ملفات خاصة

 
 

ثنائية «الشعب» و«السلطة»

في أفلام «وحيد حامد»!

بقلم: مجدي الطيب

عن رحيل كاتب السيناريو

وحيد حامد

   
 
 
 
 
 
 

أسلوبه المتفرد تجلى في أفكاره التي تبدو مُهادنة في ظاهرها بينما هي موجعة في جوهرها

موهبته حررته ومنحته قدرة فريدة على المراوغة وتجاوز الخطوط الحمراء

للمرة الأولى والأخيرة على الشاشة فضح تدشين شركات «الأوف شور» والبنوك الإسلامية في جزر البهاما باعتبارها مصدر تمويل جماعة الإخوان المسلمين الدولية

اتهامه بأنه كان يخدم السلطة في أفلامه اتهام مُبتذل ومُتهافت يعكس نوعاً رخيصاً من «المكايدة الأيديولوجية»، وتصفية الحسابات الشخصية !

لا أدري لماذا كانت تقفز إلى مخيلتي رسومات فنان الكاريكاتور الساخر بهجت عثمان، في كل مرة أشاهد فيها فيلماً للكاتب المُبدع وحيد حامد وظللت أبحث طويلاً عن الصلة بينهما، حتى أدركت، مؤخراً، أن ثمة علاقة وثيقة تتمثل في أن كليهما كان مهموماً بالبسطاء، وقادراً على التعبير عن قضاياهم، والحديث بلسانهم، والأهم أنه كان صاحب موقف من «النظام»، وحجز لنفسه مكاناً بين صفوف الناس، في مواجهة فساد السلطة، ورجال الأعمال .

ففي حين كان للفنان المُبدع «بهجت» (1931- 2001)، الفضل في صك اصطلاح «حكومة وأهالي»، ليُعلق، بسخرية مُرة، على واقع الحال، وينتقد، بشكل لاذع، شتى أشكال ومظاهر السلطة الجائرة، ويُعبر عن العلاقة الأزلية، بين السلطة والشعب، في صورة عسكري البوليس التقليدي، الذي يرتدي البدلة الميري، ويضع عدة شرائط على ذراعيه ويبرم شاربه كالصقر، ليكون ممثلا للحكومة، وصورة الفلاح المصري، بالزعبوط والصديري والقميص الدبلان، نائباً عن الأهالي، ظلت ثنائية «الشعب» و«السلطة»؛ سواء أكانوا وزراء أو رجال أعمال، هي هاجس الكاتب الكبير وحيد حامد (1944 – 2021)، في غالبية أفلامه، التي بلغت قرابة 45 فيلماً؛ إذ نجح في أن يكون «صوت الغلابة»، ونصيرهم، وعمد إلى تكريس نهايات انتصرت لجموع الشعب، في مواجهة سلطة غاشمة (قط وفار/ الإرهاب والكباب)، وطبقة رجال الأعمال الفاسدة (الغول / المنسي)، والقهر والاستبداد (البريء / طائر الليل الحزين / سوق المتعة / ملف في الآداب)، والمؤامرات الخارجية (النوم في العسل)، ومجمل السياسات التي أدت إلى إفقار «الشعب»، وتهميشه، وكانت سبباً في تنامي ظاهرة التطرف الديني (دم الغزال / طيور الظلام) !

السادة .. والمسودين

هذه العلاقة المُختلة بين الحاكم والمحكوم، أو بالأحرى بين السادة والمسودين، والتناقض بين ما يحتاجه الشعب من السلطة، وما يُغض النظام الطرف عنه، ويؤدي إلى تلاعب السلطة بمُقدرات الشعب، واحتدام الأزمات بين «الحكومة والأهالي»، ظلت بمثابة الهاجس المشترك، الذي خيم على إبداع «بهجت» و«حامد»، إلى أن سيطر هاجس التطرف الديني، وضرورة فضحه ومواجهته، على «حامد»، بينما بدا وكأنه لا يشغل حيزاً من اهتمام «بهجت»، الذي كان مؤرقاً بقضية «الديكتاتورية»، وحرية التعبير، والتبعية السياسية، والهيمنة الاقتصادية؛ ففي حين لا تكاد تجد رسماً كاريكاتورياً واحداً للعظيم «بهجت»، الذي رحل عن دنيانا في 3 يونيو عام 2001، يتناول ظاهرة التأسلم السياسي، أو ما اتفق على تسميته الإرهاب الديني، بدا وكأن «الإرهاب والكباب» (1992)، كان بمثابة نقطة تحول في مسيرة «حامد» السينمائية؛ إذ يمكن القول إن «رشاد» (أحمد عقل)، الموظف البيروقراطي المتطرف، بلحيته الكثة، وطاقيته البيضاء، واستشهاده المُبالغ فيه بالآيات القرآنية،واهتمامه المُفرط بأداء فرائض وسنن الصلاة، على حساب قضاء مصالح الناس، هو الذي أطلق شرارة «العنف» و«الإرهاب» في المجتمع (مُجمع التحرير)، وإذا كان الأمر لم يتعد التلميح في «الإرهاب والكباب»، فالتصريح كان وأضحاً في فيلم «كشف المستور» (1994)؛ الذي رصد ظاهرة اعتزال الفنانات، وارتدائهن الحجاب (الممثلة «داليا فهمي» (وفاء عامر)، على يد الدعاة الجدد، في توقيت متزامن مع ظهور «الدولة الجديدة»، وتدشين شركات «الأوف شور»، والبنوك الإسلامية في جزر البهاما، التي تُعد مصدراً من مصادر تمويل وإخفاء ونقل أموال جماعة الإخوان المسلمين الدولية، التي فضحها «حامد»، للمرة الأولى والأخيرة على الشاشة؛ عبر الحوار الذي هددت فيه «سلوى شاهين» (نبيلة عبيد) زميلتها السابقة، في شبكة الدعارة، «الشيخة وفاء المغربي» (عايدة عبد العزيز)، قائلة : «نطلب البركة من بقية مشايخ جزر البهاما»، ودفعت حياتها ثمناً لقيامها ب «كشف المستور» !

بعدها توالت أفلام وحيد حامد، التي استبدل فيها إرهاب جماعات الإسلام السياسي، وتطرف السلطة الدينية، بقهر واستبداد السلطة السياسية؛ فقدم «طيور الظلام» (1995)، الذي رصد فيه شكل الصراع على السلطة، وربط بين فساد الحزب الحاكم، ويمثله المحامي «فتحي نوفل» (عادل إمام)، وتيار الإسلام السياسي، ويمثله المحامي «علي الزناتي» (رياض الخولي)؛ فالأول خان نفسه، وشعبه، وباع نفسه للحزب الحاكم، والثاني باعها لجماعة الأخوان، التي فضح الفيلم مُخططها الخبيث للاستيلاء على نقابات المحامين والمهندسين والأطباء، كما فضح المحاولات اليائسة للغريمين للعودة إلى الحياة السياسية، والنظر إلى الوطن بوصفه ساحة يتصارع فيها أصحاب «الأيديولوجيات»، في الحزب والجماعة، ومن خلفهما «الخلايا النائمة»، حول من يهيمن على «الملعب»، ويسجل هدفاً في مرمى «الشعب» !

ولأنها معركة، بمعنى الكلمة، ظل وحيد حامد ممتشقاً سِلَاَحُهُ، مُصراً على كشف الوجه القبيح للإرهاب باسم الدين، ومع حلول عام 2005 اختار أن يضرب بقوة أركان التيار المتأسلم، ويُظهر مدى هشاشته، عندما اختار التوقف عند واقعة «الطبال»، الذي أصبح «رئيس جمهورية إمبابة»، في فيلم «دم الغزال»، وكيف أدارت الدولة الصراع مع جماعات الإرهاب، وكان من الجرأة بحيث لم يكتف بإدانة العنف المُسلح، باسم الدين؛ عبر تصوير مشاهد تحطيم وحرق محلات بيع أشرطة الفيديو، واجتماع مجلس شورى الجماعة، وتطبيق حد قطع اليد، في غيبة القانون، وإنما أشار بأصابع الإتهام إلى الدولة نفسها، كونها تُضحي بالفقراء، والمهمشين، والأبرياء، كثمن لانتصارها في حربها ضد الإرهاب، بما جعل المجتمع هو الضحية الحقيقية في الصراع؛ بحجة أن «أمن البلد فوق أي اعتبار» !

تبدو مهادنة .. لكنها موجعة !

الأمر المؤكد أن حرب «حامد»، ضد الإرهاب، لم تشغله، مُطلقاً، عن مواصلة رصد الزلزال السياسي، وتوابعه؛ كزاوج السلطة ورأس المال، واستغلال النفوذ، وإفساد الحياة السياسية؛ فالصدام، بين الشعب والسلطة، سواء أكانوا وزراء أو رجال أعمال، حتمي، والكراهية متبادلة، والحديث في الظواهر الاجتماعية، والاقتصادية، يقود دائماً إلى السياسة؛ كما رأينا في «النوم في العسل» (1996)، الذي وضع سيناريو افترض فيه انتشار وباء يؤثر على القدرة الجنسية للرجال في مصر، لكن أطراف عدة؛ كالساسة والدجالين ورجال الدين، لم يأبهوا بالكارثة، بعد ما رأوا فيها فرصة للتربح، ما يدفع العميد «مجدي نور» (عادل إمام)، لتحريض المواطنين على التمرد، والعصيان، رغم كونه ممثل السلطة، بوصفه رئيس مباحث القاهرة، وكعادته في استشراف المستقبل يوحي «حامد» وكأن الحكومة هي المستفيدة من هذا الوباء مجهول المصدر، تماماً مثلما يحدث الآن من اتهام دولتي أمريكا والصين بالوقوف وراء انتشار وباء «كورونا»، لينتهي الفيلم بانضمام رئيس المباحث المستقيل إلى صفوف الشعب، الذي خرج يصرخ، في مظاهرة ضخمة : «آآآآآه آآآآه». وفي فيلم «إضحك الصورة تطلع حلوة» (1998)، لم تكن تعنيه حياة «سيد غريب» (أحمد زكي)، المصور الفوتوغرافي، الذي هجر الريف ليستقر في القاهرة، بحثا عن مكان قريب من كليه طب القصر العيني، التي التحقت بها ابنته «تهاني» (مني زكي)، لكنه كان معنياً بقضية الصراع الطبقي، بين مجتمع رجال الأعمال، الذي يمثله «طارق» (كريم عبد العزيز) ووالده «عز الدين» (عزت أبو عوف)، والعائلة الفقيرة، وهو الصراع الذي لخصه «حامد» في جملة الحوار الآثيرة، التي وضعها على لسان الأم «روحية» (سناء جميل) : «احنا صغيرين قوي يا سيد». وفي فيلم «سوق المتعة» (2000)، لم يكن «أحمد حبيب أبو المحاسن» (محمود عبد العزيز)، الذي خرج لتوه من السجن أقرب إلى الحطام البشري، أو المسخ، سوى نتاج سنوات القهر والإذلال، التي مورست عليه من قبل سلطة أفسدت المواطن، وجعلته يعتاد القهر، ويبحث عن السجن وهو ينعم بالحرية !

الأسلوب المتفرد للكاتب وحيد حامد تجلى، بقوة، في الأفكار التي تبدو مُهادنة، في ظاهرها، بينما هي موجعة، في جوهرها؛ فعلى سبيل المثال يبدو فيلم «معالي الوزير» (2002)، وكأنه مجرد سخرية طريفة من أنموذج «وزير الصدفة»، الذي جسده «رأفت رستم» (أحمد زكي)، بينما هو في واقع الأمر تنديد صارخ بالآلية المُتبعة في تشكيل السلطة، والتي قوامها «الفوضى»، بينما يُخيل لمن يُشاهد فيلم «الأولة في الغرام» (2007)، أنه يحكي سيرة «عمرو السيوفي» (هاني سلامة)، الابن المُدلل، الذي يلهث وراء نزواته، ويجر على عائلته الأرستقراطية المشاكل، ولا تنقذه سوى مظلة «مولانا» (أحمد راتب)، في حين أن من يقرأ الفيلم بتمعن يكتشف أنه يحمل إسقاطاً على قضية «التوريث»، التي كانت مثار جدل في تلك الفترة، وأن «عمرو» لم يكن سوى «الوريث»، الذي يُعد نفسه لتولي مقاليد السلطة، بعد عمه (جميل راتب)، بدليل أن السيناريو ، الذي كتبه وحيد حامد، كان يحمل عنوان «الوريث»، قبل أن ترفضه الرقابة. أما «عمارة يعقوبيان» (2006)؛ التي تضم نماذج بشرية، تمثل مختلف فئات وطبقات المجتمع؛ فهي «مصر التي تحولت إلى مسخ»، وهي الرؤية التي ظلت سمة لأفلام وحيد حامد، ولم تكن بعيدة عن فيلم «إحكي يا شهر زاد» (2009)؛ بقصصه الواقعية التي قدمت «بانوراما» للمجتمع المصري، بمشاكله وهمومه وضحاياه، وعلاقة شعبه بالسلطة؛ كما رأينا في شخصية الصحفي الوصولي «كريم» (حسن الرداد)، الذي يتملق رموز السلطة، ويمنع زوجته المذيعة «هبة يونس» (منى زكي)، من تعرية النظام السياسي، في برنامجها، خشية ضياع حلمه في تولي منصب رئيس تحرير الصحيفة القومية التي يعمل بها، واستجابتها لطلبه، إلا أنها تكتشف أن ضيفاتها من النساء لسن سوى ضحايا لواقع تحالفت فيه قوى الفساد السياسي، الاجتماعي والاقتصادي. وأن السلطة تُحصن رجالها، وتمنحهم أرفع المناصب، حتى لو كانوا نصابين، كما شخصية «أدهم» (محمود حميدة) رجل الأعمال «صائد العوانس». وفي فيلم «قط وفار» (2015)، يصل الصدام، بين الشعب والسلطة، إلى ذروته؛ عبر العلاقة، التي تبدو كوميدية، بين وزير الداخلية «عباس القط» (محمود حميدة)، والمواطن البسيط الخانع «حمادة الفار» (محمد فراج)، بألقابهما شديدة الإيحاء، بينما هي علاقة «قهر» يتعرض له «المواطن»، قبل أن يُصبح، بسببه، شخصية فاعلة. واللافت أن وحيد حامد بلغ درجة عالية من النضج، والجرأة، في سيناريو «قط وفار»؛ بدليل المشهد، الذي أظهر فيه وزير الداخلية وهو يرقص مع «الغوازي»، وكأنه واحد من أحلامه، أو أنه صاحب حياة خفية مُزرية؛ خصوصاً أن الحلم جاء في أعقاب وفاة ابنة عمه، التي لم تُحرك لديه ساكناً !

العصف الذهني المُبكر

يُخطيء من يظن أن هذا العصف الذهني أو بالأحرى الصراع المُحتدم، بين الشعب والسلطة، جاء في مرحلة متأخرة من مسيرة وحيد حامد؛ فالقراءة الدقيقة لمراحل إبداع ابن قرية بني قريش التابعة لمركز منيا القمح، بمحافظة الشرقيّة، تكشف لنا أن جرأته تزامنت مع تجربته الأولى في الكتابة للسينما؛ عندما اختار أن يبدأ علاقته مع السينما بفيلم «طائر الليل الحزين» (1977)، الذي أثار حفيظة الكثيرين، ممن اتهموه بالتورط في حملة الهجوم، التي شجعها السادات، واستهدفت تصفية عهد عبد الناصر، في ما أصطلح على تسميته «سينما الكرنكة» وفي قول آخر «سينما مراكز القوى»، لكن جاء فيلم «الغول» (1983)، أقرب إلى دليل البراءة؛ بإدانته الدامغة لسياسة الانفتاح، التي أفرزت طبقة رجال الأعمال الفاسدين، ووصم النظام «الساداتي»، بالظلم وغياب العدالة، الأمر الذي دفع الصحفي «عادل عيسى» (عادل إمام) إلى قتل رجل الأعمال «فهمى الكاشف» (فريد شوقي)، في تكريس لما أطلق عليه «الحل الفردي»، وهو ما فعله بالضبط «أحمد سبع الليل» (أحمد زكي)، في النهاية المحذوفة لفيلم «البرىء» (1986)، بما يعني أن جدلية القهر والحرية، كانت تمثل أولوية لدى وحيد حامد؛ خصوصاً عندما يربط بينها والسلطة، سواء سلطة الأجهزة الأمنية، التي تضطهد المواطن، وتستخف بأقدار الناس ومصائر البشر، في «ملف في الآداب» (1985)، أو تلك التي لا يستقيم عملها من دون اعتبار المواطن شريكاً في تأمين الوطن، بينما تؤَمن هي حلمه بقوتها، كما في «اللعب مع الكبار» (1991)، أو السلطة السياسية، مزدوجة الشخصية، التي يمثلها الوزير «خالد مدكور» (صلاح قابيل)، صاحب الماضي الملوث، في فيلم «الراقصة والسياسي» (1990)، الذي يمارس قهراً، أقرب إلى الابتزاز، على الراقصة «سونيا سليم» (نبيلة عبيد)، طمعاً في إرضاء المجتمع الأخلاقي، أو سلطة رجال الأعمال، من الطفيليين، والانتهازيين، والقوادين، كما رصدها في فيلم «المنسي» (1993).

الواقف على يسار السلطة

لست بصدد تذكير أحد بمنجز وحيد حامد، الذي وقف طوال عمره على يسار السلطة، وإن زعم بعض المرضى أنه جزء منها، وندد بالفساد، وواجه بشراسة مظاهر الظلم الاجتماعي، وأعلن، في وقت مبكر، موقفه الرافض لظاهرة التطرف والإرهاب، باسم الدين، في وقت أحجم فيه البعض عن إعلان رأيه؛ فهو واحد ممن حملوا مشاعل التنوير، في السينما المصرية، بل يمكن القول، من دون مبالغة، إن الفضل يرجع إليه في النضج الفكري الذي اعترى مخرجين؛ مثل : عاطف الطيب، سمير سيف ويسري نصر الله، بل أنه كان سبباً رئيساً في الطفرة التي أصابت مسيرة النجم عادل إمام، بعد شراكتهما، والمخرج شريف عرفة، وأكبر الظن أن عادل إمام خسر كثيراً، عقب انفضاض الشراكة، ولم يجد من يعوضه، مُطلقاً، عن الثنائي وحيد حامد وشريف عرفة . فضلاً عن دوره المجيد في اكتشاف، وتبني، الوجوه الشابة الجديدة من المخرجين الواعدين؛ مثل : تامر محسن، محمد علي، مروان حامد ومحمد ياسين، بما جعل له هيبة، ومكانة، وجاءت موهبته لتحرره، وتمنحه قدرة فريدة على المراوغة، وتجاوز الخطوط الحمراء، ومن ثم فإن الاتهام السخيف، بأنه كان يخدم السلطة في أفلامه، هو اتهام مُبتذل، ومُتهافت، يعكس نوعاً رخيصاً من «المكايدة الأيديولوجية»، وتصفية الحسابات الشخصية؛ بدليل الأزمة الأصعب، التي واجهته في فيلم «البريء»، الذي اجتمع ثلاثة وزراء : عبد الحليم أبو غزالة (الحربية)، أحمد رشدي (الداخلية) وأحمد هيكل (الثقافة)، للنظر في أمره، ثم أجازوه، بعد حذف نهايته، وهو أمر ما كان ليتعرض له «رجل يعمل لحساب النظام» !

 

####

 

عالم وحيد حامد.. حيث تجد نفسك

بقلم: أسامة عبد الفتاح

** مشروع درامي ذو معالم واضحة لتصفية الحساب مع الفساد والفقر.. ومسار محدد من الناس وإليهم

كان وحيد حامد يذهب إلى حيث يكتب، في كافيتريا أحد الفنادق الشهيرة على نيل القاهرة، حاملا "العدّة"، سواء أدوات الكتابة أو مستلزمات المشروبات أيضا. في إحدى زياراتي له، طلبت قهوة سريعة الذوبان، وكان مسحوقها البني يُقدّم منفصلا عن الماء الساخن في "كيس" صغير عليك أن تفتحه وتصب ما فيه على الماء. حاولت فتحه بيدي ولم أنجح. لم يكونوا قد اخترعوا بعد الأكياس التي تحدد لك مكان الفتح في أحد أركانها بربع دائرة منقط. وجدت الأستاذ وحيد يمد لي يده بمقص صغير أخرجه من حقيبته الجلدية، قائلا: "لن يفتح سوى بهذا المقص"، وقد كان.

لم أقاوم فضولي، وسألته لماذا يحمل مقصا أصلا، وكانت الإجابة – بكل بساطة – أنه يخصص هذا المقص لأكياس القهوة سريعة الذوبان، ويوميا يأتي به لأنه يعرف أنه سيحتاجه. نظرت فوجدت الحقيبة مليئة بأدوات أخرى. أشياء بسيطة لكنها تعكس إلى أي مدى يهتم وحيد حامد بالتفاصيل، ولا يترك شيئا للصدفة.

في هذا المكان، الذي كان يتحول – بعد انتهاء وقت الكتابة – إلى صالون أدبي وفني شبه يومي، كان يبدع، وسط الناس الذين كان يراهن عليهم دائما، وعلى بعد خطوات من الشارع الذي لم يكن ينتمي إلا إليه، شاخصا إلى النيل، إلى مصر، عشقه الأول، الحاضرة دائما وأبدا في أعماله.

مسار محدد لما يكتب، من الناس وإلى الناس، لذلك لابد أن يجد كل منا نفسه في إحدى شخصياته، أو في أحد أبطاله، حتى لو كانوا أبطالا "ضد" مأزومين.. ومن بينهم، يظل الأقرب إلى القلب عندي هؤلاء المتعلمون المثقفون الذين أشعر بأنهم يشبهونني وأرى أنهم أكثر شخصياته شبها به، هؤلاء المكافحون من أبناء الطبقة المتوسطة التي ننتمي إليها ونصارع معها من أجل مكان تحت الشمس.

من يمثلك من أبطال وحيد حامد؟

أنا، على سبيل المثال، يمثلني الصحفي عادل عيسى، الذي جسّد عادل إمام شخصيته في فيلم "الغول" (1983) من إخراج سمير سيف، والذي أحبه وأتعاطف معه رغم أنني أرفض الحل الفردي الذي اختاره ونفذه في النهاية، ولن ألجأ إليه أبدا، لكن هذا لا يمنع إحساسي أنه يشبهني ويعبر عني.. قد لا يكون نموذجيا أو مثاليا من الناحية السلوكية ومن وجهة نظر المديوكر والمتدينين، لكنه مثالي في حرصه على تطبيق القانون وإعلاء قيم العدل والمساواة والحرية، وفي سعيه للحق، وقتاله لتخليص الناس من "قانون ساكسونيا"، الذي يعفو عن "النبلاء" – الأغنياء بالمفهوم الحديث – ولا يعاقب سوى الفقراء.

يمثلني أيضا الأستاذ فرجاني (نور الشريف)، المدرس بمدرسة "بوش" الابتدائية في فيلم "آخر الرجال المحترمين"، الذي قدمه وحيد في العام التالي مباشرة (1984)، ومع نفس المخرج (سمير سيف)، وجسد من خلاله نموذجا آخر من أبناء الطبقة المتوسطة المناضلين، الذين يدخلون مباشرة قلب من يشبهونهم ويعبرون عنهم.. قد يبدو أكثر التزاما من عادل عيسى من الناحية الأخلاقية والسلوكية، لكنه مثالي مثله تماما، يسعى هو الآخر للحق والعدل حتى في أبسط الأمور، ويواجه - خلال رحلة مضنية وطويلة لاستعادة إحدى تلميذاته بعد أن اختطفتها سيدة تمر بأزمة نفسية لفقدانها ابنتها الوحيدة - فئات مختلفة وشرائح أخرى من المجتمع الذي أفرزته سياسة الانفتاح والفهلوة وإعلاء القيم المادية، لا يصطدم بالغيلان والقطط السمان مثل عادل عيسى، ولكن بلصوص القاع من نشّالين وهجّامين، وبالعصابات التي تختلط فيها السرقة بالشحاذة والتسول والنصب، وبجامعي القمامة، وبكل ما هو طفيلي في مجتمع انقلبت أوضاعه وتغيرت مفاهيمه وتبدلت أحواله.

وإلى حد كبير، تمثلني شخصية "أحمد فتح الباب" (عادل إمام) في فيلم "الإرهاب والكباب" (1992) للمخرج شريف عرفة، والذي يمكن وصفه بأنه مواطن مثالي أكثر من كونه شخصية مثالية، فهو ملتزم في عمله بشركة المياه، ويلتزم أيضا بجميع القوانين والقواعد، ويسدد فواتيره في مواعيدها، ويعمل في وظيفة إضافية مساء ليفي باحتياجات أسرته، وكل ما يريده ويحلم به أن ينقل أولاده إلى مدرسة أخرى.. وهنا يُخضع وحيد مناضلي الطبقة المتوسطة ومثالييها لاختبار آخر، ومواجهة جديدة تدور هذه المرة ليس فقط مع البيروقراطية والروتين المصري المعهود الذي يعطّل طلبه المشروع دون أي مبرر أو سبب مفهوم، ولكن أيضا وبالأساس مع قسوة المجتمع ولامبالاة أفراده الذين لا يتعاطفون مع واحد منهم لا يطلب سوى حقه، سواء موظفي مجمع التحرير الذي لا يتفهمون ولا يُقدّرون أنه موظف مثلهم يحتاج إلى إنهاء مهمته ليعود إلى عمله، أو رئيسه في العمل الذي يرفض منحه إجازة أو حتى إذنا لينجز مشواره البيروقراطي.

إنهم، وغيرهم عند وحيد حامد، بشر مثلي ومثلك، ومقاتلون مثلي ومثلك في معركة الحياة، وآباء مثلي ومثلك: "عادل عيسى" الذي تشاء الظروف ألا تعرف ابنته أنه أبوها، لكنه يعيش من أجلها ويقتل "الغول" أملا في مستقبل أفضل لها، و"فرجاني" الذي فقد ابنيه في حادث ويعتبر جميع تلاميذ المدرسة أولاده، ولذلك يستميت في محاولات استعادة إحدى هؤلاء التلميذات بعد اختطافها، وأخيرا "أحمد فتح الباب" الذي يعيش من أجل أولاده هو الآخر ويدخل في مغامرة كبرى بالمجمع أثناء محاولته نقلهم من مدرستهم.

ولا يقدمهم وحيد من أجل الحدوتة فقط، ولا من أجل الانتصار فحسب لفكرة استعادة حق إنسان بسيط، أو منع العودة لقانون ظالم، بل يصفّي من خلالهم حساب الطبقة المتوسطة، التي كُتب عليها قيادة الشعوب نحو الأفضل، مع الفساد والفقر واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، في مشروع درامي له معالم واضحة، ليس أولها تمجيد المقاتلين من أبناء الطبقة المتوسطة وما دونها، وليس آخرها إدانة مجتمع الهرم المقلوب والفساد والقبح.

 

جريدة القاهرة في

12.01.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004