ملفات خاصة

 
 

فلسطين الصغرى: يوميات حصار

بقلم: مهند النابلسي

مهرجان عمّان السينمائي

الدورة الثالثة

   
 
 
 
 
 
 

مع انطلاق مهرجان عمّان السينمائي الدولي- أول فيلم، اليوم، سيتاح لمحبي السينما مشاهدة أفلام مختلفة عن تلك التي يتم عرضها في دور السينما المحلية والمنصات الرقمية، فهي تمثل بالبداية أول عمل لمخرجيها، وتروي قصصا من مختلف دول العالم...لكن بعض هذه الأفلام يعتبر بمثابة تحف سينمائية، وبعضها الاخر ركيك وممل وضعيف سينمائيا؟

 

فلسطين الصغرى: يوميات حصار”*

للمخرج عبد الله الخطيب. فيلم وثائقي طويل جمع مجمل أحداث مخيم اليرموك التي دارت فيه منذ انطلاق الثورة السورية العام 2011 حتى تهجير آخر ساكنيه منتصف 2018، وقد كان مخرج الفيلم أحد أبطال حصار مخيم اليرموك في سورية، وشهد على مأساة العيش هناك بسبب الحرب السورية التي كانت أشد وطأة على سكان المخيم:

*فيلم "مسيس" بامتياز ولا يجيب على العديد من التساءلات ومنها سر عدم معاناة المخرج وطاقم الفيلم من تداعيات المجاعة المرعبة المتزايدة داخل المخيم، حيث يبدو وكأنه زائر خارجي "مرفه" يجري تحقيقا وليس كأبن منتمي للمخيم وسكانه البائسين، كما يبدو وكانه في واد ومعظم السكان في وادي آخر، يتسلى بسرد وتصوير قصص الجوع والمعاناة بلامبالاة غريبة لأجندة غامضة، حيث يحاول شيطنة النظام السوري كمسبب رئيسي للمعاناة والجوع والدمار والموت الذي لحق بالمخيم الشهير ، وحتى أنه يتهمه بالتعاون مع الدواعش لتدمير المخيم وطرد ساكنيه، كما أنه يقحم موضوع البراميل المتفجرة هكذا... ولاحظت أن معظم السكان بما فيهم الأطفال لم يتجاوبوا كما يريد مع اسئلته المريبة المسيسة...وتحدث معظمهم بالعموم عن معاناتهم بايجاد الطعام والعيش بكرامة انسانية، وبدا كشخص "مدسوس" عميل لا مبالي يحقق أجندة داعميه ومموليه لا غير! كما أن التوجه السياسي الأعمى المتحيز للمخرج "الساذج" الموجه منعه من ابداع لقطات فريدة لمعاناة وقهر البشر الجياع (كما أبدع المخرج المجري في فيلم ابن سول/2015 الذي نال عليه جاءزة كان) ، حيث كانت مكوناتها بحوزته طوال العرض المأساوي لعذابات الجوع والبؤس والمعاناة والحصار، لكنه غفل عنها تماما واندفع في سرده المسيس "الدعائي"(الممول لهدف)...حيث أضاع المغزى الوجودي الانساني البالغ الدلالة...وأكاد اجزم من سياق مشاهدتي وسماعي للحوار  وباقي اللقطات  انه ربما يشمت بلؤم وكيد ووضاعة بمعاناة شعب المخيم المقهور المسكين المستكين، بل ربما ويسخر من معاناتهم تحقيقا لمأربه في التشهير بالنظام، ورغبة منه بتحقيق المكاسب المادية، والتي تمثلت بتسهيل هجرته لألمانيا مع عائلته، بالاضافة للمكتسبات المالية والشهرة المجانية التي حققها من وراء فيلمه الوثائقي هذا، وهو لم يتماهى مع احوال قاطني المخيم المهولة، ولم يظهر معهم كما فعلت اللبنانية زينة دكاش بقيلمها

اللافت التفاعلي عن سجن "روميه" الشهير للنزلاء النفسيين، كما لاحظت أن الأطفال في الشريط بدوا بالرغم من معاناتهم سعداء: فبعضهم تحدث عن رغبته بتناول الشاورما وأخر تمنى السكر وثالث تمنى ان تعود الحياة لشقيقه المتوفى، كما أن فتاة صغيرة عاقلة كانت تقطف الحشائش للطبخ اجابته باتزان وكأنها اكتشفت غرضه الخبيث، ناهيك عن تصويره المكبر لأجزاء من أجسام المسنين المعدومين وملابسهم هم الرثة وصرر وطناجر  طعامهم "البائس" امعانا في التشهير الانساني بهم لا غير، وقد أعجبتني سيدة في بداية الشريط استفزها لمغادرة المخيم للنجاة بحياتها فرفضت بعزة وكرامة وانتماء، يفتقده هذا المخرج  بالتأكيد!

 

أنت تشبهني”**

للمخرجة دينا عامر، تدور أحداث الفيلم خلال هجمات باريس العام 2015، حيث اعتقلت امرأة تدعى حسناء آيت بولحسن، وسميت أول انتحارية امرأة في أوروبا: لم يعجبني هذا الفيلم هذا الشريط اطلاقا لعدة اسباب منها تصويره للطفلتين المتمردتين على والدتهما وسؤ معاملة الام لهما ثم هروبهما هكذا من المنزل في باريس ...ووجدت في هذه المشاهد كما كبيرا من المبالغة والاسهاب، كما أني لم اصدق مسيرة حياة الفتاة النمرودة واتصالها مع الارهابيين "الدواعش" بواسطة النت وخلط القصة بتفجيرات باريس الشهيرة...وقد وجدته فلما نمطيا مكررا لا جديد فيه! وهناك مشهد معبر للفتاة "حسناء" بعد معاناتها وتظهر فيه وهي تتوسل ضابط التجنيد الفرنسي البيروقراطي لكي يوافق على تجنيدها في الجيش الفرنسي "كمنجدة شجاعة مقدامة" لا تخاف، ونراه يرفض باصرار لعدم حيازتها على الدبلوم الجامعي، مما جعلها تيأس أخيرا وتنضم للدواعش اللذين جذبوها لهم  وتعاطفوا مع وضعها المشرد وضياعها وتقبلوا توبتها ...وقد نسيت المخرجة الفهيمة: أن ازدواجية المعايير الفرنسية خصوصا هي التي جلبت الارهاب لفرنسا بعد ان جندوا الارهابيين وارسلوهم للشرق الوسط ولسوريا تحديدا...ولقد انقلب السحر على الساحر فيما بعد وهكذا كان!

وقد شاهدت كذلك الفيلم المغربي الروائي "بين الأمواج" للمخرج "الهادي اولاد مهند": وقد وجدته فيلما طويلا وعبثيا، فالشخصية الرئيسة في الشريط "سايكو وسوسيوباث" ، وهو موظف منفر اجتماعيا وغريب الأطوار، ويعاني تدريجيا من "الديمنشيا" وفقدان الذاكرة وصولا للاعاقة الكاملة، ولا أعرف سر اظهار مشاهد الجنس بينه وبين زوجته  الصبورة المخلصة، وخاصة في حالة اعاقته، سوى أنها محاولة تقليد "غير مقبولة" لأفلام فرنسية، ولم أعرف حقا حقيقة الهدف من هذا الشريط الطويل، سوى تقديم نسخة اخرى من الميلودراما الكئيبة ربما، وبدت ادوار البناء مهمشة بلا معنى!

 

سعاد”***

للمخرجة أيتن أمين. تدور قصة فيلم سعاد عن شقيقتين مراهقتين؛ الأولى سعاد تبلغ من العمر 19 عامًا، والثانية رباب تبلغ من العمر 13 عاما:

ويتناول الفيلم علاقة الشقيقتين ببعضهما بعضا وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت على حياة المراهقات.

وتعيش الشقيقتان مع والدهما في الدلتا بمصر، حيث تعيش سعاد حياة مزودة بين العالم الحقيقي وعالم الإنترنت، فتظل محافظة على شكل حجابها بين أسرتها والمجتمع، ولكن في الوقت نفسه تعد سعاد من مهووسي السوشيال ميديا بنشر صورها وإقامة علاقات سرية.

كما تظل سعاد في هذه الحياة المزدوجة، حيث كانت تكذب سعاد باستمرار في منشورتها على السوشيال ميديا بشأن حياتها الشخصية وكانت تبوح بالحياة التي تتمنى العيش فيها على أنها تعيشها، ولكن سرعان ما يسيطر الواقع الحقيقي عل حياة سعاد ويحبطها: فيلم طويل فاشل بامتياز ولا أعرف كيفية  اختياره لمثل هذا المهرجان العالمي الفريد: وفيه كمية كبيرة من التفاصيل والحوارات السخيفة التي لا تجلب الانتباه والفضول ولا تطرح جديدا...كما أنها تطيل مدة العرض، ويكفي التنويه لمشاهد لقاء اخت سعاد المراهقة مع الشاب وما تضمنته من تطويل وتكرار وسخافة لتوضيح ما اقصد اليه! وتحت عنوان "موعد مع السينما الفرنسية – العربية"، يعرض المهرجان 4 أفلام من إنتاج فرنسي – عربي مشترك، وهي: "الإبحار من الجبال" للبرازيلي ذو الأصول الجزائرية كريم عينوز، و"أم طيبة" للتونسية حفصية حرزي، و"أنت تشبهني" للمصرية دينا عامر/الذي سبق وتحدثت عنه/، و"النهر" للبناني غسان سلهب:

****فيلم "الابحار من الجبال" للبرازيلي/ الجزائري "كريم عينوز" مدهش وخلاب بطريقة السرد والتصوير الجذابة الفريدة ويستحق التنويه وجائزة خاصة، وهو يتعلق بعودة الشاب الصحفي للجزائر لمعاينة مسقط رأس والديه وأجداده في قرية نائية جميلة في أقاصي الجبال، حيث نلاحظ تفاعلات السكان والمعارف القدماء معه وطيبتتهم المدهشة ضمن مشاهد حياتية مفصلة وصور جميلة فريدة للريف الجزائري الجبلي، وقد أبهرنا بطريقة السرد الروائية الرومانسية والنستولوجيا "العرقية" وبطريقة اظهار المشاهد وخلط الألوان والصوت الشاعري وكانه "ماركيز" (وقد تقمص دور الصحفي الشاب هنا) يسرد لنا جذور حياة أجداده بحنين جارف وربما حزين نوعا ما وأرشيفي لا ينسى/حيث تذكر وأدخل مشاهد معبرة من ثورة الجزائر ومقاومة السكان الوطنيين البسطاء للمستعمر الفرنسي الغاصب/!

*وقد لاحظت ان المخرج الفذ هنا قد طبق تماما مفهوم جودار حول دمج الصورة بالسرد:

*يرى غودار إلى أن صناعة الكلام مع الصورة تحتاج إلى إرجاع معنى اللغة. الرجوع إلى الاتصال بين البشر. حيث يقول: "اليوم سيكون كل منا في حلم الآخر".

*****وتتنافس في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة العربية 6 أفلام: "فياسكو" لنيكولا خوري من لبنان، و"فلسطين الصغرى" لعبد الله الخطيب من لبنان، و"معايش" لإيناس مرزوق من تونس، و"تمساح النيل" لنبيل الشاذلي من مصر، و"خذني إلى السينما" للباقر جعفر من العراق، ثم "السجناء الزرق" لزينة دكاش من لبنان. وستُعرض هذه الأفلام على لجنة تحكيم تتألف من منتجة الأفلام إيرين شالان، والمونتير فيل جندلي، والمخرج أصيل منصور: فيلم زينة دكاش يتحدث باسهاب عن سجن "روميه" اللبناني للمرضى النفسسين السجناء فيلم فريد شيق بطريقة تصويره واعداده، حيث نراها تندمج "كمعالجة نفسية" (وليس كمجرد ساردة ومخرجة وثائقية) مع قصص وحكايات السجناء وتداعيات سجنهم ومشاكل حياتهم وادمانهم للمخدرات ، وبدت مندمجة ومتفاعلة معهم بطريقة فريدة ذات أثر علاجي مؤكد، وقد أبهرت الجمهور باصطحابها لسجين "فلسطيني" عتيق محرر قضى عقودا في السجن، وسوف استغرب تماما اذا لم تحظى المخرجة بجائزة خاصة عن فيلمها اللافت هذا؟ وقد طرحت بفيلمها المميز هذا مفهوما "جديدا نسبيا" للسجين "المريض النفسي"، الذي بدا لنا شخصا عاديا يعاني من تداعيات بؤس حياته ونشأته القاسية وعدم تعاطف المجتمع معه، وكذلك من ادمانه للمخدرات ورفقة السوء...الخ، ويلاحظ عكس الفيلم القلسطيني عن مخيم اليرموك، أنها اندمجت تماما مع حكايا ومشاكل السجناء وكأنها شخص منهم/عكس المخرج الفلسطيني الذي عزل نفسه عنهم بحيادية بغيضة مشيطنا النظام بقصد/!

 

 “الأم الطيبة”******

للمخرجة حفصية حرزي. تدور الأحداث حول نورا في الخمسينات من العمر التي تعمل كمدبرة منزل، تعيش مع عائلتها في عقار سكني في الجزء الشمالي من مرسيليا. تواجه مشاكل بعد تورط حفيدها اليس في حادثة سرقة محطة وقود، ويسجن لأشهر عدة...

وفي فترة انتظار المحاكمة تساعده على تخطي هذه الفترة وتمده بالأمل والقوة بعد فترة طويلة لا تخلو من مشاعر القلق والخوف والمصاعب الجمة: لكنه بالحق والاجمال فيلم سخيف مشتت بامتياز، ويحتوي على كم كبير من حوارات البذاءة والسب والحركات الجنسية المجانية المستفزة ومشاهد مجانية لعروض الدعارة وبيع المخدرات في شوارع المدينة الساحلية الشهيرة . مع المشاحنات والتوترات العرضية العصبية التي لا تضيف قيمة للسيناريو ولا لمحور القصة الأساسي، كما أنه ممل وطويل واستفزازي أكثر من اللازم، ولا أعرف حقا مغزى اختياره للعرض في هذا المهرجان السينمائي الفريد...وبهدف ربما تقديم مشاهد واقعية لما يحدث في مرسيليا/المعروفة بطابعها القاسي والشوارعي/ من عراكات بذيئة حافلة بألفاظ جنسية قبيحة، فقد تركت المخرجة الوقورة الممثلين يتمادون في تصعيدهم ونزواتهم التشاجرية البذيئة لمستوى مقزز لا يقبله الذوق العام.. وهكذا قدمت هذه المشاهد على أمل ان تلقى القبول من الجمهور السينمائي!

 

*******"صلوات من أجل المسروقات"

تحفة سينمائية "روائية –وثائقية" مكسيكية:

يمتلئ هواء الليل بالأصوات: طيور ، حشرات ، أبقار ، كلب ينبح. لكن الناس يجلسون في الليل ، وعيونهم مغمضة ، يستمعون لسيارات تقترب. صوت السيارات يعني "أنهم" قادمون. من الخطير جدًا حتى تسميتها أو وضع ملصق عليها. هم فقط "هم". هناك أصوات تنتمي إلى هذه القرية الجبلية المعزولة ، وأصوات لا تنتمي إليها. من بين كل الأشياء التي التقطتها تاتيانا هيزو في فيلم "صلوات من أجل المسروقات"، كأول فيلم روائي لها ، فإن رعب الليل هو الأكثر إثارة للقلق.

تجلب Huezo خلفيتها الوثائقية إلى هذه القصة الخيالية لأزمة إنسانية حقيقية للغاية تتكشف في المكسيك ، والحرب المستمرة بين الحكومة والكارتلات ، وانتهاكات حقوق الإنسان المتفشية ، وتجارة المخدرات ، وتجارة الجنس الدولية. في كثير من الحالات تكون "الشرطة" إما عاجزة ضد الكارتلات أو تعمل بالتنسيق معها. لقد "اختفى" الآلاف والآلاف من الأشخاص ، وتشكل النساء والفتيات نسبة كبيرة. يتم اختطافهم من منازلهم ، غالبًا في وضح النهار ، وبيعهم للإتجار بالجنس أو القتل. يتم استخدام جثثهم لترويع الآخرين حتى يمتثلوا. ولا يُستثنى الأولاد والرجال ، وغالبًا ما يُجبرون على العمل في الكارتلات ، أو "التخلي" عن عضوات أسرهم من الإناث.

ابتكرت Huezo المكسيكية-السلفادورية فيلمًا يهتز من الرهبة ، خاصة أنه يُنظر إليه من خلال عيون الطفلة آنا (آنا كريستينا أوردونيز غونزاليس ، ذات الوجه المعبر بشكل رائع) ، التي تدرك كل ما يحدث. في غضون ذلك ، لا يتحدث الكبار أبدًا عن الأحداث ، لكنهم يخططون بشكل قاتم للاحتمالية. تُظهر اللقطة الافتتاحية والدة آنا ريتا (مايرا باتالا) ، وهي امرأة متوترة ، تضع ابنتها في حفرة في الأرض ، وهي فجوة كبيرة حيث يمكن أن تختبئ آنا إذا "جاءوا" من أجلها. والد آنا "هناك" - أمريكا - ومن المفترض أن يرسل الأموال إلى الوطن ، لكنه لم يفعل ذلك أبدًا. لم يرد على هاتفه أبدًا. مثل معظم البالغين في المدينة ، تعمل ريتا في حقول الخشخاش المجاورة. يذهب الأطفال إلى المدرسة ، لكن أصبح من المستحيل الاحتفاظ بمعلم هناك ؛ الوضع خطير للغاية.

النصف الثاني من الفيلم ، ليس بقوة النصف الأول ، يحدث بعد عامين ، مع ممثلات جدد يلعبن الثلاثي: ماريا ممبرينو (آنا) ، جيزيل باريرا سانشيز (ماريا) ، وأليخاندرا كاماتشو (باولا). لا تزال الفتيات في سن المراهقة الآن يهدئن بعضهن البعض من خلال لعبتهن المتزامنة ، ويتشاركن الإعجاب بمعلمهن. لا يزال شعرهم مقصوصًا بالقرب من رؤوسهم ، وينظرون بشوق إلى زجاجات طلاء الأظافر الصغيرة في الصالون المؤقت. كونك فتاة هو عمل خطير. عندما تحصل آنا على دورتها الشهرية لأول مرة ، لا تعانق ريتا ابنتها. تبدو مرعوبة. كلتاهما تعرف ماذا يعني ذلك. لقد قامت Huezo بمهمة حدسية تتمثل في تحديد المخاطر التي تخاف عليها الفتيات عندما تذهب للسباحة في النهر ، أو تذهب إلى المنزل بعد المدرسة ، وتتحدث وتضحك.

لم يُقال الكثير هنا بقصد ، وهذا يزيد من حدة وغموض "صلاة من أجل المسروقين". تغمرنا المصورة السينمائية داريلا لودلو في هذا العالم ، الخضرة المورقة والظلال السوداء القاتمة ، المبيدات السامة التي ألقيت على القرية وسط ضباب حمضي محترق ، واحة هادئة في غرفة المدرسة. هناك لقطة جميلة لحشد من الناس يقفون على تل عند الغسق ، المكان الوحيد في المدينة حيث توجد خدمة خلوية ، تضاء هواتفهم وهم يحاولون الاتصال بأحبائهم ، أي شخص "بالخارج". يعتمد جزء كبير من الفيلم على الممثلات الشابات ، ويخلقن رابطة قابلة للتصديق ومؤثرة للغاية. آنا صلبة ومرنة ، وعندما تأتي ابتسامتها تفتح وجهها بفرح. أي فرح قصير العمر. الناس يفرون. لم يعد بإمكان الفتيات "النجاح" كالذكور. إنهم في خطر شديد.

نهج Huezo حساس ولكنه قوي ومعبر وبالغ التشويق. إن الافتقار إلى الحوار التوضيحي يبقينا منغمسين تمامًا في الواقع اليومي للأشخاص الذين يعيشون في مرعب تبادل إطلاق النار ، وجميعهم يهتزون بصمت الأشياء التي لا يمكن قولها ، والتي لا داعي لقولها. فالإرهاب هو الهواء الذي يتنفسونه.

 

ملخص نقدي شامل:

*خلاصة قوية "شاعرية" للجمال الآخاذ من العنف المرعب.

**قصة معقدة ودقيقة وعطاء سينمائي نادر ومثيرة للقلب عن نشأة فتاة صغيرة في قرية مهددة من قبل عصابات المخدرات وتجارة البشر.

***يكاد يكون فيلم Huezo المدروس هذا بسيطًا بشكل مخادع ، ولكن مثل صورة العقرب التي تتكرر في جميع أنحاء "صلوات من أجل المسروق" ، فإنه لاذع في النهاية.

****بدلاً من التركيز على رعب العيش في منطقة مزقتها الكارتل ، يصبح الفيلم قصة عن القوة والحسرة والجمال المذهل والتضاريس الجبلية الزراعية الخلابة! ولكنا لا نفهم أيضا مغزى تخريب هذه البيئة الجميلة الفريدة بكثرة تفجيرات المحاجر التعدينية التي شاهدناها!

*****لا تستغرق [تاتيانا أويزو] وقتًا طويلاً لتتولى زمام القصة ، وترسم الحبكة بقوة على المسار الصحيح بتسلسلات خيالية وجميلة ، مشحونة بالرمزية وحتى الذهب البصري ...

******إن غرائزها الوثائقية هي مساعدة وعرقلة في نفس الوقت للصلاة من أجل المسروقات ، مما يخلق إحساسًا قويًا بالمكان بينما تفتقر إلى القوة الدافعة الكافية للحفاظ على استمرار قصة التقدم في السن هذه طوال الطريق.

*******من خلال إحساس المخرج الوثائقي بالملاحظة الدقيقة، تربط [الكاتبة والمخرجة Huezo] ببراعة عجائب الشباب غير المتكافئة وملاذ الشباب المرتبط بتراب وطنه الجميل مع رعب خارجي "كابوسي" لا يوصف.

********إن الصلاة من أجل المسروقات هي في الأساس وصف للعجز ، والطرق الخبيثة التي تتصرف بها القوات "الرسمية" الفاسدة المتواطئة بشكل غير مرئي ، وبلا حدود ، وغالبًا ما يكون مرعبًا على أولئك الذين لديهم أقل قدرة على مقاومتها.

*********قصة قوية مفجعة. تذكير مؤلم بما يعنيه أن تكون امرأة في تلك البيئة.

**********ثلاث فتيات صغيرات في طريقهن إلى سن المراهقة يفحصن الحياة في بلدة في حالة حرب مستمرة.

***********سأكون متفاجئا اذا لم يفز هذا الشريط الاخاذ بأرقى جائزة سينمائية في هذا المهرجان العالمي الفريد: فقد جمعت المخرجة الفذة أهم معالم السينما الوثائقية وأدخلتها بمهارة ضمن سياق القصة الشيقة الروائية/الحكائية بطريقة عضوية متماسكة وربما "غير مسبوقة".

 

الـ FacreBook في

31.07.2022

 
 
 
 
 

«مهرجان عمّان السينمائي»:

احتفاء بسينما المستقبل العربية

سليم البيك

تحتفي عموم المهرجانات السينمائية بالنجوم، مهما حاولت تفادي طبيعة الحدث الاحتفالي. تُقدّم الأسماء اللامعة، وهي في غالبها ممثلات وممثلون، إلى واجهة الحدث، وهو المنطق ذاته الذي تتصدّر فيه أوجهُ النجوم بوسترات الأفلام، وتكون لأفلام تقوم على اسم ممثل أو اثنين، تراهن عليه، قد تكون على حساب فنية العمل وجودته. أما الأخيرة هذه، فلا تعتمد على أوجه الممثلين، المتراوحة ما بين الألفة والهوس، لتقديم الفيلم، بل على الفيلم بصفته عملاً فنياً درامياً، له عنوانه وقصته وشخصياته وأساليب إخراجه وتصويره ومَنتجته وغيرها من العناصر المكوِّنة لما سيصير فيلماً، دون الاطمئنان، في تواضع العناصر، إلى نجم أو نجمة في الواجهة قد يرمّم بوجهه نواقص الفيلم.

هذا النوع الفنّي من الأفلام وبوستراتها، هو أقرب للسينما كما يمكن ملاحظتها في «مهرجان عمّان السينمائي الدولي – أوّل فيلم» غير المعني بالدرجة الأولى، بالنجوم حاملي المهرجان إلى الصفحات الأولى المتحدثة عنهم، والمشيرة إن لزم، إلى المهرجان، دون أن يخلو من نجوم في أكثر من جانب سينمائي. بدأ «عمّان السنيمائي» دوراتَه بصفته مهرجان صنّاع الأفلام الشباب، في حضور آخرين أصحاب خبرات عالية وأفلام ممتازة (منهم يسري نصرالله هذا العام ومحمد ملص العام الماضي، في تكريم لكل منهما في عامه) فاعتنى المهرجان بالسينما صناعةً بالدرجة الأولى، كما هي الأفلام الجادة والمستقلة، ما يمكن تسميته بالسينما العالية المعنيّة بفنيّة العمل، وباسم مخرجه أو/و كاتب السيناريو له، وربّما بمصوّره ومؤلف موسيقاه. هو الفرق بين من يختار مشاهدة فيلم لاسم مخرجه، ومن يختاره لاسم نجمه.

بفهمٍ مسبق للفارق بين هذا البوستر وذاك، الموحيين بنوعين من الأفلام، يمكن فهم تصوّر هذا المهرجان الفتيّ للسينما التي يريدها مقرونةً به، وبالتالي تعريفه لما يجب أن تكون عليه السينما، وتالياً، قراره بأن يكون عاملاً أساسياً في توجيه حال السينما المقبل، في السنوات التالية. وهذه الأخيرة تجعل من المهرجان مكوناً رئيسياً في طبيعة مستقبل السينما العربية. لا يحتفي المهرجان بالنجوم وإن حضروا، لا يتخذ اسمَه وصورته من خلالهم، بل من خلال صنّاع الأفلام الشباب الحاضرين فيه، أصحاب التجارب الأولى، المنطلقين، المساهمين، بنسبة ما وضمن المتوقّع، في تشكيل مستقبل المشهد السينمائي العربي، فيكون اكتراث المهرجان الأساسي بالسينما في مرحلتها الأولى لدى أصحابها، إذ لا نجومية في ذلك، بل شغف وانشغال تجاه الأفلام وصناعتها، وهو ما اختار المهرجان اسمه منه (أوّل فيلم) وهو كذلك ما اشتغل عليه في دوراته الثلاث، فاختار رفع الأسماء، بل الارتفاع بها.

في دورته الثالثة التي انعقدت الشهر الماضي، وهي بمثابة الأولى بشكلها الطبيعي دون إجراءات الجائحة، ثبّت «عمّان السينمائي» هويته ضمن مهرجانات المنطقة العربية وأحداثها الفنية والثقافية، واضعاً نصب عينيه سينما الغد، أفلام المستقبل، وصانعي هذا المستقبل السينمائي في حالتهم الأولى، في بداياتهم، في أول مشوارهم وقد يكون متعثّراً، فهم فيه بحاجة إلى دافع وداعم في بداياتٍ قد لا تحظى بامتدادات وتطوّرات وأفلام تصنع سيرة وتساهم في مشهد سينمائي عربي مقبل، ما لم تنل هذا الدعم.

بنى المهرجان هويتَه من خلال صنّاع الأفلام الشباب، وقد لا تُوجِد المهرجاناتُ الكبرى لهم ولأفلامهم الأولى، لبداياتهم، مساحةً كافية، مقابل آخرين قد يكونوا مكرّسين. في «عمّان السينمائي» وجد الطامحون أمكنة لأفلامهم الأولى، لتجارب تلقى ترحيباً من قبل المهرجان للسبب ذاته الذي يمكن ألا تلقاه في غيره. لذلك، قد يكون لأي صانع أفلام قطع شوطاً، في المستقبل، سينمائياً بأفلام متتالية، منطلَقاً أوّل هو هذا المهرجان. يحتفي «عمّان السينمائي» لا بسينما الحاضر بالدرجة الأولى، بل، وفي تركيزه على الأعمال الأولى والبدايات التي قد تتعثّر، يحتفي بسينما المستقبل العربية.

كاتب فلسطيني سوري

 

القدس العربي اللندنية في

02.08.2022

 
 
 
 
 

«فلسطين الصغرى» لعبدالله الخطيب: المأساة في صورتها المكثفة

سليم البيك

ينحصر الحديث عن السينما الفلسطينية، عموماً، في تلك التي تصوّر أحداثاً وحكايات في فلسطين، فأي فيلم يمكن أن يخطر لأحدنا من هذه السينما، سيكون قد صُوّر هناك، وكذلك الحال مع ثاني وثالث فيلم، وأكثر. ما لم يتقصد أحدنا البحث في ذهنه عن فيلم فلسطيني خارج فلسطين، قد لا تنتهي به العناوين لأفلام وثائقية وروائية وُسمت بالفلسطينية.

قبل عشرة أعوام، قدّم مهدي فليفل في فيلمه «عالم ليس لنا» (2012) شقاً في هذا الحصر لما هو فلسطيني، مصوراً في مخيم «عين الحلوة» في لبنان، وذكّر فيلمه بأن أناساً وحكايات هي فلسطينية تماماً، يمكن أن تصوَّر وتوثَّق خارج الحدود السياسية لما يُعرف بفلسطين الـ48 والـ67، وذلك بعد عشرة أعوام تقريباً على «أطفال شاتيلا» (1998) لمي المصري، عن أطفال هذا المخيم في لبنان، يليه ربطُها بين ما هو خارج فلسطين وما هو داخلها، من خلال الأطفال كذلك، مع تحرير جنوب لبنان، في فيلمها «أحلام المنفى» (2001).

هذه الاستعادة للمخيمات خارج فلسطين، ضمن السينما الفلسطينية، في وتيرة عقد من الزمن، أكثر أو أقل، تتخللها أفلام قد لا تكون بأهمية المرتكزات في هذه السينما، إنما يمكن لأحدنا أن يلحظ الفترات المتباعدة ما بين فيلم عن مخيم خارج فلسطين وآخر. آخرها، موضوع المقالة، لا يقل أهمية عن أي منها، بل إن فيه ما يمايزه عنها، وهو عفويته وتلقائية مادته الأساسية، ناقلاً الصورة كما هي من مكانها، ولا يقوم باستعادتها من مكان أو زمان خارجَين، فالجانب التوثيقي فيه عاد إلى أصله، إلى فكرته الأولى وهي التسجيل للتوثيق لا لصنع فيلم بالضرورة، ثم، بما سُجّل، قد يُصنع الفيلم.

يصور «فلسطين الصغرى: يوميات حصار «الحصارَ الذي فرضه النظام السوري على مخيم اليرموك ما بين 2012 و2015، منتهياً بتهجير الأهالي واستلام تنظيم داعش للمخيم من النظام السوري. فكانت المَشاهد شديدة الوثائقية، دون تعليقات ضرورية، وإن أرفق الخطيب مَشاهده بنصٍّ خارجي له. المشاهد الآتية من قلب الحصار، تنال استثنائيتها من طبيعة تصويرها، فكانت لتوثيق المأساة الراهنة التي يعيشها أهالي اليرموك، دون معايير ولا اعتبارات يمكن لنيّة تحويلها إلى فيلم أن توجّه بعض المشاهد أو تتقصّد في أخرى، فيفقد الفيلم من طبيعيته وتخفت علاقة التصوير بالمصوَّر.

تبقى لـ«فلسطين الصغرى» استثنائية التصوير من الداخل مكاناً وزماناً، وقد تماهى عبدالله مع الشخصيات الواقعية لفيلمه، فكان – لا لرغبة منه فلم يكن يصوّر فيلماً، بل كان واحداً من المصوَّرين – خلف الكاميرا مرّات، ومرّات أمامها، دون تمثيل، هي واقعية حيّة وتامّة، كأنّها ما أراده دزيغا فيرتوف من الوثائقيات، أو من «سينما الحقيقة».

اشتغل الخطيب على مئات الساعات التي صورها من المخيم في حصاره، وخرج بهذا الفيلم وهو الأقسى في السينما الفلسطينية في مرحلتها ما بعد الأفلام التسجيلية، التي نقلت شهادات من مجزرتَي تل الزعتر وصبرا وشاتيلا في لبنان. بخلاف أفلام المجزرتَين، المبنية على شهادات ناجين من المجزرة كما في «لأن الجذور لا تموت» 1977 لنبيهة لطفي، أو شهادات مرتكبيها كما في «ماسّاكر» (مجزرة) 2005 لمونيكا بورغمان ولقمان سليم، لم يأت «فلسطين الصغرى» بشهادات خارج المكان أو الزمان، بل سجّل الحدث كما هو. تبقى لـ»فلسطين الصغرى» استثنائية التصوير من الداخل مكاناً وزماناً، وقد تماهى عبدالله مع الشخصيات الواقعية لفيلمه، فكان – لا لرغبة منه فلم يكن يصوّر فيلماً، بل كان واحداً من المصوَّرين – خلف الكاميرا مرّات، ومرّات أمامها، دون تمثيل، هي واقعية حيّة وتامّة، كأنّها ما أراده دزيغا فيرتوف من الوثائقيات، أو من «سينما الحقيقة». تماهى مع شخصياته في حقيقة كونه إحداها، يصور لينقل معاناة الناس في فيديوهات كان يمكن أن تُنشر على الإنترنت أو تبثها تلفزيونات أو تستخدمها مؤسسات ومحاكم لإدانة النظام السوري. المَشاهد التي يمكن أن تكون بتلك القساوة، كدليل في محكمة، صارت، أخيراً، فيلماً وثائقياً غير مكترث بأدبيات الصناعة الوثائقية، ولا بتنبيهات تسبق الفيلم وتراعي حساسية المتفرّج.

الفيلم هو الأقسى منذ أفلام ووثائقيات وتقارير تلفزيونية تناولت مجزرة تل الزعتر ومن بعدها صبرا وشاتيلا، فـلم تدخل مَشاهد الفيلم إلى المخيم من بعد فك حصاره كما هو الحال، مع ما وصلنا من صور صبرا وشاتيلا، ولا نقل شهادات الناجين كما وصلتنا من تل الزعتر، وكلاهما مجزرة حوصر فيها المخيم قبل ارتكاب مجزرة على أيدي اليمين اللبناني متعاوناً مع الجيش السوري في الأولى والإسرائيلي في الثانية. «فلسطين الصغرى» صوّر المجزرة المرتكَبة ببطء وعلى شكل حصار طويل وقاس، صوّر عمليات القتل على شكل بحث يائس على ما يسد الجوع أو الرمق غير الماء المغلي بالبهارات. وهذا ما جعل طبيعته، خارجاً من مكان المأساة وزمانها، قابلاً للمشاهدة، إذ لا دماء ولا أشلاء فيه، لا صور لمجزرة تقليدية.

«فلسطين الصغرى» يكمل دائرة المأساة الفلسطينية المعاصرة، يعطي إثباتاً موثّقاً وموثِّقاً للقول في استمرارية النكبة وفي أمكنة هي فلسطينية وهي خارج فلسطين، فالمخيم لا يكون فلسطين صغيرة لدى أهله، بما يمكن أن يعنيه الوطن وحسب، الوطن المفقود تحديداً. المخيم، اليرموك هنا، هو تكثيف الحالة الفلسطينية في مأساتها، في العقد الثاني من القرن، في موقع وزمان محدّدَين، خارج المتعارَف عليه سينمائياً، فلسطينياً. هو تكثيف اتسعت مأساتُه لكل الفلسطينيين.

كاتب فلسطيني سوري

 

القدس العربي اللندنية في

09.08.2022

 
 
 
 
 

المخرج المصريّ لا يحبّ الضحايا في أفلامه |

يسري نصرالله لـ «الأخبار»: كيف الإمساك بكتاب المدينة؟

شفيق طبارة

كصدى متواصل، تتناسل أصوات أفلام وشخصيات يسري نصرالله (1952)، منذ باكورته الطويلة حتى عمله الأخير. لا يزال السينمائي المصري ينسج صوراً مفاجئة عن أمور طبيعية تحدث أمام أعيننا كل يوم. يعشق سحر السينما، يعرف تماماً ما يريد قوله من خلالها، في ما يتعلق بكل الاضطرابات التي شهدتها مصر والعالم العربي، وقد عايشها بنفسه. من خلال أعماله، يمكننا تبيّن خلفيته الاجتماعية والثقافية وسيرته الذاتية وسعيه إلى الاستقلال الذاتي عن المصالح الاقتصادية في صناعة الأفلام. تتحدّى أعماله الأعراف الاجتماعية، لتشعل غالباً الجدل والنقاش. يقدم نصرالله شكلاً ديناميكياً صعباً، لكن يسهل الوصول إليه من خلال سرديته السينمائية التجريبية في جوهرها. أفلامه حيوية، رشيقة وجريئة. يشير إلى عيوب وخصوصية مصر، راغباً في أن تكون أكثر جرأةً، تماماً مثل أبطاله. التقينا صاحب «سرقات صيفيّة» خلال الدورة الأخيرة من «مهرجان عمان السينمائي الدولي – أول فيلم»، فأخذنا الحديث إلى مصر وعالمها السينمائي والإنساني

لا ينسى يسري نصرالله لحظة عرض فيلمه الأول «سرقات صيفية» (1988) الذي قدّم صورة للمجتمع المصري في الستينيات خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر. طرح الشريط العلاقة بين الإقطاعيين والفلاحين عقب ثورة يوليو، ما بين صداقة مفقودة، وتفكك أسري، ومحاولة للتشبث بالأرض. يقول لنا: «كان أول عرض لـ«سرقات صيفية» في تظاهرة «أسبوعا المخرجين» ضمن «مهرجان كان»، لم أكن أفهم ماذا يجري.

يسري نصرالله: موضوع الحجاب في مصر اليوم مسيّس وعنيف بدرجة كبيرة

هناك دوماً شعور غريب ينتابك في لحظات مماثلة، وحتى اليوم ما زلت أشعر به لدى عرض فيلم جديد. عندما تبدأ بصنع فيلم، تمضي عامين تقريباً في الكتابة والبحث عن المال لإنتاجه وتصويره، ثم هناك مرحلة ما بعد الإنتاج. سنتان من العمر تمرّان في ساعة وخمس وأربعين دقيقة. هناك إحساس غريب جداً، كأنك خارج الزمن، أو شعورك بالزمن يتغير. في اليوم الثاني بعد العرض، كنت أمشي على الكروازيت وكان معي يوسف شاهين. وقتها كنا نكتب فيلم «إسكندرية كمان وكمان» (1990). صادفنا المخرجة إيناس الدغيدي التي قالت لي: «ياه يا يسري قد إيه حلو الفيلم، نفسي أوي أعمل فيلم زي الفيلم بتاعك». وقتها كانت ترتدي أساور ذهبيّة في كلتا اليدين، فقلت لها: «إنت لو بعتي اسوارتين من دول، حتعملي فيلم زي ده». فأجابت: «هو أنا حمارة؟» (بمزاح وضحك). وهنا فهمت أن أول فيلم لي، ليس الأول لها ولا أول فيلم لأي شخص آخر، هي تجربة تحدّد من أنت بعدها، وهي لوحة التعريف عنك، فهو الأول والأخير. دخلت تجربة الفيلم الأول من دون تخطيط، لم أفكر في إنجاز فيلم يشارك فيه ممثلون يؤدون للمرة الأولى، وفي تصويره بكاميرا سوبر 16، وما إلى ذلك. خلال الكتابة، أخذت السيناريو إلى الرقابة، فمُنع بحجة انتقاده عبد الناصر. أوضحت أن الفيلم ليس ضد عبد الناصر، ولا حتى معه. ما أنا أردت قوله في الفيلم أنّ هناك حالة سائدة وقتها، وأردت مقاربة كيفية تعامل المجتمع معها. تعاركت مع الرقابة لأشهر، ثم بدأت اختيار الممثلين. أردت ممثلين يعرفون ما هو التمثيل مثل يسرا، وإسعاد يونس. ولكنّ الجميع رفض بسبب موضوع الفيلم: «عايز يقول إيه المجنون ده، عبد الناصر جمهوري مش عارف ايه وبتاع!». ولأن تمويل هذا الفيلم كان منّي أنا شخصياً، قال لي شاهين: «أنت معاك الفلوس دي، مش محتاج لأي حد. هات أي ناس يعرفوا يمثلوا». وكانت هذه أهم نصيحة منه. لذلك بدءاً من هذا الفيلم وصولاً إلى أفلامي اللاحقة، عرفت كيف أختار الممثلين الجيدين للدور. وإلى الآن علاقتي ممتازة بالممثلين، هم يريدون العمل بجانبي، لأنّ هناك شعوراً بالتحرر وبأنّهم أحرار. وضع هذا الفيلم تعريفاً لي. لكنّ الأمر الثاني الأقل لطافةً هو أن الناس وضعوني في قالب مفاده أنّ يسري يصنع فقط أفلام مهرجانات. ولكن في الوقت نفسه، أؤكد أنّه ليس هناك منتج خسر ملليماً واحداً بسبب فيلمي، ولو خسر، فلأنه لا يجيد تسويق الأفلام. «احكي يا شهرزاد» (2009) و«الماء والخضرة والوجه الحسن» (2016) كانا ناجيين تجارياً. أما «بعد الموقعة» (2012) فكان حالة خاصة («أنا بحب الفيلم ده أوي أوي»). المشكلة لا تكمن في التسويق. هو فيلم لا يمكن أن أصنعه إلا في وقته، وعندما صنعته في وقته، لم يقبله أحد. في الغرب أي في «مهرجان كان»، كانوا يتوقّعون فيلماً عن الثورة وحقيقتها. والجمهور في مصر لامني بحجة «أنت ما لقتش في الثورة غير الناس يلي كانوا ضد الثورة!». نعم، لأنهم هم اللافتون حقاً. هم الذين لديهم مشكلة حقيقية، بالإضافة إلى المشكلة التي كنا نواجهها كلّها، بمن فيهم هم، لأنهم كانوا مشكلة لنا أيضاً. لذا، كان هناك نفور من الفيلم من كل الجهات، ولكنّ العالم اليوم يتقبله جداً. حصل الأمر نفسه مع «مرسيدس» (1993). عندما عرضته للمرة الأولى، اشتعل الجدل واتُّهم بأنّه منحلّ، لكنه اليوم استحال فيلم Cult، وشوهد كثيراً، واليوم يقولون لي «ياه، ده انت كنت بتتنبأ؟». لكن لم أكن أتنبأ، بل رأيت أنّنا كمجتمع، فنحن عالقون إما في ماضٍ، أياً كان، ماضي عبد الناصر، ماضي الملكية، ماضي الإسلام الأولاني، ماضي الفراعنة... أو مستقبل اشتراكي، أو دولة حديثة زي دبي، فيما لا أحد يريد رؤية الحاضر».

القضايا والأسئلة التي طرحها نصرالله في أفلامه، ما زالت راهنة اليوم، لكنّ المخرج يراها بطريقة مغايرة. يعلّق: «مثلاً، «مرسيدس» كان مختلفاً عما يراه الناس في الشارع وعن الحالة الذهنية للشعب. سياسياً، قارب الشريط انهيار الكتلة الاشتراكية، وكل المجتمعات العربية كانت تلعب على التناقض ما بين روسيا وأميركا. وهنا أتكلم عن الأنظمة لا الشعب. لذلك، عند انهيار الكتلة الاشتراكية، ساد إحساس بأننا أمام نهاية العالم، «والسادات طلعلك وقلك بابا مات، اتصرف بقا». بما معناه أن مجتمعاً مبنياً على الدولة، وعلى مجانية التعليم والسكن وغيرهما، وجد نفسه عارياً من كل ذلك. وهذا ما شكّل فوضى أتاح دخول المعادلة الإسلامية، والأنظمة العسكرية على المشهد... فهل تغير هذا اليوم؟ الجديد هو أن القصص التي كنا نفكر أنها أزماتنا نحن، بدأنا نراها اليوم في فرنسا وأميركا وفي كل مكان».

«سرقات صيفية» (1988) قدّم صورة للمجتمع المصري في الستينيات

ينقلنا الحديث من أفلامه الروائية إلى فيلمه الوثائقي الوحيد «صبيان وبنات» (1995). هل يفكر في إنجاز وثائقي آخر؟ وهل موضوع الحجاب الذي شكّل عماد الفيلم إلى جانب قضايا أخرى، ما زال راهناً اليوم؟ يجيبنا: «أنا تغيرت. «صبيان وبنات» ولد من حادثتين في مصر وفرنسا. فتاة محجبة ذهبت إلى المدرسة في فرنسا وقامت القيامة و«تسيّست» القصة. وفي مصر، قرأت مقالة في «روز اليوسف» عن أنّ واحداً من قياديّي الجماعة الإسلامية نُقل من السجن عند وزير الداخلية للتفاوض على نبذ العنف. وكانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها الشارع منذ اغتيال السادات. حين دخل على الوزير، كان سعيداً جداً. سأله الوزير عن سبب سعادته، أجاب: «عشان انتصرنا. كل الستات محجبات». أنا اختلطت كثيراً مع محجبات، وحتى من ضمن العاملين في السينما. والأكيد أنّ حجابهنّ ليس تصويتاً لهذا الرجل، أو لهذا الفكر. أتكلم عن الموضوع وجودياً. ومن هنا جاءت الفكرة، أردت أن أنجز فيلماً عن هذا الأمر. خلال الجامعة، شاهدت بدايات الحجاب التي تزامنت مع سفر الكثير من الرجال إلى السعودية، وعودتهم حاملين منظومة القيم الأخلاقية هذه. تعرفت وقتها أكثر إلى الممثل باسم سمرة الذي شارك بدور صغير في فيلم «مرسيدس»، وعمل مع يوسف شاهين في «القاهرة منورة بأهلها» (1991). وكنت أتكلم عن الموضوع، فقال لي: «تعال شوف عيلتي». وباسم كشخصية، مثير جداً للاهتمام. هو من بلقاس، بجانب المنصورة من الدلتا. هاجرت عائلته إلى القاهرة وسكنت في نزلة السمان (الجيزة)، وكان باسم يعمل مدرساً ثانوياً على طريق الصعيد، ويحلم أن يصبح ممثلاً. لدى باسم وعائلته حراك اجتماعي عظيم، فبدأت تصوير باسم وعائلته والمدرسة التي يدرّس فيها. بدأت التصوير بحثاً عن جواب على ماهية الحجاب وأصله. لكن في النهاية، عبّر عنوان الفيلم «صبيان وبنات» عما أردتُ قوله. سواء بحجاب أو بدونه، أردت تصوير هؤلاء الشباب، ماذا كان يفعلون ليعيشوا الحب، والعلاقات في ما بينهم. لذلك أخذ الفيلم منحى مختلفاً، خصوصاً خلال المونتاج. مثلاً، هذا أمرٌ لاحظته في الجامعة مع بدايات تحجيب البنات، الذي واكب الانفتاح الاقتصادي. مع هذا الانفتاح، بدأت بنات الطبقة المرفهة يلبسن «سينيهات» ويأتين بسيارات مرسيدس، وبنات المدينة الجامعية والطبقة الأكثر فقراً، تحوّل لبسهنّ إلى شيء خارج عن الموضة. مع ذلك، جاء شخص يقول لهن: انتن لسن غنيّات ولا فقيرات، أنتن مسلمات! خلال التصوير كنت أقاوم دوماً فكرة الفيلم الرئيسية، التي كانت تتضح أكثر خلال المقابلات والإجابات التي أسمعها. كنت مصمّماً على تصوير الأشخاص الذين أحبّهم فقط، أي باسم وعائلته وأصدقاءه وزملاءه. خلال المونتاج، بدأت أبحث في الساعات الثمانين التي صوّرتها، وصنعت فيلماً من ساعتين. لكن عندما شاهدته، قلت في نفسي «أنا بكره الناس دي! مش دول الناس الي انا بحبهم!». لذا، أعدت تركيب الفيلم بطريقة مختلفة كلياً، ورحت أبحث بين هذه الساعات الطويلة، أين أحببتهم. اكتشفت أنّ كل اللحظات اللذيذة هي تلك التي تفهم منها ما هي الاستراتيجيات التي يستعملونها للتخلص من كبسة الحجاب وكبسة العيلة وكبسة المجتمع، وكيف يخرّبون هذا كله. ومن هذه الناحية، لا يزال موضوع الفيلم قائماً.

أفلامي تتحدّث عن فوضى المشاعر، والعائلة، والطموح، وفوضى الحياة باختصار

اليوم، إن أردت أن أصنع الفيلم نفسه، فسوف يكون مختلفاً كلياً. نساء كثيرات يخلعن الحجاب اليوم، وهذا مثير للاهتمام مثلاً. هناك ملاحظة أخرى هو أنّ الفيلم تسيّس اليوم في حين أنّه لم يكن كذلك وقتها. اليوم في مصر هناك جدل حول ما إذا كان الحجاب فريضة أو لا. فتوى علماء الدين وكل هذه المعارك سياسية بامتياز. موضوع الحجاب في مصر اليوم مسيّس وعنيف بدرجة كبيرة. مثلاً، كلنا نتذكر حادثة الفتاة التي ذُبحت على يد صديقها قبل أشهر، والنقاش الذي دار حول ما إذا كانت هي الضحية أم هو. «الخناقة دي، خناقة سياسية عن الحجاب». لو كانت محجبة، لن تجد أحداً يدافع عنه ويقول إنه الضحية.

«مرسيدس»، «سرقات صيفية»، و«جنينة الأسماك» (2008)، «بعد الموقعة»، «احكي يا شهرزاد» كلها أفلام مدينة، ماذا يحاول يسري نصرالله أن يقول؟ «المدينة كلها فوضى، مركّبة وذاهبة في جميع الاتجاهات. الفوضى شيء مرعب جداً، فأفلامي تتكلم عن فوضى المشاعر، والعائلة، والطموح، وفوضى الحياة باختصار. لذلك تحاول أن تجد داخل هذه الفوضى معنى، لتستطيع التعامل معه. هناك دوماً التحدي نفسه وهاجس يسكنني حول كيفية الإمساك بكتاب المدينة أو المشاعر. لا أبحث عن الضحايا في أفلامي «أنا ما بحبش الضحايا كشخصية درامية، بتعاطف معاهم في الحياة. لكن كشخصية درامية، أفكّر في كيفية إخراجها من وضعها، فهذه حكاية مثيرة».

 

الأخبار اللبنانية في

22.08.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004