امتلأت القاعة، التي تتسع لمئتي مقعد، عن آخرها في
عرض فيلم المخرج المصري تامر السعيد “آخر أيام المدينة” في مهرجان
الفيلم العربي ببرلين، وهو العرض الثاني للفيلم هناك، بعدما عُرض
في مهرجان برلين السينمائي الدولي والعريق في 2016. قبل بداية
العرض رحّب المنظمون بالحضور وتلا أحدهم كلمة تامر السعيد، الذي لم
يحضر، بالعربية والإنجليزية، وكانت قصيرة ورقيقة، وتتمحور حول
الرحلة الطويلة التي قطعها الفيلم ليخرج للنور، وشكر فيها السعيد
الأرواح الرائعة التي دعمت الفيلم على مدار سنوات، وأشار أنه يعلم
أن بعضهم موجود في القاعة يشاهدون الفيلم. ومن هنا، وقبل المشاهدة،
تولد لديّ انطباع أن قصة صناعة الفيلم هي جزء لا يتجزأ من تجربة
مشاهدة الفيلم نفسه.
يدور الفيلم، حول خالد، المخرج الذي يبدو من السياق
أنه عائد من أوروبا، بعد فترة قضاها هناك، ليصنع فيلمًا عن عائلته
وعن مدينته القاهرة، ويرعى في نفس الوقت أمه المريضة، ويبحث عن شقة
جديدة.
سرد الحكاية والرحلة في الفيلم لا خطي، بلا خط واحد
متصاعد دراميًا، لا مقدمة ووسط ونهاية، إنما هي رحلة عشوائية
لشخصية خالد الذي قد يكون معبرًا عن صوت صانع الفيلم، ولعب دوره
الممثل المصري البريطاني خالد عبد الله، وهو منتج الفيلم مع تامر
السعيد
.
القاهرة المرهقَة/ خالد وزوار المدينة:
يرى خالد سكان المدينة من خلال الكاميرا. يرى الفقر
والقهر ولا يتورط ولا يحرك ساكنًا ولا يتورط.
ليس من المفترض أن تتورط الشخصية طول الوقت، ولكن
تكرار نفس رد الفعل تقريبًا منها كان مربكًا، لأنه غير إنساني،
بينما خطاب الفيلم الأساسي، وهو أن هذه الأحداث واقعية، وقد تكون
توثيقية أيضًا، يناقض هذا التوجه في رسم الشخصية.
وبسبب عدم تورطه، يبدو البطل، قياسًا إلى الشخصيات
الأخري، مأزومًا بلا مبرر، ولا يفصح عن سبب أزمته الشخصية مع
المدينة. قد تُسبب الحالة السياسية بالطبع أزمة لفنان أو صانع
فيلم، ولكن تكثيف مشاهد التأزم غير المبرر سطّح شخصية خالد في
مواجهة الشخصيات الأخرى التي تفيض بالحياة، وهناك دومًا مبرر درامي
قوي لأزماتها الوجودية، إلا في مشاهد قليلة تُظهر جانبًا من شخصية
خالد، وكان من هذه المشاهد الاستثنائية في بساطتها وقوتها
وتكثيفها، مشهد سهرته على الكورنيش في القاهرة مع أصدقائه العرب
الثلاثة وهم يشربون البيرة.
المشهد محوري في السيناريو والبناء الدرامي لأنه يكثّف هموم
الأربعة أصدقاء العرب، المصري القاهري، واللبناني البيروتي،
والعراقي البغدادي، والعراقي البغدادي البرليني.
دارت السهرة حول علاقة كل منهم بمدينته بخصوصيتها
الوطنية، فيما يبدو منه أن الكلام عن المدينة العربية بشكل عام،
واتفقوا على أن يصور كل منهم مادة من مدينته ويرسلها لخالد.
أُعّدَ المشهد بصريًا ببراعة وأوحى جوُّه العام
والنكات والنقاش فيه بالطبيعية في الأداء. تلصصت الكاميرا من عدة
زوايا، وألقى الممثلون الحوار فيه بأداء طبيعي لا يشعر المشاهد
بالتدخل الإخراجي.
وبشكل عام، كان المشهد قريب الشبه بمشهد شرب البيرة في النيل في
فيلم “المدينة” ليسري نصر الله، ويمهد مثله لافتراق المصائر بين
أبطاله. أثناء مشاهدة كل منهما، ثار لديّ تساؤل عما سيحدث للرفاق
بعد هذا المشهد.
امتلأ الخط الدرامي لخالد وأصدقائه العرب بالحكايات
والخيوط والمسارات، وكان أكثر خطوط الفيلم تماسكًا وجمالية من حيث
الحبكة الدرامية والصراع، فكل شخصية كان لديها خط الصراع الخاص
بها، من علاقة كل منها بمدينته ووضعها السياسي، وبالحياة والموت،
والحرب كعامل مربك، والاحتفاء بها الذي يكشف معنى الاستمتاع
بالحياة وجمال اﻷفعال الاعتيادية في ظلها.
كمشاهد انتظرت ظهور هذه الشخصيات من حين لأخر، وكان
ظهورها جميلًا وناعمًا ومؤثرًا، مع مشاهد من بغداد أو بيروت تكسر
الرتابة البصرية لمشاهد خالد في القاهرة ووسط البلد.
القاهرة القاهرة/ خالد وسكان المدينة:
ينقسم سكان القاهرة في عيون خالد إلى نوعين: مجتمعه
بدرجاته، وطبقة الهامشيين في حياته وحياة المدينة.
يحكي المشهد اﻷول لقاء البطل بأحد سماسرة العقارات
للبحث عن شقة، غير أن أداء الممثل الذي لعب دور السمسار أتى
مصطنعًا لحد كبير، وإن أخذ أداؤه التمثيلي في التحسن تدريجيًا.
سيكون السمسار مفتاح خالد للمدينة للقاهرة ذات
الطابع الإسلامي
الوهابي، القاهرة الفهلوية والجاهلة التي لا يحبها ويمتعض منها
ويتعامل معها باستعلاء وضجر، ممثّلة في الفقراء أو البشر المعتادين
المألوفين، بائع الجرائد وأصحاب الشقق والشحاذين والمارين بشوارع
وسط المدينة.
لمرة واحدة فقط اتصل خالد بهذه الطبقة بشكل عميق،
عندما رأى جيرانه الفقراء ساكني الأسطح من شرفته في مشهد مغاير.
بعد أن لم يكن يراهم إلا أثناء ممارستهم أعمالهم، رأى الزوج يضرب
زوجته ليأخذ مدخرات يومها، وقرر التدخل بجرأة، ولكن بنفس النظرة
المتعالية. ولثاني مرة، بعد أن أتى ظهور السمسار باهتًا في
البداية، يفشل الممثل الذي يقوم بدور الزوج ويتصدى لتقديم هذه
الشخصية/ الطبقة، فأتى أداؤه مفتعلًا وسطحيًا ولم يقنعني بشكل
شخصي.
تنبع أهمية هذا المشهد من إظهاره خوف خالد وضعفه
أمام هذه الطبقة التي يتعالى عليها طول الوقت، فبعدما ينجح الزوج
الغاضب في اعتدائه على زوجته، يرى خالد وهو يتلصص عليهما ويصورهما،
ويختبئ اﻷخير مفزوعًا من سباب وصياح الزوج. يعبر هذا المشهد عن
علاقة خالد بهذه الطبقة، حيث يحكمه أحيانًا الخوف منها، إلى جانب
الضجر والسخرية منها أحيانًا أخرى.
مازوخية الحنين:
هناك خط درامي أخر للفيلم يتجسد في قصتين، قصة حنان
مدربة التمثيل والحكي والتي تفتقد بيتها في الإسكندرية، ويبدو أنه
هُدم، مما يمثّل ملمحًا آخر من ملامح موت المدن لخالد: التغير
المعماري، وهدم القديم والأصيل. باﻹضافة لحكاية مريم الممثلة،
وسردها بعض اللحظات عن علاقتها بوالدها المخرج والناقد المسرحي
الذي مات في حريق مسرح بني سويف الكارثي في ٢٠٠٥.
يحاول المخرج من خلال تفاعل شخصيته الرئيسية مع
هاتين الحكايتين وأبطالهما، مريم وحنان والأب الغائب والبيت
المهدوم، كشف جوانب من شخصية خالد وكشف أسرار فناء هذه المدينة
وأخر أيامها، مما يقربنا لأسئلة الفيلم الرئيسية من وجهة نظري: هل
هذه أخر أيام خالد في المدينة، أم أخر أيام مجتمعه وشخصياته
وعوالمه، أم أخر أيام المدينة التي يعرفها؟
الأم والحبيبة:
وهذا خط درامي أخير في الفيلم، فقد شكّل المخرج
علاقة خالد بأمه وحبيبته بنفس المواد الفنية والدرامية، مثل إيقاع
المَشاهد
وطريقة
الحوار بينه وبين أمه وحبيبته، باﻹضافة لأهم عنصر مشترك بين
القصتين وهو الاستعداد للرحيل عن الدنيا أو عن المدينة، فالأم
مريضة وتحتضر، وعلاقة ليلى، حبيبة خالد، به وبالمدينة، تحتضر هي
اﻷخرى. كلاهما يستعد للرحيل، بانتظار الموت أو بالهجرة.
رسم السعيد هذا الخط بصريًا وإيقاعيًا بقسوة شديدة،
فالمشاهد جافة والحوار مقتضب وبلا معنى أغلب الوقت، وكأنه لا يريد
للمشاهد إلا أن يرى موت العلاقتين، وربما يبرر هذا دراميًا أزمة
خالد الحادة البادية على ملامحه طول الوقت.
خرج مشهد وحيد عن المألوف في بنية مشاهد علاقة خالد
بليلى، وهو مشهد الوداع في شقته. تزوره ليلى قبل انتقاله لشقة
أخرى. وقبل هجرتها بيوم يتبادلان قبلة في بيته وسط أكوام الذكريات
والحنين. ونعرف أن سبب هجرة ليلى أنها تريد تقبيله في الشارع ولا
تستطيع.
قاهرة مبارك/ كفاية مبارك:
قرر المخرج تكثيف وطأة حكم مبارك عن طريق اﻷخبار
المذاعة في الراديو أثناء تنقل البطل في المدينة، فهناك خبر عن
مباراة مصر والجزائر الشهيرة ثم خبر آخر عن تصريح للسيد الرئيس.
كان هذا هو الوجود الأقوى لنظام مبارك والسلطة في الفيلم.
أما بصريًا فقد مرت الكاميرا بشاعرية وملحمية على
مظاهرات كفاية على سلالم النقابة، وقدّمت صورة نقية جدًا ومعدة
بعناية شديدة.
لا أعتقد أن مشاهد تظاهرات كفاية على سلالم نقابة
الصحفيين كانت مشاهد توثيقية وإنما روائية، وأعتقد أيضًا أنها
صُوّرت بعد رحيل مبارك، وفي فترة من فترات اليقين بأن نظامًا
ديموقراطيًا جديدًا يولد اﻵن، لأن المتظاهرين، وهم بالطبع من حركة
كفاية أو من النخبة المثقفة المشاركة في الثورة المصرية ٢٠١١،
كانوا مطمئنين، وكانت نظراتهم وملامحهم تحمل ملمح انتصار لم يكن
موجودًا قبل الثورة .
كما صوّر المخرج مشهدًا عن قمع الشرطة، التي تلاحق
أحد المتظاهرين أثناء مرور خالد غير مكترث بما يحدث، وكان المشهد
مفتعلًا إلي حد كبير، فمن غير المنطقي أن يرى أحدهم الشرطة تلاحق
شخصًا، ويستمر في مشيه مطمئنًا وغير عابئ، وتعلو وجهه نظرة عدم
اكتراث، كما أتى أداء الممثل الذي قام بدور المتظاهر تقليديًا
ومفتعلًا، في تناقض مع المشاهد التوثيقية الرائعة للقاهرة التي
أظهرت قسوة المدينة في كادرات كثيرة ورحابتها في حين أخر.
في انتظار البرابرة:
يمكن اعتبار “آخر أيام المدينة” معادلًا بصريًا
لقصيدة الشاعر اليوناني السكندري كفافيس “في انتظار البرابرة”، أو
لتفاعل الفنان السينمائي معها. الكل ينتظر فناء هذه المدينة. الكل
ينتظر البرابرة ليسنّوا قوانين جديدة.
ربما كانت ثورة يناير اللحظة الأولى لفناء هذه
المدينة العجوز القاسية كما جرى تقديمها في الفيلم. بعد مشاهدته
خرجت بقناعة أن أهمية الفيلم قد تكمن في كونه نبوءة بالتحول
السياسي والاجتماعي الكبير بعد يناير، من حالة الركود والاستقرار
وعدم التورط المباركي، إلى الثورة بما فيها من اشتباك مع كل
التفاصيل المسكوت عنها، وكانت سببًا لخروج هذا الفيلم للنور، ولكن
بعد سنوات من انتهاء تصويره.
ذكرني الفيلم بنبوءات تريسياس العرّاف الإغريقي
الكفيف، الذي يأتي قرب نهاية المأساة، ليخبرنا كيف كانت تنبؤاته
المبهمة والمضببة هي الرؤية للكارثة المحققة، وأنه هو من أخبرنا
بكل هذا القتل والخراب الذي حل بطيبة، ولكن بعدما حل.
هكذا رأيت “آخر أيام المدينة”: نبوءة متأخرة بسبب عمليات الإنتاج
والصناعة، وربما كان وقعها ليصبح أقوى إن جاءت في ميعادها، ولم تبق
لسنين حبيسة أجهزة الكمبيوتر وبرامج المونتاج الحديثة.
ولذلك ربما يكون الفيلم أخر هذه الموجة من الأفلام
عن القاهرة والحنين والوحدة والانعزال عن المجتمع والعلاقات
المبتسرة مع الواقع، وهذه الطبقة الاجتماعية من الفنانين، أو ربما
يكون أخر أيام هذه الطبقة
الاجتماعية
نفسها.
####
صورة مصفرّة للقاهرة
نور الصافوري
رغم ملاحظة البعض أن عدد عروض أفلام المنطقة
العربية في مهرجان برلين السينمائي لا يزيد كثيرًا عن عدد العام
الماضي، فمن المؤكد أن هناك الكثير من الضجة الإعلامية هذا العام
حول السينما العربية في المهرجان.
فقد كثر الحديث، على سبيل المثال، عن الفيلم
التونسي “نحبك هادي” (محمد بن عطية، 2016)، وكونه أول فيلم عربي
يعرض منذ زمن بعيد في مسابقة المهرجان الرسمية، على الأقل منذ عرض
“الجنة الآن” سنة 2005.
كان حضور أفلام السينمائيين العرب محسوسًا في
الطوابير المصطفة أمام دور العرض هنا، فالناس يريدون مشاهدة
الأفلام، وأتصور أن في هذا تشجيعًا أكبر مما في عدد الأفلام نفسها.
بخصوص الافتتاح العالمي للفيلم الروائي الذي طال
انتظاره للسينمائي المصري تامر السعيد “آخر أيام المدينة” في
الرابع عشر من فبراير، فقد بيعت التذاكر بسرعة، واصطف طابور طويل
خارج سينما ساين ستار في قلب برلين. استغرق إنتاج “آخر أيام
المدينة” عشر سنوات، ولكن إنتاجه ساهم على مدار هذا الوقت في الجمع
بين كثير من المبدعين من شتى أرجاء العالم العربي الذين يعملون
بطريقة أو بأخرى في ما يعرف بالسينما المستقلة.
يبدأ الفيلم بصور مصفرَّة للقاهرة. وهو فيلم روائي
ليس له منحنى سردي محدد، قد يعطي المشاهد الإحساس بالارتجال، إلى
أن تتضح سريعًا سيطرة السعيد على الصورة وأداء الممثلين، ويتبين أن
مواقع التصوير مصممة بدقة، وأن حركة الكاميرا محسوبة ومتميزة،
وحركة الممثلين في علاقتها بالإطار مسبقة التخطيط. ولأننا سرعان ما
نعي دور الكاميرا في خلق الصورة، فإن الفيلم يسائل بتأمله الذاتي
آليات عمله نفسها.
يتتبع “آخر أيام المدينة” شخصية خالد (التي يؤديها
خالد عبد الله) وهو يجوب شوارع وسط القاهرة. يقابل أصحابًا قدامى
ويتذكر حبيبة توشك على الرحيل عن البلد بلا نية في الرجوع، وفي بعض
الأحيان يتناول الكاميرا ويبدأ في التصوير. خالد سينمائي منخرط في
مشروع فيلم طويل يسعى للربط بين صور ثلاث مدن عربية طرأت عليها
جميعًا تغيرات واضحة بفعل الزمن والتاريخ: بيروت والقاهرة وبغداد.
ويحاول المراوحة بين العمل على فيلمه والبحث العقيم عن شقة جديدة
يعتني فيها بأمه المريضة. ويبدو واقعًا في شرك دائرة محكمة يعجز عن
الخروج منها. وهنا يكمن أحد أسباب إحساسي أثناء مشاهدة الفيلم
بالإثارة إلى حد انحباس التنفس.
يؤدي الاعتماد الكثيف على اللقطات القريبة [close-ups]
إلى خلق علاقة زمنية ومكانية بالصورة التي تبرز جوانب الفيلم
الأسطورية الخرافية. وفي بعض الأحيان يذكّرنا “آخر أيام المدينة”
بـ “هوى جان دارك” لكارل تيودور دراير (1928) فكلا الفيلمين يستعمل
اللقطات القريبة مع الوجوه في خلق إحساس بالجلال ـ وأعني حالة
الأصداء السيكولوجية الحادة التي يسمها البحث عن المعنى، والإدراك
العميق في واقع الأمر لجوانب الحياة التي لا سبيل إلى سبر أغوارها.
هذه هي الجوانب التي تبقى مجهولة في الحياة اليومية، فتكون تجربة
مشاهدة “آخر أيام المدينة” منفصلة عن اليومي العابر، مثيرة للكثير
من الأسئلة حول الاشتباك الحسي المحكوم بالعادة مع العالم. يظهر
الزمان والمكان منسابين في لحظات الأسى الخافت التي يقدمها الفيلم،
فتكون علاقتنا بالزمان وبالمكان مهيأة للتشكل من جديد.
ولعل هذا هو التيار التحتي السياسي الأكثر أهمية في
الفيلم: إتاحته للمشاهد أن يعيد التفكير في المكان والزمان في ضوء
نموذج أكثر سيولة، فهذه الإتاحة تمثل خطوة نحو تحقيق فهم جديد
لعلاقتنا بالماضي وبأحداث تاريخية محورية مثل ثورة الخامس والعشرين
من يناير. خاصة وأن أحداث 2011 تسيطر على الفيلم منذ بدايته وحتى
نهايته.
جرى تصوير “آخر أيام المدينة”، وتجري أحداثه ـ على
أحد المستويات السردية ـ في عامي 2009 و2010، ثم استمرت عملية
مونتاج الفيلم منذ ذلك الحين فلم يكتمل إلا حديثا. هذه الصور
تستنفر الغياب، وربما النسيان، والإحساس باللامرئي في المرئي.
تخلق طريقة الكاميرا في النظر إلى العالم صورة
مسكونة بالإشارات إلى المستقبل الذي تتعذر رؤيته، ولكن هناك تحت
السطح فقاعات من اللحظة الحاضرة. لا سيما عند تصويره للتماثيل
الكثيرة القائمة في ميادين وسط مدينة القاهرة، كما يتكرر استحضار
علاقة الحاضر بالتاريخ. ولكن زوال الغشاوة عن عيون الشخصيات في
رؤيتها لما يحيط بها تعطي إحساسًا بالارتياح بقدر ما تعطي إحساسًا
بالحزن العميق. وهذا في تقديري الجانب الأكثر إبداعًا في “آخر أيام
المدينة” وإسهامه الأساسي في صناعة السينما المصرية: أنه يساعدنا،
لا سيما في العالم العربي، على رؤية العالم بطريقة مختلفة.
“زاوية للتوزيع” هي التي تتولى توزيع “آخر أيام
المدينة”، الفيلم الروائي الأول لسعيد، ولذلك يمكنكم أن تتوقعوا
عرضه في القاهرة في المستقبل القريب. |