كِدتُ أتجاهل التدقيق في محتوى البيان الذي ظهر
أمامي على حائط "فيسبوك"، لو لم ألمح أنه آت عبر صفحة المخرجة
المصرية هالة لطفي. لفت نظري أسماء الموقعين وعددهم:
داود عبد السيد، خيري بشارة، علي بدرخان، يسري نصر
الله، مجدي أحمد علي، عماد أبو غازي، أهداف سويف، إبراهيم عبد
المجيد، أحمد عبد الله، أحمد مجدي، أمل الجمل، هالة القوصي، وهكذا
حتى نحو مئتيّ اسم.
المسألة تتعلق باستبعاد إدارة مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي فيلم "آخر أيام المدينة"، للمخرج تامر السعيد، من
المسابقة الرسمية للمهرجان، رغم تزكية لجنة المشاهدة.
الموقعون على البيان عبروا عن "انزعاجهم البالغ من القرار الذي
اتخذته إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي باستبعاد الفيلم من
المسابقة الرسمية قبل أسابيع من موعد انطلاق المهرجان، وبعد أن قام
المخرج بالاعتذار لبقية المهرجانات العربية التي طلبت الفيلم
بالفعل، مفضلًا أن يعرضه في مهرجان مدينته"، في الدورة الجديدة
للمهرجان تُفتتح 15 تشرين الأول / نوفمبر.
"قصة ولا مناظر؟"
لطالما كانت أيام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي
أيام انفراجة كبيرة، لأناس كانوا يعيشون حقبة أجهزة الفيديو، قبل
انتشار أطباق البث الفضائي (الدِش) والإنترنت وحتى الاسطوانات
المُدمجة. كان الزحام يصل خدَّ غلق الشوارع المؤدية إلى دور العرض
السينمائي، رغبة في مشاهدة أفلام لم تتعرض لمقص الرقيب. لهذا لم
يقف مهرجان السينما في مصر عند النخبة بوصفها متلقياً مناسبًا
لأفلام الجوائز.
في 1993، أُنتج فيلم "المنسي" لعادل إمام، تأليف
وحيد حامد وإخراج شريف عرفة. خرج الجمهور من دار العرض يحمل أحد
إيفيهات إمام المُخلدة: "الفيلم ده قصة ولا مناظر؟".
عادل إمام، الذي يحلو له بين حينٍ وآخر، نخز اليسار
والمثقفين، وضع الإيفيه في مكانه تمامًا، مشيرًا لفناني الجوائز
والمهرجانات بأن "الجمهور الحقيقي لا يُقبل على أفلامكم إلا
لانتظاره مشهدًا ساخنًا". لكن هذا لم يمنع أنه كان هناك جمهور،
عندما كانت هناك أفلام تعرض له.
في تداعيات ثورة يناير، وحالة الانفلات الأمني
الشهيرة، تأثر كثير من الفعاليات، وباتت إقامة المهرجان صعبة. تأجل
حينًا، ثم بدأ يقام "على الضيّق"، إن لم يكن بسبب القلق الأمني،
فبسبب العوائق المادية. وانحسر عرض أفلام مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي في بعض شاشات العرض داخل ساحة دار الأوبرا المصرية.
وكان الناقد السينمائي المصري طاق الشناوي استرسل،
تحت عنوان "مرثية لجيل قصة ولا مناظر"، في عرض لانسحاب شرائط
الفيديو أمام انتشار "السي دي" و"الدي في دي"، وكيف لم يعد الواحد
محتاجًا لأفلام المهرجان للترويح عن نفسه بمشهدين من هنا أو من
هناك:
"كان الشارع المصري يعيش حالة عُرس شعبي. كل صالات
السينما في البلد، وكان أغلبها في تلك السنوات تابعًا للدولة،
تتهافت على أفلام المهرجان. وكان سعد الدين وهبة، رئيس المهرجان في
فترته الذهبية، يتلقى اللعنات في خُطب الجمعة. لا أنكر بالطبع أن
الجمهور كان يذهب أغلبه أو في جزء وافر منه إلى فيلم (مناظر) حتى
لو كان ناطقاً باللغة الكورية.
الزحام الكثيف إذن، عند شاشات العرض، التي انحسرت
داخل ساحة الأوبرا، لم يعد زحامًا جماهيريًا. هو زحام الصحافيين
والسينمائيين وطلاّب أكاديمية الفنون، وبعض من جمهور شاب يهتم
بالأمر. زحام، يكوّنه من لا تقف أسوار الأوبرا حائلًا نفسيًا بينه
وبين داخلها، وهم قلّة بطبيعة الحال، بينما خارج الساحة، نسي
المصريون أن هناك ما يسمى "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي".
"بطل
فيلم "آخر أيام المدينة" مخرج يعمل على تصوير فيلم يتناول الإحباط
الذي ساد بين شباب الطبقة الوسطى في مصر، فضلًا عن حالة القبح التي
سادت المدينة العريقة"
استبعاد السياسة
لستُ محررًا فنيًا. "الصحف المصرية تفصل بين صفحتي الثقافة والفن"،
لذلك سألت الصديق خالد محمود، رئيس قسم الفن في جريدة "الشروق"
المصرية، وهو بالمصادفة أحد أعضاء لجنة المشاهدة بالمهرجان:
ـ هل هناك دواع سياسية مثلًا لاستبعاد الفيلم؟
قال: لا، السبب الذي أعلنته إدارة المهرجان، أن
الفيلم شارك في عدد من المهرجانات الدولية، وإن لم تكن مشاركاته في
المسابقات الرسمية لتلك المهرجانات، وذلك بعد أن وعد مخرج الفيلم
المسؤولين بعدم عرضه في مهرجانات خارجية حتى يعرض في القاهرة. خالد
لم ينسَ أن يؤكد عدم اتفاقه مع استبعاد الفيلم.
ما طرأ على المدينة
الفيلم، بحسب ما نشرته بعض المواقع، يرصد التحولات
التي طرأت على القاهرة، واختلاف مظاهرها الحضارية. بطل الفيلم مخرج
يعمل على تصوير فيلم يتناول الإحباط الذي ساد بين شباب الطبقة
الوسطى في مصر، فضلًا عن حالة القبح التي سادت المدينة العريقة
وانتشار مظاهر التراجع الفكري بها، بينما يتقاطع، أثناء حسرته على
مدينة أصابها التلوث في كل المجالات، مع اثنين من أصدقائه، أحدهما
عراقي والآخر لبناني، حيث الاستغراق في الإسقاط على تطور الخط
السلبي الممتد في الواقع العربي.
إدارة المهرجان، إذن، اتكأت على أن الفيلم شارك في
مهرجانات عديدة، وبالتالي أصبح من غير اللائق، في رأيهم، أن يشارك
في المسابقة الرسمية بالقاهرة، وهي نقطة لم يتجاهلها بيان الفنانين
المتضامنين مع صُنّاع "آخر أيام المدينة":
"يتذرع منظمو المهرجان بأنهم لا يريدون مخالفة
لائحته، وبالكلام عن اللوائح، ينبغي التأكيد أن صناع الفيلم لم
يخالفوا أياً من لوائح المهرجان المنشورة على صفحته الرسمية ولم
يشتركوا بالفيلم في المسابقة الرسمية لأي مهرجان من المهرجانات
الأربعة عشر الكبرى المشار اليها في قائمة الـ
FIAPF،
والمثير للدهشة والريبة أن منظمي مهرجان القاهرة السينمائي في هذه
الدورة، وفي الوقت الذي استبعدوا فيه "آخر أيام المدينة"، وافقوا
على ضم أفلام أجنبية أخرى شاركت في نفس المهرجانات التي شارك فيها
الفيلم المصري، بل إن الفيلم المغربي الإسباني "ميموزا"، المشارك
في مسابقة المهرجان هذا العام، عرض للجمهور في بيروت في يوليو
الماضي، في حين إن المهرجان قد طالب منتجي الفيلم المصري بعدم عرضه
في المنطقة العربية والتزم صناع الفيلم بذلك".
الكيل بمكيالين
المشكلة الأكبر، التي تواجه صُنّاع الفيلم هي أن
مشاركة الفيلم المصري في المسابقة الرسمية للمهرجان، يدعم فرصة
عرضه للجمهور في دور العرض السينمائي. "لماذا المعاملة بمكيالين؟
ولماذا يُحرم الفيلم المصري من فرصة عرضه للجمهور في مصر؟ أو من
فرصة الحصول على إحدى جوائز المهرجان؟ لماذا ترتكب مثل تلك الأخطاء
في حق فيلم مصري لقي الحفاوة أينما حلّ، بينما لم ينل من مهرجان
بلاده سوى التعنت والأذى، بعد تفويت الفرص عليه لعرضه في
المهرجانات العربية الموازية؟"، يتساءل الموقعون على البيان،
الذين، بالمناسبة، لم يشاهدوا الفيلم، ذلك أنه ليس مسموحًا مشاهدته
قبل المهرجان إلا من قبل لجنة المشاهدة. يتساءلون البيان، ونتساءل
معهم.
يبقى افتراض أن صُنّاع الفيلم خالفوا قانون
المشاركة في المهرجان كما يقول مسؤولوه. في دردشة مع المحرر الفني
المصري أحمد فاروق، لفت نظري إلى أن تطبيق هذا القانون لا يعني إلا
أنك تستبعد فيلماً مصرياً من المسابقة الرسمية للمهرجان، على قلة
الأفلام التي ترقى للمشاركة، فقط، لأنه اُحتفيَ به في مهرجانات
عالمية أخرى! |