ستموت في العشرين: قصيدة في محبة الحياة
محمد سيد عبد الرحيم
قيام الثورة في نفس وقت تصوير الفيلم ساعد كثيرًا على تهيئة
الجو للأفضل في السودان.
-
المخرج السوداني أمجد أبو العلاء للمنصة
ذاق الإنسان لأول مرة طعم الموت حينما غادر الجنة إلى
الأرض، بحسب الرواية التوراتية. ففي الجنة، كان الإنسان خالدًا لا يموت
وبسبب خطيئة أكل التفاحة من الشجرة المحرمة، عاقبه الله بأن طرده من الجنة
ليعرف طعم المرض والألم وفي النهاية يعرف طعم الموت. ولكن الإنسان عرف
أيضًا مع هذه الآلام معنى الحياة نفسها حينما وضع نفسه في خطر فشعر بلذة
التجربة والخطأ.
في الفيلم الروائي السابع في تاريخ السينما السودانية ستموت
في العشرين نعيش
مع بطل الفيلم "المزمّل" إشكالية الحياة والموت وخوف الإنسان الدائم من
الموت والذي يجعله في أحيان كثيرة ينسى أن يعيش حياته القصيرة مهما طالت
فما بالنا بشاب يقال له منذ أن كان طفلًا أنه سيعيش 20 عاما فقط.
يحكي الفيلم الذي فاز مخرجه بجائزة النجمة الذهبية في
مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الجونة، وقبلها جائزة أسد
المستقبل في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، عن المزمّل الذي أخدته أمه
حينما كان رضيعًا إلى أحد شيوخ الصوفية ليباركه، إلا أنه يتنبأ بأنه سيموت
حينما يتم العشرين.
ولعشرين عامًا تالية نشهد كيف تؤثر هذه النبؤة على حياة بطل
الفيلم. فبدلًا من أن يموت مرة واحدة في نهاية النبؤة، يموت كل يوم بسبب
الخوف من كل شيء في الحياة. وبذلك يعيش في وهم رهبة الموت فيتيه في صحراء
انتظار الموت الذي يعكر صفو الحياة فلا يستطيع رؤية ذاته على صفحة عالمه
الآني فما بالنا بمستقبل حياته.
فيلم ستموت في العشرين من بطولة مصطفى شحاتة وإسلام مبارك
ومحمود السراج وبنة خالد وطلال عفيفي وآمال مصطفى ورابحة محمود ومعتصم رشيد
وعسجد محمد، وكتب قصته الروائي حمور زيادة، وسيناريو يوسف إبراهيم وأمجد
أبو العلاء، وتصوير سباستيان جويفرت، ومونتاج هبة عثمان، وموسيقى أمين
بوحافة، وإخراج أمجد أبو العلاء.
قهر يفتك بشبح أمة
ينتقد الفيلم أحد مظاهر المجتمع السوداني من تقديس للموت
بدلًا من الحياة. فهذا المجتمع، بحسب الفيلم، الذي يؤمن بالخرافات من
نبوءات وفأل سيئ وزار وتقديس للشيوخ والدراويش رغم جهلهم وتجارتهم في
البشر؛ يمنعهم من التمتع بالحياة أو حتى الخروج من هذه القرية التي تشبه
الكهف الموصد على أهله والذين لا يستطيعون الهروب منه.
كل هذه المظاهر تُطبق على عنق بطل الفيلم فتخنقه منذ
الولادة وكأنها تحكم عليه، قبل حتى حكم الشيخ والنبؤة، بالموت مهما طالت
حياته.
نشهد في الفيلم حياة المزّمل وهو رضيع ثم وهو طفل وأخيرًا
وهو شاب يكاد يبلغ العشرين. وفي هذه السن التي يتفتح فيها وعي الإنسان،
يظهر سليمان العائد من الخارج والذي يمثل الجيل القديم الذي حاول من قبل
التحرر من هذه القيود عبر السفر والحب والفن ولكنه وبعد عقود طويلة يعود
إلى نفس المكان الذي هرب منه.
سليمان كان صديقًا لوالد المزمّل في شبابه. ورغم أن
الشخصيتين تختلفان طوال حياتهما حيث هرب الأول من القرية بحثًا عن العمل
تاركًا خلفه أسطورة وفاة ابنه في العشرين، بينما غادر الثاني القرية
لاكتشاف العالم والحياة، إلا أن مصيرهما كان واحدًا.
الأب وصديقه عادا إلى نفس القرية ليجدا أن الحال بقي على ما
هو عليه بلا أي تغيير. فسكان القرية يعيشون كالموتى الأحياء: يعملون
ويصلّون ويتزوجون وينجبون، وكأنهم يهربون من الحياة عبر عدم الحياة، حيث
يحاصرون أنفسهم بآيات الموت وعذاب القبر والحساب، معتبرين الموت هو الخلاص
أو السلوى في هذه الحياة قبل الولوج إلى حياة أخرى في زمان آخر ومكان آخر.
بحركة كاميرا متأملة وشاعرية ومونتاج يعرف كيف يحكي
بانسيابية؛ نعيش قصة البطل الذي يحتاج لمن يزمّله مثلما زمّلت السيدة عائشة
النبي محمد حتى تبعد عنه الخوف الذي أنتابه بعد هبوط الوحي عليه لأول مرة.
هنا.. بطل فيلم "سوف تموت في العشرين" يحتاج أيضًا إلى
امرأة أخرى غير أمه تعيد ولادته مرة أخرى ليتخلص من هذه النبؤة التي حولته
إلى ما يشبه الزومبي، ميّت رغم أنه يحيا.
بين "باراديسو" و "الابن الضال"
العلاقة الأبوية بين المزمل وسليمان والمستوحاة من الفيلم
الإيطالي الشهير سينما
باراديسو (1988)،
إخراج جوزيبي تورتاتوري، هي المحرك الأساسي الذي يجعل بطل الفيلم يتأمل
وجوده ويأمل في تغييره. هذه العلاقة كانت بمثابة نافذة يطلّ منها المشاهد
على التناقض والتقارب بين جيلين في السودان؛ جيل عجوز مُحبط وجيل شاب ورث
الإحباط لكنه يحاول التحرر منه.
جيل سليمان المحبط مثل جيل علي مدبولي بطل فيلم عودة
الابن الضال (1976)،
إخراج يوسف شاهين، والذي يعتبر نموذجًا ومثالًا إيجابيًا وسلبيًا بنفس
الوقت لجيل المزمّل، تماما مثل جيل إبراهيم طلبة في فيلم يوسف شاهين.
يشرح الممثل طلال عفيفي الذي قام بدور الأب للمنصة "سفر
الأب لم يكن هروبا وتخليًا عن مسؤوليته تجاه ابنه ولكنه كان محاولة لكسب
العيش من أجل زوجته وابنه".
هذا الجيل حاول تغيير الواقع في بلاده ولكنه فشل فأصيب
بالإحباط ليهرب عبر السفر إلى الخارج أو عبر التقوقع في شرنقة داخل القرية
حيث يسمع الموسيقى ويشاهد الأفلام ويشرب الخمر ويمارس الجنس بينما لا يبدي
أي اهتمام بالقرية خارج شرنقته. ولكنه وفي نفس الوقت هو الجيل الذي يقود
الجيل الجديد ليعرّفه بمظاهر الحياة من حب وثقافة وفن.
يقول الممثل محمود السراج الذي قام بدور سليمان للمنصة "بالفعل
تم سحق النوري وسليمان من النظام السوداني حيث استسلم النوري للمجتمع فهرب
منه، بينما يحاول سليمان المقاومة عبر المخدرات والخمر والجنس".
الثورة وسط الفيلم
المزمّل في الفيلم ليس رمزًا اجتماعيًا فقط ولكنه أيضا رمز
لأمة بأكملها، فالبطل الميت- الحي يحتاج إلى ما يشبه الصدمة من أجل إعادة
ولادته مرة أخرى ليعيش حياته، هذه الصدمة التي تعيد الولادة قد يفسرها
البعض بأنها الثورة السودانية ونجاحها في الإطاحة بالرئيس السابق عمر
البشير وحكومته مطلع هذا العام، لكن الحقيقة تختلف بعض الشيء.
بدأ العمل على الفيلم قبل الثورة التي انطلقت أثناء
التصوير، فكيف كان أثر ذلك على طاقم العمل؟
يجيب على هذا السؤال المخرج أمجد أبو العلاء شارحًا للمنصة "قيام
الثورة في نفس وقت تصوير الفيلم ساعد كثيرًا على تهيئة الجو للأفضل في
السودان عمومًا، كما أثر على عملية تصوير الفيلم نفسه إذ انعكست إيجابًا
على العاملين في الفيلم".
فيلم "ستموت في العشرين" يبتعد عن كل ما قد يتوقعه المشاهد
الآن من الفنان السوداني من خطابية تعقب الثورات، فهو فيلم ينحو أكثر نحو
الأفكار المجردة منه إلى التفاصيل اليومية ولكنه في نفس الوقت يناقشها هذه
التفاصيل بعين ناقدة.
عقدة البطل في هذا الفيلم يمكن مدّها لتصبح رمزًا لكثير من
شعوب المنطقة العربية التي تعيش كالمومياوات التي حنطها الفراعنة من أجل أن
تكون وعاءً لحفظ الروح حتى تصل إلى العالم الآخر وتعيش الحياة الأبدية حيث
كل الملذات التي يرغب فيها الإنسان متاحة بلا أي قيود وبلا أي أحكام سلبية
على هذه الرغبات الإنسانية. |