كثيرًا ما تصنع التجارب السينمائية الروائية الأولى
لأصحابها - إن جاءت بعد معاناة وكفاح - مجدًا سينمائيًا، بل وتكون هي السلم
الحقيقي نحو تأكيد الموهبة ووصولها للمشاهدين والنقاد والسينمائيين
والمهرجانات، ومن ثم الجوائز..
وهو ما حدث بالفعل مع صاحب أحد أهم الإنجازات السينمائية
حاليًا؛ وهو المخرج السوداني أمد أبوالعلا الذي حقق بفيلمه الروائي الطويل
الأول عددًا من الجوائز في مهرجانات مهمة كمهرجان فينيسيا، ثم مؤخرًا
الجونة السينمائي.. عن فيلمه "ستموت في العشرين".. الفيلم الذي كسر حواجز
كثيرة، منها أن يظل المخرج ينتظر الممول، أو من يأخذ بيده إلى الفكرة.. وما
حدث مع أمجد أبوالعلا هو تقريبًا ما يحدث مع معظم المخرجين الباحثين عن
تحقيق الحلم أينما وجد.
وأمجد بدأ مشواره مخرجًا وثائقيًا محترفًا في العديد من
المؤسسات الإعلامية، كما أنجز أكثر من 100 ساعة وثائقية لمختلف القنوات
وتخصص في الوثائقيات الإنسانية عن اللاجئين وضحايا الفقر.
له العديد من الأفلام الروائية القصيرة الإماراتية
والسودانية والعربية التي عرضت في العديد من المهرجانات العربية والعالمية
وحصد بعضها الجوائز وشهادات التقدير, ومن أهمها "تينا" "ريش الطيور" الذي
أعتبر عودة لصناعة السينما السودانية بعد توقف 10 سنوات و"على رصيف الروح"
وأخيرًا فيلم "ستوديو".
وتأتي تجربته الخاصة جدًا "ستموت في العشرين" لتفتح الأبواب
نحو طرح الأفكار المحلية جدًا، والعودة بنا إلى تراثنا المملوء بالمفردات
والعناصر المهمة ذات الصلة بالعمق الإنساني وليس القشور كما يحدث في كثير
من الأفلام التجارية..
هو لم يقدم فيلمًا بمفردات عصرية خالصة؛ بل راح يبحث في
التراث العربي الأصيل، وخاصة السوداني، فعثر على فكرة من قصة قصيرة ترصد
حالة قد تكون خيالية بعض الشيء؛ لكنها موجودة بشكل ما وهي الاعتقاد في
والإيمان بنبوءات العرافين والدجالين، وهو في الفيلم لم يقدمها كحالة دجل،
بل حالة أقرب إلى التصوف الخالص..
يولد طفل في مدينة صغيرة في السودان يدعى (مزمل)، ولكنه
يكبر ليكتشف أنه مقيد بنبوءة (درويش) والتي تفيد أنه سيموت عندما يبلغ سن
العشرين، ويصبح عليه التكيف مع نظرات الشفقة طيلة مراهقته والتي تجعله يشعر
أنه ميت بالفعل، وعندما يبلغ (مزمل) العشرين، يصبح عليه مواجهة الحقيقة
المخيفة.
في لقاء مع مخرج الفيلم تحدث لي عن تأثره بالسينما المصرية،
وخاصة فيلم شادي عبدالسلام المومياء، وتأثره بعدد من المخرجين سودانيين
وعرب وأوربيين، أدركت من كلامه أنني أمام حالة سينمائية خاصة؛ فهو محب
للصوفية ولديه ثقافته الخاصة التي ارتكز عليها في صناعة فيلم من مكونات
وموروثات شعبية موجودة في معظم قرى ونجوع البلدين مصر والسودان، حيث تتلاقى
تقريبًا الثقافات الشعبية فيهما، وما قدمته السينما المصرية من أعمال عن
الموروثات الشعبية عالقة في الأزهان، كفيلم "الطوق والأسورة" رواية الأديب
يحيى الطاهر عبدالله وإخراج خيري بشارة.. وفيلم "عرق البلح" لرضوان
الكاشف.. وأعمال كثيرة رصدت التراث الشعبي بتفاصيل وإن اختلفت إلا أنها
تؤكد أهمية هذا التراث وتعمقه في وجدان المصريين والسودانيين معًا.
الفيلم الذي بدأ رحلته من فينيسيا بجائزة أسد المستقبل، ثم
نجمة الجونة، من المؤكد إنه سيكون حدث هذا العام في المهرجانات العالمية،
والعربية، وفاتحًا لنوافذ جديدة للسينمائيين وخاصة المخرجين المستقلين
الذين يعانون من عثرات التمويل، إذ إنه بإمكان عمل فني مستقل بتمويل متواضع
أن يضع مخرجه على عتبات المهرجانات العالمية وعتبات الشهرة أكثر من أعمال
لمخرجين كبار يلهثون وراء السينما التجارية التي تعد خصيصًا لجمهور مصاب
بعدوى الفيلم الأمريكي؛ من نوعية أفلام الأكشن والخيال العلمي الاستهلاكية. |