ملفات خاصة

 
 

ودعتهُ الساحة الثقافية البحرينية والخليجية

الروائي والسينمائي فريد رمضان.. إلى وجودٍ آخر

عن رحيل عراب الهوية

فريد رمضان

   
 
 
 
 
 
 

الجمعة (6 نوفمبر)، يومٌ أخير في حياة من أبحر بخيالاته عبر المحيطات، لينتج لنا «المحيط الإنجليزي»، حيثُ ترجل الأديب، والروائي، والسينمائي فريد رمضان، عن صهوة الحياة، بعد معاناةٍ مع المرض، الذي ولد معهُ منذُ مراحل حياتهِ الأولى، ليغادرها بهِ، وهو ابن محرق البحر، المنحدر لأبٍ امتهن مهنة الغوص بحثًا عن اللؤلؤ، تاركًا لنا إرثًا قصصيًا، وروائيًا، وإنتاجًا سينمائيًا وقعهُ باسمه الذي برز على الساحة الثقافية المحلية والخليجية.

ولد فريد في المحرق عام (1961)، بمرض «فقر الدم المنجلي» (السكلر)، ليرافقه ألمهُ طوال حياته، ولتجيء الكتابة كصرخةٍ أو علاجٍ أو تنفيس عن هذا الألم الذي يباغت جسدهُ النحيل، فقد صعب عليه أن لا يكتب «مع أمراضي المستعصية التي رافقتني منذُ الولادة.. فمع كل صرخة ألم كانت تتولد الكتابة والحاجة للكتابة كعلاج روحي هام»، هذا العلاج أفرز أعمالاً لاقت صدى ورواجًا في البحرين والخليج، منذُ دخوله الأول في عالم الكتابة، بإصداره مجموعته القصصية «البياض» عام (1984)، وما تلاها «تلك الصغيرة التي تشبهك»، وصولاً لفضاءات الرواية التي ولجها بروايته «التنور.. غيمة لباب البحرين»، التي صدرت عام (1994).

أخذهُ شغفهُ بالكتابة، للعمل في الصحافة البحرينية، حيثُ عمل في «جريدة الأضواء»، ثم في «صحيفة الأيام»، وبعدها انتقل إلى «جريدة الوطن»، ثم «صحيفة الوقت»، ومجلة ««هنا البحرين»، كما كانت لهُ تجارب في الكتابة الإذاعية والتلفزيونية، وكتابة الإعلانات التجارية، والأفلام الوثائقية، والأفلام الروائية الطويلة التي كتبها لمخرجين من مختلف دول الخليج والوطن العربي، وصولاً لتأسيسه «شركة نوران بيكجرز» للإنتاج الفني، والتي حملت اسم إصدارهُ «نوران» الذي أصدرهُ في بداياته الأدبية.

عن وجودٍ أكيدٍ آخر...

كان حضورهُ في عوالم الكتابة، حضورٌ تأكيدي دائم، إذ كانت تمثلُ لهُ وسيلتهُ الوحيدة، ووجودهُ الأكيد، كما كان يعبر عنها، بيد أنهُ شغف بالسينما، فكان لهُ وجودٌ آخر يجلي ذاتهُ فيه، إذ كان يرى في هذا الفضاء السينمائي «خطابًا ثقافيًا يحمل طابعًا ترفيهيًا يسهل وصولهُ للجمهور.. ووسيلةٌ لتوثيق تاريخ الشعوب وذاكرتها»، فقد كتب سيناريوهات أنجح الأفلام البحرينية، بدءًا بفيلم «حكاية بحرينية»، وصولاً لفيلم «زائر»، وفيلم «الشجرة النائمة»، بالإضافة لكتابته العديد من سيناريوهات الأفلام الروائية القصية، منها «المسافات الدائرية»، و«موت شاعر: تحية لخليل حاوي»، و«الراية» و«البشارة»، و«قوس قزح»، و«مكان خاط جدًا».. وقد توجت هذه الكتابات بالعديد من الجوائز، إذ فاز بجائزة أفضل سيناريو في «المهرجان السينمائي الخليجي لدول مجلس التعاون»، بالإضافة للعديد من الجوائز التي أحرزها جراء فوز سيناريوهاته.

إلى جانب هذا الحضور السينمائي، كان لفريد حضور مسرحي، تجلى في عمله «دروب المصل»، بالإضافة لحضوره الممزوج بالفنون التشكيلية، والتي يتمثلُ في اشتراكه مع الفنان البحريني جمال عبد الرحيم، في نص «نوران»، وإصدارهُ المشترك مع الفنان عمر الراشد في «رنين الموج».

في فرادته لغةً

عُرف عن فريد، فرادتهُ، وخروجهُ عن السائد في نثره وسرده، فكان يمتاز بحضوره المغاير، ولغته المعتناة، فمذ أدرك الكتابة بوصفها توقٌ للتعبير عن الذات، وهو مؤمنٌ بأنها»الصوت الغامض الخفي الذي يصدر عن الأعماق، هامسًا بأن في المخيلة من الطاقة ما يغني عن الجلوس تحت عتمة الذهن، وكآبة العقل، وادعاء الكمال«، فكان يكتب، ويكتب.. بدءًا بالتجارب الشعرية الأولى، وصولاً للتجارب القصصية التي أخذتهُ، لكنها لم تأخذ منهُ لغته الشاعرية، إذ عاش في «حالة تنازعٍ بين الشاعر المقموع والقاص الذي فرض نفسه»، وكان يعبرُ عن ذلك بالقول: «جربت الشعر، وكان يمكن أن أمضي في التجربة، وجربت القصة، ووجدت فيها نفسي، إلا أن اللغة الشعرية تتلبسني ولا تريد مغادرتي«، لهذا كانت تجربتهُ في الكتابة»امتداد للشعر والنثر، واستجابة للشعر وللقصة معًاش.

فضاء الرواية.. فريد بين الهويات

منذُ انشغاله بالكتابة الروائية، أصدر فريد أربع روايات هي «التنور؛ غيمة لباب البحرين»، و«البرزخ.. نجمة في سفر»، و«السوافح.. ماء النعيم»، وآخرها «المحيط الإنجليزي»، وقد جاءت هذه الروايات الأربع بمشتركاتٍ عرف بها فريد، وعلى رأس هذه المشتركات، موضوع الهويات، الذي مثل مشروعهُ الروائي، وكان قادرًا على صياغتهُ بفنية، وإبداع، مستمد من «حث ذائقته القرائية والبحثية المستمرة على والبحث الدائم بصبر وتأن وتأمل»، كما كتب النقاد الدكتور فهد حسين، الذي يصف اشتغال فريد بأنهُ اشتغالٌ مؤسسُ على السؤال الذي يصلُ به إلى حد أن «يمسك بالقلم ليرسم خريطة الكتابة، ويهندس معمارها السردي، وأي المواد التي ينبغي أن يقرأها القارئ، ويرى فيها ما هو غير موجود في أعمال روائية أخرى، أو عما هو سائد في الكتابة السردية البحرينية، هكذا جاءنا رمضان بمشروعه الروائي الذي تميز به وفيه، ألا وهو الهوية بمفهوميها الواسع والضيق، الهوية التي كانت تشغل فكر ومتخيل الكثير من الكتاب على اختلاف مجالاتهم وأجناسهم الكتابية، الهوية التي بدأ يفكر فيها وكيفية تناول موضوعها».

ويضيف حسين أن تناول فريد موضوع الهوية «انطلق من قراءة شاملة ودقيقة لتركيبة المجتمع البحريني وما يتصف به من تعدد في القوميات والأقليات والأثنيات والجنسيات المختلفة على الصعيد الديني والمذهبي والقوميات وغيرها»، وكان فريد ينطلق في تشريح ذلك من وعي ثقافي واجتماعي، وقد بين فريد في حديثه عن هذا التناول لموضوع الهويات بأنه «يبحث عن ذاكرة مشتركة مع الآخر، ذاكرة تؤسس لفهم أوسع، اشتباك أعمق، وانزياح نحو «الأنا» في ذاتها وذوبانها. مذهبها، ودينها. إيمانها، وكفرها. في حقها وحقوقها. فيما لها وما عليها. هل لنا أن نتحدث بجرأة أكثر، ونتخيل أن شبه الجزيرة العربية بحجمها كانت محمية بين بحرين؛ البحر الأحمر وأفريقيا، والخليج العربي وآسيا على الجانب الآخر. هذا التوسيط كرس عزلة شبه كاملة لها، إلا عبر طريق رحلة الشتاء والصيف، وموسم الحج الإبراهيمي في مكة، حتى تأسست الدولة الإسلامية المتعطشة للتوسع وعبور البحار نحو الآخر. أي آخر؟ حيث الهويات والأعراق واللغات، وحيث العالم وهو يبتلع كل شيء بما فيها حكم الدولة الإسلامية الذي انتهى بهويات وأجناس وأعراق أخرى تحكم باسمه ولا تمت بصلة بشبه الجزيرة العربية أو الرسول محمد (ص)»، لهذا كان مدفوعًا نحو فهم الآخر، وتجلى ذلك بكل وضوح في روايته «المحيط الإنجليزي»، التي يبحثُ فيها تاريخًا عريضاً يمتدُ لبحث الهجرات الإنسانية المختلفة، والاستيطان في البحرين، فهي شتاتُ يجمعهُ سردُ بارع، يوغلُ في التاريخ، والهويات وتفاصيلها المختلة. لهذا لم تكن الرواية عبثًا لغويًا كما كان يقول، بل هي «بحثُ عن مادة حكائية».

عن مفارقة الحياة.. لا انقطاعها

بعد خمسة عقودٍ ونيف، عاشها فريد بين جنبات هذه الحياة المتشعبة، يغادرها أخيرًا لما كان يمثلُ فكرةٍ شغلتهُ طويلاً.. إلى «الموت»، تلك الفكرة التي دفعتهُ لكتابة روايته «البرزخ.. نجمة في سفر»، مبعثرًا أوراق هذه الفكرة، ليليلمها «احداثاً عن حقيقة الإنسان الذي ما زال في تساؤلات وتصورات عن تلك الحقيقة المسكونة بخوفٍ وحذر». فإلى ذلك العالم، ذهب فريد فجأةً، صادر من الساحة الثقافية المحلية والعربية، فكان صدى هذا الرحيل، يترددُ عبر منصات التواصل الاجتماعي، وفي بيانات الأصدقاء، والكتاب، والمثقفين، والجمعيات الثقافية والمهرجانات السينمائية من مختلف الوطن العربي.

بذلك ترتسمُ الصورة الأخيرة لمفارقة فريد للحياة التي ألمتهُ طويلاً، وأسعدتهُ كثيرًا، والتي رغم فترات ألمها المتقطة الناتجة عن مرضه، جابهها بمرحه، ولطف أخلاقه، وابتسامته المرسومة على شفتيه، لتخبو هذه الابتسامة وتنقطعُ الحياة عن عالم فريد، لكنها لن تنقطع عن تجديد ذكره، بكل تلك المواقف التي أصل لها في ذاكرة كل من عرفه، وبحضوره الأدبي، وتراثه الذي سيبقى استمرارًا لأسمه.

فسيبقى فريد حاضرٍ في «عطرٍ أخير للعائلة»، والحاضرة في قصص «البياض»، وهو الذاكرة لـ«غيمة باب البحرين»، ورغم أنهُ أضحى «نجمة في سفر»، إلا أنهُ متواصلُ في «المحيط الإنجليزي»، وحاضرةٌ في «ماء النعيم» أو «السوافح»، كما سيبقى موثقًا في المسلسل الإذاعي «الغلام القتيل؛ طرفة بن العبد»، الذي كتبهُ لإذاعة البحرين، وفي «أعلام الخليج العربي»، وهو المذكور في كل السناريوهات والأفلام التي شارك في كتابتها وإنتاجها..

فها قد انتقل فريد من وجوده الشخصاني إلى حضوره المعنوي المتواصل، تاركًا حضورهُ الشخصاني، الذي توج أثنائهُ بالعديد من الجوائر على الصعيد المحلي والدولي، أخرها فوز السيناريو الذي كتبه تحت عنوان «خط تماس» بـ«جائزة وزارة الداخلية بدولة الإمارات العربية المتحدة لأفضل سيناريو مجتمعي»، من خلال مشاركتهُ في «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، عام (2017).

لقد عاش فريد بـ«رؤية فنية متميزةٍ بالحداثة، والأبتكار، والقدرة على إدخال القارئ في عوالم الدهشة»، كما يصفهُ الناقد كمال الذيب، وها هو يرحلُ تاركًا خلفهُ الدهشة.

 

الأيام البحرينية في

07.11.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004