ملفات خاصة

 
 
 

مهرجان الإسماعيلية الدولي يحتفل باليوبيل الفضي: إهداء لأبطال غزة

وائل سعيد

الإسماعيلية السينمائي

الدورة الخامسة والعشرين

   
 
 
 
 
 
 

يعتبر مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة واحدًا من أقدم وأهم المهرجانات النوعية السينمائية في المنطقة العربية. وقد تعرض منذ نشأته أوائل التسعينيات إلى التوقف أكثر من مرة وتنقلت مسؤولية تنظيمه من جهة إلى أخرى، رغم ذلك ظل محافظًا على مكانته الدولية وهو ما يمكن تلمسه من أعداد الأفلام المشاركة التي تزداد عامًا بعد عام. على مدار أسبوع، احتفل المهرجان بنسخته الخامسة والعشرين والتي دارت فعاليتها في الفترة من 28 فبراير/ شباط وحتى الخامس من مارس/ آذار الجاري.

احتوى برنامج اليوبيل الفضي على عدد كبير من الأنشطة والفعاليات والبرامج الموازية من بينها الاحتفال بمئوية ميلاد المخرج عبد القادر التلمساني، أحد رواد السينما التسجيلية في مصر، وعرض بعض أفلامه بعد أن قام المركز القومي للسينما بترميمها. هذا بالإضافة إلى تكريم ثلاثة أسماء من مصر وفلسطين وأميركا: الممثلة سلوى محمد علي، المخرج مهدي فليفل وصانع الأفلام ستيف جيمس مع عرض مجموعة من أفلامهم. وكما هي العادة استقبل قصر ثقافة الإسماعيلية حفل الافتتاح، أما حفل الختام فقد ألغي هذا العام مكتفين بعقد مؤتمر صحافي لإعلان النتائج وتسليم الجوائز، "ترشيدًا للنفقات"، كما أعلن المركز الصحافي للمهرجان.

لم يكن الأمر بالسهل أمام لجان الفرز والمشاهدة التي كنت أحد أعضائها، حيث بلغت حصيلة الأفلام المقدمة للمشاركة ما يفوق 1200 فيلم من مختلف الدول العربية والأجنبية، احتل قسم الروائي القصير المركز الأول من حيث عدد المشاركات، وفي المركز الثاني جاء التسجيلي القصير، فيما احتل قسمًا التسجيلي الطويل وأفلام الطلبة المركز الثالث، وجاء قسم التحريك في المركز الأخير ليكون ناتج التصفيات النهائية 125 فيلمصا تمثل أكثر من 60 دولة تم اختيارها للتنافس على الجوائز الست للمهرجان.

جنة السينما

تخضع آليات اختيار الأفلام المنافسة إلى عدد من المعايير، لعل من أهمها تصويتات لجان الفرز والمشاهدة حيث يتم جمع نقاط كل فيلم وبعد ذلك تُجرى مجموعة من التصفيات والترشيح. خلال هذه الرحلة تظهر بعض الأفلام لم تلحق بركب التنافس لكنها تحمل من الجمالية ما يؤهلها للعرض على الشاشة وهو المطلوب في نهاية الأمر. لذلك كان من الصعب التضحية بكم كبير من الأفلام أو استبعادها لعدم تناغمها وبرنامج الفعالية، وذلك بجانب "ظروف الإنتاج والتوزيع الجغرافي"، كما يقول الناقد رامي المتولي، المدير الفني للمهرجان، من هنا ترجع أهمية قسم "الحنين إلى البكر"، أحد الأقسام المستحدثة هذا العام ضمن برنامج اليوبيل الفضي، ويُقدم أربعة أفلام متنوعة الأساليب لكنها مجتمعة على حب السينما وسحرها الذي لا يُقاوم عند جماهير غفيرة، سواء من صناعها أو من مُشاهديها.

"السينما ولا شيء سواها" فيلم من ليبيا للمخرج سعد العشة وفيه يقوم العشة بإجراء عدد من المقابلات مع صناع الأفلام، للحديث عن ماضيها وحاضرها بغرض استشراف المستقبل لهاوي سينما ربما جاء في الوقت الخطأ أو بعد فوات الأوان، ويمزج المخرج في فيلمه بين الريبورتاج المرئي والتوثيق فيما يشبه التحقيق المصور. وفي فيلم "سينما الدنيا" يتناول المخرج السوري عمرو علي تيمة مشابهة في تتبع قيام وانهيار إحدى السينمات القديمة بمدينة دمشق. في حين يأتي الفيلم الثالث من مصر بعنوان "سينما مسرة" أحد أشهر السينمات قديمًا بحي شبرا، وفيه تتبع المخرجة الشابة ستيفاني أمين سيرة عائلتها مع السينما حيث كان جدها أحد ملاك هذه السينما التي تحولت بمرور الوقت إلى مول تجاري كبير.  

أما الفيلم الأخير من إخراج الأميركي ستيف جيمس بعنوان "جنة البكر 2005" ويتناول من خلاله رحلة إلى جزيرة "فيجي" الواقعة جنوب المحيط الهادي، قام بها قديمًا مخرج الأفلام المستقل جون بيرسون بصحبة أسرته الصغيرة للمكوث في الجزيرة لمدة عام واحد وذلك لإدارة أبعد دار عرض سينمائي في العالم، وإتاحة عروض الأفلام المجانية لسكان الجزيرة. اهتم الفيلم بشكل أكبر بالصورة الحياتية لعائلة بيرسون وتعاملهم اليومي مع سكان الجزيرة الذي لم يخلُ من المخاطر؛ حيث تعرضت الأسرة للسرقة ذات مرة أثناء أحد العروض، ولا يغفل الفيلم أيضًا الإشارة إلى سحر السينما وترجمتها البصرية خصوصًا مع نماذج من دول العالم الثالث.

"لم يكن الأمر بالسهل أمام لجان الفرز والمشاهدة التي كنت أحد أعضائها، حيث بلغت حصيلة الأفلام المقدمة للمشاركة ما يفوق 1200 فيلم من مختلف الدول العربية والأجنبية"

نساء ورجال

يجتهد فريق البرمجة للمهرجان في تنويع برنامجه السنوي ليشمل كافة الاتجاهات الفنية أو غالبيتها على أقل تقدير، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في برنامج هذا العام الذي شكلت أفلامه مجموعة من المواضيع المتصلة المنفصلة، ربما يأتي في مقدمتها الحضور الملحوظ للعنصر النسائي وتمثلاته على مجمل أقسام التنافس أو البرامج الموازية، ولعل خير دليل على ذلك فوز الفيلم الفرنسي "الإله امرأة" بجائزة الاتحاد الدولي للنقاد "فيبرسي" للمخرج السويسري أندريس بيرو، وذلك لـ "تسليطه الضوء على المجتمع الأمومي والدفاع عن الهويات ومواجهة الممارسات الكولونيالية" كما ورد في حيثيات لجنة التحكيم.

الفيلم هو التجربة الأولى لمخرجه في مجال التسجيلي الطويل، عرض العام الماضي ضمن أسبوع النقاد بمهرجان فينيسيا. ويذهب بنا إلى مدينة بنما جنوب أميركا اللاتينية لينقل قصة شعب "الكونا"، حيث النساء مقدسات وفق معتقد المجتمعات الأمومية التي ترفع من شأن المرأة بما يتعارض مع غالبية المجتمعات البطريركية حيث السيادة للرجل. يُكمل بيرو في فيلمه ما بدأه المخرج الفرنسي دومينيك جايسو منتصف السبعينيات، حين اتجه إلى نفس المدينة بصحبة زوجته وابنته لتوثيق حياة شعبها، إلا أن البنك الممول للمشروع قام بمصادرة ما تم تصويره في النهاية ليبقى حبيسا لنصف قرن تقريبًا. خلال هذه الفترة تناقلت الأجيال حكاية – فيلمهم- وبمرور الوقت تحولت إلى ما يشبه أسطورة ينتظر الجميع تحقيقها.  

فيلم آخر من تشيلي يحصد المركز الثاني في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة بعنوان "مالكوريدس" باكورة أعمال المخرجة الشابة تانا جيلبرت. وفيه تطرح جيلبرت معاناة بعض الأمهات من سجينات إصلاحية بتشيلي وتحديدًا من يقضين فترات عقوبة طويلة، في حين يكبر الأبناء بعيدًا عنهن في الخارج، حينئذ يجدن بعضا من العزاء في مشاركة قصصهن مع شريكات السجن وهو ما يمثل قوة دفاع حقيقية وشكلًا من أشكال مقاومة انهيار الأسر.

في سياق مشابه، نتابع الفيلم الكرواتي "الصور العائلية" للمخرجة ليا فيداكوفيتش، الذي حصل على المركز الأول في مسابقة أفلام التحريك. تدور أحداثه في إطار من الكوميديا السوداء حول تفكك العلاقات الأسرية من خلال أب وابنته يعيشان حياة هادئة حتى يتفاجأ ذات يوم بعودة الابن الغائب في صحبة عائلته الجديدة، ما يقلب حياتهما رأسًا على عقب. 

وفي مسابقة أفلام الطلبة نتابع فيلم "أحمر" الحاصل على المركز الأول للمخرجة جميلة ويفي، ابنة الناقد السينمائي الراحل محسن ويفي، وهو من الأسماء البارزة في تاريخ السينما المصرية لذلك لم يكن من المغالاة أن تُهديه فيلمها: "إلي أبي... الذي رحل بعيدا وما زالت روحه تنير لنا الطريق"، استطاعت جميلة في فيلمها الذي لا يتجاوز ربع ساعة تحقيق نسبة كبيرة من المثل الشائع "ابن الوز عوام".

الفيلم مستوحى من قصة قصيرة للكاتبة هناء عطية، وقد نجحت المخرجة في المزج بين سمات القصة والسينما من خلال لحظة عابرة في حياة طبيبة شابة، تعاني من وطأة سلطة زوجها المضافة لسلطة المجتمع حتى ولو في صورة بسيطة كاقتحام خصوصيتها من الممرضة؛ فهي مجبرة على عدم ارتداء ملابس بعينها سبق أن رفضها الزوج، الذي يلاحقها بالمكالمات التليفونية مرة بعد مرة ليراجع معها الترتيبات اللازمة لزيارة أمه الأسبوعية، ونلاحظ أن الزوج لم يظهر سوى بصوته فقط وهو ما يحوله إلى مجموعة من الأوامر والنواهي وليس شريكا يمكن العيش معه.

"أعرب المخرج مجدي العمري في كلمة تسلم الجائزة عن خجله بالشعور بأي فرح لفوز فيلمه أمام ما يحدث من إراقة مستمرة لدماء الأبرياء، مهديًا جائزته لهؤلاء الأشخاص، وهو ما أكد عليه رئيس المهرجان الناقد عصام زكريا في حفل الافتتاح: "هذه الدورة مهداة إلى هؤلاء الأبطال الحقيقيين، الذين يقاتلون من أجل الإنسان... تحيا غزة""

تمثل بطلة الفيلم نسبة كبيرة من النساء خصوصًا في مجتمعاتنا العربية حيث السلطة الأبوية الشاملة تسيطر على كافة أمورهن الحياتية، حتى أن مجرد تدخين سيجارة بالنسبة لبعض النساء يتطلب التخفي عن أعين الجميع، وهو ما تقوم به الطبيبة حتى بعد انصراف الممرضة واختلائها بنفسها في العيادة، تلجأ إلى المرحاض بترقب وخوف لتدخين سيجارتها ورغم ذلك ورغم انتهاء مواعيد العمل في العيادة يتم اقتحامها عن طريق "كشف مستعجل" لعروس جديد - أو ضحية أخرى- جاءت كالمقبوض عليها في صحبة زوجها وحماتها للتأكد من عفتها؛ التي باتت موضع شك واتهام لمجرد اختلاف بيولوجي في غشاء بكارتها جعله من النوع المطاطي غير قادر على تكوين دماء البراءة.

سينما بلا حدود

غلبت الموضوعات الإنسانية على عدد كبير من الأفلام، وكان للقارة السمراء أفريقيا نصيب ملحوظ ومميز من هذه الأعمال، لذلك لم يكن من الغريب أن تذهب الجائزة الأولى في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة إلى فيلم "حياة ذهبية" من بوركينا فاسو للمخرج بوباكار سانجار. يطرح الفيلم معاناة عمالة الأطفال في مناجم الذهب، هؤلاء الذين يقومون بالحفر على عمق يزيد عن مائة متر تحت الأرض، أمام ذلك ليس أمامهم سوى المغامرة اليومية لكسب العيش؛ إلا أن المغامرة هنا محفوفة بقدر كبير من المخاطر وأي خطأ غير مقصود قد يكلف المرء حياته نفسها، فالبريق الحقيقي هنا للحياة وليس للمعة الذهب.

بطل آخر من أفريقيا يعيش كلاجئ في مصر نتابع قصته في الفيلم المصري "عيسى... أعدك بالجنة" الحائز على المركز الثاني في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة من إخراج مراد مصطفى. عرض الفيلم لأول مرة ضمن أسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي في العام الماضي ليكلل في نهاية الدورة 76 بجائزة "رايل الذهبية" لأفضل فيلم قصير، منذ ذلك الحين وحتى الآن اشترك الفيلم في عدد كبير من المهرجانات الدولية قارب على المائة حاصدا عشرات الجوائز وعلى رأسها الإخراج والتأليف، إلا أن الجمهور المصري أو المعنيين بالسينما في مصر لم تتح لهم رؤية الفيلم حتى تم عرضه بمهرجان الإسماعيلية، خصوصًا وقد تم الإعلان سابقًا أكثر من مرة عن عرض الفيلم في مصر من خلال مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان القاهرة للفيلم القصير، الأمر الذي لم يتحقق لسببين: إلغاء دورة الأول تضامنًا مع حرب غزة، وعدم موافقة الرقابة على إعطاء تصريح بالعرض للمهرجان الثاني.

الفيلم هو الرابع في مسيرة المخرج الشاب، وفيه يُكمل مراد مشروع الحكي عن غير المصريين من الأفارقة، كما سبق أن صرح في أكثر من حوار، فهو ابن لحي شعبي من أحياء القاهرة يعيش وسط عدد كبير من اللاجئين أو المهاجرين من السودان وغيرها، لذلك كان من الواجب البحث عن أبطال مغايرين. وهو ما ينسجه برهافة في قصة عيسى المراهق السوداني الذي يقدم صورة مغايرة لصور الهجرة المعهودة؛ فالبطل يضحى حين لا يستطيع تدبير نفقات هجرته وحبيبته المصرية وابنتهما الوليدة ويقدمهما على نفسه لخوض هذه الهجرة علهما يجدا الخلاص بالعيش في ظروف أفضل.

أما جائزة أفضل فيلم روائي قصير، فذهبت لفلسطين عن فيلم "مار ماما" للمخرج مجدي العمري الذي يُهدي فيلمه... "إلى الأطفال وأهاليهم". يبدأ الفيلم بمشهد نرى من خلاله المدينة من وراء الحديد المتقاطع للنافذة، وحين تتجول الكاميرا في لقطة نصف دائرية؛ نتبين التفاصيل الشاحبة للشقة وتكرار النوافذ المسيجة وهو ما يؤكد حالة السجن التي يعيشها أب في الأربعين من عمره بصحبة ابنته الصغيرة بعد مصرع أمها على أيدي جنود الاحتلال الاسرائيلي. يحاول الأب عبثًا طمأنة الصغيرة كلما فزعت من صوت القصف والرصاص في الخارج، يعدها بالحماية وبأنه لن يسمح لأحد بأذيتها، إلا أن الصغيرة تندهش ببراءة وتسأله "ولماذا لم تحمِ أمي"؟

أجاد المخرج في تجسيد حالة التوتر والقلق في البيت من خلال لقطات سريعة وتفاصيل صغيرة نجحت في تصاعد وتيرة الموقف حتى تم الهجوم من بعض جنود الاحتلال، حينها تصدم الصغيرة مباشرة بعجز أبيها عن حمايتها فتلجأ إلى تمثالها الصغير للقديس المحارب "مار جرجس" وهو ما رأته كثيرا يصرع التنين من أعلى صهوة جواده، إلا أن الطفلة قامت باستبدال القديس بأمها الميتة لتجعلها "مار ماما". يدين الفيلم وحشية الصراع الصهيوني مع الأهالي العزل في ظل عدم التكافؤ البين بين الطرفين، ما يجعل هؤلاء الأهالي وبنيهم ضحية لهذا العدوان، وهو ما تفاقم عقب الأحداث الأخيرة في قطاع غزة، من هنا أعرب المخرج في كلمة تسلم الجائزة عن خجله بالشعور بأي فرح أو سعادة لفوز فيلمه أمام ما يحدث من إراقة مستمرة لدماء الأبرياء، مهديًا جائزته لهؤلاء الأشخاص، وهو ما أكد عليه رئيس المهرجان الناقد عصام زكريا في حفل الافتتاح: "هذه الدورة مهداة إلى هؤلاء الأبطال الحقيقيين، الذين يقاتلون من أجل الإنسان... تحيا غزة".

 

ضفة ثالثة اللندنية في

13.03.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004