ملفات خاصة

 
 
 

في “وراء الجبل”محمد بن عطية “لم يحلّق” عاليًا

شفيق طبارة

البحر الأحمر السينمائي الدولي

الدورة الثالثة

   
 
 
 
 
 
 

يمكن لقصّة رجل قادر أو غير قادر على الطيران، أن يُبنى عليها الكثير، خصوصًا إذا كانت خارجة من بين يدي مخرج يعرف ما يريد من سينماه، لكنها أيضًا يمكن أن تكون مجرد فكرة مثيرة، لا تطير إلى أي مكان؛ وإن طارت قليلًا، تهبط في اللامكان، تمامًا كما حدث مع “وراء الجبل” لمحمد بن عطية (1976).

تعرّفنا إلى المخرج التونسي من خلال باكورته الطويلة “نحبك هادي” التي شاركت في “مهرجان برلين” عام 2016، وحصدت جائزة أفضل عمل أول، وممثله مجد مستوري نال جائزة “الدب الذهبي” لأفضل ممثل. أما فيلمه الثاني “ولدي” (2018)، فقد شارك في تظاهرة “أسبوعي المخرجين” ضمن “مهرجان كان”.

جديده “وراء الجبل” (2023) شارك في مهرجان فينيسيا، وها هو اليوم يشارك في “مهرجان البحر الأحمر السينمائي” المقام حاليًا في جدة. هكذا، يعود بن عطية بقصة تتماهى فيها الحدود بين المعلوم والمجهول، لا نعرف إن كانت واقعًا أو خيالًا. يعرف عطية كيف يبتكر شخصيات غامضة ذات رغبات جامحة، عادةً ما تنتفض ضد الأعراف والقيود المجتمعية. نرى هذه الشخصيات في فيلمه الجديد، لكنه لم يصل بها إلى أي مكان، وأوقع نفسه وأوقعها معه في دوامة لا فكاك منها.

رفيق (مجد مستورة)، رجل غامض، ذو روح متمردة ولكن رقيقة وساذجة، يغادر السجن بعدما أمضى عقوبةً لمدة أربع سنوات، بسبب تدميره المكاتب التي يعمل فيها وإلقاء نفسه من الشباك، نتيجة نوبة لا يمكن تفسيرها على ما يبدو. بمجرد خروجه، لا يفكر سوى بالعثور على زوجته وابنه ياسين (وليد يوشيوة) ليأخذهما بعيدًا، ويُطلعهما على سرّه: إنّه قادر على الطيران! بعدما لم تصدّقه زوجته، يتوجه إلى مدرسة ابنه ويأخذه بالقوة في رحلة يائسة نحو الجبال. هناك يلتقيان براعي أغنام (سامر بشارات) يصرّ على الذهاب معهما، ولكن ملاحقة الشرطة لرفيق تجبره على التسلل إلى منزل، ليزرع الذعر بين أفراده المحصّنين داخله.

وراء الجبل فيلم بدون قافية ولا سبب، لا يقدم بن عطية لا لنفسه ولا لمشاهديه تفاسير سهلة، هو عودنا على ذلك في أفلامه السابقةـ ولكن الجمود الذي يحيط بالقصة وبطء تدفق الأحداث في النصف الثاني من الفيلم يجعلاننا نتساءل: ما هو السبب الكامن وراء أفعال الشخصيات؟ والأهم ما هو السبب الذي يجعل بن عطية يقدم فيلمه بهذه الطريقة؟

جاء العمل مخيبًا للآمال، بل لعله أسوأ أفلامه حتى الآن، إذ حاول المزج بين الفانتازيا والإثارة النفسية لكنه خرج خالي الوفاض من الاثنين. مزيج من أشياء كثيرة عملت ضده تقريبًا: التحرر والحرية، الانفصال عن المؤسسات الاجتماعية، أو ببساطة الهروب من الناس، من المجتمع، والتواري خلف الجبال، كلها أفكار جعلت فيلم عطية يقبع مكانه، بلا حراك ولا طيران.

بدأ بن عطية فيلمه بطريقة ممتازة، فجعلنا مشدودين إلى القصة، ومترقّبين لما سيحدث. ولكن حالما وصل وابنه إلى الجبال، وقع في دوّامة الملل والفراغ، وفقد كل جاذبيته. عندما دخل رفيق مع الراعي وابنه إلى بيت العائلة، تحول الفيلم إلى نوع من الإثارة النفسية التي لا يدرك بن عطية مفاتيحها على ما يبدو.

سجن شخصياته في بيت، وسجننا معها بلا سبب، وبدأ باللفّ والدوران حول نفسه والفيلم، مما أعطى شعورًا بأنّه لا يدري كيفية الخروج من البيت أو المشكلة التي أوقع نفسه وفيلمه فيها، أو حتى كيفية إنهاء فيلمه. “وراء الجبل” ملبّد بالمشاعر، حتى إنّ الغضب والعنف غير مقنعين، والقدرة على الطيران تبدو عديمة الفائدة في مواجهة الواقع الذي يجبر البطل على التصرّف كشرير، كأن الشخصية الرئيسية كُتبت بطريقة متهورة وبلا مبالاة، فـ”ثورة” رفيق ليست مصقولة لتحلّق بالفكرة عاليًا، بل هي غريزية وغير مبررة.

ليس لدى الفيلم الكثير ليبدأ منه، كأن بن عطية استنفد كل أفكاره وموهبته السينمائية في الدقائق الـ15 الأولى من الفيلم، والباقي يتلخّص في محاولته جعل الفيلم يواجه الخيال بالواقع. رحلة الطيران كرمز للحرية بسيطة ومتكررة نوعًا ما، والقصة لا تمتلك القوة الثاقبة التي يستحقها موضوع من هذا النوع للخروج من السذاجة. هذا التوق إلى الحرية الذي يتم التعبير عنه من خلال الرغبة في الهروب (الطيران)، الرمز الأساسي لهذه الفكرة، لا يصل إلى الهدف تمامًا، مما يتركنا في حيرة شديدة بشأن ما نشاهده، ومدى طول طريق الخلاص المحتمل، الذي يترك وراءه دربًا طويلًا من الملل. على الرغم من حبّ بن عطية للفانتازيا، إلا أن فيلمه يبقى على المستوى الأساسي من الواقع، في قصة لا تصل أبدًا إلى جوهر الموضوع.

سينما تحاول أن تصبح رؤية، ولكنها تبقى مجرد فكرة فارغة.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

02.12.2023

 
 
 
 
 

خاص «سيدتي»:

تفاصيل المؤتمر الصحفي لجمعية الأفلام المهنية ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي

سيدتي - عمرو جمال

أعده للنشر: حاتم سعيد حسن

انطلق اليوم المؤتمر الصحفي لجمعية الأفلام المهنية، ضمن فعاليات الدورة الثالثة لـ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.. وحرص على الحضور عددٌ كبير من صُناع السينما في الوطن العربي والعالم.

وحرصت «سيدتي» على حضور المؤتمر الصحفي؛ لنقل كافة التفاصيل؛ حيث تكلم خلال المؤتمر عبدالعزيز المزيني عضو مجلس إدارة جمعية الأفلام ومؤسس شركة ميركوت وشركة سرب للإنتاج؛ قائلاً إنه يرى أن السينما السعودية مازالت تفتقر لبعض الأساسيات التي يراها بالسينما العالمية، ويتوقع أن يكون للجمعية دور في تأسيس القوانين والتشريعات التي تحمي صُناع السينما في السعودية.

وأضاف "المزيني" خلال حديثه بالمؤتمر الصحفي، أن الجمعية سيكون لها دورٌ في حماية المنتجين، بالتنسيق مع العديد من الجهات مثل: وزارة الثقافة السعودية، وأن الجمعية في خطواتها الأولى، ولكنهم مستمرون بالعمل لتطوير صناعة السينما.

الفنان السعودي عبد الله السدحان يحرص على حضور المؤتمر الصحفي لجمعية الأفلام المهنية

كما كان من أبرز الحضور بالمؤتمر الصحفي، الفنان السعودي عبد الله السدحان، والذي تم تكريمه بدورة هذا العام بمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وقال خلال المؤتمر الصحفي، إنه سعيد بهذا التجمع الكبير والحوار الرائع من الجميع، وأضاف، أن هُناك نقطة هامة تم تناولها، وهي الاهتمام بالمشاركين أو الفنانين بمعنى أدق، والقائمين على صناعة السينما والفن بشكل عام من الناحية الصحية وغيرها.

وأوضح الفنان عبد الله السدحان، أنه بالنسبة إليه، أهم شيء هو المواهب والتمويل والحماية، وأن ما تم نقاشه وتناوله بتلك الأمور، شيء هام ورائع، ويعتقد أنه سيأخذ وقتاً وزمناً لتحقيق ما نطمح إليه؛ متمنياً للمسئولين عن الجمعية وصناعة السينما التوفيق.

كما تحدثت خلال المؤتمر الصحفي، الكاتبة والمخرجة هناء العمير عضو مجلس إدارة جمعية الأفلام وعضو لجنة تحكيم الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي؛ قائلة.. إن الاهتمام بصناعة السينما هو شيء يهم العاملين بقطاع صناعة السينما، ومن دونها لن ينمو هذا القطاع ولن يتطور؛ فهي نقطة أساسية؛ فهي مسألة شخصية بصفتي واحدة من صُناع الأعمال الفنية وعامة أيضاً، ولذلك تأتي تلك الجمعية، نشأتها شيء أساسي ووجودها ضروري؛ حيث إن الدَور الذي تقدّمه موجود بجميع الدول التي نمت فيها صناعة السينما والأعمال الفنية؛ فكان لا بد من وجود نقابات وجمعيات تعمل على حقوق العاملين في المجال، وبهذا الشكل استطاعت تلك الدول التطور في المجال الفني، وذلك ما نسعى إليه.

الفنان السعودي عبد المحسن النمر: نحن بحاجة لوجود تلك الجمعية لدعم الفنانين وحقوقهم

كما شهد المؤتمر الصحفي محاورة بين الفنان براء عالم، والفنان السعودي عبد المحسن النمر عضو مجلس إدارة جمعية الأفلام، ووجه الفنان براء عالم السؤال للفنان عبد المحسن النمر، عن الدَور الذي ينتظره من وجود جمعية الأفلام المهنية وتحقيق أهدافها، بصفته واحداً من كبار الفنانين والعاملين بمجال صناعة السينما والأعمال الفنية.

وقال الفنان عبد المحسن النمر، إنه يرى من أساسيات وجوده وانضمامه لتلك المجموعة من الفنانين وصُناع المجال الفني في المؤتمر الصحفي، أنه يرى أن الممتهن للعمل الفني، تنقصه الكثير من الضمانات على مستوى العمل ومستوى المستقبل؛ مضيفاً، أننا نرى الفنانين في بداية مشوارهم الفني يمتلكون كل شيء؛ حتى يصل لنقطة معينة، يجد نفسه فاقداً لكل الضمانات الاجتماعية والصحية وحتى حقوقه كمنتمٍ لتلك المهنة.

وأوضح الفنان عبد المحسن النمر، أنه يعتقد أننا بحاجة لوجود تلك الجمعية؛ حيث إن أبسط الحقوق للفنان حيث لا يوجد للفنان أيّة ضمانات له في حالة العجز أو حتى أثناء ممارسته للمهنة؛ فهو يحتاج إلى رعاية، ويعتقد أن الجمعية وُجدت لهذا الهدف، بالإضافة إلى خلق مساحة للعضو لكي يطالب باحتياجاته، ومنها: أن يتم إنشاء بعض التفاصيل من خلال إيضاح بعض القواعد لانطلاق الجمعية بشكل رسمي.

كما تحدث في المؤتمر الصحفي أيضاً، الممثل والمنتج مشعل بن هاجد المطيري رئيس مجلس إدارة جمعية الأفلام، والذي بدأ كلمته بتوجيه الشكر للحضور، وموضحاً أن الفكرة بسيطة، وهي إنشاء الجمعية بمبادرة من وزارة الثقافة السعودية، وتم اختيار الأعضاء لقناعة بأن تلك الأسماء ستساهم في بداية الجمعية؛ موضحاً أن الجمعية تتبع المركز الوطني للقطاع غير الربحي، والجمعية العمومية بها هي السلطة الأساسية، من خلال الدورة القادمة، توجد انتخابات لاختيار مجلس الإدارة ورئيس مجلس الإدارة؛ فبهذا الشكل تقوم الجمعية بشكل حقيقي بتمثيل صُناع المجال الفني والسينما.

مضيفاً، أنهم بتلك الفترة وجودهم فقط للعبور من تلك المرحلة، وتقديم الجمعية للقطاع، وعقب ذلك هي الخطوة الأهم وهي انتساب الأعضاء وصناع السينما والمجال الفني؛ بحيث يكونون تحت سقف واحد لتصل أصواتهم، وأوضح الفنان مشعل بن هاجد، أنه يعتقد أن وزارة الثقافة معنية كثيراً بسماع المعوقات والتحديات التي توجد في القطاع الفني، وبأن كثيراً من الزملاء قديماً التقوا بسمو وزير الثقافة، وتحدثوا معه بشكل شخصي، ولكننا نُريد أن تكون تلك الجمعية هي صوت القطاع أمام كل الجهات؛ حتى نستطيع حل كافة التحديات، ونقضي على كل ما يواجه صُناع العمل الفني من معوقات؛ مؤكداً أن الطموحات كبيرة، ونحتاج في البداية لكل العاملين بالقطاع، وبكل التوجهات؛ ليكون عضواً في الجمعية فعالاً وصوته مسموع؛ لكي نعرف المشاكل التي تواجه القطاع؛ فالجمعية تضم الجميع، من كتاب ومخرجين وممثلين والمنتجين ومصممي الأزياء ومؤلفي الموسيقى، كل العاملين في القطاع الفني، نتمنى أن يكونوا أعضاء في الجمعية، والتي من خلالها يوجد لجان تمثل كل مجال فني؛ ليعبّروا عن مشاكلهم حتى نستطيع حلها؛ فالجمعية من دون أعضاء، لن يكون لها أيّة فائدة؛ حتى نعمل جميعاً لحل المشاكل، ونكون ممثلين للعاملين في القطاع الفني، ونحن في البداية، وهذا دورنا ووقتنا لنساهم في النهضة السينمائية.

كما شهد المؤتمر الصحفي حواراً ثرياً، جمع بين العديد من صُناع السينما والعمل الفني في المملكة العربية السعودية والوطن العربي، وتحدث عددٌ كبير، من ضمنهم: الكاتب والمخرج السينمائي توفيق الزايدي عضو مؤسس في جمعية الأفلام المهنية، والذي أكد خلال حديثه، أن أكثر نقطة يهتم بها، هي المواهب؛ حيث إن المملكة العربية السعودية تمتلك العديد من المواهب، ولكنها تحتاج فقط إلى مظلة تجمع تلك المواهب في طريق واحد، ويتوقع أن تقدم الجمعية الدعم للعديد من المواهب في مختلف المجالات الفنية، وأن هناك العديد من الأمور التي يراها خارج حدود الموهبة مثل: التأمين والحقوق المادية والحدود القانونية مثل أيّة نقابة في العالم؛ فهو يتوقع بكل تأكيد، أن هذه الجمعية ستقدم لهم هذا الصوت؛ مما يجعل الموهوبين يركزون في إبداعهم أكثر، كما تحدّث خلال المؤتمر الصحفي، الرئيس التنفيذي لتلفاز 11 علاء فادن عضو مؤسس في جمعية الأفلام المهنية.

يُذكر أن وزارة الثقافة السعودية أطلقت اليوم الأحد، «جمعية الأفلام»، التي تهدف إلى زيادة قاعدة العضوية لها والانضمام إلى الجمعيات الدولية، وتطوير قواعد الممارسة في قطاع الأفلام، وتقدير المواهب داخل قطاع الأفلام، والارتقاء بمستقبل المهنيين، من خلال توفير التعليم والتدريب وتعزيز شبكات التواصل، والتأثير على التشريعات والسياسات التي تعكس مصلحة قطاع الأفلام، وتطوير الحملات التوعوية والفعاليات؛ لزيادة الوعي العام بأهمية القطاع الثقافي.

وجاء تدشين الجمعية خلال مؤتمر صحفي في جلسة مصاحبة لفعاليات «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة؛ حيث تتمثل رؤية الجمعية في دعم وتطوير قطاع الأفلام والفنون التصويرية، والارتقاء بمعاييره وممارساته وتمثيل العاملين فيه، بالإضافة إلى صناعة بيئة رائدة تمكن مهنيي الأفلام والفنون التصويرية، عبْر توفير المعارف والأدوات، وتقديم البرامج التدريبية، وتنظيم الفعاليات المتنوعة؛ إضافة إلى مناصرتنا ومساندتنا للسياسات التي تدعم نموّ القطاع.

وتعَد جمعية الأفلام هي الجمعية المهنية الوحيدة التي تُعنى بتطوير وتمكين صناع وصناعة الأفلام في المملكة العربية السعودية، والتي تشرف عليها وزارة الثقافة، ومقرها في العاصمةالرياض، كما تهدف الجمعية إلى تقديم فرصٍ للتواصل والتعاون، ورعاية مصالح روّاد قطاع الأفلام وأهم عناصره.

 

سيدتي نت السعودية في

03.12.2023

 
 
 
 
 

"البحر الأحمر السينمائي"... عروض عالمية و36 فيلما سعوديا

برامج متنوعة ودعم للمواهب الشابة

عبد الرحمن فاروق

جدّةعلى مدار دورتين أثبت مهرجان البحر الأحمر السينمائي أنه لا يمثل حدثا عاديا في مجال صناعة السينما على المستوى العالمي، بل يمثل نبضا حيويا لها، بما تتضمّنه فئاته المختلفة من أفضل الأفلام السينمائية الطويلة والقصيرة، إلى جانب الأفلام الكلاسيكيّة، وأفلام التحريك، التي يستقطبها من جميع أرجاء العالم، وبما يوفره من فرص للمواهب والمبتدئين، باحتضانه مشاريع أفلام، وبإتاحته الفرص لصُنّاع الأفلام السعوديين والعالميين للالتقاء بمحترفي الصناعة ومُنتجيها الكبار في العالم.

تمكن مهرجان البحر الأحمر السينمائي، في ظل ما تمثله مدينة جدة ومنطقة البحر الأحمر من قيمة ثقافية مميزة ترتبط فيها الثقافات العربية والأفريقية مع ثقافات العالم، من التعبير عن هذه الرمزية الثقافية بتقديم نفسه كمنصة فريدة وراسخة للاحتفاء بمختلف أبعاد صناعة السينما في أجواء من التواصل والتنوع والتبادل الثقافي، يعززها شعار الدورة الحالية الثالثة للمهرجان "قصتك، بمهرجانك"، التي تنطلق اليوم الخميس، وتستمر لعشرة أيام في فندق "ريتز كارلتون" وصالة "فوكس سينما" في "ردسي مول".

مما يبدو واضحا، فقد عززت الإمكانات المادية والدعم اللذان يحظى بهما المهرجان من قدرته على منافسة المهرجانات السينمائية العالمية العريقة، وذلك ربما ما دفع العديد من تلك المهرجانات والمؤسسات المعنية بالسينما إلى المشاركة في الدورة الحالية، مثل: مهرجان تريبيكا للأفلام (نيويورك)، وأيام عمّان لصُنّاع الأفلام، ومهرجان البندقية السينمائي الدولي، ومؤسسة الدوحة للأفلام، إلى جانب مشاركة العديد من المؤسسات الإعلامية ومنصات إنتاج الأفلام مثل "بلومبيرغ" و"نتفليكس".

يقدّم مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثالثة برنامج "رؤى البحر الأحمر"، الذي صُمم ليكون منبرا لعرض الأفلام التي تَطرح رؤية سينمائية جديدة من الإخراج الإبداعي في السينما العربية والعالمية

عروض الأفلام

قسم منظمو مهرجان البحر الأحمر السينمائي عروض الأفلام برامج وتصنيفات عدة، تتيح للزوار الاستمتاع بالعروض وفقا لأذواقهم المتنوعة، وبما يلبي شغفهم الخاص بالسينما.

يقدم مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثالثة برنامج "رؤى البحر الأحمر"، الذي صُمم ليكون منبرا لعرض الأفلام التي تَطرح رؤية سينمائية جديدة من الإخراج الإبداعي في السينما العربية والعالمية. ستة أفلام جديدة يعرضها على شاشات المهرجان، من ضمنها العرض العالمي الأول للفيلم الوثائقي "جمال العراق الخفي"، وفيلم "في ظلال بيروت"، الذي رشحته أيرلندا لتمثيلها في حفل جوائز الأوسكار، كما سيقدم المهرجان برنامج "مسلسلات البحر الأحمر" الذي سيطرح أربعة من أهم المسلسلات العالمية لمشاهدتها على الشاشة الصغيرة، من بينها العرض العالمي الأول للمسلسل الوثائقي "مأكولات جنوب أفريقيا"، والمسلسل الكوري "الصفقة"، ومسلسل "الممثّل"، وسيقدم المهرجان كذلك باقة متنوعة من الأفلام العائلية ضمن برنامج "السينما العائلية"، وهو برنامج يسعى إلى إشراك جماهير الجيل الناشئ وتحفيز مخيلاتهم، مما يُعدّ استثمارا في رواد سينما المستقبل، وذلك من خلال خمسة أفلام، من ضمنها فيلم "بعد انتظار الأمطار" في عرضه العالمي الأول، وفيلم "سليم" في عرضه الأول عربيا، وفيلم الرسوم المتحركة، "ثلاثة ماعز كونغبو الصغيرة".

وتتضمّن تصنيفات العروض في المهرجان كذلك برنامج "اختيارات عالمية"، الذي يسلّط النور على بعض الأفلام التي لاقت استحسان النقاد وحققت نجاحا تجاريا لهذا العام، وتتضمن القائمة المختارة مجموعة من المخرجين والممثلين الحاصلين على جوائز، منهم آنا كندريك وفيلمها "امرأة الساعة"، وديفيد أويلوو، منتج فيلم "جميعنا معا: قصّة دالكورد"، والممثلة إلين بورستين والممثل إيوان ماكغريغور في فيلم "أريكة الأمّ"، ويترافق ذلك مع برنامج "كنوز البحر الأحمر"، الذي سيضم أيضا مجموعة من الأفلام المختارة لكنها ستخصص لروائع الأفلام الكلاسيكية التي ألهمت أجيالا من صُنّاع الأفلام، من ضمنها نسخ رمّمت حديثا. فقد أثمر اتفاق تعاون بين مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي والشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي عن ترميم فيلمين هما: "انتصار الشباب" إخراج أحمد بدرخان، بطولة فريد الأطرش وأسمهان، و"عفريت مراتي" إخراج فطين عبد الوهاب، بطولة شادية والفنان صلاح ذو الفقار.

كما يُقدم المهرجان فئة "الروائع العربية"، التي ستضم 11 فيلما تتميز جميعها بتنوع مواضيعها الملهمة وتعدد أنواعها، من بينها فيلم "وحشتيني" وهو أول أفلام المخرج تامر رغلي، وفيلم التشويق الكوميدي "ناقة"، وفيلم "أحلام العصر". 

مسابقة البحر الأحمر وجوائز المهرجان

تعرض "مسابقة البحر الأحمر" خلال الدورة الثالثة 17 فيلما متنوعا، منها أفلام روائية ووثائقية وأفلام التحريك من جميع أنحاء آسيا وأفريقيا والعالم العربي، حيث تقدم هذه الأفلام مواهب مبتكرة في مجال صناعة السينما والسرد القصصي، وتمنح الجوائزَ لجنةُ تحكيم دولية يرأسها المخرج باز لورمان، صاحب الفيلمين الشهيرين، "إلفيس"، و"مولان روج"، وينضم إلى لجنة التحكيم الممثل السويدي الأميركي جويل كينمان والممثلة المرشحة لجائزة "بافتا"، فريدا بينتو، والممثلة المصرية أمينة خليل، والممثلة الإسبانية باز فيغا.

ويُقدّم المهرجان جائزة اليسر الفخرية التي تكرّم شخصيات وأيقونات سينمائية بارزة ساهمت في تشكيل تاريخ السينما وتخليدها في قلوب الجماهير، وتجسّد هذه الجائزة مقدار الاحترام والتقدير اللذين يحملهما المهرجان لكل شخص ساهم في إثراء صناعة السينما من جميع أنحاء العالم.

تتضمن قائمة التكريم لهذا العام الممثل في بوليوود رانفير سينغ، والممثلة ديان كروغر، والفنان عبد الله السدحان.

يشهد المهرجان عرض فيلمين كلاسيكيين مرمّمين هما "انتصار الشباب" إخراج أحمد بدرخان، و"عفريت مراتي" إخراج فطين عبد الوهاب

عروض الأفلام القصيرة

يخصّص مهرجان البحر الأحمر برامج عدة للأفلام القصيرة، من خلال مسابقة البحر الأحمر للأفلام الدولية القصيرة، التي ستحتضن أعمال محترفي صناعة الأفلام من قارتي آسيا وأفريقيا، وستضم 14 فيلما قصيرا، في عرضها العالمي أو الإقليمي الأول، لتشكل إضافة مميزة للبرنامج السينمائي للمهرجان ضمن دورته الثالثة، ومن بين تلك الأفلام الفيلم الكازاخستاني، "أواخر الريح"، وفيلم "الانتظار" الجنوب أفريقي، والفيلم الأرميني "الساعي"، والفيلم السنغالي "الغَسَق".

الرئيس التنفيذي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، محمد التركي خلال حفل توزيع جوائز الليلة الختامية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في 08 ديسمبر 2022 في جدة، المملكة العربية السعودية.

كما يشهد المهرجان مسابقة الأفلام القصيرة، التي تضم مجموعة مختارة من الأفلام العربية القصيرة، المخصصة لرواية قصص نادرة عن حياة الناس والمدن في أنحاء العالم العربي، وستعرض المسابقة مجموعة استثنائية من 11 فيلما عربيا قصيرا، من بينها فيلم "سموكي أيز"، وفيلم "موسم"، وفيلم "المفتاح"، وفيلم "سكون".

وترأس لجنة تحكيم مسابقة البحر الأحمر للأفلام القصيرة، المخرجة والناقدة السينمائية السعودية هناء العُمير، التي أنتجت المسلسل الأصلي لــ"نتفليكس"، "وساوس"، ويشارك معها الفرنسي المغربي أسعد بو آب والمخرج السينمائي التركي فاتح أكين.

أفلام سعودية

تُعرض الأفلام السعودية المشاركة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في دورته الثالثة في إطار من التميز، يعبّر عن المدى الذي وصلت إليه صناعة الأفلام في المملكة، فالمهرجان سيفتتح عروضه بالفيلم السعودي "حوجن" للمخرج ياسر الياسري في عرضه العالمي الأول، وهو مقتبس من رواية الفانتازيا للكاتب السعودي إبراهيم عباس، وتتميز قصته بنسيج يمزج بين عناصر الخيال المستمدة من الفولكلور العربي والمواضيع المعاصرة.

يشارك في المهرجان هذا العام 36 فيلما سعوديا طويلا وقصيرا، وتُعرض الأفلام السعودية القصيرة ضمن برنامج خاص تحت مسمى "سينما السعودية الجديدة"، احتفاء بالمواهب السعودية وإبداعاتها، وتتراوح مدة الأفلام الـ 19 المختارة للمشاركة في البرنامج بين 5 دقائق و44 دقيقة، وتطرح مجموعة واسعة من المواضيع المتعلقة بمواجهة التطرف والتكيف الاجتماعي وصولا الى التغلب على الصراعات الشخصية. وقد أنتجت جميع الأفلام كوادر سعودية قامت بمعظم عمليات الإنتاج والتصوير داخل المملكة.

مع هذا العدد من المشاركات للأفلام السعودية في المهرجان، ينوه الناقد السينمائي والمسرحي رجا العتيبي في حديثه لـ"المجلة"، بأن الأفلام السعودية "لا تزال بحاجة إلى التطوير والدعم، فالفيلم السعودي بحاجة لأن يصل إلى المعايير العالمية على مستوى التمثيل، والصورة البصرية، والخدمات الإنتاجية".

بدورها، أشارت الناقدة السينمائية عهود حجازي في حديث لـ"المجلة"، إلى أن بعض الأفلام السعودية التي ستعرض في المهرجان، "تحمل طموحا عاليا ورغبة في المنافسة، مع ملاحظة تجدد الأفكار، والإبداع في التصوير، ومنح الفرصة لممثلين واعدين، ما يُبيّن أن لا يزال هناك الكثير في جعبة صنّاع الأفلام السعوديين".

القيمة الفنية للمهرجان أعطت ثقة كبيرة للمنتجين العالميين، بصدق التوجه الذي تقوده دولة فتية في مجال السينما

رعاية المواهب

يخصص مهرجان البحر الأحمر السينمائي هذا العام برامج متنوعة خاصة بتنمية المواهب ودعم المشاريع السينمائية في العالم العربي وأفريقيا خلال مراحلها المختلفة، وذلك من خلال حزمة من البرامج تقدمها مبادرة "سوق البحر الأحمر"، وستتيح البرامج عرض المزيد من الإنتاجات السينمائية الجديدة، وتشجيع المحترفين السينمائيين الدوليين على تبادل الخبرات والأفكار مع صنّاع الأفلام السعوديين والعالميين، في سلسلة من ورش العمل تحت مسمى "أيام المواهب"، بمشاركة مجموعة من المؤسسات، مثل: مهرجان تريبيكا للأفلام (نيويورك)، وأيام عمّان لصُناع الأفلام، ومهرجان البندقية السينمائي الدولي، و"نتفيلكس"، ونيوم، وصندوق البحر الأحمر، ومؤسسة الدوحة للأفلام.

ويقدم سوق البحر الأحمر وسوق المشاريع وبرنامج "عروض الأفلام قيد التطوير" فرصة لمشاهدة مجموعة مختارة من 26 فيلما روائيا لمخرجين من العالم العربي وأفريقيا، كما سُتعرض ستة مشاريع في مرحلة "قيد الإنجاز" مع لمحة عن قصصها أمام مختصين بارزين في القطاع، لتسليط الضوء عليهم ومساعدتهم في إنجازها بنجاح.

في غضون ذلك، عقدت مؤسسة البحر الأحمر السينمائية شراكة مع "فيلم العلا"، وهي وكالة سينمائية أسستها الهيئة الملكية لمحافظة العلا في مطلع عام 2020، وبموجب هذه الشراكة ستكون "فيلم العلا" راعيا استراتيجيا للمهرجان على أن تَمنح جائزتين خلال المهرجان، الأولى جائزة "الجمهور من فيلم العلا"، وستُمنح للفائز بناء على أصوات الجمهور، والثانية جائزة "فيلم العلا لأفضل فيلم سعودي".

ولكون وكالة "فيلم العلا" الشريك الاستراتيجي للمرحلة الثالثة من دورة الإنتاج الخاصة بصندوق البحر الأحمر، تقتضي هذه الشراكة تقديم منحة إنتاج لصُنّاع الأفلام الذين يخططون لتصوير مشاريعهم في محافظة العلا، وكجزء من هذا التعاون سترعى الوكالة برنامج "اللودج"، الخاص بمعامل البحر الأحمر، والمعني بتقديم منحة إقامة فنية تمتد على فترة 10 أشهر بالتعاون مع مختبر تورينو للأفلام، لاختيار 12 مشروعا من المواهب الصاعدة في عالم صناعة الأفلام، ليحظوا بفرصة الاستفادة من الموارد التعليمية الموسعة، التي تتناول أسرار صناعة الأفلام، إلى جانب الدعم المقدم من خبراء في عالم السينما.

خلال حفل توزيع جوائز الليلة الختامية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في 08 ديسمبر 2022 في جدة، المملكة العربية السعودية.

في أثناء المهرجان، يحصل صُنّاع الأفلام على مساعدة في التقديم لمنحة "صندوق سوق البحر الأحمر"، الذي يختار أحد المشاريع للحصول على منحة قدرها 200 ألف دولار، كي تدعم الفائز في بدء مشروعه. يأتي ذلك بالتزامن مع شراكة أخرى عقدتها مؤسسة البحر الأحمر السينمائية مع "نيوم"، راعية مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثالثة، وتشمل الشراكة دعم "نيوم" جميع الفعاليات الرئيسة في المهرجان، بما في ذلك مبادرة "سوق البحر الأحمر" وبرنامج "أيام المواهب".

تُعلق الناقدة السينمائية عهود حجازي على المبادرات الخاصة بدعم صناعة السينما من خلال مهرجان البحر الأحمر السينمائي بقولها إن "الاهتمام الكبير والدعم غير المحدود للمشاريع الثقافية بالمملكة، التي تتضمن إقامة المهرجانات السينمائية ومؤتمرات النقد السينمائي، لها دور مؤثر في دعم صناعة الأفلام على الصعيدين الوطني والعالمي، إذ تتيح مثل هذه المناسبات الجمع بين المهتمين في المجال الواحد، وتفسح لهم إمكان تبادل المنافع المشتركة والنهوض بمشاريعهم المرتقبة، مما ينعكس إيجابا على قطاع السينما، الذي بات فتيا بفضل الرؤى الداعمة ذات الأثر الواضح على أرض الواقع".

قيمة فنية

منذ دورته الأولى عام 2021 حدد مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي أهدافه، واضعا على عاتقه مسؤوليات عدة، أهمها وضع السينما العربية في مراكز الصدارة العالمية، وفي هذا السياق قدم المهرجان نفسه باعتباره سوقا سينمائية، وملتقى لعرض الأفلام والإنتاجات والمحتوى الفني أمام المهتمين من العاملين في صناعة السينما، وتقديم المشاريع السينمائية لهم، وبكونه منصة تسعى لإطلاق ودعم المبادرات الاستراتيجية الرامية لتطوير صناعة السينما وتسريع نموها، وبكونه أيضا مركزا ثقافيا لعرض الإبداعات السينمائية من جميع أنحاء العالم، فإلى أي مدى استطاع المهرجان، وفق هذه الرؤية، خلق مكانة له بين المهرجانات السينمائية العالمية؟ 

يقول رجا العتيبي: "عشت تفاصيل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في الموسمين الماضيين، وكنت قريبا من همومه وشجونه، فلا أحد يتخيل مقدار ما يحظى به من تقدير واحترام من الضيوف والمشاركين من مختلف دول العالم"، ويضيف: "كان الموسم الأول يمثل انطلاقة، لإعلان مهرجان قادم بقوة، وفي الموسم الثاني، بدأت الأوساط السينمائية تكتشف ملامح هذا المهرجان، من فكرته وهويته، أما في الموسم الثالث الحالي، فإن هذا الحدث سيكون له شأن وقوة تنافسية كبيران"، لافتا أن المهرجان "ولدا مستقلا، ليكون أيقونة سينمائية، واسما لامعا في عالم مليء بالزخم السينمائي، وهو كذلك فعلا، في ظل الدعم الكبير الذي يحظى به من الدولة، ومن قطاع الأعمال، وسط بيئة آمنة منظمة ومنتظمة، تقودها وزارة الثقافة والهيئات المعنية بالثقافة والفنون والقطاع الخاص"، مؤكدا أن القيمة الفنية للمهرجان "أعطت ثقة كبيرة للمنتجين العالميين، أثناء حضورهم لفعاليات مهرجان البحر الأحمر، بصدق التوجه الذي تقوده دولة فتية في مجال السينما، دولة محبة للسلام والتعايش، دولة محبة للجمال والفن".

ليختم أن المهرجان "بات بمثابة نافذة لمنتجي العالم، ومكانا تسويقيا مهما لألف موقع للتصوير السينمائي في المملكة، حيث يمكن أن تقدم هذه المواقع قيمة فنية مضافة للأفلام العالمية، ساعد على ذلك أنظمة محفزة للتصوير داخل المملكة، مثل استرجاع 40 % من قيمة تكاليف تصوير الفيلم في السعودية، وخير مثل على ذلك فيلم 'قندهار' الذي صُور بالكامل في منطقة العلا، قبل أشهر".

تتفق مع هذه النظرة الناقدة عهود حجازي، إذ ترى أن المهرجان "بات يفرض مكانته بين المهرجانات السينمائية العالمية بخطى ثابتة"، مشيرة إلى ما يحظى به المهرجان من احتفاء واهتمام بموعده السنوي، من خلال الكتابات عنه، والتقارير المشيدة بنجاحه في الصحف العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي.

 

####

 

"وداعا جوليا"... قصة انفصال جنوب السودان عن شماله

يتناول بجرأة ثيمات العنصرية والتغريب وشيطنة الآخر

أريج جمال

قبل أن يُعرض في فرنسا، ومن هناك لفت أنظار العالم إليه حين مثّل السودان للمرة الاولى في تاريخ مهرجان "كانّ" وحصل على "جائزة الحرية"، بدأ العرض التجاري للفيلم السوداني المنتظَر، "وداعا جوليا"، أولا في القاهرة، في دور عدة للعرض، وإن كانت محطة انطلاقه الأساسية من سينما "زاوية" المملوكة لشركة "أفلام مصر العالمية" (شركة الإنتاج التي أسّسها يوسف شاهين) والمخصصة لعروض الأفلام الفنية. غير أن نجاحه على مستوى الإيرادات شجّع على انتقال عروضه إلى صالات أخرى في القاهرة، لا تستقبل عادة هذا النوع من الأفلام.

الواقع أن عرض الفيلم في القاهرة لا يخصّ المصريين فحسب، الذين كانوا قد تحمّسوا قبل سنوات للفيلم السوداني الشهير، "ستموت في العشرين"، للمخرج أمجد أبو العلا، بعدما صاغ سمعته الدولية المميزة، لكن العرض القاهري لـ"وداعا جوليا"، صار يخصّ اليوم أيضا في طبيعة الحال السودانيين المقيمين في القاهرة، النازحين من الحرب الدائرة هناك منذ أبريل/نيسان الماضي.

لذا لم يكن غريبا، أن يتابعوا أحداث الفيلم بتأثر شديد، وأن ينهض بعضهم، بعد نهاية الفيلم من على مقاعد السينما باكين، وفي حالات أخرى، ألا يتمكنوا من النهوض أساسا؛ بضغط من الزمن الذي يروي عنه الفيلم، بأحداثه الرهيبة، وبضغط، لا شك، كما نتخيّل، من الظرف الحالي ومأسويته، وربما أيضا بنوع من الحنين. الحنين إلى السودان بكل تأكيد، ولعلّه كذلك الحنين إلى سودان ما قبل الانفصال.

يركز الفيلم على ما يدور في البيوت المغلقة وفي نفوس النساء المقموعات تحديدا، وتأثير ذلك المُعطى على تماسك الوطن الكبير

الواقع أن "وداعا جوليا"، الذي يُنبئنا عنوانه مرة أخرى بتراجيدية النهاية، يتحدث عن الحرب التي سبقت هذا الانفصال، الحرب المباشرة لكن بصورة أكبر الحرب الداخلية، ويتناول ثيمات حسّاسة كالعنصرية، وتغريب الآخر وشيطنته تمهيدا للتخلص منه. كما يركّز على ما يدور في البيوت المغلقة وفي نفوس النساء المقموعات تحديدا، وتأثير ذلك المُعطى على تماسك الوطن الكبير، عدا عن التساؤلات المشروعة التي يطرحها مخرج العمل ومؤلفه محمد كردفاني عن معنى الوطن، وإمكان إعادة صياغة المفهوم بما يتلاءم مع الظروف الجديدة التي شارك في صناعتها وخضع لها في الآن نفسه، أبناء هذا الوطن.

عوالم النساء

على صفحات "المجلة"، كنا قد تحدثنا في يوليو/تموز الماضي عن فعالية عرض أفلام سودانية قصيرة في المعهد الفرنسي بالقاهرة. ضمن هذه الفعالية، جئنا على ذكر الفيلم القصير، "نيركوك"، للمخرج نفسه محمد كردفاني؛ الذي تبدت فيه بعض سمات الشخصية السينمائية لكردفاني، مما كان يمهِّد لانطلاقته الكبيرة في "وداعا جوليا". إنه هنا، يطوّر بعض الثيمات التي كان قد تناولها ويشتغل على العوالم البصرية التي أسسها وجرت فيها أحداث فيلمه القصير، كأنه يعود ليملأ الفراغات التي تركها. لكنه أيضا يقطع مسافة كبرى إلى الأمام، ولئن كان "نيركوك" قد افتقد بشدة حضور النساء، إذ دارت الأحداث حول صبي صغير، وعصابة من الأطفال ورئيس هذه العصابة ضد مواطن بورجوازي، وكل ذلك في أعقاب حرب ما، فإن "وداعا جوليا" يعوض هذا الافتقاد، وتدور أحداثه بشكل شبه حصري في عوالم النساء، في حميميتهن، وخلواتهن، في أحلامهن الكبيرة، وفي واقعهن المقيّد.

تدور الأحداث بين 2005 و2010 في الخرطوم. الفيلم يبدأ عند البطلة الأولى منى (تؤدّي دورها الممثلة المسرحية والمغنية إيمان يوسف)، في بيتها الموسِر، حيث تُعدّ الفطور لزوجها أكرم (الممثل المخضرم نزار جمعة). يبدو كل شيء طبيعيا في بيت يشبه ذاك الذي أغرى اللص باقتحامه في "نيركوك"، الجو الهادئ، والجمالية التي تضفيها حركات منى ولفتاتها على المساحة الحميمية التي تتكوّن أساسا من المطبخ، لكن سرعان ما يواجهنا تفصيل "السقف اللي بينشع"، والكوب الذي يضعه أكرم أسفل هذا السقف، بعدما فشلت أعمال التصليح، مما يوحي بإشكالية خفية في العلاقة بين الزوجين، وبأن السلام الذي رأيناه ليس حقيقيا كما خلنا في البداية.

لا ينتهي النهار، قبل أن تُقاطِع أعمال الشغب في الشارع، مجددا هذا السلام المخادع داخل البيت، حين يصل المشاغبون إلى بيت أكرم، وجاره بكري، فيهدّدون الأول، ويحرقون سيارة الثاني، وتُستثار النعرة الذكورية عند الرجلين، وتتدافع عبارات العنصرية من فميهما. يصيح أكرم غاضبا على منى: "انظري العبيد دول!"، ويقرّر بمساعدة من بكري التدرب على استخدام السلاح للدفاع عن بيته ضد الجنوبيين الذين ليسوا عربا بالنسبة إليه، كما أنهم ليسوا مسلمين، أي أن موتهم لا يعني شيئا وفقا لمنطقه هو وجاره بكري.

في ذلك الزمن، كانت الحياة في مكان آخر بالنسبة إلى منى. تستمع الى دروس الموسيقى في الراديو، وتسأل عن حفل جاز مزمع إقامته في مطعم معين. ثم إلى هناك تذهب، مخفية وجهها تحت نقاب أسود. تعود خائبة الأمل، لأن أعمال الشغب أدت إلى إلغاء الحفل. على الجانب الآخر، كان يعيش سانتينو (يؤدّي دوره قير دوني)، لحظاته الجميلة مع زوجته جوليا (عارضة الأزياء الشهيرة وملكة جمال السودان السابقة سيران رياك)، وولدهما الصغير داني، على الرغم من اضطرارهما إلى التنقل بين أكثر من مكان، هربا من العنف الذي يوجّهه الشماليون لهم باعتبارهم جنوبيين. الحياة في غير مكان آمن، هي نقطة أخرى يشترك فيها "نيركوك" مع وداع جوليا، كما يشكّل داني قاسما مشتركا آخر بين العملين لكردفاني، إذ يشهد وهو الطفل على مأساة مروعة تسببت بها الحرب.

يتقاطع عالم الأسرتين، أسرة أكرم الشمالية، وأسرة سانتينو الجنوبية، حين تصدم منى من دون قصد الصبي الصغير داني بسيارتها في رحلة عودتها من المطعم. ثم تفرّ مذعورة، ليلحق بها سانتينو، بعدما شعر بالغضب من إصرار السيدة على الابتعاد بلا اعتذار حتى. تقع المأساة من إصرار سانتينو على التحدث بكرامة إلى منى المعتدية ومن غضبته لأنها رفضت أن تتحمل مسؤولية فعلتها. أمام خوف منى المزدوج مما ارتكبته، ولا تعرف تبعاته، ومن أن يعرف أكرم خط سيرها قبل هذه الحادثة، أي قصة حفل الجاز الذي أرادت حضوره، تجد نفسها مضطرة إلى اختلاق قصة عن "الزول الجنوبي" الذي يتبعها في اتصالها مع أكرم، وفي بالها بالتأكيد أن تُخيف الرجل الباحث عن حقه، لكن أكرم يتصدى له، ويرديه قتيلا، أمام ناظريها.     

يطور المخرج بعض الثيمات التي كان قد تناولها ويشتغل على العوالم البصرية التي أسسها وجرت فيها أحداث فيلمه القصير "نيركوك"

"أنا منى يا جوليا"

إلى هذا، لم نكن نعرف الكثير عن منى. ولا أعني فقط، ما سنعرفه لاحقا عن طبيعة عملها كمطربة في المرحلة التي تسبق زواجها من أكرم والتي انتهت باشتراطه عليها ترك الغناء ليتزوجها، مع أن هذا أيضا مما ستتحدث به فقط مع جوليا في خلوتهما، إنما أقصد ملامحها النفسية، فهل هي فعلا امرأة جبانة أو نذلة، لأنها بامتناعها عن قول الحقيقة في محضر زوجها، قد أدّت إلى قتل إنسان هو سانتينو؟ وإذ يتواطأ جهاز الشرطة مع أكرم، بإخفائه الأدلة، وتجهيل جثة القتيل، وإذ نرى لوعة جوليا على زوجها المفقود وبحثها اليائس عنه ولو ميتا مسجى في توابيت الكنيسة، كيف لا نتساءل مَنْ هي منى حقا؟

منى التي تتلاعب بالحقائق، كي تحافظ على وضعها الاجتماعي، كزوجة لأكرم الرجل الثري المحافظ والمتشدّد إلى درجة العنصرية، على الرغم من أن هذا الزواج لا يبدو ناجحا، مع إشارة الشرخ في السقف، ومع فشلهما في إنجاب طفل صغير على كثرة المحاولات الطبية، ليست أيضا سيئة تماما. فهي تقرّر الذهاب في رحلة بحث عن أسرة القتيل، بدافع من إحساس الذنب، معتمدة على ما بقي في ذاكرتها من مكان الحادث، وعلى علاقات زوجها نفسه مع بعض الضباط الفاسدين الذين ساهموا في إخفاء جريمته. وحين تصل فعلا إلى جوليا، وتفهم طبيعة وضعها الاجتماعي، كبائعة جوالة في الشارع، لا مستقر لها، وتعي طبيعة الفروق بينهما، تقرر أن تقدم لها نفسها كزبونة كريمة: "أنا منى يا جوليا"، ولاحقا أن تُدخلها في حياتها: "بتعرفي واحدة بتشتغل باليومية؟"، وتتخذها خادمة في بيتها، كطريقة ملتوية لتعويضها عن مأساتها.

وماذا عن رؤية منى لهذه الفروق سواء الطبقية أو العنصرية بينها وبين جوليا؟ إن منى لم تطلب من أكرم مثلا أن يراقب ألفاظه حين نعت المتمردين بالعبيد في بداية الفيلم، وهي حين تضطر إلى قبول جوليا وابنها داني أكثر فأكثر داخل بيتها، لا تتورع مع ذلك عن تعيين الحدود لهما، لا الحدود النفسية والمعنوية، فمنى للمفارقة لا تجد غضاضة في أن تتخذ من جوليا صديقة بالمعنى الحقيقي، وأن تحكي لها أسرارها، لكنها الحدود الطبقية والعنصرية التي تصرّ منى على رسمها، وتتجسّد في علامة النقطة الحمراء التي تضعها على الأطباق والأكواب التي على جوليا وداني أن يستعملاها كي لا يستعملا أواني منى وأكرم، في نوع من الوصم. إن منى هي حاصل جمع كل ما سبق، الذنب والإحسان الممتزج بالازدراء والحاجة إلى الغفران عما قد لا يكون له غفران.

يعبّر محمد كردفاني عن هذا الالتباس بين الصداقة والاستعباد، بحساسية شديدة، وعبر القوة الأدائية للممثلتين إيمان وسيران

مزايا الطبقة

يعبّر محمد كردفاني عن هذا الالتباس بين الصداقة والاستعباد، بحساسية شديدة، وعبر القوة الأدائية للممثلتين إيمان وسيران. وتأتي العبارات التي يتبادل الثلاثي (أكرم – منى – جوليا) مكاشفة أحدهم الآخر بها، لتُسقِط ببساطة ومن دون مبالغة الأقنعة التي ترتديها الذات في محاولة للبقاء داخل مجتمع "لا تتوقف فيه الحرب" كما تقول جوليا. ويُعَدّ مشهد المواجهة بين منى وجوليا في النصف الثاني من الفيلم، ذروة في هذا الفيلم الجريء، لا سيما في ختامه، حين تُعلن منى نهاية العداء بحنان: "وين داني؟ مشتاقة له شديد". كما نلمس قدرة كردفاني على التعبير السردي عن دور نساء الطبقات الأكثر تميزا في غياب العدالة الاجتماعية، نظير ما يتمتعن به من مزايا، مما يضغط على نساء الطبقات الأقل، هي رؤية نافذة وشجاعة تستوجب التحية، ولا تنطبق فقط على المجتمع السوداني، إنما تتطابق مع أوضاع النساء في الكثير من المجتمعات العربية.  

قد يكون المدى الذي ذهبت إليه منى في مساعدتها لجوليا وداني، هو مما يمكن مناقشته في الفيلم، وحتى اعتباره إلى حدّ ما مبالغة سينمائية. كذلك، يمكن التفكير في أن الرغبة في الحفاظ على الطابع السري لشخصية جوليا، قد جاء على حساب إضعاف حضورها، وهو نفس ما حدث مع خط شخصية "ماجير"، المعلم الجنوبي الذي ستلتقيه جوليا وتقع في حبه، ويُقنعها بأهمية انفصال الشمال عن الجنوب، وأفق المستقبل الذي يفتحه هذا الانفصال، بينما هي بتأثير من علاقتها الحميمة مع منى، لم تكن لتصوت لصالح هذا القرار.

تبدو هذه الخيوط واهنة إلى حد ما في "وداعا جوليا"، وحده يبقى مشهد داني الصغير وهو يحمل السلاح، في السيارة الراحلة إلى الجنوب، بليغا للغاية مع النهاية، في اختصار ألم حزنه للوداع.

 

مجلة المجلة السعودية في

02.12.2023

 
 
 
 
 

ضمن "البحر الأحمر السينمائي"... وثائقي يروي قصة "إخفاء صدام حسين"

عبر شهادة الرجل الذي استضافه في مزرعته

نور هشام السيف

جدّةضمن عروض المسابقة الرسمية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، قُدّم العرض العالمي الأول للفيلم الوثائقي العراقي "إخفاء صدام حسين" من إخراج هالكوت مصطفى ومن إنتاج النرويج والعراق.

يعود الفيلم 18 عاما إلى الوراء، عندما كانت القوات الأمريكية في العراق تكثف جهودها بحثا عن الرئيس الراحل صدام حسين، الذي اختفى بعد سقوط بغداد في محلّة الدور، حتى كُشف عن مخبئه بعد 8 أشهر في حفرة في مزرعة يمتلكها علاء نامق وهو الرجل العشائري الذي أخفى صدام طوال 235 يوما قبل أن تعتقله القوات الأميركية في نهاية عام 2003، ليعدم بعدها بثلاث سنوات.

في المشهد الافتتاحي نرى علاء نامق جالسا القرفصاء وهو الراوي الوحيد في الفيلم، أمام عدسة كاميرا أمامية ثابتة، وهي زوايا التصوير التي تظلّ ثابتة بصفتها محاورا أو محققا رمزيا. يسرد علاء القصة كونه مضيف الرئيس الهارب، متحدثا عن أصول الضيافة بين العشائر وكيفية إكرام الضيف، وإن كانت لغة جسده تبثّ إشارات تنبؤ بالتغافل عن بعض الحقائق، في محاولة لتجميل المعلومات. يجب أن نعي جيدا أنه يروي قصة رئيس كان يجري البحث عنه على أوسع نطاق خلال أشهر عديدة عاشها العراقيون في هلع وخوف بسبب المداهمات المنزلية والأسر العشوائي، لكن نامق يركز في السرد على جوانب الكرم والضيافة أثناء مكوث صدام في مزرعته. ويعرض الفيلم مطوّلا مدى الانسجام الذي حدث بين الضيف والمضيف، وتبرير هذا الاخير بعض اللحظات القاسية المليئة بالقلق النابع من المحبة، مكررا عبارة "لقد خفت"، فهل كان الحب أم الخوف هو ما دفعه إلى التستر على شخصية يبحث عنها 150 ألف جندي أميركي في العراق؟

يعرض الفيلم مطوّلا مدى الانسجام الذي حدث بين الضيف والمضيف، وتبرير هذا الاخير بعض اللحظات القاسية المليئة بالقلق النابع من المحبة

ثغرات

لايمكن إنكار أن الشهادات المحكية هي عصب الأفلام الوثائقية ومركز جاذبيتها، ومع أن الفيلم يدّعي الموضوعية وعدم الانحياز إلى أي طرف، لكن الحكي عند نامق رغم ثباته الانفعالي، ورغبة المشاهد في سماع تطورات الاختباء المشوّقة، يفسده التفسير المسرف لكل شعور انتاب ناكق وكلّ ظنّ راوده في حينها، وإن كانت تلك الظنون مشروعة، وكأنّ الشرح تطهر أخلاقي من ذنب لم يقترفه نامق، أو هذا ما تكشفه وقائع الفيلم على الأقل، وما يرافقها من سرد، ومن مشاهد تحاكي الأيام التي قضاها الرئيس المخلوع في المزرعة، فتظهر بلقطات العرض البطيء، وهي كثيرة جدا في الفيلم إلى حدّ يجعلها غير مبرّرة، إذ تفتقر إلى المهارة الإخراجية، بل تظهر كمرحلة إنشائية بدائية لم تبلغ حدّ النضج الفني. ومن الواضح أن هذه الجوانب لم تحظَ بالاهتمام الكافي خلال التصوير وما بعده.

ينتهي الفيلم بكشف معلومات عابرة أسفل الشاشة تفيد بأن الواشي، والذي كان يتردّد على المخبأ، لزيارة الرئيس المخلوع، حاول قتل بطل الفيلم مرتين. وعلى الرغم من توجيه السؤال إلى المخرج حول هذه المعلومة دون  إضافة توضيحية عن سبب محاولة القتل وتوقيتها، إلا أن إجابته جاءت ملتوية وغامضة، إذ أشار إلى حقائق داخلية وخارجية لا يرغب في الحديث عنها أو الخوض في مسائل سياسية.

تظهر هذه المراوغة كمحاولة لتوجيه الانتباه بعيدا عن الجوانب السياسية، وكأن الفيلم يتحدّث عن فلاح هارب، وليس عن رجل حكم العراق طوال عقود، وتاريخه حافل بالأحداث والتحولات. فهل من المعقول، على سبيل المثال، ألا يحمل "بطل" الفيلم الرئيسي شيئا من الحنق أو الغضب تجاه ما آلت إليه أحواله بعد كشف الحفرة، بدءا من الإستجواب لمعرفة مكان الخندق وما تبع ذلك من ضرب مبرح، مرورا بوفاة أبيه بعد صدمة كشف السر، وهي معلومة لا ترد في الفيلم نفسه، لكن نامق لم ينفها أيضا في ندوة ما بعد الفيلم، وصولا إلى اعتقاله في سجن أبو غريب لمدة أشهر، والتعذيب الذي تعرض له هناك، ثم إطلاق سراحه وعودته إلى نقطة الصفر؟ كل تلك العذابات المنصهرة في الألم والذل والإهانة والخوف وانقطاع الرزق لا تصل، ونظلّ نتساءل كيف لإنسان أن يعيش في كمد وأن يمحو اسم الشخص المسبّب لكل تلك الويلات من وجدانه وذاكرته؟

 مهما استندت النوايا إلى الرغبة في الموضوعية، إلا أن الفيلم في مجمله يبدو في نهاية المطاف نموذجا دعائيا لصدام حسين، جاعلا إياه يرتدي أجنحة ملاك الحكمة

أسئلة معلقة

يبرر علاء حبه لصدام أنه لم يسمع عنه أي خبر سيء أثناء حكمه، يقول في هذا الشأن: "لم نسمع أنه اضطهد الشيعة واستخدم الكيماوي، نحن أبناء منطقة بسيطة ومعزولة لا تصلنا الأخبار"، لكن في الوقت ذاته يكشف الفيلم عن فلاح ذي عقلية سياسية محنكة في تدبير أمور الإخفاء وتقديم الحلول المبتكرة في كل مرة.

ويبقى السؤال: ما الذي يجعل علاء يكرّر إعلان المحبة خلال السرد، إلا إن كان مقصده التفاخر ببطولة وهمية مغلّفة بتواضع غير مقنع: "أنا الذي حفرت له الحفرة... أنا الذي حمّمته... أنا الذي حملته على ظهري لعبور المستنقع" إلخ. إلى هنا  لا نحمّل عبء الأسئلة كلها لعلاء الفلاح البسيط والذي يواجه الأضواء للمرة الأولى، على الرغم من أنه الشاهد الأبرز على الحكاية  وحكائها الوحيد، لكن بإمكاننا اختزال محور الأسئلة وتوجيهها إلى المخرج: ماذا يريد أن يقول من خلال الفيلم؟

مهما استندت النوايا إلى الرغبة في الموضوعية، إلا أن الفيلم في مجمله يبدو في نهاية المطاف نموذجا دعائيا لصدام حسين، جاعلا إياه يرتدي أجنحة ملاك الحكمة والثقافة والشعر والتأمل، ولعلّ هذه الصورة المسبقة هي التي تحول دون الحصول على زاوية رؤية مختلفة للقصة، ولا الغوص في تفاصيل أعمق، واشدّ دلالة، حول الرجل ومضيفه، ولا حول تلك الحقبة العاصفة والمصيرية في تاريخ العراق، والتي لا تزال آثارها قائمة إلى يومنا هذا.

يذكر أن المخرج الكردي هالكوت مصطفى يقيم في النرويج وهو من مواليد 1979، ويعدّ "اختفاء صدام حسين" الثاني له بعد فيلمه الروائي الأول "كلاسيكو" (2015) الذي يتناول قصة شقيقين من إقليم كردستان يغادران وطنهما في رحلة محفوفة بالمخاطر من أجل الحلم بلقاء نجم كرة القدم كريستيانو رونالدو.

 

####

 

"ناقة" لمشعل الجاسر... بصمة سينمائية فارقة

ضمن عروض "البحر الأحمر السينمائي"

فراس الماضي

يبدأ فيلم مشعل الجاسر الأول بمشهد "فلاش باك" في منتصف سبعينات القرن الماضي، في أروقة مستشفى تجري فيه إحدى عمليات الولادة، وبينما نتحرك إلى الأمام تدور الكاميرا حلزونيا في إطارٍ مقلوب، وبهوادة متوترة نشعر أن الصورة تعبّر عن غضب يتأجّج تحت الستار، وجميع من حولها في حالة من الهلع تجاه ما تخفيه، فتكشف تدريجيا عن شخص يحمل بندقية آلية متجها إلى غرفة العملية، ليسفك دماء الطبيب والأم، متسبّبا بالموت في مكان يُعتبر آمنا وملجأ منه. لينتقل الجاسر بعدها إلى مقدّمة الفيلم الذي يمتد في أعماق فيديو "فن سايكدلي" Psychedelic Art ينذرنا من خلاله بأننا أمام رحلة فريدة نحو جحيم الهلوسة الإبداعية.

منذ المقاطع القصيرة التي صنعها الجاسر على مدى العقد الماضي، كان وما زال اسما مرتبطا بالكثير من الوعود، والتي تتنبأ بمخرج سعودي متفرّد بأسلوبيته، فقد رأى بعضهم أنها ليست سوى طاقة مرئية لخيالاته المتفجرة داخل الأماكن المغلقة، واعتبرها آخرون تمددا لحركته في كل ما هو متحرّك، واستفزازا منه لكل ما هو متجمد. فهو يتحكم بأدواته كأنه يحرّك الدمى، ويخلق قدرا عارما من الفوضى التي ينسجم معها ممثلوه ويتفاعلون بأدائهم من خلالها، كما يمكن القول إن هذا الوعد الذي أصبح قريبا أكثر من أي وقت مضى، قد ألهم العديد من المخرجين السعوديين الذين قدموا أفلاما طويلة قبل أن يبصر فيلم الجاسر الطويل الأول الضوء.

هلوسات

في فيلم "ناقة" الذي عُرض أمس السبت ضمن مهرجان البحر الأحمر السينمائي، من إنتاج منصة "نتفليكس"، يعمّق الجاسر وظائف صورته ويضيف نضجا إلى أسلوبه. يقودنا من خلاله في رحلة مع بطلة فيلمه، سارة (أضواء بدر)، التي ترافق الفيلم في كل مشهد منذ البداية وحتى النهاية. حيث تنطلق الحكاية التي تقع أحداثها في يوم واحد فقط في تحضيرها للخروج من المنزل تحت سلطة أبوية قاسية ذات أبعاد وحشية كارتونية، وذلك إلى أسواق العويس الواقعة في مدينة الرياض بين شارعي العليا والملك فهد، أو البقعة العتيقة بين الشريانين الحديثين في شمال وسط المدينة، واضعا لها أبوها موعدا للعودة عند الساعة العاشرة مساء يحرّم تجاوزه.

منذ المقاطع القصيرة التي صنعها الجاسر على مدى العقد الماضي، كان وما زال اسما مرتبطا بالكثير من الوعود، والتي تتنبأ بمخرج سعودي متفرّد بأسلوبيته

وبينما هي هناك، تتسلل سارة خفية للقاء رفيقها سعد (يزيد المجيول) بمركبته الكابريس موديل الثمانينات التي تتجانس مع المكان العتيق، وهذا لا يظهر في سيارته فحسب بل وحتى في شخصه ومظهره الكلاسيكي ولهجته التي تتماهى مع كل ذلك. وفي هذا اللقاء، وعلى الرغم من عدم توافق الشخصيتين نظريا، إلا أننا نشهد ثنائية ممتعة نستطيع التقاطها منذ المشهد الأول، في غضبهما المازح، وحدّة المزاج، والعفوية الغريبة في الحوارات، وصوتيهما الغير متجانسين مع صورتيهما، ليذهبا بعد ذلك إلى الصحراء، نحو مخيمٍ يستمر سعد بتكرار أنه قريب من هنا، وذلك بعد تناولهما مخدرا يثير الهلوسة، ويرفع آفاق المناظر في ضجيج الرحلة.

تلعب السايكدلية النفسية دورا مهما في غمار هذه الرحلة المضطربة، إذ يدخلنا الفيلم تدريجيا إلى دوامة من الهلع المتواصل بعد أن تطاردهما مركبة على حافة الطريق، ليطرق المخدر أبواب عقليهما، ويقود رحلتهما إلى تجربة من الهلوسة السيئة التي يتصاعد الجنون بها في كل مشهد، ويظهر كل ما يلتقونه أغرب، وتثير كل صورة درجة أعلى من الانزعاج. وهو ما نراه في اعتداء شباب على بائع المثلجات في أكثر المواقف هزلا، أو لأحقاد الناقة التي تظهر كانها ديناصور، وصورة راعيها الأشبه بالفضائي في ظلام الصحراء، او حتى في الهروب من كمين الشرطة الذي يوازي تصويره مشهد معركة أو دخولٍ طروادة.

ناقة حاقدة

فبين الهلوسة في الصحراء المظلمة والعد التنازلي للموعد الأبوي، يصبح العمل هروبا من ناقة حاقدة وبحثا عن شاحن سامسونغ (الذي يندر توافره)، فيستثير الفيلم بهذا التناقض قلقا مربكا نستلذ متعته في كل توظيف ايقاعي يخدم هذه الكوابيس المتوالية، وعلى الرغم من العد التنازلي للساعات التي تظهر في كادر الفيلم باستمرار، تبعدنا الطبيعة السردية للفيلم عن الشعور بإطار زمني، والذي قد يراه البعض سلبيا من الناحية القصصية، إلا أن في ذلك براعة في تجسيد فوضى الأحداث وتأثيرها على النواحي النفسية، ففي ظل خطر الموعد المحدد، يظهر النسيان الذاتي والبحث المستمر في هذه المنطقة الضائعة.

 ما يجعل "ناقة" مختلفا عن تجارب الجاسر القصيرة السابقة، وحتى الإنتاجات السعودية الأخيرة، يكمن في تعميق الصورة وتمدّدها النفسي

كما يركّز الجاسر تجربته على العناصر التقنية، إذ يضفي الصوت حيزا بارزا في صقل هذه الإثارة، في الأصوات الخارجية المتسارعة جدا، وإرباكها المستثير، بالإضافة إلى ثورتها على الحدود الطبيعية دائما وحرصها على تجاوزها في كل فرصة، فبذلك نجد أنفسنا غارقين في حالة من الرعب النفسي لسارة بأنفاسها اللاهثة، والأصوات المحيطة الخاطفة، وحدة فرقعات الأنوار المتقطعة.

لكن ما يزاحم بطولة أضواء بدر هنا يأتي في اسلوب الكاميرا المحمولة، والتي يتماهى ظلها جيدا مع كل حدث، فهي تلحق الحركة، وتتأرجح مع الرقصات، وتتسارع في الفوضى، ومن خلال اهتزازاتها تُحدث الفارق وتمنح الكادر منظورا شخصيا ينقل الإثارة إلى قلب التوتر.

وما يجعل "ناقة" مختلفا عن تجارب الجاسر القصيرة السابقة، وحتى الإنتاجات السعودية الأخيرة، يكمن في تعميق الصورة وتمدّدها النفسي. ويظهر ذلك بوضوح من خلال التفعيل الحقيقي للأبعاد الخلفية في الكادر، وإبراز دورها في المركز، والذي يجعل الجاسر الشعور المنبعث منها منبسطا بأقصى مساحة ممكنة، مثيرا بذلك إدراك المتلقى بالاحتمالات الواسعة والتي تمنح الصورة أثرا أكثر إرباكا.

ويتجلى ذلك في شكلين: الأول في تفعيل الطبيعة الجامدة تحت هذا التأثير، كما في المشهد الذي كان على مرتفع يطل على مزارع في غرب منطقة الرياض، حيث يتسع الإطار بفضل الصدى الغامض والأفق الذي يمتد إلى أبعد الحدود. والثاني في استغلال الحركة الحيّة كما حدث في مشاهد المخيم الخارجية. نرى الناس فيه حشودا متحرّكة، باعتبار أن ذلك بعدا بشريا لا يمكن التنبؤ فيه، والتي تستفيد منه كاميرا مدير التصوير إبراهيم الشنقيطي لإعطاء الكادر شعورا بالحركة البعيدة الغير محدّدة.

هذا التوازن بين الإثارة والوعي السيكاديلي، واستخدام كل أداة بدقة إلى جانب تحرير قائم على الفوضى التي تكثّف هذا التأثير، يكون في أداء الممثلة  أضواء بدر، علامة تدفع الحالة خارج محاولة الهروب في وجه هذا التهديد العشوائي إلى تحول عنيف وانتقامي من الوضع المحيط بها. وتشعل ذلك بروح متمرّدة لا تقود لكنها تدفع بعنف هذا النسيج.

وعلى الرغم من جميع الصفات التي يمكن أن تشير إلى أننا أمام فيلم من فئة الأعمال التي قد تثير شعورا سيئا للمتلقي، نظير الحالة النفسية التي يجول الفيلم في تفاصيلها، يظل "ناقة" عملا قائما على الاستمتاع، كفيلم يقع تحت نوعية الإثارة الحادة والرعب النفسي، والأهم من ذلك هو النضج السينمائي الذي يجعله على الأرجح الفيلم السعودي الأفضل لعام 2023.

 

مجلة المجلة السعودية في

03.12.2023

 
 
 
 
 

من “يا رب ولد” إلى “إن شاء الله ولد”… عن البنات التي لا يريدها أحد

أندرو محسن

خلال السنوات القليلة الماضية، خطت السينما الأردنية خطوات مهمة، بإنتاج أفلام وضعتها تحت دائرة الضوء، رغم قلة عددها. يمكن القول إن الانطلاقة الكبرى كانت من خلال فيلم “ذيب” (2014) لناجي أبو نوار، ومن عده تميز فيلم “الحارة” (2020) للمخرج باسل الغندور، وهذا العام؛ عُرض للمرة الأولى فيلمٌ أردني في مهرجان كان، ضمن مسابقة أسبوع النقاد، قبل أن ينطلق إلى عدة مهرجانات أخرى وصولًا إلى مسابقة مهرجان البحر الأحمر في دورته الثالثة. الفيلم هوإن شاء الله ولد، وهو الفيلم الطويل الأول لمخرجه أمجد الرشيد.

بالنسبة لمشاهدي السينما المصريين والعرب، على الأرجح سيذكّرهم اسم الفيلم بعمل أقدم، هو “يا رب ولد” (1984) للمخرج عمر عبد العزيز، والذي لا تزال بعض مشاهده الكوميدية تُتداول في مواقع التواصل الاجتماعي حتى اليوم.

يختلف الفيلم الأردني عن نظيره المصري في أغلب عناصره، بداية من اتجاهه الواقعي القاتم في بعض مواضعه، مرورًا باعتماده على شخصية نسائية لتحمل بطولة العمل الرئيسية، وانتهاء بالطبقة الاجتماعية التي تنتمي لها الشخصية، والتي تأتي في الشريحة الدُنيا من البطقة الوسطى وليست الشريحة العليا منها كما في الفيلم المصري. لكن الفيلمين يتفقان في أمر واحد كما يبدو من العنوان، وهو أمنية شخصيات الفيلمين في إنجاب الأولاد وليس البنات.

قرابة أربعين عامًا تفصل بين العملين، وخلال هذه المدة – رغم الحراك النسوي القوي- لا زالت المعتقدات الخاصة بتفوق الذكر على الأنثى، والرغبة في أن يكون أول طفل ولدًا وليست بنتًا، قائمة داخل الأسر العربية. يحاول أمجد الرشيد تناول تلك النظرة المجتمعية من عدة زوايا تخص الداخل الأردني، وإن كان يمكن ببساطة أن نشاهد الكثير من التماثل بين هذا المجتمع وكثير من المجتمعات العربية.

منال (منى حوا) أرملة فقدت زوجها حديثًا، تفاجأ بدينٍ ضخم لشقيق زوجها لم تكن تعلم عنه شيئًا، وإذ أنها لم تنجب ذكراً؛ فإن ممتلكات الزوج بجانب الوصاية على ابنتها الوحيدة، تؤول جميعها بموجب القانون إلى شقيق الزوج، هكذا تجد نفسها في ورطة مركّبة تحاول أن تجد لها حلًا.

من خلال هذه القصة البسيطة، يمر الفيلم على عدد من المشكلات التي تواجه المرأة في المجتمع الأردني، بداية من تهميش الزوج لها وعدم إخبارها بحقيقة ظروفهما المالية، مرورًا بالمشكلات القانونية التي تُفرَض عليها، كونها امرأة بلا رجل. لكن أمجد الرشيد لا يكتفي بشخصية واحدة لتمثل هذه الصعوبات، بل يضيف إلى السيناريو لورين (يمنى مروان) والتي تمثل جانبًا آخر من المجتمع. هي ابنة سيدة البيت الذي تعمل فيه منال ممرضة، وتتمتع بالثراء، لكن ترف المعيشة لا يعني بالضرورة أنها تتمتع بالحرية. بينما نجد لورين تتمتع نظريًا بالحرية، فإنها في الحقيقة الأمر تعاني من قيود مشابهة لتلك التي تحيط بمنال. لورين تعبر عن أفكارها وغضبها بمنتهى الطلاقة، ومن دون وجود ضابط على لسانها، لكنها مقيدة في زواج لا تستطيع الخلاص منه، ويزيد الطين بلة حملها غير الراغبة فيه، نظرًا لتأكدها من خيانة زوجها لها.

على الجانب الآخر، لا يقدم المخرج وكاتب السيناريو قيود المجتمع الذكوري من وجهة نظر الرجل، ولكن المرأة أيضًا، إذ نجد أن الشخصية التي تمنع لورين من الانفصال عن زوجها أو التخلص من الحمل هي أمها، التي تخشى على صورة ابنتها وصورة العائلة من نتائج أفعالها الخارجة على قيم المجتمع.

وصولًا إلى هذه النقطة يجب أن نذكر أنه مثلما كانت الرغبة واضحة لدى صناع الفيلم في جمع الكثير من الصور التي تمثل معاناة النساء، فإن الأمر أيضًا تحول إلى بعض العبء على السيناريو، بل وقاد إلى وجود الكثير من الأحداث المتوقعة، مثل التعاون بين منال ولورين من أجل أن تحصل الأولى على اختبار حمل إيجابي لتحاول إقناع المحكمة بأنها حامل (ربما في ولد سيحصل على إرث والده)، وتجد الثانية وسيلة للتخلص من حملها بعيدًا عن عيون أمها، وهو التعاون الذي – بجانب كونه متوقعًا كما ذكرنا- فإنه أيضًا لم يكن محبوكًا بالقدر الكافي، خاصة في ما يخص لورين التي من المؤكد أنها كان تستطيع الوصول إلى الكثير من الحلول بعيدًا عن هذه الصفقة مع منال.

في نهاية ”يا رب ولد“ ورغم نجاح البنات الثلاثة في إدارة أعمال الأب أثناء مرضه، فإنه يصرخ: ”لسه عايز الولد“، ويأتي ”إن شاء الله ولد“ ليؤكد أن الوضع لم يختلف كثيرًا بعد كل هذه السنوات، وأن المرأة لا زال أمامها طريقًا طويلًا تقطعه كي تتمتع بحقوقها سواء قانونيًّا، أو حتى في عرف المجتمع.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

03.12.2023

 
 
 
 
 

خاص "هي"- مهرجان البحر الأحمر 2023:

فيلم "ناقة".. موعد غرامي يتحول إلى مأساة!

محمد عبد الرحمن

يصنف فيلم "ناقة" أول شريط روائي طويل لمشعل الجاسر ضمن الأفلام التي لا تحرقها الملخصات المكتوبة ولا حتى المحكية التي قد يرويها لك من شاهد الفيلم قبلك، فهو ينتمي لسينما تعمل على جذب المتفرج للتعايش مع منذ اللقطة الأولى حتى الأخيرة كاتمًا الأنفاس ليتابع مصير البطلة، التي تعيش سلسلة متشابكة من الكذبات بسبب حصار اجتماعي يقوده الأب منذ الدقيقة الأولى لولادتها. "ناقة" فيلم غير تقليدي يحتاج إلى متفرج قادر على استعياب كل المفاجأت والتحولات التي ستواجهها الفتاة "سارة" في رحلة عصيبة مدتها 9 ساعات!

فيلم "ناقة" انطلق من تورنتو وصولًا للبحر الأحمر

من تورنتو بدأت رحلة "ناقة" نحو المهرجانات، ليكون أول فيلم سعودي يعرض في المهرجان الكندي الشهير وتحديدًا في دورته الثامنة والأربعين، قبل أن يستقبله جمهور مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ضمن برنامج "روائع عربية"، على أن يتابعه جمهور منصة نتفليكس خلال الأيام القليلة المقبلة في إطار التعاون المستمر بين المنصة العالمية وشركة تلفاز 11.

التوقعات المسبقة دائمًا ما تكون سلاحًا ذي حدين، كثيرون أشادوا بالفيلم ودعوا للحضور، والعرض بسينما ريتز كارلتون رفع شعار "كامل العدد" مقدما، لكن المخرج مشعل الجاسر أكد أن الترويج المسبق لم يكن من باب المجاملات أو المبالغات، مقدمًا قصة سينمائية تبدو غارقة في المحلية، حيث تشارك "ناقة غاضبة" في تحريك الأحداث لكنها في الوقت نفسه قصة يمكن أن تناسب الجمهور من مختلف الثقافات.

سارة.. فتاة تبحث عن الحرية فيحاصرها الجميع

ملخص فيلم "ناقة" المكتوب يقول إننا مع فتاة تغافل والدها وأسرتها من أجل الخروج في موعد غرامي، وبالفعل تلتقي "سارة "و"يزيد" على أمل اختلاس 6 ساعات من حرية الحركة والكلام والانطلاق، بشرط أن تعود لوالدها في نقطة محددة الساعة 9:59 مساء، والدها الذي يبدأ الفيلم بتصرف جنوني قام به لحظة ولادة سارة يجعل المتفرج يتوقع منه أي شيء إذا لم تعد الفتاة في الموعد المحدد، وهو ما حدث، عادت بعده لكنها نجحت بعد رحلة طويلة مريرة مأساوية في إقناعه بأنها لم تفعل شيئا يغضبه بل هي ضحية. خلال الرحلة تتعرض سارة ومعها يزيد لأهوال لا تُصدق، أبرزها على الإطلاق الهروب من "ناقة" صدم الحبيبان صغيرها وقتلاه دون قصد، وفي رحلة العودة تهرب سارة من شاعر شعبي مزيف، وشباب منفلت، وقوة من الشرطة تلقي القبض على حبيبها، تجري وتهرول وتقود "دبابة - بيتش باجي" وتكمل في سيارة آيس كريم، حتى تصل إلى أبيها، وبعدما تستعيد عافيتها تبدأ رحلة انتقام عكسية.

قراءة لفيلم "ناقة" على عدة مستويات

فيلم يمكن قراءته على أكثر من مستوى؛ أولها مقاربة بين حقد البعير وحقد الإنسان، فالفتاة التي تعاني من الحصار الاجتماعي المستمر لم تصدق أن موعدًا غراميا لساعتين أو ثلاثة قد تلاقي فيه كل هذه الأهوال، فقررت الانتقام ممن طالتهم يديها حتى شقيقها، تمامًا كما فعلت الناقة التي كادت أن تقتل "سارة" لولا ذكاء الفتاة وتشبثها بالنجاة؛ النجاة من الناقة والآخرين أولًا ومن عقاب الأب المنتظر ثانيًا.

المستوى الثاني الذي يمكن قراءة الفيلم من خلاله هو الوقت وكيف يمكنه أن يتحكم فينا ويقلب حياتنا رأسا على عقب بينما يمر هو للأمام غير مكثرت بما يترك خلفه، وقد أجاد المخرج وضع المتفرج في حالة من التوتر الدائم، ليس فقط بالكشف عن الساعة كل عدة لقطات ولكن باستخدام أسلوب التقديم والتأخير، حيث قفز من السادسة مساء لما بعد الثامنة مساء لنتفاجأ بـ"سارة" وحدها في مواجهة الناقة، قبل أن يعود ويحكي ماذا جرى لنصل لهذه النقطة.

مستوى ثالث يمكن تأويله بعد مشاهدة "ناقة" يكمن في كشف الفيلم لحالة الزيف المتمكنة في المجتمعات العربية خصوصا من الرجال تجاه النساء، فالأب يعشق شاعرًا شعبيًا تلتقيه صدفة الابنة في رحلة الهرب، لتكتشف أنه شاعر مزيف ولديه "كاتب ظل" يساعده في كتابة الأشعار وحفظها، في إشارة إلى النظر دائمًا إلى ما يظهر على السطح، ما يهم الأب هو أن تلتزم ابنته بالقواعد، ترتدي النقاب، لا تتحرك بدون إذن، يجبرها على الاستماع لأبيات الشاعر المزيف، يجعلها تعيش في ضغط مستمر، دون النظر إلى ما بعد ذلك وما يحدث فعلا، فهمت الابنة اللغة التي يريدها الأب ورفضت نصيحة صديقتها بالاعتراف فنجت بل حظيت بمعاملة أفضل، ما أتاح لها الانتقام من الشاعر بطريقة لم تخطر على بال أحد.

أضواء بدر.. نجمة صاعدة بقوة

بشكل عام يعلن فيلم "ناقة" عن إمكانات مخرج سعودي صاعد ولديه فكره الخاص، لا يغازل شباك التذاكر وفي نفس الوقت لا يقدم فيلمًا فنيًا خاليًا من الجاذبية، ويحسب استخدام أسلوب تصوير يضع المتفرج داخل المشهد، وكادرات قريبة تم التقاطها بعناية، بجانب الموسيقى التي وإن مالت للطابع الغربي لكنها جاءت مناسبة للفيلم، ثم فريق التمثيل الذي أجاد لدرجة كبيرة؛ جبران الجبران وأمل الحربي ويزيد المجيول. أما سارة أو "أضواء بدر" فنجحت من خلال الفيلم على وضع اسمها في مكانة بارزة ضمن نجمات السينما السعودية في المرحلة الحالية، كونها تجمع بين الكاريزما والموهبة والأهم الأداء السلس أمام الكاميرا دون تصنع أو مباشرة.

 

مجلة هي السعودية في

03.12.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004