المرأة بطلة وضحية في ثلاثة أفلام مغربية بقرطاج
السينمائي
صابر بن عامر
الأفلام الثلاثة تستعرض قراءة مُبطنة لحالة التردي
العام الذي باتت تعيشها بعض مجتمعاتنا العربية في ظل عدم تمكين
المرأة من أبسط حقوقها في الحب والأمومة والانتماء لأوطان تعيش
شتاتها من الداخل.
افتتح المغرب في الثالث من نوفمبر الجاري فعاليات
الدورة الـ29 من أيام قرطاج السينمائية التي تختم فعالياتها، السبت
بتونس، بفيلم “بلا موطن” للمخرجة نرجس النجار، كما تُشارك المملكة
بفيلمين في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، هما
“صوفيا” لمريم بن مبارك و”لعزيزة” لمحسن البصري، وثلاثتهم قدّموا
المرأة بطلة وضحية في الآن ذاته.
تونس
- تبدو
المرأة بطلة وضحية في الفيلمين المغربيين المشاركين في المسابقة
الرسمية للأفلام الروائية الطويلة ضمن فعاليات النسخة الـ29 من
مهرجان قرطاج السينمائي التي يسدل عليها الستار، السبت، بتونس.
وتتجلى البطولة النسائية للفيلمين منذ البداية من
خلال العنوانين المختارين لمخرجيهما، فالأول حمل عنوان “صوفيا”
للمخرجة المغربية- الفرنسية مريم بن مبارك، كما منح المخرج محسن
البصري فيلمه “لعزيزة” عنوانا أنثويا، سواء كان اسما أو رمزا،
والذي يندرج ضمن أفلام السيرة الذاتية، حيث اختار البصري طرح قصة
حياة والدته لتكون موضوعا لفيلمه.
ويروي فيلم “صوفيا”، الذي قامت مريم بن مبارك
بتصويره في الدار البيضاء أواخر سنة 2017، قصة فتاة ميسورة الحال
اسمها “صوفيا” تضع مولودتها نتيجة علاقة خارج إطار الزواج، لتجد
نفسها مضطرة إلى إحضار الأب للمستشفى أو مواجهة السجن وفق القانون
المغربي، ومن هناك تنطلق الفتاة ذات الـ20 عاما برفقة إحدى
قريباتها في رحلة ليلية بمدينة الدار البيضاء بحثا عن الأب المفترض
للطفلة، أو بالأحرى من أجل عدم الكشف عن الأب الحقيقي لمولودتها،
رجل الأعمال الذي أوقعها في المحظور، فتعقد صفقة مع شاب من الطبقة
الفقيرة “عمر” للتستر على حملها وإنجابها.
وقام بتشخيص الفيلم كل من سارة الدحماني العلوي،
وسارة بيرليس، وحمزة كفيف، ولبنى أزبال، بالإضافة إلى المخرج
والممثل فوزي بنسعيدي والممثل سعيد باي.
فيلم "صوفيا" سبق له أن نال جائزة أفضل سيناريو في
مسابقة "نظرة ما" للدورة الـ71 من مهرجان كان السينمائي
و”صوفيا”، هو أول فيلم روائي طويل لمريم بن مبارك
بعد عدة أفلام قصيرة، أشهرها فيلما “نور” و”جناح” الذي حصلت من
خلاله على عدة جوائز ورشحها لأوسكار أفضل شريط قصير سنة 2015، وهو
فيلم التخرج بعد دراستها السينما في المعهد الوطني لفنون الفرجة
ببروكسيل.
ونال “صوفيا” جائزة أفضل سيناريو في مسابقة “نظرة
ما” للدورة الـ71 من مهرجان كان السينمائي، وجائزة “فالوا” لمهرجان
الفيلم الفرنكوفوني “آنجوليم” بفرنسا.
وغير بعيد عن ثيمة المرأة البطلة والضحية في
مجتمعات عربية ذكورية حد العظام، يروي فيلم “لعزيزة” لمخرجه محسن
البصري قصة “لعزيزة” التي يهجرها زوجها، دون أسباب، وهي حامل في
شهرها السابع، لتلد بمنزل شقيقها وتعيش فيه مع ابنها “إحسان”.
وبعد عدة سنوات، وعندما يحين موعد التحاق وحيدها
بالمدرسة، يبدي والده رغبة في استعادته، وعلى العكس من رفض
أشقائها، تقرّر لعزيزة أن تأخذ ابنها إلى عتبة البيت الذي كان
مغلقا في وجهها يوما من الأيام، وبرأسها تدور فكرة واحدة، هي أن
مستقبل إحسان فوق أي شيء.
والفيلم من بطولة رشيد الوالي، وعمر لطفي، وصونيا
عكاشة، وزكريا عاطفي، وفاطمة الزهراء بناصر.
وفي كلا الفيلمين، ورغم اختلاف القصتين، أتت المرأة
بطلة وضحية في “صوفيا” التي تقودها الأقدار للوقوع في براثن رجل
مُستهتر، فتجد نفسها في دوامة أخلاقية وقانونية من أجل إسناد لقب
وهوية لمولودتها، فتبحث عن ضحية، وهي الضحية، كي تنجو من مصير
مجهول.
وإن بدت صوفيا مُشاركة وفاعلة في ما آلت إليه، ولو
من خلال سكوتها وخنوعها، في فيلم مريم بن مبارك، فالأم في فيلم
محسن البصري، بدت ضحية خيارات زوج يُغادر متى يشاء ويعود متى
يُريد، ليُمارس أنانيته الذكورية إلى أقصاها غير عابئ بعواطف زوجة
ثم أمّ قدّمت الغالي والنفيس من أجل زوجها أولا فطفلها ثانيا،
لتتوالى تضحياتها لصالح ابنها دائما.
والثيمة ذاتها قدّمها فيلم “بلا موطن” للمخرجة نرجس
النجار الذي كان افتتح الدورة 29 لأيام قرطاج السينمائية بمدينة
الثقافة في تونس العاصمة، وهو من بطولة الغالية بن زاوية وأفيشاي
بنعزرا وعزيز الفاضلي ونادية النيازي ومحمد نظيف وجولي غاييه
وزكريا عاطفي.
ويلقي الفيلم، على مدى 114 دقيقة، الضوء على قضية
المغاربة الذين تم طردهم من الجزائر سنة 1975، من خلال تتبع قصة
فتاة تم طردها وعمرها لا يتجاوز 12 سنة مع والدها إلى المغرب، فيما
أرغمت أمها على البقاء في الجزائر، لتعيش الفتاة مأساة إنسانية
كبيرة بسبب فراقها لأمها.
وللمرة الثالثة تكون المرأة بطلة وضحية في الأفلام
المغربية الثلاثة المُشاركة في دورة مهرجان قرطاج السينمائي لهذا
العام، ما يعني أن نصف مجتمعنا العربي لا يزال مريضا، على اعتبار
أن المرأة هي نصف المجتمع، ومُلهمة نصفه الثاني، كما يُوصّفها
علماء الاجتماع، فمتى شُفيت من عللها، برأ المجتمع كله، ومتى
تعاظمت مآسيها، تصّدع المجتمع بأسره.
وبذلك، ربما، تستعرض الأفلام الثلاثة، قراءة مُبطنة
لحالة التردي العام الذي باتت تعيشها بعض مجتمعاتنا العربية في ظل
عدم تمكين المرأة من أبسط حقوقها في الحب والأمومة والانتماء
لأوطان تعيش شتاتها من الداخل.
كاتب تونسي
####
"لقشة
من الدنيا" رسالة الهامش إلى المهمشين
حكيم مرزوقي
تونس القاع منجم خفي لدراما إنسانية موجعة ومسكوت
عنها.
يعود المخرج التونسي نصرالدين السهيلي إلى الإخراج
السينمائي بعد شريطين قصيرين “بوتليس” و”الشاق واق”، وفيلم روائي
طويل حمل عنوان “مر وصبر”، ليشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية
الطويلة لأيام قرطاج السينمائية التي تختم السبت، بعمل وثائقي
تسجيلي، يزخر بنكهة الرواية وهو “لقشة (قطعة) من الدنيا” أو
“سيبيتكس” كما في النسخة الفرنسية لملصق الفيلم.
أمام فيلم “لقشة من الدنيا” للمخرج التونسي
نصرالدين السهيلي لا يجد المتابع للمدونة السينمائية العربية نفسه
مجبرا على نفض الغبار عن أشرطة تنعش الذاكرة أو تدغدغها في نوع من
النوستالجيا الممتزجة بالحسرة على فقدان الدهشة التي كانت تصيبنا،
ولو لمرة كل عشرية سينمائية من عمر المهرجانات العربية، وإنما يلفي
نفسه متفائلا إلى حد الاحتفاء أمام فيلم يقول بلغة سينمائية فصيحة:
نعم، بإمكاننا أن نذهب بعيدا نحو الجرأة والإتقان إلى حد الوجع
الممتع والمدهش.. فقط لو حفرنا حيث تقف أقدامنا.
رحلة علاج
"لقشة
من الدنيا" قصة صديقين متشردين، في منطقة باب الجديد، بالعاصمة
تونس، أحدهما أطرد من إيطاليا، واسمه رزوقة (عبدالرزاق)، والثاني
متسول اسمه لطفي (ويدعى فانتا) وكلاهما مدمن “سيبيتكس″ وهو نوع من
المخدرات يؤخذ بالحقنة عبر الوريد.
نصرالدين السهيلي: الفيلم
في عمقه يتحدث عن حقيقتنا التي لا نرغب في معرفتها
ينجح رزوقة في التخلص من الإدمان ويحاول مساعدة
لطفي (فانتا) في التخلص هو الآخر من الإدمان، فيصطحبه إلى الطبيب
ويتابع المشاهد رحلة العلاج للتخلص من هذا الأفيون، رغم الظروف
المادية الصعبة التي يمرّان بها.
رحلة العلاج تتخللها شجارات بين الصديقين، تجعل
رزوقة يتخلى عن لطفي، لكن سرعان ما تعود العلاقة بينهما حين يكتشف
الطبيب إصابة لطفي بالتهاب الكبد الفيروسي، وهو ما يجعل رزوقة يقرر
مواصلة الرحلة مع صديقه، رغم تكلفة العلاج الباهظة.
هو فيلم تسجيلي امتدت رحلة تصويره قرابة الثلاث
سنوات، وبشكل متقطع ومزاجي، كما يقول مخرجه الذي ينام متوسدا آلة
تصويره ومحتضنا شغفه برصد العالم السفلي لتونس مع مهمشيه وشخوصه
المنغمسين في العتمة والغرابة والإدهاش.
وإذا كان لا بد من “التلخيص الظالم” لعمل سينمائي
متميز، فإن قصة هذا الفيلم الوثائقي، وبحسب الانطباع السائد لدى
الجمهور العادي والبسيط، هي درس في معاني الصداقة والمحبة والإيثار
على النفس، فرغم المأساة التي يمر بها “بطلا” الشريط، يستمران في
الإقبال على الحياة، ويلتهمانها بشراهة ومن كل الجوانب مثل تفاحة
خضراء شهية.
رزوقة وفانتا يقتحمان حمّاما عموميا في سوق شعبي،
وتربط بينهما قصة حب تتجاوز في أبعادها وتشابكاتها ما يعرف اختصارا
أو تسطيحا بـ”المثلية الجنسية”، إذ هي علاقة ممزّقة بين الرومانسية
والمخدّرات والعنف.
كاميرا مؤنسنة
الكاميرا المحمولة، وإمعانا في الأنسنة ونقل نبض من
يحملها ومن تلاحقهم في ذات الوقت، كأنها تدّعي الحياد، ولكنها ليست
كذلك.. إنها تنحاز لشيء مبهم ولا يقال.. لعله سر اللحظة الإنسانية
التي تنفرد السينما الحقيقية بكشفها.
اكتفى السهيلي بلعب أصعب الأدوار وأكثرها مكرا
وخفة، وهو دور اللامبالي، غير المكترث لهول ما يحدث، لكن الكاميرا
تفضح إحساسه في لعبة تآمر مدهشة مع المتلقي، بل ومع الذات.
تربط بين رزوقة وفانتا علاقة ممزقّة يختلط فيها
الإدمان على المخدّرات بالقسوة البالغة واللطف البالغ، يسمّي فانتا
رزوقة بـ”بابا” وبـ”حبيبي”، وتصوّر الكاميرا هذا النهر المتدفق من
الأحاسيس في شرفة بيت يطلّ على البحر في قرية استشفائية عن طريق
المياه الكبريتية، وهو يحلم، حلم مساء صيف.
ومن مفاجآت التصوير الحيّ أنّ هذا المونولوج
الرومانسي صاحبته أصوات وإيقاعات وجلبة ناس يعدّون لعرس في الشارع،
كما تنقل الكاميرا بحياد مربك وموجع مشاهد قاسية لرزوقة وهو يعنّف
فانتا في الوكالة (بناء آيل للسقوط) التي يسكنان فيها بحيّ باب
الجديد الشعبي داخل مدينة تونس العتيقة.
يتوجّع فانتا، يبكي، يثور، يشتم، يستسلم فنتوهّم
أنّه الطرف الأضعف في هذه العلاقة المربكة، لكنه ليس كذلك تماما
فما يرهقه هو وحدته في غابة من الأوغاد والذئاب البشرية.
تلتقط الكاميرا سطوة حضور رزوقة.. هو سيّد متغطرس
في علاقاته مع فانتا ومع الآخرين، يقول رزوقة لفانتا في البيت الذي
استأجراه مع صاحبهما المكنى بـ”الناقة” في المحطة الاستشفائيّة
بقرية قربص “أنت لا تعرف كيف تطعن شخصا، للقيام بذلك يلزم الكثير
من الجأش”.
يرى رزوقة أنه يلزم أن تكون فطنا وسط “أولاد
الحرام” المحيطين بك، كما يقول في مشهد آخر إنّ المدمنين على
المخدّرات هم الأكثر حساسيّة ولهم ذكاء انفعالي مفرط.
ويكشف رزوقة في علاقته العنيفة مع فانتا عن حنان
ولطف بالغين.. نرى ذلك وهو يقوم بتدليكه في الحمّام، نراه أيضا وهو
يحاول معالجته من الإدمان ويصحبه إلى الطبيب الذي نكتشف في عيادته
أن فانتا والناقة مريضان بداء التهاب الكبد الوبائي، يتأثّران
ويبكيان بأناقة وكرامة، يقول لهما رزوقه في الشارع معزّيا بأن لا
يحزنا فهذه الأمراض لا تصيب إلاّ الناس الجيّدين.
لا يملك هؤلاء الأبطال الحقيقيون بذخ الاستسلام
للشكوى، يتابعون حياتهم بكثافتها وعنفها وعنفوانها المنفلت والفائض
على التصنيفات الاجتماعية الفجّة، هم ليسوا مدمنين أو منحرفين أو
هامشيين أو ضائعين، كما قد يتوهّم الأسوياء، هم قطعة من دنيانا،
كما يشي بذلك عنوان الشريط، لا تعنيهم الثورة أو السياسة أو الآلهة.
ينتهي الشريط على مشهد عشاء أخير دون وصايا ولا
مواعظ، خلف ستار ثمّة مائدة منتصبة، وفانتا يلمّ أغراضه ويبحث عن
بقايا الدواء المخدّر الذي أخفاه عنه صاحبه خوفا عليه من الإفراط
في تناوله.
"لقشة
من الدنيا" فيلم تسجيلي ينتمي إلى سينما الواقع وليس فيلما روائيا
رغم بعده المأساوي، إنه فيلم أنجزه الواقع
الرفاق، خلف الستار، يحرّضون رزوقة على رفيقه فانتا
بدعوى أنّه يستحق صاحبا أكثر وجاهة، يغادر فانتا باكيا من جفاء
صاحبه، غاضبا ثائرا. يلتحق به رزوقه وينهمكان في عتاب طويل يشبه
“صابون القلوب”، أحدهما يشكو من الجفاء ومن صاحبه الذي أخفى عنه
الدواء المخدّر، والآخر يلوم صاحبه على استهتاره ورعونته، وسلوكه
الطفولي.
يغادر فانتا الوكالة (الخربة) تحت المطر، إلى
الشارع، يتوقّف، ثمّ يعود، كي يخفي حقنته في الحائط المتهدّم،
يتبوّل وهو ينشج بالبكاء، ثمّ يغادر من جديد ويغيب في شارع باب
الجديد، بينما يقوى وقع المطر في “مؤثرات صوتية خاصة” جادت بها
سينما الطبيعة.
فيلم “لقشة من الدنيا” قطعة منا نحن معشر “السلالة
الملعونة” في المشهد الثقافي العربي بكل أحجياته وإرهاصاته
وأوجاعه، والتي يتحمل مسؤوليتها الجميع دون استثناء من نخب سياسية
وثقافية وحتى قواعد شعبية خذلت نفسها قبل أن تخذل رموزها وقادتها
والمبشرين بانتصاراتها.
"لقشة
من الدنيا" فيلم غاضب، ولكن بهدوء المعلم، رشاقة الفنان، غيرة
المواطن، وإنسانية الإنسان، إنه يذهب بعيدا في شرايين دمنا مثل
إبرة “السيبيتكس” في وريد كل من بطليه رزوقة وفانتا، ولكن ليس
للتخدير، وإنما للإيقاظ والتنبيه والتحذير.
لطالما ظلت الكاميرا العربية دون مثيلاتها، كاميرا
منقبة، ساكتة عن الحق مثل شيطان أخرس، إلى أن يأتي في كل مرة من
يحرّرها من أغلالها ويطلقها إلى مناطق لم تكن لتقع عليها العين،
وهكذا فعلت كاميرا هذا العمل الجريء.
قال المخرج نصرالدين السهيلي إن فيلمه “لقشة من
الدنيا” في عمقه “يتحدث عن حقيقتنا التي لا نرغب في معرفتها، بل
ونخجل منها”.
“لقشة
من الدنيا” فيلم تسجيلي ينتمي إلى سينما الواقع وليس فيلما روائيا
رغم بعده المأساوي، ولا علاقة له بالخيال أو المعالجة الدرامية..
إنه فيلم أنجزه الواقع.
تساءل
نصرالدين السهيلي في لقاءه مع “العرب”، “يا هل ترى أنا مبدع في هذا
الفيلم أم لديّ دور آخر هو مجرد وظيفة راصد، فأنا لم أكتب سيناريو
ولم أوجه ممثلين؟”.
كاتب تونسي |