كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

جوسلين صعب...

سينمائية القضايا «أينما تكون»

أمل عارف

عن رحيل «جوسلين صعب»

   
 
 
 
 
 
 

في الذكرى الخامسة لتأسيسه، يوجّه متحف «مقام» تحية إلى السينمائية اللبنانية من خلال معرض استعادي ينطلق بدءاً من اليوم مع عرض مجموعة من فيديواتها تعود إلى ما بعد 2006. عام مفصليّ بدأت من بعده الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي، والفيديو، والتجهيز. مناسبة للعودة إلى مسار هذه المشاكسة وممارستها الفنية والصحافية والسينمائية التي كان عنوانها الجرأة

رسمت شخصيّة جوسلين صعب (1948) الصحافية، ملامح أفلامها. تخطّت الحدود المغلقة وحطمّت العديد من الحواجز الاجتماعية والسياسية. نزلت من الوسط البورجوازي الفرنكفوني اللبناني الى الشارع والمخيمات الفلسطينية وميادين الحروب. جرأتها ليست وليدة الحرب الأهلية فقط، هي ممارسة بدأتها مذ عملها في الإذاعة اللبنانية، وتسببت في إيقاف برنامجها الموسيقي «عيون المارسوبيلامي زرقاء» بعد خروجها عن فقراته التقليدية، أو عن المحظور الاجتماعي في الإذاعة. كانت أولى مراسلات الحرب العربيّات، من بين ثلاث نساء، اقتربن من الجبهة لتغطية حرب أكتوبر عام 1973

في العام ذاته، ذهبت الى ليبيا، لتغطية مسيرة معمّر القذافي الخضراء، حين أراد صنع وحدة من طرف واحد مع مصر في عهد أنور السادات. حينها، انتهت رغبة القذافي بعرض وخطاب في ساحة بنغازي، وعاد الناس أدراجهم، إلّا جوسلين، التي مكثت أياماً تنتظر موافقة القذافي على إعطائها مقابلة. وافق الأخير وقضت معه أياماً إضافية في جولته في الصحراء، وصوّرت بورتريهاً عن شخصيّة العقيد الشاب حاكم ليبيا.

عام 1976، ذهبت الى مصر، تعرفت إلى يسارها، وصوّرت مع الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم على طريق الحجّ بين مصر والسعودية، فمنعت من دخول المحروسة. ظلّ المنع سارياً في مطار القاهرة إلى ما بعد عامين من اغتيال السادات، ما تسبّب في مبيتها للمرّة الأولى في حياتها في سجن المطار.

مشاكستها في مصر بلغت ذروتها حين تطرقت إلى الختان في شريطها الروائي «دنيا» عام 2005. تعرّضت وطاقم عملها للتهديد، ولحملة إعلامية شرسة ولم يعرض الفيلم.

الحرب اللبنانية التي انطلقت عام 1975، كانت لها الحصّة الكبرى في أعمال جوسلين، هي التي كانت حاضرة لتوثيقها قبل بدايتها. لم تكن على الحياد قبل اندلاع أحداثها، فموقفها كان مؤيداً للقضية الفلسطينية ولنضال الأحزاب اليسارية آنذاك. الحرب شهدت بدايات تجربتها السينمائية. في عامها الأول، أخرجت جوسلين باكورة أعمالها التسجيلية الطويلة «لبنان في الدوامة»، تلاها «أطفال الحرب» (1976)، و«بيروت لم تعد كما كانت» (1976)، ثمّ «رسالة من بيروت» (1979) و«بيروت مدينتي» عام 1982. كانت الحال الإنسانية في الحرب، غالبة على صورة أفلامها الوثائقية.

احترق منزلها خلال الاجتياح الإسرائيلي، وصلتها رسائل تهديد، اعتدى بشير الجميّل ومسلحّوه عليها وعلى فريق صحافي فرنسي. أثناء تغطيتها لقضية صراع الحدود في الصحراء المغربية، أُطلق عليها وعلى مصوّرها النار. يومها، عبرت الحدود الى الجزائر وقابلت الرئيس هواري بومدين. صعدت على متن السفينة التي غادر فيها ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية بيروت، وأجرت معه المقابلة في عرض البحر، شاهدة على إسدال الستارة على مرحلة الكفاح الفلسطيني المسلّح في بيروت.

هذه هي جوسلين صعب، المغامِرة والمشاكسة والمتحدّية، أعمالها تدلّ على مسيرتها وشخصيتها. هي أيضاً شخصية الأنثى الرقيقة والحالمة في أعمالها الروائية بدءاً من شريطها الأول «غزل بنات 2» أو «حياة معلّقة» عام 1985 و«كان يا ما كان بيروت» 1995، و«دنيا» و«شو عمبصير» في 2009.

نالت جوسلين صعب جوائز عدة وعرضت أعمالها في مهرجانات عربية وعالمية، منذ أن باشرت بتصوير التحقيقات الصحافية المصوّرة والأعمال التسجيلية الأولى. لكن لا الجوائز ولا المهرجانات ما دفع جوسلين حينها الى حمل الكاميرا الثقيلة والجري لتوثيق الأحداث. في صحافة أو سينما جوسلين صعب، هناك دائماً قضية. قضية الجماعة أو قضية الفرد، قضية سياسية أو إنسانية. بداية جوسلين كانت مع فلسطين، مع تغطيتها أحداث «أيلول الأسود»، وتصوير النساء الفلسطينيات وتدريب الأطفال في المخيمات وقصف الطائرات الإسرائيلية للمخيم عام 1973، مع اعتراضها واعتصامها بسبب تغييب القضية الفلسطينية عن الشاشة اللبنانية. قاومت بعدستها وبمواقفها ونشاطاتها. في عام 2013، أطلقت مهرجان «المقاومة الثقافية»، وأرادت أن تجري العروض في مناطق عدة في لبنان من الشمال إلى الجنوب. كان التحدي في التوقيت يومها، إذ انطلق المهرجان أثناء الحرب في سوريا، وجولات القتال في طرابلس والتفجيرات في بيروت.

* معرض استعادي لجوسلين صعب: بدءاً من اليوم حتى 16 أيلول (سبتمبر) المقبل ــ متحف «مقام» (جبيل ــ شمال بيروت). للاستعلام: 03/197900 أو 03/271500

 

الأخبار اللبنانية في

09.06.2018

 
 
 
 
 

جوسلين صعب وأكلياس صوراص في "مقام":

معرض استعادي يُحاكي المسيرة

في متحف الفن الحديث والمعاصر "مقام" في عاليتا ـــ جبيل معرض استعاديّ، لأعمال الفنانة والمخرجة السينمائية اللبنانية البارزة جوسلين صعب، ومعرض آخر فيه تركيبة للفنّان المراهق الصاعد أكلياس صوراص

جوسلين صعب، أيقونة في مجال صناعة الأفلام، كرّست نفسها لتسليط الضوء على حالات الظلم حول العالم من خلال أعمالها المبتكرة. وركّزت على الحرب الأهليّة اللبنانية، ثم توسّعت بأعمالها لتصوّر الاضطرابات، والأزمات والصراعات في المنطقة وخارجها لتلتقط وتنقل لحظات أثبتت أنّها من التاريخ.

يسلط هذا المعرض الاستعادي، الذي يقام للمرّة الأولى تحت شعار "عصر فنّ الفيديو" بإشراف ماتيلدا روكسيل، الضوء على مسيرة جوسلين صعب المهنيّة ويتيح للجمهور استكشاف - أو إعادة استكشاف - بعض أبرز أعمالها، منها الصور الفوتوغرافية والفيديوات التي شوهدت سابقاً في مختلف المعارض حول العالم.

من بين الأعمال المعروضة، يمكن للزائرين استكشاف سلسلة The Reversal of Occidentalism التي تدخل في العلاقة المضطربة والغامضة بين الشرق والغرب في ما يتعلّق بمسائل أساسية كالسياسة والأخلاق الاجتماعية، من خلال استخدام دُمى الباربي. وفي مجموعة أخرى منفصلة بعنوان Soft Architecture، تلتقط صعب بمهارة ضوء الصحراء على خيم البدو فتُمتّعنا بنظرة ساحرة إلى الحياة البدويّة. تترافق الصور الفوتوغرافية بعروض فيديو تثير بعض أبرز قضايا الساعة، بمشاركة مجموعة فنّانين معاصرين وناشطين ثقافيّين: Café du Genre وعدم المساواة بين الجنسين؛ Imaginary Postcard ومفهوم المنفى؛ A Dollar a Day وتصوير الأطفال اللاجئين في وسائل الإعلام المحلية

صوراص

يأتي موضوع النازحين وكيفيّة مساعدتهم أيضاً أساسياً في تركيبة أكلياس صوراص التي جرى افتتاحها بمناسبة "اليوم العالمي للّاجئين" وبدعم من "المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين" (UNHCR).

تحت عنوان Save Our Souls، يعبّر المشروع عن ردّة فعل الفنّان الشاب تجاه أزمة اللاجئين العالمية الحالية. فيقترح صوراص، الذي ولد في لندن ويقيم ويدرس حالياً في أثينا، إعادة استخدام سترة النجاة التي أصبحت رمزاً بصرياً لأزمة اللاجئين في وسائل الإعلام، كوسيلة لتأمين مراكز إيواء عمليّة وغير مكلفة وموقتة، على شكل أكواخ الإسكيمو، للنازحين.

ويقول: "عندما تحمل السترة في يدك وعليها رائحة البحر، تختلف نظرتك إلى الأمور وتلاحظ أنّ كلّ سترة تخبّئ حياة شخص ما. ليس مسموحاً بعد الآن أن يبقى النازحون والمشرّدون والمحرومون بعيدين عن الأنظار والأذهان؛ فهذه تحديات عالمية تمسّنا جميعنا وينبغي علينا محاولة حلّها لمصلحة الجميع".

تتألّف تركيبة الفنّان الهندسية، والتي ابتكرها في سنّ الخامسة عشرة، من 35 سترة نجاة، ومشابك فيلكرو وستّة أعمدة هندسية، وقد جرى عرضها في المتاحف والمعارض الفنيّة حول العالم.

يُعرض العملان في متحف "مقام" في عاليتا ـــ جبيل، حتّى 16 أيلول 2018.

يفتح أبوابه أيام الجمعة، السبت والأحد من الساعة العاشرة صباحاً حتى السابعة مساءً.

"مقام"

"مقام" هي منظمة غير ربحية تأسست في العام 2013 لإحياء ذاكرة الفنّ في لبنان، وتوثيقها وحمايتها لأجيال اليوم والغد. يضمّ (متحف الفن الحديث والمعاصر) محفوظات ثمينة من أكثر من 1500 كتاب عن الفنّ اللبناني و500 ملف عن الفنّانين اللبنانيين؛ كما ينظّم جولات تثقيفية، وورش عمل إبداعية ومحاضرات لتلاميذ المدارس. ويستضيف كلّ عام معارض استعادية عن كبار الفنانين في لبنان، إلى مسابقات ومعارض دورية. وقد شاهد مجموعته الدائمة، المؤلّفة من 350 منحوتة وتركيبة عصرية لـ 115 فنّاناً، أكثر من 17 ألف زائر منذ افتتاحه.  

 

النهار اللبنانية في

03.07.2018

 
 
 
 
 

استعادة لأفلام جوسلين صعب: حروبنا الأهلية

كغيرها من المخرجين اللبنانيين ممن تزامن وعيهم السينمائي مع الاقتتال الداخلي مثل برهان علوية وجان شمعون ومارون بغدادي ونهلة الشهال، انتقلت جوسلين صعب إلى السينما الوثائقية، بعدما كانت مراسلة تلفزيونية حتى اندلاع الحرب. البداية كانت مع باكورتها «لبنان في الدوّامة» (1975 ــ 75 د) الذي أخرجته بعد أشهر على حادثة عين الرمانة. صحيح أن الفترة قصيرة، لكنها كانت قد فعلت الكثير. آلاف القتلى والجرحى وخطف واختفاء وتقسيم مناطقي. في فيلمها، حاولت المخرجة أن تبتعد عن السياسة المباشرة وأحداثها. راحت إلى أسباب الحرب بأبعادها الاجتماعية والسياسية، مظهّرة مكوّنات المجتمع اللبناني، عبر مشاهد من الجبل وبعلبك والجنوب وضواحي بيروت، مع التركيز على قضايا مزارعي التبغ والصيادين. بهذا الشريط الوثائقي، افتتحت «دار النمر» (كليمنصو ــ بيروت) شهر جوسلين صعب للأفلام الذي يستمرّ حتى 27 تشرين الثاني (نوفمبر). مساء كل ثلاثاء من هذا الشهر، سيتمّ عرض فيلم أو فيلمين للمخرجة اللبنانية، بتنسيق الباحثة الفرنسية ماتيلد روكسيل التي درست سينما صعب في كتابها «جوسلين صعب، الذاكرة الجامحة» (دار النهار ــ 2015)

يركّز الشهر على تجربة جوسلين في السينما الوثائقية والتسجيلية خلال السبعينيات، في أفلام حملت وعيها السياسي اليساري، بالإضافة إلى عرض باكورتها الروائية العاطفية. عند السادسة من مساء غد الثلاثاء، سنشاهد فيلمي «بيروت لم تعد كما كانت» (1976 ــ 36 د) و«من أجل بعض الحياة» (1976 ــ 17 د) الذي يعرض للمرّة الأولى، ويدور حول فترة حكم ريمون إدّه للانتخابات الرئاسية، وبحثه عن مفقودي الحرب من كل الطوائف بما يتعارض مع اتجاه الحرب في تلك الفترة المشتعلة (بين 1975 و1976). أما «بيروت لم تعد كما كانت» فقد صوّر خلال هدنة عام 1976. طوال ستة أشهر، جالت صعب في الشوارع والتقطت صوراً للركام والدمار والشوارع الخالية إلا من بعض الأطفال الذين خرجوا للعب. تترافق هذه المشاهد مع صوت الشاعرة إتيل عدنان تلقي قصيدة، وأصوات الناس وهم ينقلون رواياتهم ومعاناتهم خلال الحرب. مع تقدّم أحداث الحرب وتطوّر تجربتها السينمائية، صارت صعب تذهب إلى أماكن أكثر خصوصيّة في نظرتها إلى الأحداث، كما في شريطها «رسالة من بيروت» (1978 ــ 52 د) الذي يعرض مساء الثلاثاء 20 تشرين الثاني. ينطلق الفيلم من نظرة شخصية إلى الحرب، والشعور بالغربة تجاه مدينة تغيّرت بين ليلة وأخرى. يجري الفيلم على خطّ سردي يجمع الخيال مع التوثيق ليوميات الناس والمدينة والجنوب اللبناني بالتزامن مع الاحتلال الإسرائيلي. على البرنامج أيضاً فيلم «غزل البنات» (1984 ــ 90 د) الذي يعدّ الشريط الأول في السينما الروائية التي ستكرّس لها صعب أفلامها اللاحقة: «حياة معلّقة» (1985) و«كان يا ما كان بيروت» (1995)، و«دنيا» (2005)، و«شو عمبصير» (2009). في «غزل البنات» الذي يعرض عند السادسة من مساء الثلاثاء 27 تشرين الثاني، تقدّم صعب قصة حب على مقاس بيروت وحروبها اليومية التي تؤثّر في علاقات الناس. هنا قصة تجمع الشابة هالة التي تهرب من ما يحيط بها عبر الأفلام المصرية، مع الفنان كريم الذي تحميه عزلته داخل شقته في بيروت الغربية على هامش الحرب
*
شهر جوسلين صعب في «دار النمر» (كليمنصو): كل ثلاثاء من تشرين الثاني (نوفمبر) ـ للاستعلام: 01/367013

 

الأخبار اللبنانية في

12.11.2018

 
 
 
 
 

جوسلين صعب في "دار النمر": فنّ توثيق اللحظة

نديم جرجوره

الفعل السينمائي الذي تصنعه "دار النمر للفن والثقافة" متلائم والمفهوم الثقافي للتكريم أو الاستعادة. تخصيص شهر كامل بسينمائيّ يمزج الاستعادة بالتكريم، ويضع أفلامًا مختارة له أمام مشاهدين غير عارفين بها وبصانعيها؛ أو ربما يعرفون فيعتبرون هذه العروض مناسَبَة لمُشاهدة جديدة. فعل سينمائي يجد في بعض الماضي مناراتٍ تستحق اكتشافًا أو إعادة اكتشاف. هذا جزءٌ من حراك ثقافي أوسع تبغيه الدار، وتريده حيّزًا للتنبّه إلى أحوالٍ مختلفة في نصوص تتوّزع على فنون مختلفة، تحتل السينما مكانةً مهمّة بينها. 

الفعل السينمائيّ غير مبتعد عن مفهوم ثقافي لصورة تواكب أحوالاً وتبدّلات، فتكون عدسة الكاميرا عينًا تراقب وتلتقط وتعكس مجريات أحداث، أو وقائع وحكايات. صورة مرتبكة لكنها توثِّق زمنًا ومفصلاً في تاريخ بلد وشعب، أو في سِيَر أفراد يُشاركون في الحدث المُلتَقَط. هذا ما تفعله "دار النمر"، فالتكريم السينمائي معقودٌ على مؤثّرين في صنع صورة، وفي تأريخ لحظة، وفي تحصين ذاكرة، لأن أفلامهم ـ وإنْ تبدو اليوم مرتبكة ومنقوصة ومحتاجة إلى تأهيل متنوّع ـ مرايا ماضٍ تؤرشف الحاصل حينها بفضل هواجس "مؤرشفين سينمائيين" والتزاماتهم وقناعاتهم، فهؤلاء جميعهم لن يكونوا مؤرّخين بل سينمائيين يمتلكون حساسية ثقافية مفتوحة على الفكر والاجتماع والاقتصاد والسياسة، وعلى مفاهيم الانتماء والهوية والعلاقة بالآخر. 

بعد مارون بغدادي (1950 ـ 1993) في سبتمبر/ أيلول 2018 ("ضفة ثالثة" في "العربي الجديد"، 8/ 9/ 2018)، تُقدِّم"دار النمر" أفلامًا مختلفة لجوسلين صعب (1948) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018. مخرجان منتميان إلى سينما لبنانية ملتزمة قضايا الراهن حينها وناس الراهن حينها وحكايات الراهن حينها، ومنسجمة وانقلابات العالم في أنماط التفكير والتأمّل. سينما تجتهد في التقاط اللحظة، كي تطرح أسئلة اللحظة انطلاقًا من التزامٍ فكري سياسي ناشط حينها، خصوصًا أن صانعي تلك السينما مواكبون لغليان عربيّ حاصلٍ في لبنان ومحيطه، ومتورّطون في تسجيل غناه المتنوّع، وتخبّطاته المختلفة، وحماسته المفرطة في امتلاك القناعات. هذا كلّه غير سطحي وغير عابر، فالالتزام عميق، والقناعات حينها ثابتة، لكن البحث عن أجوبة غير متوقّف، تمامًا كعدم توقّف طرح الأسئلة الشائكة في/ عن جغرافيا تتخبّط في نزاعاتها غير المنتهية. 

لن يختلف كثيرًا التوجّه الأساسي، العقائدي والفكري، لجوسلين صعب عن صانعي تلك السينما اللبنانية في تلك اللحظة المصيرية، بدءًا من النصف الأول من سبعينيات القرن الـ20. هي ابنة عائلة بورجوازية فرنكوفونية، لكنها تطمح إلى الصورة بعد دراسة علمٍ، وتذهب إلى الصحافة والإعلام المرئي كتمهيدٍ (غير واعٍ ربما) للانخراط الكلّي في سينما تريد أن تجمع في نتاجها بين أحوال المرحلة وأسئلتها، وانفعالات صانعيها وتساؤلاتهم. فاندلاع الحرب اللبنانية، في 13 إبريل/ نيسان 1975، كافٍ لإعادة جوسلين صعب إلى بيروت، كي تبدأ تلك الرحلة الطويلة من الاشتغال في السينما والفنون، وفي اختبار أنواع العمل البصري، وفي لمس الوقائع والأحاسيس، وفي مواجهة تحدّيات تُطلقها انقلابات جذرية في جغرافيا ملتهبة. 

"لبنان في الدوامة" (1975) أحد الأمثلة التي تعكس معنى الصورة والكاميرا في مواكبة الحدث، بالنسبة إلى صانعة أفلام تلفزيونية وريبورتاجات وتوثيق عن قضايا عربية ودولية مختلفة. عرضه في "دار النمر" مساء 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، كافتتاحٍ للاحتفاء بمخرجته وبعض سينماها، دليلٌ على موقع الكاميرا في ذات المخرجة، وعلى مكانة بيروت في روح المخرجة، وعلى أصالة الارتباط ببلد ذاهب إلى خرابٍ مدوٍّ. فبعد أشهر قليلة على جريمة قتل مدنيين فلسطينيين في عين الرمانة (اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية المستمرة، عسكريًا، لغاية 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، تعود صعب إلى "أصل الصورة": صورة الحرب وخلفياتها وأسبابها، وصورة الراهن ووقائعه وتفاصيله، وصورة الكاميرا التي تريد توثيق اللحظة، فإذا بالانهماك الكلّي في الموضوع وتشعّباته، في ظلّ الثقل الدموي لبداية تلك الحرب، يطغى على الجوانب التقنية والفنية والبصرية. فالحرب طاحنة، وأرقام القتلى والجرحى تُثير جنونًا لدى مصدومين ببطش المتقاتلين وهوسهم بالعنف والقتل والتدمير. والبلد منقسم، وجوسلين صعب تريد عودة إلى جذر الحكاية اللبنانية، فتجد في الكاميرا ما يُثير لديها فعل التوثيق: لقاءات مع بعض زعماء تلك المرحلة (كمال جنبلاط، فاروق المقدم، عبد المجيد الرفاعي، وغيرهم) ومفكّريها أو منظّريها (سمير فرنجية وفواز طرابلسي). لقاءات تترافق وتصوير متتال لتدريبات أو لقتال أو لوقائع العيش في جحيم بلد مفتوح على صدامات شتّى. 

سيلي هذا فيلمان قصيران يُعرضان في "دار النمر" غدًا الثلاثاء، 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018: "بيروت لم تعد كما كانت" (1976، 35 دقيقة)، و"من أجل بعض الحياة" (1976، 17 دقيقة). الأول معاينة حسية لبداية "الجلجلة" التي ستعيشها بيروت طويلاً. معاينة يومية ودقيقة خلال 6 أشهر لما يُمكن تسميته بـ"تلف الجدران"، إذْ تتجوّل صعب في أزقّة المدينة بين 6 و10 صباح كلّ يوم، "عندما يرتاح مقاتلو الطرفين المتصارعين من ليل معاركهم" (جوسلين صعب: الذاكرة الجامحة ـ 1970 ـ 2015" بالفرنسية، ماتيلد روكسل، منشورات "دار النهار للنشر"، بيروت، 2015). الثاني "بورتريه" لريمون إدّه (1913 ـ 2000)، أحد أبرز الزعماء الموارنة اللبنانيين المناهض للحرب، والمواجِه للزعامات المتقاتلة، والرافض "دخول الجيش السوري إلى لبنان" لاحقًا. "بورتريه" لرجل يستعد حينها لانتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية (1976)، بعد انهماكه، منذ اندلاع تلك الحرب، بالبحث عن مفقوديها بالتعاون مع لينا طبّاره. 

هكذا "تُحاور" جوسلين صعب راهن بلدها ومدينتها، عبر التورّط البصري في تأريخ اللحظة. الصحافية المنخرطة في أحوال كثيرة، من البوليساريو إلى القذافي، ومن أكراد العراق إلى نساء فلسطين، ومن "كومندوس الانتحاريين" إلى الجولان وسورية، ومن حروب العرب مع إسرائيل إلى علاقة فرنسا بالشرق الأوسط، الصحافية نفسها ستغرق يومًا تلو آخر في حرب لبنان، فتصنع ما سيبقى في الذاكرة تأريخًا بصريًا للبلد ولسينماه. 

الفيلمان الآخران المختاران في "دار النمر" هما: "رسالة من بيروت" (1978، 52 دقيقة) و"غزل البنات" (1985، 90 دقيقة). الأول (20/ 11) مزيج الذاتي البحت بأهوال الحرب نفسها: بعد 3 أعوام على اندلاع تلك الحرب، تعود صعب إلى مدينتها من دون القدرة على التكيف مجدّدًا معها، لكنها ستحاول إيجاد وسيلة لتخاطب مباشر مع الناس عبر باصٍ يتجوّل في المدينة، في حين أن النقل العام متوقّف عن العمل، فإذا بأفراد عديدين سيجدون فيه نوعًا من أمانٍ. أما الثاني (27/ 11)، فمرتكز على ثلاثية الحرب اللبنانية والأفلام الرومانسية المصرية ولقاء الحب الجامع بين سمر، المقيمة بين المقاتلين في بلدٍ أنهكته الحرب، وكريم الذي سيُبدِّل حياتها ويُصالح جانبي الحرب وأفلام الحب في شخصيتها. 

برنامج متواضع، لكنه ثريّ بنمط أساسي في اشتغال جوسلين صعب: حبٌّ عميق لمدينة تعيش حربًا، ولأناس يُقيمون في خراب، ولصُور تؤرِّخ لحظةً يُفترض بها أن تحضر بقوّة في الذاكرة، كي لا يُصيبها نسيان قاتل، هو فعليًا تجديد مبطّن للحرب.

 

العربي الجديد اللندنية في

12.11.2018

 
 
 
 
 

"ثلاثاء الأفلام".. وقت مستقطع لسينما جوسلين صعب

مصطفى ديب*

لن تُصادف مواطنًا لبنانيًا دون أن يُعبِّر لك عن مخاوفه من الأزمات السّياسية الدائرة في بلده. "البلد واقف على كف عفريت"، هي العبارة الأكثر دقّة عنده لوصف الحالة التي يمرُّ فيها لبنان منذ سنوات، أي البلد الذي لا ينفكّ يخرج من أزمة ليدخل في أخرى أشدُّ تعقيدًا، تُزعزع استقراره، وتُلقي بظلالها البائسة على مختلف مجالات ومرافق الحياة اليومية والاجتماعية وغيرها. في هذا السياق، يُمكن القول، وبثقة، إنّ قطاعًا واحدًا في هذا البلد لا يزال مستمرًّا في النجاة وتجاوز الواقع الراهن. وهو قطاع الثقافة الذي تفوّق على جميع التّحديات، بمختلف أشكالها.

"ثلاثاء الأفلام" مبادرة لاقت إقبالًا ومتابعة واسعة، وتمكّنت من تكريس نفسها كواحدةٍ من أبرز الأنشطة الثقافية في مدينة بيروت

في الـ 16 من كانون الثاني/ يناير من العام الجاري، أطلقت "دار النمر للفنّ والثقافة" مبادرة سينمائية تحت عنوان "ثلاثاء الأفلام". المبادرة التي لاقت إقبالًا ومتابعة واسعة، تمكّنت من تكريس نفسها كواحدةٍ من أبرز الأنشطة الثقافية في مدينة بيروت. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه المبادرة، وكجزءٍ من المشروع الذي تشتغلُ عليه دار النمر بإتاحة الفنّ للجميع، أصرّ القائمون عليها على أن تكون مُبادرة مجانية، أي أن يكون حضور فعّالياتها مجانيًا. ما يعني أنّ المبادرة انطلقت دون ميزانية بدل عرض. ولكنّ الأمر لم يمنع المخرجين من المشاركة إطلاقًا. بل، وعلى العكس تمامًا، قابلوا المبادرة برحابة صدر واسعة، وأبدو استعدادهم لعرض أفلامهم لجمهورٍ جديد لربّما يُشاهد هذه الأعمال لأوّل مرّة.

إذًا، وبهذا الشكل، تكون مُبادرة "ثلاثاء الأفلام" التي تُخصِّصُ شهرًا كاملًا لعرض أعمال أحد السينمائيين، لا سيما تلك المُتعلّقة بلبنان وفلسطين؛ أقرب إلى حيّزٍ تُفسحهُ دار النمر لا لعرض الشرائط السينمائية فقط، جديدةً كانت أو قديمة. بل لتكريمها، بشكلٍ أو بآخر، واستعادتها أيضًا، وعلى وجه التحديد تلك التي طواها النسيان، وتثبيت حضورها في المتن مُجدَّدًا. المُميّز في هذه المبادرة، مع الأخذ بالاعتبار ما ذكرناهُ قبلًا، هو أنّها تضع المشاهد وجهًا لوجه مع أعمال سينمائية إمّا قديمة، منسية، أو أعمالًا ليست معروفةً، إلى جوار صانعيها، عندهُ. وبالتالي، يُمكن القول إنّ المبادرة، ناهيك عن الاستعادة والتكريم، هي مبادرة لاكتشاف ما هو مجهول وغير معروف.

الغرض من هذه المبادرة، كما يتّضحُ شهرًا بعد آخر، هو أن تعرض أعمالًا يُمكن أن تُقدّم صورة عن التحوّلات التي جرت قبلًا في بلدٍ ما، أو تلك التي تجري الآن في بلدٍ أو بلدان أُخرى. وبالتالي، يكون الشّريط السينمائي هنا بمثابة أرشيفٍ لأحداثٍ مضت دون أن توثّق. وضمن هذا الإطار، خصَّصت "دار النمر للفنّ والثقافة" شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري للمخرجة اللبنانية جوسلين صعب. المُخرجة المولودة سنة 1948، اتّسمت أعمالها السينمائية بقربها من الواقع، ومواكبتها له ولتحوّلاته المتعدِّدة. الأمر الذي جعل منها أعمالًا ملتزمة بكلّ القضايا الراهنة من حولها، تلك التي لا يُمكن للإنسان، بغض النظر عن موقعه، أن يتجنَّبها إطلاقًا.

اتسمت أعمال اللمخرجة اللبنانية جوسلين صعب بقربها من الواقع، ومواكبتها له ولتحوّلاته المتعدِّدة 

افتتحت دار النمر شهر جوسلين صعب بعرض فيلمها "لبنان في الدوامة" (1975) يوم السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر. الشريط الذي يمتدُّ على ساعة و15 دقيقة، يصوّر الحرب الأهلية اللبنانية، تلك التي أثمرت خرابًا لا يزال مُستمرًّا إلى الآن، والقصد هنا أنّهُ مستمرًّا بالنمو والتوسّع. وما يُمكن أن يلاحظهُ المشاهد في هذا الشريط هو اشتغال المُخرجة على البحث، من خلال عدسة كاميرتها، عن الأسباب والخلفيات التي فجّرت هذه الحرب بكلّ ما تحملهُ من وحشية ودمار طال النفس البشرية قبل أي شيء آخر. واستكمالًا لفعّاليات هذا الشهر، تعرض دار النمر مساء اليوم، الثلاثاء 13 تشرين الثاني/ نوفمبر فيلمان قصيران تحت عنوان "بيروت لم تعد كما كانت"، و"من أجل بعض الحياة". الشريط الأوّل صوّر خلال هدنة سنة 1976، ويُمكن القول إنّه صوِّر كمرثية لمدينة بيروت التي ظهرت فيه مدينةً مُدمّرة، بشوارع تخلوا من المارّة، أو ربّما من الحياة كاملةً. ومباني مُتهالكة. إنّها صورة بيروت كما لم يعدها سكّانها آنذاك، وكما لم يراها الكثير من أبناء الجيل الجديد.

"من أجل بعض الحياة" المُمتد على 17 دقيقة فقط، صوّر هو الآخر سنة 1976. ولكنّهُ جاء بمضمون مختلف عن الأوّل قليلًا، ذلك أنّه يوثّق القليل من حياة المرشّح الرئاسيّ آنذاك ريمون إده الذي كان لهُ مواقف مختلفة عن مواقف زعماء الطوائف المتقاتلة. ولا سيما الموقف الذي اتّخذه من دخول الجيش السوريّ إلى لبنان، ورفضه له بشكلٍ قاطع. وبالإضافة إلى هذان الفيلمان، تعرض دار النمر فيلمان آخران بعنوان "رسالة من بيروت" 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، و"غزل البنات" 27 من الشهر نفسه، وهو الشريط الذي تختتم به الدار شهر جوسلين صعب.

*كاتب وقاص من سوريا

 

موقع "ألترا صوت" في

13.11.2018

 
 
 
 
 

جوسلين صعب... تنويعات سينمائية في توثيق الحرب

علاء رشيدي

اسمي راشيل كوري“… مسرحية من يوميات غزّية

جوسلين صعب... تنويعات سينمائية في توثيق الحرب دمى مسرحية تتمرد على صناعها: عرض "دمى أوتوبورترايت" لفرقة "أيد واحدة" من مخيم شاتيلا

"تخلي" محمد خياطة: البيئة، الهجرة، الحرب، الموت

في هذا الفيلم، يبرز الأسلوب الذاتي في سرد الحرب من قبل المخرجة، من عنوان الفيلم نلمح هذا الحس الأدبي في الرغبة في الحديث عن الحرب، "الرسالة " كلمة تحمل التواصلي، الشخصي، والذاتي. يُرافق الشريط البصري لهذا الفيلم قراءة لنصوص إيتل عدنان، التي تحضر بأفلام جوسلين في تلك الفترة، كما يظهر أن أفكارها تحضر في وعيها.

تكمن الأهمية التي تكتسبها تظاهرة ”سينما جوسلين صعب“ التي نظمتها دار النمر هذا الشهر، في أن الأفلام التي تم عرضها من تجربة هذه المخرجة، تم اختيارها من قبل ماتيلد روكسل التي درست الفلسفة وتاريخ الفن، وخصصت رسالتها الأكاديمية عن سينما جوسلين صعب، وحققت عن المخرجة السينمائية كتاباً بعنوان ”الذاكرة الجموحة“ ( دار النهار، 2015).

فمن بين العشرات من أفلام جوسلين صعب التي حققتها على طيلة مسيرتها الفنية، استقر اختيار ماتيلد روكسل على خمسة أفلام من مسيرة المخرجة ليتم عرضها في تظاهرة دار النمر لهذا العام: ”لبنان في دوامة“ 1975، ”بيروت لم تعد كما كانت“ 1976، ”من أجل بعض الحياة“ 1976، ” رسالة من بيروت“ 1978، ”غزل البنات“ 1984.

هذه الخيارات لا تركز على أشهر أفلام المخرجة، أو حتى أبرزها اكتمالاً في مسيرتها الفنية، بل نلاحظ التركيز على أفلام محققة بين عامي 1975 و 1978، باستثناء فيلم ”غزل البنات“ الذي حقق في الثمانينات. إلا أن الرابط الجامع بين الأفلام المختارة هو موضوعة الحرب. فجوسلين صعب التي درست الاقتصاد والصحافة، بدأت رحلتها السينمائية في سنوات إنطلاقة الحرب الأهلية اللبنانية، وكأن الحرب لعبت دوراً في تكوين وعينها الفني. فيتلمس المتابع لهذه المختارات بين الفيلم والآخر، وكأن المخرجة تسائل نفسها: "كيف يمكن للسينما أن تعبر عن الحرب ؟ كيف تُعرف الحرب أصلاً ؟" بين الفيلم والآخر تقدم المخرجة جوسلين مقاربة فكرية مختلفة عن الحرب مطوعةً اللغة السينمائية لتحقيق هذه المقاربة. مما يسمح بالقول عن أفلامها في تلك الفترة بأنها تنويعات سينمائية في التعبير عن الحرب.
”لبنان في دوامة“ 1975: لا بد للحرب من أسباب اقتصادية

في لقاء مع موقع ”المدن“، تقول جوسلين صعب: لقد أنهيت دراستي في الاقتصاد عام 1970، وبدأت العمل في التلفزيون. كنت مراسلة حربية في مصر وجنوب لبنان، ثم ذهبت عام 1971 إلى ليبيا، قدمت تقارير عن حرب أكتوبر 1973 . عملت أيضاً عام 1975 لصالح التلفزيون الفرنسي. كنت مراسلة حربية. قرار إنجاز فيلمي الأول عن بلدي اتخذته عام 1975 بعد الاستيلاء على حافلة تقل فلسطينيين كانوا عائدين من حفل، تم قتل جميع الركاب. كان اسم الفيلم ”لبنان في دوامة“. ومنذ ذلك الحين لم أتوقف عن عمل الأفلام. كان في ذلك الوقت من الصعب جداً أن تعيش في خضم حرب أهلية. ولكنني بالضبط كنت أعيش هناك وأرسل تقارير من الجبهة، مما دفعني إلى الحلم بأماكن أخرى. وأتذكر تماماً ما كنت أقوله أحياناً في ذلك: "لا بد لي أن أحكي ما الذي يحرك قلوب البشر. لا أريد فقط تبيان ما يحدث من حولهم.“

في سرديات الحرب الأهلية اللبنانية، غُيبت القراءة السياسية للأحداث العنفية والتي انطلقت من أجل تغيير في عدد توزيع المقاعد في البرلمان اللبناني، وتسيدت فيما بعد القراءة الطائفية التي ركزت على كون الحرب صراع طوائف على مراكز القوى في الدولة، أما القراءة الاقتصادية فهي لا تحضر على الإطلاق. في فيلمها الأولى ”لبنان في دوامة“ تختار جوسلين صعب التركيز على الأسباب الإقتصادية للحرب، أي الوضع الإقتصادي/الاجتماعي الذي رافق الإنطلاقة الأولى للحرب. الخيار الاقتصادي يؤشر إلى حساسية خاصة في قراءة الواقع امتلكتها جوسلين صعب في حينها، وخصوصاً إذا عرفنا أن ”لبنان في دوامة“ ليس أول فيلم لجوسلين صعب فحسب، بل هو أول فيلم عن الحرب اللبنانية كما يوضح الناقد محمد عبيدو، في مقاله ”أفلام تتلمس الهموم ومكامن الجروح“.

هل تأتي قراءة جوسلين صعب الاقتصادية للحرب من كونها درست الإقتصاد؟ أم من وعيها المهني الصحفي؟ في الفيلم تنتقل بنا المخرجة في مختلف المناطق اللبنانية لتبرز الجوانب الاقتصادية التي تلعب درواً في تأجيج النزاعات الأهلية، فمثلاً في البقاع تسلط الضوء على مشكلة تقاسم المياه بين عائلتين كبيرتين تعملان في الزراعة، وتتنافسنا على موارد المياه الشحيحة، مما يؤدي إلى نزاعات مسلحة، تبرر الحرب درجة العنف التي يستعملها الطرفان. كذلك الأمر في الجنوب اللبناني، أما في الشمال/منطقة طرابلس فيركز الفيلم على دور المال في أيدي بعض الشخصيات المتنفذة التي راحت تؤسس لنفسها ميليشيات بناءً على أيديولوجيات قومية في بعض الأحيان، ودينية في أحيان أخرى. وهي قائمة ومستمرة ليس على الفكر أو الإيمان، بل على المكافات المالية للمقاتلين.

فيلم ”لبنان في دوامة“ ينتهج أسلوبية التقصي الصحفي والتوثيق. تصور المخرجة لقاءات مع عدة شخصيات سياسية كانت فاعلة في تلك الفترة (كمال جنبلاط، فاروق المقدم، عبد المجيد الرفاعي)، وكذلك مفكرين ومنظرين (سمير فرنجية، فواز طرابلسي)، لقاءات تترافق وصور مشاهد اختارها المخرجة لتعكس أجواء تأسيس القوى المسلحة، لتدريبات فرق عسكرية تقوم بها القوى المتصارعة، ترافقها طبعاً مشاهد لوقائع العيش في جحيم بلد مفتوح على صدامات شتى، أي على الحرب. كأن المخرجة بما تنقله عبر كاميراتها تريد من المتلقي أن يشتم وينبئ بمقدار العنف وطول الصراع الذي سيقدم عليه المجتمع المصوّر في الفيلم.

”بيروت لم تعد كما كانت“ 1976: الحرب مشاهد، مواقف، بصريات، وحكايات

التركيز في الفيلم الثاني ”بيروت لم تعد كما كانت“، على وقائع الحرب، بمعنى الأثر الذي تولده في بصريات ومشاهد والحياة اليومية للمدينة. المقصود بكلمة ”وقائع الحرب“ يوضحه هذا المقطع الذي جاء في بيان الفيلم: ”هذا الفيلم مرثية لمدينة بيروت، صُوّر خلال فترة من الحرب توقف فيها العنف بشكل لحظي وحاول الناس خلالها إعادة بناء حياتهم وسط الركام ودمار الحرب. تم تصوير الفيلم على مدى ستة شهور، حيث يقدم نصفه الأول صوراً لمدينة مدمرة، وشوارع خاوية، وأبنية تعرضت للقصف، ومناظر عشوائية، وأطفال يلعبون. يرافق الصور تعليق صوتي كتبته الشاعرة والفنانة إيتل عدنان، تخبر فيه كيف "دمر غير المعتاد ترتيب الأشياء". يخبر الناس تجاربهم مع الخراب ومعاناة المعارك. هذا الفيلم يغمره التردد والعنف الذين تسبب بهما دمار مكان كانت تعرفه المخرجة وأحسّت أنه ضاع للأبد“.

بالإضافة إلى الوقائع الحياتية في مدينة الحرب، تتعدد لقطات الفيلم التي تروي عن دور الطفولة في الحرب، نشهد الأطفال بشكل مكثف، يتحركون في المدينة، يلهون، والكثير منهم يحمل السلاح، كأن كاميرا المخرجة تريد أن تقول أن الأطفال كانوا الفئة الأساسية التي تشكلت منها المليشيات المسلحة. إنه تنويع جديد يضيفه هذا الفيلم على تنويعات التعبير عن الحرب، فالحرب من زاوية ومن مقاربة موضوعة الطفولة تبدو دوماً خياراً دقيقاً، إنسانياً، وغنياً بالتحليل الاجتماعي في الآن عينه.

كتب نديم جرجورة عن ”فن توثيق اللحظة“ في سينما جوسلين صعب: ”الفعل السينمائيّ هو مفهوم ثقافي لصورة تواكب أحوالاً وتبدّلات، فتكون عدسة الكاميرا عينًا تراقب وتلتقط وتعكس مجريات أحداث، أو وقائع وحكايات. صورة مرتبكة لكنها توثّق زمنًا ومفصلاً في تاريخ بلد وشعب، أو في سِيَر أفراد يُشاركون في الحدث المُلتَقَط. سينما تجتهد في التقاط اللحظة“، وهذا ينطبق بدقة على فيلم ”بيروت لم تعد كما كانت“ لهذه المخرجة.

”من أجل بعض الحياة“ 1976: الحرب قصص مختفين وجثث

يُعرض هذا الفيلم للمرة الأولى في شهر جوسلين صعب في دار نمر، منذ تم تحقيقه في العام 1976. يركز الفيلم على مرشح الانتخابات الرئاسية في تلك الفترة ريمون أده، ولذلك يمكن أن يقرأ الفيلم من ناحية ترويجية لهذه الشخصية السياسية. ولكن يمكن لنا من الفيلم أن نتلمس إرادة أخرى للمخرجة، وهي أن تروي حكايات عن المختفين والجثث، واحدة من تنويعات سرديات الحرب الأساسية.

”من أجل بعض الحياة“، يصور بالكامل في مكتب ريمون أده ويتابع يوميات فريقه عمله ومهامهم، يتابع إذاً محاولات هذا الفريق في مساعدة الناس الباحثين عن أقاربهم أو أحبائهم المخطوفين أو المختفين، وبالتالي لابد له من التعامل مع حكايات الجثث، تلك المكتشفة للتو وتلك التي بحاجة للدفن مهملة ويصعب الوصول إليها. هنا يروي ريمون أده بنفسه حكاية عن صعوبة دفن إحدى الجثث في ظل الصراع الديني والعسكري والوضع المدني القائم، وتروي كذلك مساعدته في المكتب، عن حكاية امرأة تبحث عن زوجها المختفي، وكيف تصاعد الأمل وعاد ليتناقص في العثور عليه، تقلبات الأمل واليأس، الانتظار بين خبر بقائه على قيد الحياة ومماته، ومن ثم في النهاية العثور على جثته. هو فيلم عن حكايات الألم، لقد تصاعد الموت كموضوعة في أفلام جوسلين صعب، وهنا يتركز أخيراً معنى جديد للحرب، إنها حكايات عن المختفين، والمقتولين، وحكايات عن جثث.

”رسالة من بيروت“ 1978: الحرب مذكرات شخصية

في هذا الفيلم، يبرز الأسلوب الذاتي في سرد الحرب من قبل المخرجة، من عنوان الفيلم نلمح هذا الحس الأدبي في الرغبة في الحديث عن الحرب، "الرسالة " كلمة تحمل التواصلي، الشخصي، والذاتي. يُرافق الشريط البصري لهذا الفيلم قراءة لنصوص إيتل عدنان، التي تحضر بأفلام جوسلين في تلك الفترة، كما يظهر أن أفكارها تحضر في وعيها.

إيتل عدنان  كانت قد أصدرت روايتها "الست ماري روز" قبلها بعام سنة ١٩٧٧، واعتبرتها جوسلين صعب أفضل رواية عن الصراع اللبناني. تتمتع نصوص إيتل عدنان هنا بدمج الشعرية بالتحليل السياسي والاجتماعي لمدينة بيروت خلال الحرب. بينما تتجول كاميرا جوسلين صعب بالبصري المرافق للنصوص في باصات، أو حافلات النقل في بيروت في تلك الفترة، تجول بالشوارع لتكوّن الرؤية الذاتية التي هي محور السرد وطريقته في نقل أجواء المدينة والعيش، بعد أن كانت كاميرا أفلامها السابقة صحفية وتوثيقية.

يكتب عن ”رسالة من بيروت“ الناقد محمد عبيدو: ”فيلم جميل ومتقن يتسم بالشاعرية والهدوء، حقق انتقالاً من أسلوب جوسلين الصحفي إلى الصياغة السينمائية، وكشفَ عن مخرجة تجيد التعبير عن أفكارها بهدوء وضمير وذكاء وجرأة في استخدام المونتاج، وقدرة على تطويع الكاميرا لتمتلك صورتها السينمائية.“
”غزل البنات“ 1984: الحب في زمن الحرب

كثير من عناوين الأعمال الأدبية والفنية تربط حكايات الحب والحرب، وهنا محاولة من المخرجة جوسلين صعب لتقديم تنويعة جديدة على الحرب من خلال قصة حب تنشأ بين ثنائي، قادت الحرب كل منهما إلى تكوين شخصية: سحر الهاربة من الحرب بمتابعة الأفلام المصرية، وكريم رسام منعزل عن الحياة في شقته في بيروت الغربية. تنشأ بينهما علاقة تقارب، بين هذه الطباع الشخصية التي لعبت الحرب دوراً في تشكلها، وكما أن الحرب دفعت بهما إلى التقارب، تكون الحرب سبباً في موت كريم، سبباً في فراقهما أيضاً.

هكذا تتنوع تقنيات وخيارات المخرجة جوسلين صعب في التعبير عن الحرب، من الإضاءة على الجوانب الإقتصادية، فوقائع العنف والدمار اليومي، إلى حياة الأطفال، وقضايا المختفين والجثث، ومن ثم ”رسالة من بيروت“ وجرعة الذاتية الشعرية مع نصوص إيتل عدنان، إكتمالاً بقصة تبين أثر الحرب على العلاقات العاطفية. تجربة ملهمة من المخرجة جوسلين صعب التي ما تزال أسلئتها، هي أسئلة الفن في الواقع العربي اليوم.

*كاتب من سوريا

 

مجلة رمان الفلسطينية في

30.11.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2019)