كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

الانقلاب على "ثورة يناير" مُستمرٌ:

"عيار ناري" نموذجاً

نديم جرجوره

مهرجان الجونة السينمائي

الدورة الثانية

   
 
 
 
 

ـ 1 ـ

صائبٌ هو وصف الكاتب والباحث اللبناني زياد ماجد حراك سوريين كثيرين، في بدايات مواجهتهم السلمية نظام الأسد، بـ"الثورة اليتيمة" ("شرق الكتاب"، بيروت، 2014). يُمكن منح "ثورة 25 يناير" المصرية صفة كهذه أيضًا. فالمشترك بينهما ـ بالإضافة إلى ارتباط انطلاقتهما عام 2011 بحراكٍ مدنيّ سلميّ ـ كامنٌ في تخلّي كثيرين عنهما، وفي تعرّضهما ـ في الآن نفسه ـ لمواجهة تدميرية، تعتمد في سورية حربًا طاحنة، وتتمثّل في مصر بأشكالٍ عديدة، بينها السينما، التي تتغلَّف أحيانًا بمفردات "جمالية" مختلفة للانقضاض على الثورة السورية أيضًا.

"ثورةٌ" (في مصر وسورية) تجد نفسها "يتيمة" في مواجهة تنانين القتل والتعذيب، التي (التنانين) تتّخذ أشكالاً مختلفة لتحقيق هدفٍ واحد: اغتيال الثورة وتصفيتها كلّيًا.

وإذْ تُدمِّر الحرب الأسدية بلدًا ومجتمعًا وتاريخًا وأمكنةً، وتعتقل وتغيِّب وتقتل وتُهجِّر سوريين كثيرين، فإن تصفية الثورة المصرية تعتمد نهجًا بطيئًا وهادئًا في عملية طويلة الأمد لإنهائها، علمًا أن فنانين عديدين يُشاركون في التصفية هذه تلبيةً لطمعٍ في حماية سلطوية لهم، أو تعزيزًا لمكانة اجتماعية واستفادة مادية، أو خوفًا من السلطة نفسها، المُنقلبة على ثورةٍ مدنيّة وانتخاب ديمقراطي.

ـ 2 ـ

السينما خطرة للغاية. هذا معروفٌ. تزداد فعالية خطورتها عند استخدام لغتها الفنية والدرامية والتقنية والجمالية لترويجٍ أو تغييب. حضورها الجماهيري كبير. تأثيراتها جمّة. تتوغّل في عقولٍ وتمسّ مشاعر. تقول بالصورة ما يعجز المكتوب عن قوله أحيانًا كثيرة. طريقها إلى القلب والمشاعر أقصر وأسرع وأكثر تأثيرًا من تلك التي تفصلها عن عقلٍ وتفكير. تمتلك آليات إقناع، والجماهير العريضة "تُصدِّق" ـ أحيانًا كثيرة ـ ما تقوله السينما، فالكسل لصيقٌ بجماهير غفيرة، وأناس كثيرون غير آبهين بحقائق ووقائع، ولا يرغبون في تأكيد واقعة أو نفيها. تكفيهم المُشاهدة، فيتأثرون بها من دون تساؤل أو سجال.

في الغرب، الأمر مختلف إلى حدّ كبير، وإنْ تتبدّل كثيرًا أحواله الجماهيرية إزاء مسائل كثيرة، منها عدم إظهار أية رغبة في معرفة ماضٍ وتاريخ جماعيين. الثقافة العامة جزءٌ من تربية وسلوك. مهتمّون بالفن السابع قادرون على استيعاب ما يحدث أمامهم على الشاشة الكبيرة، ومتخصّصون غير صامتين على تزوير أو تشويه تصنعهما السينما في مواضيع تاريخية مثلاً، رغم أنها (السينما) لن تكون أبدًا درسًا في التاريخ، ومع هذا فلن يُسمح لها بتزوير أو تشويه، بل بمقاربة جمالية غير تاريخية لوقائع وحقائق تاريخية.

في العالم العربي، هناك سينمائيون أصيلون في مقارباتهم المختلفة مسائل معقّدة وأسئلة شائكة في أنماط الحياة والعيش اليوميين. هناك أيضًا مشاهدون عديدون متيقّنون من أولوية المُشاهدة، وفي الوقت نفسه من أولوية التنقيب عن حقائق ووقائع ربما ينفيها فيلم أو أكثر، أو يزوّرها ويُشوّهها. لكن العدد قليل، كقلّة عدد الأفلام المُثيرة لنقاشٍ كهذا. والخطورة أن الغالبية قابلة لتصديق صُوَرٍ وأقوالها؛ أو، في أسوأ الأحوال، غير عابئة بحقيقة أو واقعٍ، وهذا مخيف ومؤذٍ.

خطورة السينما أقوى عندما تُغلِّف تزويرها وتشويهها بشكلٍ سينمائي باهر، وعندما تُحسِن استخدام التقني والفني والبصري والدرامي والجمالي في ترويج خطابٍ مناقض لمجرياتٍ مَعْلومةٍ من كثيرين، والمُصاب أخطر إنْ تكن المجريات تلك حديثة للغاية، وإنْ يكن مشاركون فيها أو عالمون بها لا يزالون أحياء. الجماليات السينمائية، إنْ تتوفّر، تدفع إلى نقاشٍ غير متمكّن من تفاديها. هذا حاصلٌ في تاريخ الفنّ السابع أصلاً، والأمثلة عديدة: الروسي السوفييتي سيرغي آيزنشتاين (1898 ـ 1948) و"مدرّعة بوتمكين" (1925) تحديدًا؛ الألمانية النازية ليني ريفنستال (1902 ـ 2003)؛ الأميركي اليميني جون فورد (1894 ـ 1973). هؤلاء وغيرهم صانعو سينما بديعة تتضمّن خطابات ترويجية لنظام أو سلطة أو فكرٍ أو ثقافة، وبعض هذين الفكر والثقافة يرفض الآخر ويحاربه وينقضّ عليه ويُغيّبه ويزوّر أحواله وحكاياته. لكنها سينما متمكّنة من لغتها ومفرداتها وجمالياتها الفنية والتقنية والدرامية.

ـ 3 ـ

الانقلاب على "ثورة 25 يناير" مستمرٌّ في تزويرها وتشويهها والنيل من سُمعة بعض شبابها. الانصهار المطلق في السلطة التي تصنع الانقلاب جانبٌ أساسي من مشروع الانقضاض عليها. خنوع عاملين في السينما المصرية لسطوة الحُكم الآنيّ جانبٌ آخر. تملّق أو خوف أو توقٌ إلى حماية أو انعدام كلّ رغبة في إعلان موقف أو التزامه يكون مغايرًا لالتزام موقف السلطة، جانبٌ إضافيّ. التاريخ المصري الحديث مليء بأمثلة تؤكّد خضوع فنانين لسلطة، أو مُهادنة فنية لسلطة، أو انسحاقًا فنيًّا أمام سلطة. زمن الناصرية مليء بنماذج كهذه، رغم أن فنانين عديدين متمكّنون من خروج أو هروب يُتيحان بعض تعطيلٍ لمشروع السلطة المتمثّل في إخضاع كلّ شيء لسطوتها. الراهن المصري امتداد لعصر ناصري كهذا. ما يحدث في بعض صناعة السينما حاليًا ("تصفية" الثورة، الانسحاق أمام سلطة أو مهادنتها على الأقل، وهذا أخطر، إلخ.)، دليلٌ على سلوكٍ يعتنقه كثيرون في مساراتهم الفنية، والحياتية ربما أيضًا.

ما يحدث الآن شبيهٌ بماضٍ مليء بانهيارات جمّة، مع التنبّه إلى إيجابيات مختلفة في الماضي والحاضر، لن يغفلها الراهن والتاريخ معًا. لكن تصفية "ثورة 25 يناير" أبشع وأقسى وأحدّ.

إنجاز أفلام سينمائية تعتدي على وقائع كي تنال من حقائق خدمة للانقلاب على تلك الثورة، جانبٌ أساسيّ أيضًا في تزوير تاريخٍ وتشويه واقع. إنجاز كهذا يزداد حضورًا في المشهد المصري، حاليًا على الأقلّ. أفلام تُنجَز بحِرفية كي تبثّ سُمًّا يغتال بقايا تلك الثورة، أو ذاكرتها. ولأن القبضة السلطوية متحكّمةٌ، فإن مواجهة سينما كهذه بسينما منبثقة من روح الثورة وحكاياتها ونقاشاتها ستكون صعبة، رغم أنّ هناك من يمتلك قدرة تأريخ الثورة وعوالمها وانفعالاتها ومروياتها بصريًا بشكلٍ أو بآخر، ومن يُجابه التزوير والتشويه بتحقيق أفلامٍ تعكس انفعال الثورة وحالات أبنائها ومسالك المنخرطين فيها، بكثيرٍ من الشفافية والمصداقية والجمالية المطلوبة.

ـ 4 ـ

"عيار ناري" (2018)، للمخرج المصري الشاب كريم الشناوي، نموذجٌ لثنائية الإبداع والتزوير/ التشويه. قيل فيه ما يُفترض به أن يُقال، وبعضه صائبٌ، لأن الشناوي مُنتبهٌ إلى جمالياتٍ سينمائية مختلفة. الابتعاد قليلاً عن مضمونه، الذي يُشوِّه وقائع ويُزوِّر حقائق، يُظهره فيلمَ حركةٍ وتشويق، تجتمع فيه المقوّمات المطلوبة لهذا النوع السينمائي المُنفَّذ بمهنية إلى حدّ كبير: جريمة قتل، وطبّ شرعي، وتدخّل سلطة (أمنية أو طبية أو سياسية، إلخ.)، وحضور إعلام وصحافة، وتحقيقات تكشف غامضًا وتعرِّيه كي يُصبح واضحًا، فيتسلّى كثيرون بمُشاهدته لأنه متمكّن من فعل هذا كلّه بلغة سينمائية متماسكة.

المأزق الجوهري كامنٌ في حيّز واحد: المقتول انعكاس مبطَّن لرمزٍ ثوري، والقتل ناتجٌ من خلافات عائلية لا من اغتيال يُنفّذه "بلطجية" النظام أو أفراد تابعون لأجهزته الأمنية أو العسكرية، والطبّ الشرعي مُطالَبٌ بتزوير واقع أنه مقتول من مسافة قريبة لا بسبب رصاصة قنّاص، والفعل الجُرميّ حاصلٌ أثناء إحدى تظاهرات الثورة عام ولادتها (2011).

المثير للدهشة أن كريم الشناوي نفسه مُشارك في تحقيق أفلام تُقارب "ثورة 25 يناير"، سينمائيًا، من منطلق الميل إليها، وإنْ بتفاوتٍ في كيفية المقاربة والمعالجة والاشتغال، والمسافة النقدية السجالية معها. فهو مخرج منفِّذ لفيلمي "نوّارة" (2016)، لهالة خليل، و"اشتباك" (2016)، لمحمد دياب، ومخرج مساعد في الوثائقي "تحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي"، للثلاثي آيتن أمين وعمرو سلامة وتامر عزت، علمًا أن اسم هيثم دبّور، مؤلِّف "عيار ناري"، واردٌ في لائحة الفيلم الوثائقي هذا في خانة "المعالجة والإعداد".

هذا يستدعي تساؤلاً عن مسارٍ يؤدّي به إلى "عيار ناري"، ويدفعه إلى تحقيق فيلمٍ يخوض، بشكلٍ أو بآخر، معركة تصفية "ثورة 25 يناير"، أو بقاياها على الأقلّ. فهل تُعتبر تجربة "اشتباك" نقطة تحوِّل لكريم الشناوي، إذْ يطرح محمد دياب فيه لحظة تُثير، بدورها، رد فعل "ثوري" يُواجهها، لأنها تُساوي بين شرائح المجتمع المصري المتمرّد على سلطة الفساد والقمع والقتل، من دون إظهار الفروقات الحاصلة بينها أولاً، وبينها وبين الثورة ثانيًا؛ ومن دون تبيان الأدوار المختلفة لتلك الشرائح في الثورة؟ فـ"اشتباك" مرتكز على بنية سينمائية متينة الصُنعة، تتفوّق ـ إلى حدّ ما ـ عن تلك الخاصّة بـ"عيار ناري". لكن محمد دياب يلعب في المسافة الممنوحة له بين بعض تيارات المجتمع المصري "الثائر"، في حين أن كريم الشناوي يبدو منخرطًا في مشروع السلطة، الهادفة إلى تصفية الثورة أو بقاياها.

يُريد "عيار ناري" ترويج مقولة مغايرة لوقائع وحقائق. يجعل المقتول علاء أبو زيد (أحمد مالك) شابًّا لن يتردّد في ضرب والدته أم خالد (عارفة عبد الرسول) بحدّة كي يُرغمها على توقيع تنازل له بخصوص المنزل العائلي، فهو بحاجة إليه لإيواء سلمى (أسماء ابو اليزيد) الحامل منه قبل زواجهما. والنزاع الحاصل داخل المنزل ينتهي برصاصةٍ تُطلق من مسدس المقتول، أثناء دخول خالد (محمد ممدوح) فجأة، فيحاول إنقاذ والدته من براثن علاء، العنيف والمسلّح، فيُصاب علاء بتلك الرصاصة القاتلة. سيتواطأ الجميع مع أفراد العائلة في مُصابها هذا. سيصمتون لأنهم متضامنون داخل بيئتهم الفقيرة والضيّقة، غير المعنية بمجريات أحداثٍ خارجها، والأحداث تلك ثورة ومفاعيلها، لكنهم منزوون وساكتون، والجثة تُنقل إلى الحدث نفسه (تظاهرات الثورة) مع إشاعة خبر الوفاة قتلاً برصاص قناصة السلطة، فيُصبح المعتدي المقتول "شهيدًا" و"مناضلاً"، بينما تاريخه النضالي موسوم باعتداء مادي على والدته وشقيقه، وبعلاقة جنسية سابقة للزواج.

ياسين المانسترلي (أحمد الفيشاوي)، طبيبٌ شرعي مدمن على الكحول، لكنه متنبّه لوطيفته التي يُتقنها بحرفية. يقول بقتل على مسافة قريبة، فتبدأ المواجهة بينه وبين أجهزة الطب الشرعي وعائلة "الشهيد"، قبل لقائه الصحافية مها عوني (روبي) المتمكّنة من نشر التقرير الأول، فيضجّ البلد بالحكاية، وتتدخل سلطات وتزوَّر وقائع ويُحارَب ياسين بشراسة. لكنه قادر على إقناع مها بمتابعة الموضوع، ليكتشفا الحقيقة في مشهدٍ يُسيء إلى التماسك الدرامي للسياق العام، ويُسيء إلى الثورة وناسها في الوقت نفسه.

ـ 5 ـ

السينما معتادة تحريف وقائع في تاريخها الطويل. مؤرّخون غربيون يتصدّون غالبًا لأفلام تروي شيئًا من الذاكرة الجماعية، إنْ تتبدّل حقائق موثّقة، رغم أن السينما لن تكون "درسًا في التاريخ"، وهذا مُكرّر لضرورة التنبّه إلى الفرق الحاصل بين ترفّع الفن السابع عن تلقين دروس، ومقاربة الوقائع سينمائيًا من دون تحريفها أو تبديلها أو تزويرها، رغم أن المعالجة السينمائية مفتوحة على احتمالات وابتكارات شتّى. مناقشة الحقائق والوقائع ضرورية، إذْ لن تكون هناك حقائق ثابتة كلّيًا، والتاريخ حافلٌ بأبحاث دائمة عن المواضيع نفسها، والوقائع معرّضة لتشذيب وتنقية من أجل تأكيد أكبر على حالة أو حكاية.

"ثورة 25 يناير"، كبقية الثورات العربية المُجهَضَة والمُغْتالَة، تحتاج إلى نقاش نقدي عميق وجريء وواضح. هذا حاصلٌ بين حينٍ وآخر. للسينما دورٌ في هذا، شرط ألاّ تزوِّر وتُشوِّه. فبلوغ حدٍّ من التزوير ينقضّ على وقائع راهنة للتشكيك بها من دون نقاش سينمائي لها يعني، من بين أمور عديدة، أن بلاغة "ثورة 25 يناير"، بأخطائها وخيباتها وانكساراتها، تقضّ مضاجع كارهيها والمنقلبين عليها لشدّة نقائها وحيويتها وعفويتها وصدقها، والمنقلبون عليها محتاجون إلى تزوير وتشويه لتصفيتها.

انخراط "عيار ناري"، بشكلٍ أو بآخر، في تصفية الثورة مؤذٍ، لإساءته إلى الثورة أولاً، ولإساءته إليها بلغة سينمائية "جميلة" ثانيًا.

(*) ناقد سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"

ضفة ثالثة اللندنية في

23.10.2018

 
 

يوم الدين” و”عيار ناري”… الثورى يتحدى الانتهاز .. الجونة 3

عصام زكريا

فيلمان مصريان عرضهما مهرجان “الجونة” الثاني قبل أن يبدأ عرضهما التجاري في مصر خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وهما “يوم الدين” لأبي بكر شوقي، و”عيار ناري” لكريم الشناوي. كل من الفيلمين هو العمل الأول لمخرجه الشاب، وكل منهما يتمتع بقدر من الطموح والرغبة في انجاز شئ ما، بالرغم من الاختلاف البين، بل التناقض التام بينهما. وهو تناقض يعكس نوعين مختلفين من التفكير والسلوك انتشرا خلال السنوات القليلة الماضية…يمكن تسميتهما مبدئيا، وحتى أحاول البرهنة على فرضيتي بـ: التفكير الثوري في مقابل التفكير الانتهازي!

“يوم الدين” فيلم مستقل، صغير، قام صاحبه، المخرج والمؤلف أبو بكر شوقي، بتطويره عن فيلم وثائقي قام بصنعه في معهد السينما كمشروع  تخرج منذ أكثر من عشر سنوات بعنوان “المستعمرة”، يصور فيه بعض مرضى الجذام المقيمين في مكان تابع لوزارة الصحة لم يزل قائما إلى الآن، يتم فيه ايداع حالات الجذام المعدية أشبه بمستشفى الأمراض العقلية.

“يوم الدين” يتتبع أحد هذه الحالات التي تم ايداعها في المستعمرة لأكثر من ثلاثين عاما، ولكن في اطار “تمثيلي”، “روائي” تقوم فيه الشخصية  الرئيسية، بشاي، الذي تجاوز الأربعين، قضى معظمها في المستعمرة، برحلة بحثا عن عائلته التي تخلت عنه وتركوه على باب المصحة، كما يترك اللقيط على باب المسجد في أفلام الأبيض والأسود.

كل الشخصيات التي يختارها أبو بكر شوقي لتشارك في هذه الدراما هم من المهمشين والمنبوذين : بشاي، مريض بالجذام، مسيحي، صعيدي، يرافقه في الرحلة صبي نوبي، يطلقون عليه اسم أوباما، تدليلا أو سخرية، ويلتقي الاثنان عبرهذه الرحلة  بعدد من المعاقين والشحاذين والمواطنين البسطاء الفقراء…بعضهم يتخذون مواقف عدائية وعنصرية من الشخصية الرئيسية، ولكن واضح أنها نتيجة الجهل ونوعا من اضطهاد المنبوذ لزميله.

السلطة الرسمية ممثلة في مدير المصحة وموظفيها، أورجال الشرطة الذين يعتقلون بشاي لأنه يسير عاريا، أو الأب المصاب بالشلل الذي يظهر في النهاية ليتفوه ببعض العبارات الانشائية، هي سلطة صماء، مصمتة، ظل بلا روح ولا قلب.

يحسب لصانع ” يوم الدين” اختياره للموضوع، والطريقة التي عالج بها هذا الموضوع، دون نجوم، وعدد قليل للغاية من الممثلين المحترفين، كانوا للأسف أضعف ما في الفيلم، ودون شروط انتاج تقليدية. يحسب لأبي بكر نبله، وشجاعته، ربما كان من حسن الحظ أن مهرجان “كان” انتبه إليه، ولكنها صدفة لم تكن في الحسبان، ولا يستطيع أحد أن يضع مثل هذه الفرصة في الحسبان، لولاها لما اهتم أحد بالفيلم في مصر، وربما لم يكن ليحظى بفرصة للعرض العام.

مع ذلك  كان يمكن لـ “يوم الدين” أن يكون عملا أفضل، فيلما “عالميا” بمعنى الكلمة، قادر على اجتياز الحدود وتحقيق مشاهدات بالملايين، وحصد الجوائز الكبرى  لو أن صاحبه بذل مجهودا أكبر على السيناريو، وملء الرحلة بالمحطات الدرامية الدالة والمشبعة، ولو أنه اشتغل على الحوار بالتحديد، الذي جاء أحيانا انشائيا مفتعلا كما لو أنه قادم رأسا من مسلسلات تليفزيون الثمانينيات.

“يوم الدين” نابع من الواقع حقا، ولكن بناءه مختلط  ببعض القوالب السينمائية، وهو متأثر بوضوح باثنين من روائع الأمريكي ديفيد لينش، وهما “الرجل الفيل”  Elephant Manو”القصة المباشرة” The Straight Story. الأول حول شخص مشوه منبوذ يعامل بشكل لا انساني وفي أحد المشاهد يصرخ، مثل بشاي،  في الجمع المحتشد حوله : أنا انسان. والثاني حول عجوز ينطلق في رحلة عودة لزيارة أخيه المريض على متن عربة مضحكة تماثل رحلة بشاي على متن “الكارو”، والفيلمان مقتبسان بالمثل عن قصتين حقيقيتين!

لم يكن لينقص “يوم الدين”، حتى يصل إلى ما وصل إليه لينش في “الرجل الفيل” أو “القصة المباشرة” سوى مزيد من الاهتمام بالبناء الدرامي وأداء الممثلين والحرفة السينمائية بشكل عام.

“يوم الدين” هو فيلم ثوري شكلا ومضمونا حتى لو لم يكن بالفيلم أي لقطة أو كلمة عن الثورة، وذلك على النقيض من الفيلم المصري الثاني الذي عرض في “الجونة”،وهو “عيار ناري”  وهو فيلم رجعي، شكلا ومضمونا، بالرغم من أنه يدور حول الثورة!

“عيار ناري” اخراج كريم الشناوي وسيناريو هيثم دبور، هو نقيض “يوم الدين” في كل شئ: مضمون غث، لا انساني، لكن مصنوع بحرفية جيدة، خادعة، خالت حتى على بعض المتخصصين.

“عيار ناري” يدور في قالب بوليسي هوليوودي تقليدي، ضخم الانتاج، وجيد الصنع بالمناسبة، حول جريمة قتل غامضة تتبين خفاياها قبل دقائق من نهاية الفيلم، وعلى عكس صناع “يوم الدين” يزعم صناع “عيار ناري” أنهم أرادوا فقط صنع فيلم مسلي، مشوق، لا يحتوي على سياسة ولا يحزنون، وأن اختيار أيام ثورة 25 يناير واختيار أن يكون القتيل واحد من “شهداء” ثورة يناير، يتبين في النهاية أنه لا شهيد ولا يحزنون، بل بلطجي اعتدى على أمه بالضرب ومات أثناء مشاجرة مع أخيه، والأهم من ذلك كله، أن اختيار عدم اظهار شخص واحد ايجابي له علاقة بثورة يناير، وأن الايجابيان الوحيدان هما صحفية شابة ليس لها موقف وطبيب سكير ابن مسئول سابق فاسد، يدافع الفيلم عنه، بجملة الدفاع عن الفاسدين.

لا أريد أن أخوض كثيرا في تحليل مشاهد وشخصيات وحوارات هذا الفيلم لأن الأمر لا يحتاج إلى تحليل ولا يحزنون، ولكن أتعجب فقط من ردود شلة المدافعين المنتفعين، الذين يرددون مقولة أن الفيلم لا علاقة له بثورة يناير وأنها مجرد خلفية للأحداث.

حسنا! ما رأيكم لو قام أحدهم بصنع فيلم حول اندلاع مظاهرات ضخمة في بلد اسمها مصر وقيام شرطتها بأوامر عليا، بقتل آلاف المتظاهرين، وقصص أهالي بعض هؤلاء الضحايا المساكين؟ وعلى فكرة هذا الفيلم ليس له علاقة بثورة يناير، ولكنه عمل خيالي أي تشابه بينه والواقع هو من قبيل الصدفة البحتة؟

أتعجب فقط من ادعاء أحد أبطال الفيلم بأن العمل ينصف الثورة والثوار، باظهار صديق للشاب القتيل ينتمي للثوار الحقيقيين، والحقيقة التي لا تحتاج إلى مجادلة أن هذا الشاب تحديدا هو الشخصية الوحيدة السوداء تماما، التي ليس بها أي مناطق بيضاء أو رمادية مثل باقي الشخصيات!!

“عيار ناري” يصور حي بالكامل يخلو من رجل محترم، الفقراء كلهم خبثاء متواطئون على المجرمين، والشاب الوحيد الذي ينتمي للثورة هو أكثرهم خبثا وطمعا واثارة للنفور.

أتعجب من الادعاء البورجوازي الذي صدره البعض بأن الفيلم يتعاطف في النهاية مع هؤلاء البسطاء، وهذا غير صحيح بالمرة. ان موافقة صناع العمل على ترك شاب قتل أخيه دون عقاب أو محاكمة، وترك أم وجيران ينعمون بمال حرام حصلوا عليه نتيجة الادعاء بأن القتيل هو أحد شهداء الثورة، هو أكبر دليل على موقفهم المختل من الشرف والأخلاق، ويكفي أن أشير إلى الفيلم الياباني “سارقوا المتاجر” الذي كتبت عنه من قبل، والذي يتعاطف مع اللصوص الصغار الفقراء بشكل لا مثيل له من التعاطف، ومع ذلك لا يختل احساسه بالعدالة ولا بضرورة أن يدفعوا ثمن الجرائم الغيرة التي ارتكبوها، لأن العدالة لا تتناقض أبدا مع الانسانية، بل هي توأمها الملتصق.

أتعجب من وقاحة الادعاء والكذب لدى صناع “عيار ناري” والمدافعين عنهم، أكثر مما أتعجب من سلوكيات شباب يغلب عليهم النفاق والانتهازية وأكل أكتاف الأحياء والميتين.

موقع "بالأحمر" في

23.10.2018

 
 

مذبحة النرويج 2011- فيلمان عن نفس الحادث الدموي واختلافات كثيرة

أمل مجدي

الأحداث السياسية على مدار التاريخ تعتبر مادة خصبة بالنسبة لصناع الأفلام يرغبون في تناولها وعرض وجهة نظرهم عنها. ويعد عام 2011 من الأعوام التي شهدت أحداثا كثيرة في مختلف أنحاء العالم؛ ففي الوقت الذي انطلقت فيه ثورات الربيع العربي في الشرق، كان الغرب يعيش حالة من الصعود المتنامي لقوى اليمين المتطرف خاصة مع زيادة نسبة المهاجرين إلى أوروبا.

وقد كان من بين الأحداث المأسوية التي عرفها العالم في العام المذكور، حادث الهجوم الإرهابي الذي نفذه اليميني المتطرف أندريس بهرنج بريفيك في النرويج، وراح ضحيته 77 قتيلا فيما أصيب أكثر من 200 شخص بإصابات بالغة الخطورة.

بالطبع، حرص كثيرون من صناع الأفلام التسجيلية على تناول المأساة من جوانب مختلفة تتعرض إلى تفاصيل الحادث والأسباب التي دفعت بريفيك إلى ارتكابه، ومسؤولية الحكومة ومدى كفاءتها في التعامل مع الأعمال الإرهابية، إلى جانب توثيق روايات الناجين وأسر الضحايا وأصدقائهم.

خلال العام الجاري، تم إنتاج فيلمين روائيين عن الحادث لكل منهما أسلوب ووجهة نظر مختلفة. الأول يحمل اسم Utøya: July 22 للمخرج النرويجي إريك بوبا، وقد شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي في دورته الـ68. الفيلم الثاني يعرف بـJuly 22 للمخرج البريطاني بول جرينجراس، وكان بين أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الـ75.

الاختلاف بين الفكرتين

الأول ناطق باللغة النرويجية، يبدأ بلقطات سريعة لتفجير سيارة مفخخة تركها بريفيك قرب مجمع المكاتب الحكومية في وسط أوسلو، ونتج عنها مقتل 8 أشخاص، ثم ينتقل مباشرة إلى الحدث الرئيسي المعروف باسم مجزرة أوتويا. يركز الفيلم على فتاة في عمر المراهقة تدعى "كايا"، تحاول النجاة بحياتها والعثور على شقيقتها الصغرى أثناء التعرض للهجوم المسلح.

الفيلم الثاني الناطق بالإنجليزية من توزيع شبكة Netflix، ويعتمد على ممثلين من النرويج. تنطلق أحداثه من ليلة 21 يوليو 2011، ويرصد تحركات المتطرف اليميني بداية من تحضيره للمتفجرات في العربة المفخخة وتركها في اليوم التالي في العاصمة أوسلو، مرورا بتسلله في زي شرطي إلى المعسكر الصيفي السنوي الذي ينظمه حزب العمال الحاكم في جزيرة أوتويا وإطلاقه الرصاص على المراهقين، ثم القبض عليه وتفاصيل محاكمته حتى صدور الحكم النهائي. ذلك بالتوازي مع تتبع حياة أسرة من أسر الناجين من المجزرة، حيث يحاول الأب والأم مساعدة نجليهما على تحمل الأضرار الجسدية والنفسية المؤلمة ومواجهتها.

تباين الأسلوب

تميز تصوير فيلم Utøya: July 22 بأنه مكون من لقطة واحدة ممتدة ترصد الأهوال التي وقعت على الجزيرة في ذاك اليوم واستمرت لمدة 72 دقيقة. اهتم المخرج بنقل حالة الهلع التي انتابت المراهقين منذ سمع طلقات الرصاص التي لا يعرفون مصدرها، ثم محاولاتهم للبحث عن أماكن للاختباء وراء الأشجار أو ناحية الماء

تجنب بوبي ظهور بريفيك بوضوح أمام الكاميرا، ربما لرغبته في التركيز على الضغوط النفسية والعصبية التي عاشها كل من تواجد على أرض الجزيرة في هذا اليوم المشؤوم. ومن المحتمل أيضًا أن يكون محاولة لتجاهله عن قصد بعدما نال قدرا كبيرا من الاهتمام الإعلامي في السنوات الأخيرة. في كلتا الحالتين، ساعد الأمر على زيادة معدل الخوف والقلق، لأن في أحيان كثيرة إخفاء مصدر الخطر يضاعف من حجم تأثيره على النفس.

في المقابل، فيلم 22 July المستند على كتاب يحمل اسم One of Us: The Story of Anders Breivik and the Massacre in Norway، اختار إلقاء نظرة أشمل وأكثر تقليدية على الحادث. فقد صور المجزرة نفسها وكأنها لم تستغرق سوى 20 دقيقة، وآثر التركيز على تبعات المأساة وكيف تعايش الجميع في النرويج معها

فضل جرينجراس أن يمنح لبريفيك صوتا للتعبير عن أفكاره المتطرفة محاولا البحث عن إجابات تفسر سبب قيامه بهذا الفعل الدموي. كما انشغل بتوضيح أثر هذه المعتقدات على حياة الآخرين، يتخلى ذلك في مشهد لجلسة استماع يتحدث فيها أحد الناجين عن الألم الذي يعانيه يوميا منذ الحادث.

المختلف في الفيلم الثاني دور المحامي المنوط بالدفاع عن الجاني، الذي -وفقا للفيلم- لا يمكنه رفض طلب موكله. هذا الرجل يصبح في حالة صراع دائمة. فهناك صراع داخلي بين رفض ما فعله بريفيك وبين الواجب المهني، وصراع خارجي متعلق بحماية أسرته ومواجهة التهديدات التي يتلقاها من قبل الغاضبين. وبالتالي، يثير تساؤلات حول أحقية المجرم في منظومة عادلة تضمن له حقوقه، منظومة في الأساس يحاربها ويحاول تدميرها، ويدفع إلى التفكير في حجم الضغوطات التي يفرضها المجتمع أحيانا على شخص بسبب عدم توافق موقفه ظاهريا مع رأي الغالبية.

موقف الناجين من الحادث

أكد مخرج Utøya: July 22 أن أحداث الفيلم مستندة على حوارات أجراها مع عدد من الناجين من الحادث. وربما لهذا السبب، فضل غالبيتهم الفيلم الأول على الثاني.

قالت إيما مارتينوفيك، أصيبت برصاصة في ذراعها آنذاك، إن فيلم جرينجراس لم ينجح في التعبير عن الإرهاب الذي وقع في ذاك اليوم، كما أنه قدم عددا من المعلومات الخاطئة.

وذكرت خلال حوارها مع موقع News.com الأسترالي أن الحادث يبدو في الفيلم كأنه استغرق 10 دقائق فقط وأن الشرطة وصلت سريعا، وهذا لم يحدث في الواقع

وشددت على أنها متفهمة تماما لطبيعة العمل السينمائي، لكن ذلك لم يمنعها من التساؤل هو سبب استبعاد تفاصيل مهمة. ولفتت إلى أنها لن تسمح لأولادها بمشاهدة الفيلم قبل أن يعرفوا جيدا حقيقة ما حدث في الواقع.

لارا رشيد، ناجية فقدت أختها الكبرى بانو، تحدثت عن موقفها من الفيلمين مع صحيفة The Observer، موضحة أنهما أغفلا أجزاء مهمة من الحدث الحقيقي. لكن في الوقت نفسه، أشادت بتركيزهما على خطورة الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة على المجتمعات.

انتقدت رشيد فيلم المخرج بول جرينجراس، لعدم اهتمامه بالتنوع العرقي في اختيار شخصياته الأساسية، إلى جانب تجاهل نقطة كره بريفيك للنساء، وكيف أثرت شهادة بعض الفتيات في الحكم عليه بأقصى عقوبة في القانون النرويجي. جدير بالذكر أن فيلم july 22 يتضمن وجود شخصية لفتاة مهاجرة ناجية من الحادث، تدلي بشهادتها ضد الجاني خلال جلسة استماع.

وأضافت رشيد أن فيلم بوبا أقرب إلى الحقيقة لأنه عبر عما عاشته في هذا اليوم العصيب، كما أبدت إعجابها بتركيزه على الضحايا أكثر من الجاني.

واختتمت حديثها أن هذه الذكرى الأليمة يجب أن تظل حية حتى لا ينساها الناس مع مرور الزمن، لأن على الجميع معرفة أن الإرهاب غير قاصر على دين بعينه.

في النهاية، يقدم كل من الفيلمين معالجة مختلفة لحدث خطير، لكن تتفوق النسخة النرويجية الخالصة نظرا لتركيزها على فكرة محددة متبعة أسلوب سينمائي مميز، على عكس النسخة البريطانية الأمريكية التي حرصت على عرض كافة وجهات النظر دون بوصلة واضحة.

موقع "في الفن" في

23.10.2018

 
 

في عرضه العالمي الأول في مهرجان الجونة السينمائي

المخرجة العراقية عشتار الخرسان تعيد سامي عبد الحميد الى السينما

كاظم مرشد السلوم

لم يعمل الفنان الكبير سامي عبد الحميد في السينما منذ ان شارك في فلم المخرج عدي رشيد " كرنتينة " ، لكن المخرجة العراقية المغتربة عشتارالخرسان اعادته مرة اخرى اليها ، من خلال فلمها الروائي القصير " عبد الله  وليلى "

العنوان

لم تقع المخرجة عشتار الخرسان في حيرة ودوامة اختيار عنوان باذخ لفلمها مثل ما يفعل البعض ، بل اختارت عنوانا بسيطا ومعبرا ، عن حكاية تخص أب وابنته ، عبدالله وليلى ،ليكون مدخل لحكاية ربما يمر بها الكثير من المغتربين العراقيين الذين يحاولوا جاهدين التشبث ولو ببقايا ذكرى من وطن دمرته الحروب والمؤامرات ليتشتت ابنائه في كل بقاع الارض ، يحاولوا جاهدين ان يشموا رائحة بغداد من خلال اغنية او قصيدة ،او وجه بملامح عراقية قد يصادفهم في طرق الغربة ومدنها الكثيرة ، بغداد التي وقف خلفيتها الرشيد يوما مخاطبا الغيوم التي تعبر سماء مدينته ، أن أمطري حيث شئتي فخراجك عائد لي .

الحكاية

ليلى فتاة عراقية تعيش في لندن مع ابيها الذي بدأ مرض الزهايمر ينهش في ذاكرته ، حتى انه نسى كيفية التحدث باللغة الانكليزية التي كان يتحدث بها بطلاقة تامة .

ليلى كانت خائفة جدا من ان يأتي يوم تتلاشى هي ايضا من ذاكرة والدها ، ولا يتذكر من تكون .

تدخله المستشفى ، حيث يرفض كل علاج ويتعامل بعنف مع الممرضين ، ويطالبهم فقط بإرجاعه الى بغداد ، حيث يمر بين لحظة واخرى شريط ذكرياته ويومياته فيها امام عينيه ، شارع الرشيد ، الباص الأحمر الذي كان يستغله ، باب الاغا ، شارع السمؤل ، شاطئ النهر ، ترافقها اصوات راديوهات المقاهي ، حيث الاغاني البغدادية الجميلة .

يستمر عبد الله في تذكر مدينته ، وتستمر ليلى في وعودها له بانه سيسافر اليها قريبا .

الاشتغال

لا شك ان مهمة المخرج في الفلم القصير تكون صعبة ، قياسا بما يتاح لغيره من مخرجي الافلام الطويلة ،خصوصا من ناحية الوقت ، لذلك يلجأ الى التكثيف ، وهذا التكثيف يجعل مهمة التعامل مع عناصر اللغة السينمائية أمر بالغ الصعوبة ، لذل يجأ معظم مخرجو هذه الافلام الى التركيز على احد العناصر وتكثيفه ،جاعلا بقية العناصر داعمة له ، عشتار الخرسان ، اختارت عنصر مهم وخطر في ذات الوقت ، وهو الحوار لتركز عليه في ايصال نصها البصري .

استخدام الحوار بدون عناية ودراية ، يجعله عامل افشال للفلم ، خصوصا اذا كان هناك اسفاف فيه ، او كان البعض منه غير مبرر أو اقحم فقط ليمد من وقت الفلم ، لكن عشتار نجحت في توظيفه الى حد بعيد ، فكان لبطلها عبد الله مساحة واسعة من هذا الحوار، معبرا من خلاله عن حالته النفسية والذهنية التي يمر بها ، حوار ذو دلالة ، يتحدث عبد الله الى الممرضة بالعربية ، فتطلب منه ان يتحدث بالإنكليزية ، ليجيبها انه يتكلم الان بالإنكليزية ، دلالة ان نعرف انه نسيها ، ولم تعد ثمة لغة في ذاكرته سوى ذاكرة الوطن الام .

ولأن الفلم اعتمد الحوار بشكل كبير ، فقد كان اختيار الفنان سامي عبد الحميد لدور البطولة موفقا ، لما يمتلكه من ارث مسرحي كبير ، ممثلا ومخرجا ، واستاذا في اكاديمية الفنون ، فكان ان وظف صوته الجهوري عاملا مهما في سياق تداعيات البطل عبد الله ، وان اعاب البعض ذلك ، باعتبار ان السينما غير المسرح ، لا تحتاج الى صوت عال حتى تصل الفكرة ، فالصوت العالي مطلوب في المسرح بسبب العرض المباشر ومهمة ايصال الى اخر شخص في القاعة ، لكن تقنيات السينما ، باستطاعتها ان توصل الصوت حتى لو كان همسا وبكل بساطة .

اعتمدت المخرجة عشتار الخرسان الفلاش باك أداة للعودة بذكريات بطلها عبد الله الى بغداد ، لكن اعادة بعظها لأكثر من مرة لم يكن في صالح الفلم ، فمدينة مثل بغداد فيها الكثير من الاماكن التي يمكن ان تثير الذكريات، والمشاهد وان كان يتبع حكاية محددة ، لكنه يريد ان يعود بذاكرته هو الاخر الى مدينة بغداد ، وان كان غير عراقيا فيريد ان يشاهد بعض من اثر مدينة سمع عنها الكثير .

لم تخرج عشتار الخرسان في كاميرتها الى الخارج كثرا بل حصرت مشاهدها في المستشفى التي يدور فيها الحدث ، واعتقد ان ذلك قد يكون بسبب الحكاية ، او الانتاج ، او غيره ، وان كنت اتمنى ان نرى مشاهد خارجية للندن ، يقارن البطل فيها بين مدينته وبينها ، مقارنة وجدانية بالتأكيد ، لكنها استعاضت عن ذلك ، بمشهد لحفلة صغيرة يغني فيها الحضور باللغة الانكليزية ، فيقاطعهم عبدالله باغنية "فوك النخل فوك ".

حكاية الفلم ، هي حكاية والد مخرجته عشتار الخرسان العراقية التي لا تجيد العربية ، (عبد الله الخرسان) الذي هاجر الى لندن اواسط الخمسينات من القرن الماضي: حيث كان يرقد في دار للعجزة بأطراف لندن بعد اصابته بمرض الزهايمر، وراح يتذكر بغداد ويتوهم أنه عائد اليها. يتذكر شارع الرشيد والسنك وسيد سلطان علي والشورجة وباب الاغا وسوق الصفافير وساحة الرصافي وجامع الحيدرخانه والميدان وباب المعظم والاعظمية.ويحاول الخروج من دار العجزة قائلاً : "هذا اسوأ فندق شايفه بحياتي"

ختاما، ما أراد الفلم قوله ان لا الغربة ولا الزهايمر يمكن ان يمحي من الذاكرة حكاية البلد والمدينة الأم.

 

سيناريو واخراج عشتار الخرسان

تمثيل – سامي عبد الحميد – هدى الشوفاني

انتاج ريسورس برودكشنز

مونتاج تراسي جرانجر

التصوير

فلاديمير تيفيتش

الصباح العراقية في

25.10.2018

 
 

من الأقرب للفوز بجائزة الفيلم العربي في الجونة السينمائي 2018؟

هذا الفيلم منافس قوي لـ"يوم الدين"

أمل مجدي

ساعات قليلة، ويسدل الستار على الدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي التي شهدت عرض مجموعة من الأفلام المهمة، والمناقشات الثرية مع صناع الأفلام.

تضمنت المسابقة الرسمية 15 فيلما، منها 5 أفلام عربية هي "يوم الدين" للمخرج المصري أبو بكر شوقي، و"يوم أضعت ظلي" للمخرجة السورية سؤدد كعدان، و"ريح رباني" للمخرج الجزائري مرزاق علواش، و"ولدي" للمخرج التونسي محمد بن عطية، و"مفك" للمخرج الفلسطيني بسام جرباوي.

ونظرا لأن المهرجان يخصص جائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم عربي، فإن هناك منافسة قوية بين هذه الأفلام التي تباينت مستوياتها الفنية وتقييماتها.

في التقرير التالي، نوضح أبرز نقاط القوة والضعف في كل فيلم من الأفلام الـ5، مع تحديد من الأقرب للتتويج بالجائزة التي تصل قيمتها 20 ألف دولار أمريكي.

"يوم الدين"

الفيلم الذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الـ71، وحصل على جائزة فرانسوا شاليه للأعمال الإنسانية.

اقتحم المخرج أبو بكر شوقي في عمله الروائي الأول عالم يعرفه جيدا منذ إخراجه الفيلم التسجيلي "المستعمرة" قبل ما يقرب من 10 سنوات، عندما التقى بمرضى الجذام المنعزلين داخل مستعمرة بعيدا عن أسرهم وتأثر بحكاياتهم وتفاصيل حياتهم الصعبة.

اكتسب الفيلم أهمية كبرى من اختيار ممثل غير محترف متعافي من المرض لتجسيد دور البطولة، إلى جانب طفل صغير يقف أمام الكاميرا لأول مرة في حياته. لا ينزلق في فخ استدرار التعاطف، بل يعرض رحلة ممتعة ومؤلمة في آن واحد تتناول واقع المهمشين في مصر.

ابتعد شوقي على عن جمل الوعظ والمباشرة في الرسالة حتى الربع الأخير منه. لكن مع قرب انتهاء الرحلة، بدأ الحوار يتخذ منحنى يشرح الفكرة ومعنى المساواة بين البشر جميعا وتقبل الاختلافات مهما كانت، وكأن أحداث الفيلم واسمه الذي يشير إلى تحقق المساواة والعدالة بين الناس في يوم الحساب، غير كافيين لفهم المعنى المقصود.

مع ذلك، يعتبر الفيلم المرشح الأقوى للفوز بالجائزة، إلا إذا حالفه الحظ وتوج بالجوائز الأخرى المخصصة لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة.

"يوم أضعت ظلي"

نال الفيلم الأول للسورية سؤدد كعدان شهرة واسعة بعد فوزه بجائزة أسد المستقبل في الدورة الـ75 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي. وقد استند على تجربة شخصية لمخرجته التي غادرت موطنها الأصلي في 2012 وانتقلت للعيش في بيروت.

يتخلى الظل عن الجسم في الظلام إذا كان في منطقة مُعتمة خالية تماماً من الضوء. هذه القاعدة المعروفة كانت الفكرة الرئيسية التي بنت عليها المخرجة فيلمها لتوضح تأثير الحرب وأهوالها على من يعيشونها. في هذا الفيلم، يختفي ظل الأشخاص مع مرورهم بمأساة كبرى تقتل النور بداخلهم، وتجعلهم في حالة من الضياع والتيه غير قادرين على مواصلة الحياة، بل يصبحون أقرب للموت.

رغم تماسك الفكرة الأساسية وإنسانية مضمونها، فإن الفيلم نفسه في بعض المشاهد لا يدفعك إلى التأثر بأحداثه، بل يجعل منك فقط مراقبا لحياة أناس آخرين يواجهون ظروفا عسيرة. لا تتورط كليا مع حكايات الشخصيات أو تنشغل بما تعرضوا له في الماضي. ربما لأن الجميع عدا البطلة الرئيسية لا تتغير تصرفاتهم من البداية حتى النهاية ولا مواقفهم، ومن السهل توقع خطوتهم التالية وردة فعلهم تجاه مختلف الأمور.

تباينت الآراء عقب عرض الفيلم في مهرجان الجونة، بين من يرى أنه فيلم إنساني بامتياز لا ينحاز لموقف سياسي معين، وبين من يرى أن هناك تحفظات على السيناريو وبعض تفاصيل الفيلم.

ربما يكون للفيلم فرصة في الفوز بسبب القضية التي يناقشها، لكن كافته حتى الآن غير راجحة.

"ولدي"

الفيلم الثاني للمخرج محمد بن عطية عُرض في قسم "نصف شهر المخرجين" بمهرجان كان السينمائي في دورته الـ71.

كما فعل في فيلمه الأول "نحبك هادي"، اختار بن عطية أن تكون أحداث فيلمه الجديد في قالب عائلي، يعكس من خلاله التغيرات التي تحدث في المنطقة بسبب صعود الجماعات الجهادية المتطرفة، ونجاحها في استقطاب الشباب صغير السن. مع ذلك، الفيلم بالأساس يحمل طابعا إنسانيا، ويطرح تساؤلات حول مسؤوليات أفراد العائلة تجاه بعضهم البعض، والمعنى الحقيقي للسعادة، وقيمة اختياراتنا وتأثيرها على حياة من حولنا.

لكن يعيب "ولدي" الاستغراق في عرض تفاصيل غير مهمة دون تطور الأحداث وكأن توصيل حالة الرتابة والملل التي تعاني منها الأسرة لا سبيل إلى تحقيقها سوى ببطء زمن الفيلم نفسه. بالإضافة إلى أن تصرفات بعض الشخصيات لم تكن مقنعة مثل الأم التي جاءت ردود أفعالها طوال الوقت غير مبررة.

فرصة الفيلم في التتويج بجائزة أفضل عمل روائي عربي ربما تكون ضعيفة، لكن الممثل محمد ظريف يعتبر منافسا قويا على جائزة أفضل ممثل.

"ريح رباني"

فيلم المخرج مرزاق علواش، المشارك في الدورة الـ43 لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي في قسم "الرواد".

في فيلمه الروائي الجديد المصور بالأبيض والأسود يواصل علواش البحث والتفتيش وراء ظاهرة التطرف الديني التي تناولها في عدد من أفلامه السابقة، محاولا الكشف عن التناقضات والصراعات الداخلية التي يعاني منها المنضمين إلى الجماعات الجهادية، كما أنه يرصد كيف أًصبح المجتمع مقموعا وتابعا لأفكار وأشخاص مشوهين نفسيا.

رغم رغبة المخرج في التركيز على الشخصيتين الرئيسيتين دون أي شيء آخر لكشف جوانب شخصياتهما واختلافاتهما، فإن مشكلة الفيلم الأساسية تكمن في عدم التطرق إلى ماضيهما وتوضيح الدوافع الدينية والسياسية التي تسببت في تحولهما إلى التشدد. إلى جانب أن هناك مشاهد غير مهمة في تطور أحداث القصة تسببت في بطء زمن الفيلم.

تعتبر فرصة الفيلم في الحصول على الجائزة ضعيفة نوعا ما نظرا لتعرضه لعدد من الانتقادات عقب عرضه في المهرجان.

"مفك"

الفيلم الأول للمخرج بسام جرباوي، شارك في الدورة الـ75 لمهرجان فينسيا السينمائي، إلى جانب الدورة الـ43 لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي في قسم "اكتشاف". والحقيقة أن هذا الفيلم يعد اكتشافا بالفعل داخل هذه المسابقة، خاصة أنه لم يلفت الانتباه قبل عرضه في مهرجان الجونة مثل باقي الأفلام الـ5.

اختار جرباوي تقديم فيلم يتناول قصة حياة أسير قضى في السجون الإسرائيلية 15 عامًا، ليكشف من خلاله عن حالة الصدمة التي يصبح عليها المرء بعد الانعزال عن العالم لمدة طويلة، ويوضح أن المساندة التي يقدمها المحيطين هي في الأصل ضغوط قد تدفع إلى الانفجار. كما يتطرق إلى عدد من القضايا الشائكة في المجتمع الفلسطيني مثل الأوضاع الاجتماعية المتباينة بين من يعيشون داخل البلد وخارجه.

اهتم المخرج بعرض تفاصيل صغيرة تكشف عن عدم قدرة البطل على التأقلم مع الحياة الجديدة؛ بداية من انزعاجه من الضوء، مرورا بميله إلى المكوث في غرفة شبيهة من محبسه، وصولا إلى عدم قدرته على الحكي عما تعرض له داخل المعتقل، هذا بالإضافة إلى هجمات الذاكرة والتخيلات التي تنغص عليه محاولات البدء من جديد.

يؤخذ على الفيلم مشهد النهاية الذي تضمن عدد من المصادفات غير المبررة، إلى جانب أن اسم الفيلم نفسه لم يكن مرتبطا بموضوعه.

من الممكن أن يحالف الحظ هذا الفيلم ويتمكن من اقتناص الجائزة العربية نظرا لمستواه الفني الجيد. وقد ترجح كافته إذا حصل فيلم "يوم الدين" على جائزة مختلفة من جوائز المسابقة.

موقع "في الفن" في

28.10.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)