جوائز مهرجان فينيسيا أرضت الجميع وأغضبت كورستوريتشا
العرب/ أمير
العمري*
غلبت التوازنات التي تهدف إلى إرضاء معظم الأفلام العشرين التي
شاركت في مسابقة الدورة الـ73 من مهرجان فينيسيا السينمائي التي
اختتمت مساء السبت، خاصة بعد أن برزت خمسة أفلام تحديدا، باعتبارها
الأفلام الأكثر ترشيحا من قبل النقاد للجائزة الأرفع شأنا من بين
جوائز المهرجان، وهي جائزة “الأسد الذهبي”.
فوجئ المتابعون لنتائج مسابقة الدورة الـ73 من مهرجان فينيسيا
الأخير بغياب جائزة الأسد الذهبي عن الأفلام الأكثر ترشيحا من قبل
النقاد على غرار الفيلم الأميركي “لا لا لاند” (أرض الأنغام) الذي
افتتح به المهرجان في الحادي والثلاثين من أغسطس الماضي، والفيلم
الفرنسي “فرانتز” الذي يروي قصة مؤثرة تدور بين فرنسا وألمانيا بعد
الحرب العالمية الأولى مباشرة، والفيلم الأرجنتيني البديع “مواطن
متميز”، والفيلم الأميركي “حيوانات ليلية”، والفيلم الألماني
الفرنسي الروسي “الفردوس” للمخرج الروسي أندريه كونتشالوفسكي.
وكان البعض قد توقع أيضا حصول الفيلم الأميركي “جاكي” على الجائزة،
رغم أنه تقليدي تماما في بنائه وقد لا يثير اهتمام الكثيرين بسبب
تكلف الأداء عند بطلته الممثلة الإسرائيلية-الأميركية ناتالي
بورتمان.
وقد تمثلت المفاجأة الأساسية في ذهاب “الأسد الذهبي” إلى أحد أكثر
الأفلام ابتعادا عن التوقعات كما هي العادة في جوائز مهرجان
فينيسيا تحديدا، وهو الفيلم الفلبيني “المرأة التي غادرت” (أو التي
خرجت من السجن)، وهو عمل طويل (224 دقيقة)، لكنه فيلم قصير بمقاييس
مخرجه لاف دياز المعروف بأفلامه الطويلة، وكان قد عرض قبل نحو ستة
أشهر فقط فيلمه السابق “ترنيمة للغز الحزين”، الذي تتجاوز منه
ثماني ساعات، في مهرجان برلين السينمائي دون أن يلقى أي نجاح يذكر،
لا من جانب الجمهور ولا النقاد.
الفيلم المتوج بالأسد الذهبي فيلم ثقيل الوطأة، يختبر أعصاب
المشاهد بلقطاته الطويلة وكاميراه الثابتة
ولا أحد بالفعل يدري كيف يتمكن دياز من صنع هذه الأفلام الطويلة
تباعا في فترات زمنية قصيرة، لكن المعروف أنه مخرج مستقل (مواليد
1958) يكتب أفلامه بنفسه كما يقوم بتصويرها بكاميرا الديجيتال
الرقمية وإخراجها وعمل المونتاج لها، أي أنه مخرج-مؤلف، لا يصنع
أفلاما تجارية، ولهذا تحتفي به وبأفلامه مهرجانات السينما العالمية
ودوائر سينما الفن، ومن المقرر أن ينتقل فيلمه هذا بعد فينيسيا
ليعرض في مهرجان تورنتو الذي افتتح مؤخرا.
ومن غير المتوقع أن يلقى الفيلم المتوج في فينيسيا نجاحا كبيرا حتى
في دور عرض الفن، والتجربة المحدودة في نطاق معين، وبأعداد صغيرة
من المقاعد، فهو فيلم ثقيل الوطأة، يختبر أعصاب المشاهد بلقطاته
الطويلة وكاميراه الثابتة وحواراته وثرثرة أبطاله التي لا تتوقف
لحظة واحدة، ويجد المرء صعوبة بالغة في متابعة الصورة، بينما يتعين
عليه أن ينشغل بمتابعة الترجمة المطبوعة أسفل الشريط، وهي مسألة
مرهقة للغاية.
ومع ذلك أسعد الحظ دياز عندما اقتنع رئيس لجنة التحكيم، المخرج
البريطاني سام منديس الذي يعمل في نطاق هوليوود، والذي أعلن مؤخرا
أنه سيعود إلى المسرح الإنكليزي الذي جاء منه، بمنحه جائزة
المهرجان الكبرى، لكي تتجاوز لجنة التحكيم مجددا وبشكل متكرر وملفت
للنظر، الأفلام الأميركية البارزة لمجرد أنها “أميركية”، أي لا
تحتاج في نظر هؤلاء المحكمين، إلى الدعاية وتسليط الأضواء، خاصة
الأفلام القادمة من هوليوود مثل فيلم الافتتاح “لا لا لاند” الذي
أراه شخصيا العمل الأفضل على جميع المستويات من بين كل الأفلام
التي عرضت في مسابقة مهرجان فينيسيا، فغيره من الأفلام البارزة
(باستثناء الأرجنتيني) لا يخلو من مشاكل واضحة سواء في السرد أو في
الافتقاد للتعبير بالصورة وهو أساس السينما.
ابتعاد “الأسد الذهبي” عن الفيلم الأميركي الأكثر بروزا في
المهرجان “لا لا لاند” هو امتداد لذلك التجاهل التقليدي للأفلام
الأميركية في مهرجان فينيسيا، كما حدث قبل عامين مثلا عندما خرج
فيلم “بيردمان” خالي الوفاض تماما من المهرجان، ليمضي بعد ذلك
ويحصل على جوائز الأوسكار الرئيسية.
الجانب الاجتماعي
فيلم “المرأة التي غادرت” دراما فلبينية عن امرأة غادرت السجن
مؤخرا بعد أن قضت ثلاثين عاما محكومة بموجب جريمة لم ترتكبها، وهي
الآن تعاني صراعا داخليا بين رغبتها الشديدة في الانتقام من صديقها
الذي كان وراء إدانتها، ومشاعر الغفران والتسامح.
والفيلم مصور بالأبيض والأسود بتقنية وأسلوب الفيلم التسجيلي
الواقعي، وفي تقديري الشخصي أن إعجاب لجنة التحكيم به أو قرارها
بتكريمه بمنحه الأسد الذهبي جاء نتيجة لموضوعه الاجتماعي السياسي،
وليس لأسلوبه الفني الذي أراه شخصيا عقيما ومملا ومليئا بالثرثرة
سواء البصرية أو الكلامية، خاصة عندما يعجز عن الدخول إلى قلب
الموضوع مباشرة من اللقطات الأولى، ويطلب من المتفرج أن يصبر طويلا
إلى أن يفهم كيف بدأت الحكاية.
ومن الطريف أن المخرج لاف دياز يقف ليعلن وهو يستلم الجائزة أن
الفيلم “شهادة عن كفاح الفلبين بعد عقود من الحكم الاستعماري”، وما
تلاه ويهدي الجائزة لوطنه، قائلا “أهديها لوطني.. للشعب الفلبيني..
لنضالنا.. لنضال الإنسان”، أي أنه حول فوزه بالجائزة إلى “انتصار”
سياسي وطني على عادة ما يفعل معظم مخرجي العالم الثالث!
لتعويض السينما الأميركية عن “الأسد الذهبي” الذي كانت تستحقه،
ذهبت الجائزة التالية في أهميتها مباشرة، وهي الجائزة الكبرى للجنة
التحكيم الدولية إلى الفيلم الأميركي “حيوانات ليلية” (نوكتورنال
أنيمالز) وهو العمل الثاني الذي يخرجه مصمم الأزياء الأميركي توم
فورد بعد فيلمه الأول “رجل بمفرده” (2009).
ولا شك أن الفيلم الذي كان يمكن أن يصبح مجرد فيلم عادي عن امرأة
تعاني من تعقد علاقتها بزوجها الحالي، وتستعيد الأحداث التي أدت
إلى تدهور علاقتها بزوجها السابق، تحول إلى عمل فني رفيع بعد أن
نجح توم فورد، وهو أيضا كاتب سيناريو الفيلم، في خلق بناء مبتكر
باستخدام قصة أخرى (خيالية) أقرب إلى أفلام الجريمة و”الفيلم
نوار”، داخل الفيلم الأصلي الواقعي، ليلقي الأضواء على الحالة
العقلية والنفسية للمرأة، وليصبح الفيلم داخل الفيلم الذي يدور في
الخيال، مفجرا لأزمة الوعي عند المرأة التي قامت بدورها ببراعة آمي
آدامز أمام جاك غلينهال.
ومع ذلك، لم تفز آدامز بجائزة أحسن ممثلة، بل ذهبت الجائزة إلى
زميلتها الأميركية إيما ستون بطلة “لا لا لاند” التي تمثل وترقص
وتؤدي بشكل رائع.
وستون التي سبق أن تألقت في فيلم وودي ألين الأخير “رجل متطرف”
(فيلم الافتتاح في دورة مهرجان كان 2016) ممثلة جيدة ومجتهدة، تضيف
من شخصيتها إلى الأدوار التي تقوم بها، وهي تمتلك جاذبية خاصة
بوجهها الطفولي الغريب، رغم أن المتأمل لملامح وجهها قد يجده عديم
التناسق، فهي صاحبة أنف ضخم وفم كبير وبعض التجاعيد الكثيرة على
الجبهة وعلى جانبي فمها، رغم أنها لا تتجاوز الثامنة والعشرين من
عمرها، كما أن عينيها جاحظتان وكبيرتان بدرجة لا تتناسب مع حجم
وجهها، مما يجعلها أقرب إلى شخصية كرتونية خيالية من تلك الشخصيات
المحببة التي تجذب الأطفال بوجه خاص، ولعل في طفوليتها هذه وغرابة
وجهها، يكمن تحديدا سر جاذبيتها وسحرها!
المخرج لاف دياز حول فوزه بالجائزة إلى "انتصار" سياسي وطني على
عادة ما يفعل معظم مخرجو العالم الثالث
أحسن ممثل
ذهبت جائزة أحسن ممثل إلى الممثل الأرجنتيني أوسكار مارتنيز بطل
فيلم “مواطن متميز” الذي يقوم فيه بدور كاتب أرجنتيني مرموق تجاوز
الستين من عمره، حاصل على جائزة نوبل في الأدب، يعود إلى بلدته
الأصلية وهي قرية في الأرجنتين، ليتعرف على نفسه مجددا بعد أن عاش
لثلاثين سنة في أوروبا، والفيلم من نوع الكوميديا السوداء التي
تطرح
الكثير من الأفكار المعاصرة (سنخصص له مقالا منفردا)، وكان يستحق
أيضا الجائزة الكبرى للمهرجان بسبب مستواه الفني الكبير.
ولا بد من القول هنا إن الفيلم السينمائي، مهما بلغت واقعيته
وتصويره الخشن للواقع، يجب أن يحتوي على ما يحقق “المتعة” للمتفرج،
فمن دون المتعة لا تتحقق فكرة السينما أصلا، فنحن لا نذهب إلى
السينما لكي نرى الواقع، بل لكي نشاهد صورة الفنان من خياله عن هذا
الواقع مهما بلغ من شطط وغلو.
الغلو والشطط، أو بالأحرى، الخيال الجامح، هو ما يميز فيلم المخرج
الصربي أمير كوستوريتشا الجديد “في طريق الحليب” الذي ربما يكون
الفيلم الوحيد البارز الذي خرج من المسابقة دون الحصول على أي
جائزة. يقوم كوستوريتشا بنفسه ببطولة الفيلم أمام الممثلة
الإيطالية مونيكا بيلوتشي في دور جديد تماما عليها، صحيح أنه يبتعد
بها عن سطوة الإغراء، إلاّ أنه يحيطها بكل ما تحاط به “الأسطورة”
المغرية الأنثوية عادة من جاذبية. ولعل المشكلة الوحيدة في الفيلم
أنه لا يقدم موضوعا جديدا، فهو أحد الأفلام التي يكرر فيها
كوستوريتشا موضوعه المفضل، أي مناهضة الحرب وإدانتها، ولكن بعيدا
عن السياسة والنقد الاجتماعي السياسي الصارم كما كان يفعل مثلا في
فيلمه الكبير “تحت الأرض” (أندرغرواند)، لكنه يستخدم الكثير من
الحيل الفنية التي تجعل فيلمه أقرب إلى الواقعية السحرية، بمناظره
الغريبة ولقطاته التي يختلط فيها العنف بالفكاهة وباللهو، والرقص
بالإثارة والرومانسية والعنف، والفيلم يحتاج بلا شك، إلى مقال
منفصل.
أحسن إخراج
من الجوائز الضعيفة أيضا جائزة أفضل مخرج التي تم تقسيمها (وهو أمر
مثير للدهشة!) بين المخرج الروسي أندريه كونتشالوفسكي عن فيلمه
“الفردوس” الذي يعود مجددا لطرق أبواب “أسطورة” المحرقة
النازية-الهولوكوست، من خلال تفاصيل وبناء سينمائي مبتكر، مع
ملاحظات كثيرة سلبية على المحتوى نفسه، وبين المخرج المكسيكي آمات
اسكالانتي عن فيلم “خارج السيطرة”، وهو عمل متميز، لكنه يعاني من
عدم الإقناع، في مزجه بين الواقعية والخرافة الأسطورية.
وكنت قد أشدت إشادة خاصة في مقال سابق في “العرب” تناولت فيه فيلم
“فرانتز”، بأداء الممثلة الألمانية الشابة باولا بير، وتوقعت لها
مستقبلا باهرا، وقد قدرت لجنة التحكيم موهبتها المتفجرة، فمنحتها
جائزة مارشيلو ماستروياني لأحسن ممثلة صاعدة عن دورها في هذا
الفيلم.
كان من المفاجئ أن تمنح اللجنة جائزتها الخاصة إلى الفيلم الأميركي
“الدفعة السيئة” للمخرجة الإيرانية-الأميركية أنا ليلي أميربور،
الذي يروي قصة تدور في أجواء خيالية عن عالم ما بعد التدهور
الاقتصادي وزوال الحضارة الأميركية، تتضمن علاقات قاسية مليئة
بالعنف بين جماعات من أكلة لحوم البشر، ورغم ما فيه من ابتكارات
غير مألوفة، إلاّ أنه يعاني من الفراغ في الموضوع وغياب الخيال
الفني الجميل الذي كان يميز الفيلم السابق للمخرجة نفسها، وهو
“فتاة تمشي وحيدة في الليل إلى منزلها”.
جائزة أحسن سيناريو حصل عليها فيلم “جاكي” الأميركي للمخرج الشيلي
بابلو لارين، والذي يصور حياة السيدة الأولى الأميركية جاكلين
كنيدي بعد اغتيال زوجها الرئيس الأميركي جون كنيدي.
هذه الجائزة تعتبر جائزة مجاملة أو إرضاء لمن اعتبروا الفيلم عملا
فنيا متميزا، بينما الرأي الخاص لكاتب هذا المقال أن الفيلم لا
يستحق هذه الجائزة، تحديدا بسبب بنائه التقليدي العقيم الذي يعتمد
على الانتقال من مقابلة صحافية يجريها صحافي مع جاكلين كنيدي عقب
مصرع زوجها، إلى موقفها وهي تستعرض محتويات وغرف البيت الأبيض
عندما دخلته في بداية رئاسة زوجها، من خلال برنامج تلفزيوني
(بالأبيض والأسود) يعرض بشكل متقطع على شاشة التلفزيون، ثم مشاهد
تكشف عن مشاعرها وكيف تصرفت بعد وقوع الاغتيال.
والملاحظ أن الفيلم من الناحية الدرامية يعاني من غياب الدراما
بشكل يثير التساؤل، رغم درامية الحدث (أي الاغتيال)، ثم الموقف
القاسي الذي وجدت “جاكي” نفسها فيه بعد ذلك، لكن هكذا هي جوائز
المهرجانات الدولية التي لا تأتي دائما حسب مزاج النقاد.
*ناقد سينمائي مصري مقيم بلندن |