الخوف والذعر والترقب. يُصاب الطفل حمّودي بانفجار يفضي إلى بتر ساقه اليسرى فينصدم الأبوان ويفجعان بهذا الحادث المروّع الذي سيقلب حياة العائلة رأسًا على عقب. فإذا كان الأب كاظم مذهولاً فإن الأم سلوى سقطت في خانق التساؤل والاستغراب وهي تردد مذعورة "ليش حمّودي شنو ذنبه؟" لكن الطبيب يحسم الأمر ويخبرهما بأنّ حالته الصحية مستقرة وقد أعطاه بعض المهدئات لكي ينام بعمق صباح اليوم التالي. ونصحهما بالعودة إلى المنزل وطلب من كاظم أن يغيّر ملابسه الملطخة بدماء ابنه الوحيد. ثمة احتجاجات تتصاعد ضد الشركة الأمنية الأمريكية"يونتي" وأنّ غالبية الناس يتذمرون من فظاظتهم وسلوكهم الأهوج حتى أنّ أحد السوّاق يقول:"هؤلاء الخنازير يمشون بشوارعنا مثل المخابيل، لازم نصير على صفحة من يفوتون" ولا يجد حرجًا في القول بأنّ هؤلاء المحلتين يجب أن يُقتلوا. وثمة امرأة تشتم من شقة علوية مُطلة على الشارع وتقول:"أنعل أبوكم لابو الجابكم، أمريكان حرامية قذرين" وهذا هو الشعور السائد الذي أعقب الاحتلال وأفضى إلى سقوط النظام الدكتاتوري المقيت. يصحو الابن من هول الصدمة في المستشفى فيرى ساقه المبتورة، وهو الكابتن المولع بكرة القدم، فلاغرابة أن يصرخ "منو ;الكم تاخذون رِجلي؟" فيرد عليه جريح آخر:"لا تخاف راح رِجلك تطلع مرة ثانية!" مُدعيًا بأنّ يده قد انبترت مرتين ونمت من جديد وهي الآن في منتصف الطريق. لا تتعاطف غالبية الناس مع قوات الاحتلال على الرغم من رغبتها في إسقاط النظام الدكتاتوري السابق فهم ينظرون إلى الأمريكان كقوات محتلة وأنّ المتعاونين معهم كالمترجمين والمستشارين والأدلاء هم "عملاء وخونة قذرون" فحتى"أمينة"، بائعة الخضراوات تخاطب المترجم كاظم بالقول:" أنتَ خاين، هاي عقوبة من الله، جنيت على نفسك وعائلتك". حيث انبترت ساق ابنه، وسوف يُحرق منزله، ويُهجّر إلى قرية "الرحمانية" المتاخمة لسد الموصل حيث تأخذ الأحداث منحىً آخر. لا يستطيع الأب إقناع ابنه حمّودي عن سبب انفعال "أمينة" واستيائها منه لكنه يعزو ذلك إلى أننا جميعًا نتعصب في بعض الأحيان بسبب القهر المكبوت الذي لا نراه ونفصح عنه بهذه الطريقة الانفعالية المنفلتة. تتطور عقدة حمّودي التي تدفعه لأن يثير هذا السؤال الجوهري دائمًا:"أ;در أرجع ألعب طوبة مرة ثانية؟" فيأتي رد الوالد بأنّ هناك أناسًا لا أيادي لهم لكنهم يعزفون بأصابع أقدامهم ويؤكد له بأنه يستطيع لعب كرة القدم بساقٍ واحدة!

يُحيلنا التهجير إلى سنوات المد الطائفي والكتابة على أبواب وجدران المنازل بأنهم مطلوبون ويجب أن يغادروا وإلاّ كان القتل نصيبهم فينتهي بهم المطاف في قرية "الرحمانية" التي وصلوا إليها بمساعدة شقيقة سلوى التي قُتل زوجها سمير بسبب الطائفية. تتسيد شخصية الحاج عثمان في قرية "الرحمانية" فهو المختار والشخص الكبير فيها الذي سيؤجر لهم منزلاً متواضعًا وهو يمتللك نصف بيوت القرية. لا يقابل حمّودي بالترحاب من قبل صبيان القرية فهم يسمّونه الأعرج في أفضل الأحوال وخاصة يعقوب الذي يتخذ منه موضوعًا للتندّر والاستهزاء. وعلى الرغم من تنازل حمّودي عن فكرة اللعب إلاّ أنه يظل متشبثًا برسم الخطة وإعدادها على الوجه الأكمل.

يصدق حمّودي وهم نمو الأعضاء المبتورة وأستطالتها فيقيس ساقه كل يوم حتى يجدها قد استطالت بعض الشيء حيث بات يعتقد أنّه مثل الشجرة المبتورة التي ينمو غصنها المقطوع، وأنّ عضوًا مثل السن المقلوع يمكن أن يعوّضه بسن آخر. غير أنّ الأم هي الإنسانة الوحيدة التي تخبره بأن الإنسان إذا فقد عضوًا من جسده لا يتعوّض أبدًا.

يعرب حمّودي عن رغبته في لعب كرة القدم مع فريق القرية الذي يقوده يعقوب لكن هذا الأخير يقول "هذا الفريق فريقي، وآني أقرّر بكيفي". وحينما يعود منكسرًا إلى البيت يخبره الوالد بأنه قد أحضر له التلفزيون ولا يحتاج إلاّ إلى تثبيت الهوائي لكي يشاهد دوري الأبطال. وما إن تتضح الصورة على الشاشة حتى يطلب منهم مغادرة المنزل وحينما يعترض يعقوب يردّ عليه:"هذا تلفزيوني يا يعقوب، وآني أقرر بكيفي". فتبدأ تنازلات يعقوب لكن حمّودي يرفض أن يلعب كحارس مرمى فهو ميسي بغداد ولاعبها الأشهر.

يثني كاظم على مساعدة عثمان له لكن هذا الأخير يستغل صعوبة ظرفه المادي ويغريه بالعمل في جمع الأسلحة من حقول الألغام لكي يحصل على نقود كثيرة، وحينما يمتنع كاظم يستفزه بضرورة شراء ساق اصطناعي لولده أو دفع الإيجار المترتب عليه في الأقل. ويبدو أن هناك قاعدة للجيش تبعد بضعة كيلومترات عن حقول النفط وقد حوّلها عثمان إلى مصلحة يعتاش عليها رغم خطورة العمل فيها.

لا يصرّح حمودي بالطريقة التي انبترت فيها ساقه فهو يرد على سؤال أحد أصدقائه بأنه سرق دراجة والده وقادها بسرعة كبيرة في شارع عام ولم تستطع دوريات الشرطة والهليكوبترات اللحاق به فاعترضته سيارة سريعة أيضًا وطار في الهواء، وحينما استفاق وجد نفسه في المستشفى.

يأتي صديقه باهوز ليحثّه على العودة إلى العمل في شركة الـ "يونتي" التي تغيّر اسمها إلى "حرية العراق" بسبب الاحتجاجات وسمعة الشركة. يتعطل التلفزيون ثانية ويحتاج إلى قاعدة ترانزستر جديدة لا يمكن العثور عليها إلاّ في بغداد. يُطرد حمّودي من الفريق وتؤخذ منه قفازات حارس المرمى. يتفاقم الشعور بالذنب عند الأب كاظم فهو الذي حرم ابنه من لعبة كرة القدم التي يحبها الأمر الذي يدفعه لأن يغامر بالذهاب إلى حقول الألغام لجلب بندقية والشراء بثمنها تلفزيون جديد لكنه يدوس على لغم ألماني ويمر الفيلم بلحظات من التوتر والشد والرعب فينفجر اللغم من دون أن يلحق إصابة قوية بحمودي. تحتد مريم على شقيقتها سلوى وتخبرها بأن الذهاب إلى حقل الألغام كانت فكرة حمودي وهو الذي جلب الخريطة من والده، وطلبت منهم مغادرة القرية سريعًا لأنها فقدت زوجها بسببهم.

تتفاقم أزمة حمودي الذي لا يجد حرجًا في مخاطبة والده بالقول:"كل هذا بسببك وبسبب شغلك الغبي. چان عندي رجلين وچنت آني كابتن الفريق ببغداد وأنت وأمي متريدوني أعيش فرحان. لعد ليش جبتوني للدنيا، ليش؟" وحينما يتضايق كاظم يتصل بباهوز ويخبره برغبته في العودة إلى عمله السابق كمترجم لأنه بدأ يعاني من شظف العيش، وعدم قدرته على دفع الإيجار.

يعتذر كاظم من ابنه لأنه وبّخه ذات مرة فيقرر في لحظة ما أن يفاجئ ابنه ليصطحبه إلى بغداد لتصليح التلفزيون حتى يرى مع أصدقائه نهائي دوري الأبطال ويمر بمواقف طائفية متشابهة في غالبية نقاط التفتيش ولكنه ينفذ منها بأعجوبة ويترك التلفزيون عند المصلّح ويستأذن ابنه لقضاء مهمة لم يكشف عنها حيث ذهب كاظم إلى مبنى "حرية العراق" وتسلّم موافقة العودة إلى عمله السابق وما إن لمحة أحد باعة الماء وهو يدخل إلى مبنى الشركة الأمنية حتى اتصل بالجهات المعنية فأصابوه بطلق ناري لكنه استطاع أن يسلّم النقود لابنه وطلب منه أن يأخذ التلفزيون ويشاهد المباراة النهائية مع أصدقائه ثم يخبر والدته بأنه لم يستطع أن يجلب جثة أبيه لأنها كانت ثقيلة جدًا. وفي الخام لابد من الإشارة إلى أنّ سهيم عمر خليفة قد بلغ رصيده الإخراجي ستة أفلام وهي "أرض الأبطال" و "ميسي بغداد" (قصير)، و "صيّاد سيء"، و "زاكروس"، و "جمال العراق الخفي"، و "ميسي بغداد" روائي طويل سوف يُعرض في صالات بغداد اعتبارًا من 22 شباط / فبراير الجاري.

 

####

 

وداعًا جوليا.. تلويحةٌ للوطن الانسان

علي الياسري

مفارقة مريرة ان يكون الكذب هو اساس المصداقية السردية والصفاء الشعوري الذي تحمله جنبات الدراما الروائية لفيلم وداعًا جوليا. اول افلام المخرج محمد كردفاني الطويلة يضع لبنة اخرى على طوب جدار السينما السودانية الجديدة المُندفعة بقوة الى الواجهة العالمية في السنوات الاخيرة بإنتاجات اتسمت بالنضج الفني والتماسك القصصي والوهج العاطفي.

موجة سينما حديثة هي وجه اخر للثورة السودانية الرافضة للواقع السياسي كإطار عام يتجذر في اشتباكات اجتماعية تتأسس على نظرات مخفية موروثة تتعلق بالعرق واللون والغنى والفقر والوعي والجهل ولا تنتهي بالدين واشكالاته حيث يكمل الدائرة بتجاذبات غالبًا ما تخلُص لصراع عسكري يتأسس على فعله واقع جديد يديم حالة التشظي والارتباك. المفارقة المُبكية ان كل هذا النزيف الانساني ليس سوى افعال قلة تتطرف في اراءها وردود افعالها ليعم بسبب ذلك الخراب فيتغلب الشر بقوته التدميرية على جوانب الخير المسالمة حيث تتنحى لسبب او اخر امام تداعيات الفعل السيء. وهذا ما يفتتح الفيلم صورته عليه.

ينطلق كردفاني من سمة الكذب لبناء هيكل فيلمه كنتيجة تترتب على ما تقدم من افكار عامة اجتماعية وسياسية تتسع مساحتها الخاصة من الفرد الى المجموع بحركة فنية رشيقة تمتلئ بغنى تعبيري يَسقي فيه كل فعل درامي لوحته البصرية، ويتغذى البوح السينمائي على تلك الرمزيات التكوينية التي تأخذ من عناصر المشهد والبيئة المكانية حكايتها لتستكمل شكل نغمتها في لحن الوجود ضمن جدران الوطن المنزل المُتشظي لشطرين بفعل تراكمات السياسة والعنف غير انه يتمسك بوحدته واواصر التلاحم العاطفي في وجدان الانتماء الفردي للبشر والارض. انه الصدق الباحث عن هويته الوطنية الانسانية بين ركام التناحر من خلال المشتركات الادمية التي تميز وجودنا على هذا الكوكب. جوليا ومنى هما رمزان للسودان بجنوبه وشماله المنفصلان كخلاصة ظاهرية لاستفتاء جاء الفراق محصلة لنتيجته الساحقة، والمرتبطان باطنًا بسبب مشتركات الالفة والعيش ضمن حيز واحد والانتماء الخفي الذي تجلى لحظة البعاد كما في سلسلة مشاهد الختام حين لم تكتفي بتأطير التيار العاطفي للتواصل السري غير المنقطع بل ألمحت بذكاء ايضا الى طبيعة الصراعات القادمة المبنية على تراكمات الاخطاء والمتولدة نتيجة عدم تحقيق العدالة بأدنى درجاتها.

الرشاقة السردية التي يتنقل فيها الفيلم بين اوجه الكذبات العديدة وحركتها من الشخصي للعام يُتيح للمشاهد ان يدرك ان الخيط الوهمي الفاصل بين الصدق والخداع لا يرتبط سوى بمعايير اخلاقية ينمو بموجبها الضمير ما يسمح للشخصيات باكتشاف ذواتها قبل ان يدركها المُتلقي. لم تكن منى وحدها المُستمرئة للكذب –تنفتح قصة الفيلم على منى وهي تكذب على زوجها بشأن البيضة المقلية التي احترقت- كي تحافظ على مظاهر ارتباط زائف ووحدة عائلية غير مستقرة شعوريًا، بل جوليا كذلك في السياق الشخصي من اجل عيش مُستقر لها ولطفلها قبل ان تتسع هذه المنهجية السلوكية في كل مرة للاطار العام المُتجسد في افعال المجتمع ومؤسسات الدولة.

يبرز الفيلم قوة تعبيرية بصرية رائعة ادارها بذكاء مدير التصوير بيير دو فيلييه تحاول جاهدة تأطير الافعال والسلوكيات والاحداث والتداعيات بلمحات فنية تحضر بلقطات مميزة تربطها بفطنة مونتاجية سلسة المونتيرة هبة عثمان لإظهار المخفي من التعقيدات لتفاصيل الشؤون السودانية عند لحظة فارقة هي الفترة التي تلت معاهدة السلام ثم مقتل جون قرنق والاضطرابات والاحتجاجات الغاضبة حتى تصل الى لحظة الاستفتاء فالتصويت على انفصال الجنوب. كان الفطور المحترق تنويه فني بقوة فعل الصورة وإشعار درامي مبكر عن معضلات صعبة قادمة. العصفور في القفص كناية عن حال الشخصيات الفردي الجواني وهي الاسيرة لواقعها المأزوم بمشاكلها المتنقلة من القمع والحرية الى المصاعب الاقتصادية والملاذ الامن ثم العام الظاهري المُتَفتق على مشاكل سياسية واجتماعية وعرقية ودينية. السيارة حين تدهس بسبب لحظة ارتباك فتتسبب بكارثة. الدراجة النارية التي تسير بجنون كرد فعل وتعبير عن لحظة غضب ستنتهي بمأساة. لوح الشطرنج وقطعه التي ينحتها اكرم ليُعَّلم بمفارقة اخرى ابن من اعتقده خصمه في لحظة ما على صناعتها والذي سيكون مآل مصيره هو خاتمة مفتوحة للفيلم. الخط الدرامي السياسي للاحداث سيشتبك بقوة مع المسار السردي الاجتماعي للوقائع وانعكاساته التي يعيشها السكان ولا تنقلها بالضرورة القنوات الاعلامية. من هنا يلتحم العام بأجواء الحكايات الشخصية وتشعباتها ضمن اطار المنزل فينطلق من حكاية العلاقة بين منى وجوليا اثناء الفترة الانتقالية بين العامين 2005 و 2011 حين تجمعهما الاقدار تحت سقف واحد يعكسان وجهين للحقيقة والزيف حيث يتبادلان الدور بينهما حسب طبيعة الظرف، وتبرير الكذب سيرد على لسان منى ردًا على تساؤل جوليا ان الناس لا ترغب بسماع الصدق. صورتان نشأ وجودهما من كذبة وشعور بالذنب لينتهي بافتراق موجع لا يرغب فيه الطرفين. لكن وكما يقال في المثل العربي فقد سبق السيف العذل حين التهمت نار الغضب بسبب التاريخ المتراكم من اخطاء التنكيل والاضطهاد وقصور الوعي والرؤية للاخر كل عواطف البقاء معا حيث التوق للصدق الغامر للاحاسيس. فالكذب المتحرك على خطوط الحكاية بتنوعاته حسب كل حدث يسمح للشخصيات بالنجاة الوقتية غير انه بالمحصلة سيكون اول الخطوات نحو نهاية موجعة تغدو فيه النفوس اسيرة ألم عاطفي ترى من خلاله اخطائها الفادحة فترفضها بشدة غير انها لا تقدر على العودة لأن لحظتها قد فاتت.

كانت الاغاني والموسيقى التصويرية التي وضعها الفنان مازن حامد تظهر بتوقيتات محسوبة وفق معطيات درامية مبررة لتقديم صورة عن المشتركات الثقافية والمنهل التراثي الشعبي، جسرًا متينًا نحو ارتباط عاطفي من الصعب كسره، ووحدة مختبئة تحت طيات الفعل الانساني السامي، فضلًا عن ضرورتها التعبيرية كسبب محطم لقيود التشدد والتَزّمت الواقعة تحت نيرها منى الموهوبة بالغناء.

يُثبت المخرج محمد كردفاني بباكورة افلامه الطويلة وهو القادم الى السينما من عالم الهندسة دون ان يمر بدراسة اكاديمية تقليدية للفن السينمائي ان الموهبة الذكية وصقلها بالواقع العملي هي جواز المرور لتقديم نتاجات فنية جديرة بالتقدير، وإن احدى اكبر ازمات السينما لدينا في العالم العربي كمنتج هي الالتهام الاكاديمي والتنظير السطحي لأشباه المواهب. فأدارته الواعية للممثلين مثلًا سمحت للمشاهد ان يرى كيف استطاعت وجوه جديدة تؤدي ادوار رئيسية مثل ايمان يوسف وسيران رياك الاندماج بشخصياتهما والعثور على المخبوء من الجانب الاخر لمنى وجوليا وعرضه بصدق تمثيلي على الشاشة، ناهيك عن جودة ممثلي بقية الادوار.

بين جوليا ومنى آصرة وطن وشعور انتماء ولمحة من انسانية مفقودة تأسست على كذب واعي نجح في العبور الى صدق العواطف بلحظة اصبح الفراق فيها حتمي ليكون (وداعًا جوليا) لقطة فوتوغرافية ساكنة بوجدان امة في فاصل تاريخي.

 

المدى العراقية في

29.02.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004