"ترومبو"
.. دفاع عن الحرية
أمير العمري
أنتجت هوليوود في تاريخها القريب عددا من الأفلام البارزة التي سعت
من خلالها إلى "تطهير" سمعتها وما شابها خلال فترة قاسية من
التاريخ الأمريكي الحديث، عندما تحول عدد كبير من كبار نجومها إلى
الوشاية بزملائهم خلال ما عُرف بـ "الحقبة المكارثية".
كانت تلك حقبة "الحرب الباردة" بين المعسكرين الأمريكي والسوفيتي
التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية، وقد انعكس الصراع
الأيديولوجي على الداخل الأمريكي ثم امتدّ ليشمل كل من يُشكّ في
علاقته بالأفكار اليسارية الراديكالية، سواء أعضاء الحزب الشيوعي
الأمريكي، أو المنظمات والنقابات والأفراد الذين ينتقدون النهج
الاقتصادي والسياسي لـ "المؤسسة" الأمريكية.
كانت هناك خشية حقيقية من تغلغل النفوذ السوفيتي داخل الولايات
المتحدة، وسرعان ما تشكّلت داخل الكونجرس لجنة "النشاط غير
الأمريكي"، وامتدّ نشاط هذه اللجنة إلى هوليوود، حيث اعتُبر وجود
عدد من كتاب السيناريو والمخرجين اليساريين، أمرا غير مرغوب فيه
بسبب تأثير الأفلام على الرأي العام. وفي نهاية الأربعينات خضع عدد
كبير من السينمائيين للاستجواب أمام هذه اللجنة برئاسة السيناتور
جوزيف ماكارثي، من بينهم وأشهرهم، كاتب السيناريو دالتون ترومبو.
ترومبو هو الشخصية الرئيسية التي تدور حولها الأحداث في فيلم
"ترومبو"
Trumbo
للمخرج جاي روش عن سيناريو جون ماكنمارا. ويعتمد السيناريو على
التفاصيل التي وردت عن تلك الشخصية المثيرة للجدل، في كتاب "دالتون
ترومبو" للكاتب بروس كوك.
وقد يبدو أن صنع فيلم يدور حول شخصية رجل مهنته الأساسية الكتابة،
عمل يصعب كثيرا تحويله إلى دراما سينمائية يمكن أن تشدّ الجمهور،
خاصة جمهور الشباب المولع بأفلام الفضاء والمغامرات والكائنات
المثيرة. لكن ربما كان نجاح تجربة سابقة في هذا المجال، بل وعلى
مستوى أكثر صرامة كما في فيلم "طاب مساؤك.. وحظا سعيدا" (2005) Good Night and Good Luck
الذي أخرجه جورج كلوني، وكان مصورَّا بالأبيض والأسود ويعتمد على
"أحاديث الراديو"، هو الذي شجّع منتجي فيلم "ترومبو" على الإقدام
على هذه المغامرة الفنية والإنتاجية.
الرجل والتاريخ
وليس من الممكن اعتبار فيلم "ترومبو" سردا موثقّا لتاريخ الحقبة
المكارثية، حقبة التفتيش في الأفكار، واضطهاد المثقفين والكُتّاب
وأصحاب الرأي، والتي امتدّت لتشمل آلاف الأشخاص في عموم الولايات
المتحدة، الذين ضغطت اللجنة على الجهات التي يعملون بها، لكي
تعفيهم من أعمالهم وبالتالي دفعهم للعيش تحت خط الفقر بعد أن
فقدوا بيوتهم وتمزقت عائلاتهم وأصيب كثيرون منهم بالأمراض القاتلة.
إن هذه الأجواء موجودة في الفيلم، نلمحها من خلال ما نشاهده من
انعكاسات ذلك الحظر على عدد من أبرز وأشهر كتاب السيناريو في
هوليوود، منهم من يلقى مصيره بسبب العجز عن تغطية نفقات العلاج،
ومنهم بالطبع بطلنا ترومبو، الكاتب الموهوب الذي يتمتع بالقدرة على
إنقاذ الكثير من المشاريع السينمائية الكبرى من السقوط، فقد كانت
تلجأ إليه كبرى شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود لكي يقوم
بإعادة كتابة السيناريوهات بحرفيته العالية ومهارته ككاتب يتمتع
بالخيال.
وقد ظلّ ترومبو يمارس كتابة الأفلام منذ أوائل الأربعينات محققا
نجاحا كبيرا، إلى أن اضطُر للظهور أمام لجنة النشاط المعادي أو غير
الأمريكي في الكونجرس والخضوع للاستجواب، لكنه رفض الإجابة على
الأسئلة التي وُجهت له، فقد رأى أنها تتعارض مع حقه الدستوري
الأصيل كمواطن في اعتناق الفكر الذي يراه طالما أنه لا يُهدِّد
سلامة المجتمع بأي حال.
الفيلم لا يسعى إلى تقديم تاريخ للفترة، بل يُركِّز أكثر على
الدراما الهائلة التي تنشأ عندما يجد رجل مرموق في مجاله، نفسه مع
أسرته، ممنوعا من العمل وبالتالي يواجه مع أفراد أسرته: زوجته
وابنه وابنتيه، حرب تجويع بمعنى الكلمة، ناهيك عن تشويه السمعة
الذي لحق به بعد أن انصرف عنه الجميع فقد أصبح في أنظار الرأي
العام (خائنا)!
يختار سيناريو جون مكنمارا بدلا من تناول قضية "العشرة الكبار" أو
ما عُرف بـ "قائمة هوليوود السوداء" التي سبق تناولها في عدد من
الأفلام، تناول الموضوع - ليس من الزاوية السياسية - بل من زاوية
إنسانية، تتعلّق بحرية الفكر بشكل عام وليس فقط بالنشاط اليساري
الراديكالي، من أجل تقريب الفيلم إلى جمهور الطبقة الوسطى
الأمريكية ومن الشباب الذي لا يعرف الكثير عن تفاصيل تلك الفترة.
يصور الفيلم كيف يتحايل "ترومبو" ويُجنِّد جميع أفراد أسرته
الصغيرة، من أجل مقاومة تلك العزلة الإجبارية التي فُرضت عليه
ككاتب، واختراق "القائمة السوداء" ومواصلة العمل والكتابة سرّا،
تحت إسم مستعار، لحساب شركات هوليوود التي رحبّت بقبول ما يكتبه،
أولا لأنها لم تكن تدفع المقابل المادي الذي كانت تدفعه له في
السابق عن سيناريوهاته بل أقل كثيرا، وثانيا لكي تضمن مستوى عاليا
من السيناريوهات من ترومبو وغيره من كتاب السيناريو الكثيرين الذين
شملهم المنع.
موقف المثقف الرافض
"ترومبو"
هنا يرمز للمثقف صاحب الموقف والرأي، الذي يُفضِّل السجن على
الخضوع لما تطلبه منه "اللجنة"، أي الوشاية بزملائه واستنكار
أفكاره والتخلِّي عن مبادئه، على عكس ما فعله كثير من زملائه ومنهم
الممثل الشهير إدوارد ج.روبنسون، الذي وشى به وبغيره مختلقا الكثير
مما كانت اللجنة ترغب في سماعه، لكي ينقذ نفسه، ثم لم يجد غضاضة
فيما بعد، أي بعد أن غادر ترومبو السجن الذي قضى فيه عاما بتهمة
ازدراء الكونجرس، من أن يطلب من ترومبو أن يقوم سرا، بإصلاح
السيناريوهات التي تُعرض عليه لإنقاذه من هوة الفشل التي سقط فيها
بعد أن كان نجما مرموقا.
وقد واصل ترومبو الكتابة، إما تحت أسماء مستعارة أو أسماء حقيقية
لغيره من الكتاب الذين كانوا يتقاسمون معه العائد المادي، فأنتج 17
سيناريو خلال الفترة من 1950 إلى 1960، من بينها سيناريو فيلم
"الرجل الشجاع"
The Brave One (1957)
الذي حصل على أوسكار أحسن سيناريو دون أن يتمكن ترومبو من استلام
الجائزة التي ذهبت لصاحب الإسم الذي وُضع على السيناريو وكان لكاتب
مغمور في هوليوود لكنه كان يتمتع بالشرف والنزاهة مما جعله يتقاعس
عن الظهور لاستلام الجائزة بل حاول تسليمها لترومبو الذي رفض كما
نرى في الفيلم، قائلا إنه يجب أن يقبلها هو لأن اسمه عليها.
هذا الموقف سيدفع ابنته التي نرى في الفيلم أنها كانت متأثرة كثيرا
بشخصيته، إلى أن تطالبه فيما بعد بضرورة استعادة الجائزة لنفسه!
يظهر في الفيلم ممثلون يقومون بأدوار بعض شخصيات هوليوود الشهيرة
مثل: جون واين الذي تزعّم مع الكاتبة الصحفية هيدا هوبر (تقوم
بدورها في الفيلم هيلين ميرين) ما عُرف بـ "تحالف صناع الأفلام"
لمقاومة النشاط الشيوعي في هوليوود تحت شعارات وطنية، كما يقوم
الممثل دين أوجورمان بدور النجم الشهير كيرك دوجلاس. ويظهر أيضا من
يقوم بدور المخرج الأمريكي من أصل نمساوي، أوتو بريمنجر، الذي كان
أول من صرّح علانية عام 1960 بأنه أسند كتابة سيناريو فيلمه
"الخروج" إلى دالتون ترومبو باسمه الحقيقي، وتبعه على الفور كيرك
دوجلاس في تحدِّ سافر للقائمة السوداء، عندما أصرّ على إسناد كتابة
سيناريو فيلم "سبارتاكوس" إلى ترومبو دون التخفِّي تحت أي اسم
مستعار.
لقطات الأرشيف التسجيلية
في الفيلم تقوم الصحفية هيدا هوبر بمحاصرة ترومبو، وتشنّ حملة ضد
كيرك دوجلاس بالتعاون مع جون واين (الذي يطلقون عليه الدوق) لدفعه
إلى الاستغناء عن ترومبو والتهديد بمقاطعة الفيلم. ويستخدم المخرج
الكثير من اللقطات التسجيلية للأحداث الحقيقية في الفيلم من بينها
استجوابات لجنة ماكارثي أمام الكونجرس، والمظاهرات التي نُظمّت
أمام دار العرض التي شهدت العرض الأول لفيلم "سبارتاكوس"، وهي
لقطات من الأرشيف (بالأبيض والأسود) كان المخرج يُركِّز عليها ثم
ينتقل من داخلها إلى اللقطات المصورّة للفيلم باستخدام الممثلين،
كما ينتقل من الأبيض والأسود إلى اللقطات الملونة.
ويستمر هذا الأسلوب حتى النهاية، لا يقطعه إلا عند نزول العناوين
الختامية للفيلم، عندما نرى شخصية ترومبو الحقيقية أثناء تكريمه من
قبل "نقابة كُتّاب السيناريو الأمريكيين"، ثم نشاهده في مقابلة
تليفزيونية أمام الكاميرا معلقا على انتصاره على قائمة هوليوود
السوداء، كما يقوم بإهداء جائزة الأوسكار التي عادت إليه، إلى
ابنته التي يعتبرها الأكثر استحقاقا منه بالجائزة، بعد أن قامت
بدور أساسي في مساعدته على الصمود والمقاومة.
وكما يهتم الفيلم بالعلاقة الخاصة بين ترومبو وابنته، يهتم أيضا
بإبراز علاقته بزوجته "كليو" (تقوم بالدور ببراعة الممثلة جيان
لين) التي صبرت وصابرت وصمدت معه، وتولت رعايته وتحملت فظاظته التي
بلغت أحيانا، حدّ المغالاة، عندما كان لا يتوقف عن التدخين
والكتابة، وكان أحيانا - كما نرى في الفيلم - يجلس داخل البانيو
وسط الماء، لكي يستطيع الاسترخاء والاستمرار في الكتابة حتى يمكنه
أن يلحق بالموعد المحدّد لتسليم السيناريوهات، رافضا حتى المشاركة
في الاحتفال بعيد ميلاد ابنته.
في أحد المشاهد البديعة في الفيلم نشاهد ترومبو يلتقي بجون واين
الذي يرفض مصافحته باعتباره (خائنا)، ويلقي على مسامعه محاضرة
مقتضبة عن ضرورة الإخلاص للوطن وكيف أن أمريكا انتصرت لتوها في
الحرب بفضل القيم الديمقراطية، فيسأله ترومبو ببساطة: "وأين كنت
أنت أثناء الحرب؟ لقد كنت وسط الديكورات، تضع الماكياج وتطلق
الرصاص على الهنود الحمر"!
يختلق السيناريو شخصية كاتب يدعى أرلين هيند، كان مريضا بسرطان
الرئة، سُجن مع ترومبو بسبب معتقداته السياسية، وكان ترومبو
متعاطفا معه كثيرا، لكن أرلين كان يتهمه بأنه "يتحدث كراديكالي
لكنه يحيا حياة رجل ثري"، فيقول له ترومبو: "ليس المهم ما تقوله،
بل ما تتخذه من مواقف وتكون مستعدا لدفع الثمن"!
من الممثلين الخمسة المرشحِّين للحصول على جائزة الأوسكار، الممثل
بريان كرانستون الذي يبرع كثيرا في أداء دور ترومبو، فيقدم الشخصية
في أطوارها المختلفة، كأب وكاتب ورجل مهتم بمستقبل بلاده ومقاوم
شرس ضد الفاشية، يرفض قمع الآراء المخالفة تحت شعار حماية الوطن،
منتقلا من الوداعة والرقة، إلى التوحُّش والعدوانية بعد أن يجد
نفسه معزولا، يريد أن يثبت وجوده ككاتب مازال يملك القدرة على
الإبداع، وفي الوقت نفسه، يضمن دخلا لأسرته، ولكنه يدرك أيضا في
الوقت المناسب مدى الضرر الذي أصاب أسرته بعد أن أصبح يتعامل مع
أبنائه كفريق من التابعين، يتلقّون منه التعليمات، ثم يقومون
بتوصيل مخطوطات سيناريوهاته سرا إلى شركات الإنتاج في هوليوود.
إن أداء كرانستون يرشحه بلاشك للحصول على الجائزة التي أرى أنه
يستحقها، غير أن المنافسة ليست سهلة هذا العام. فغيره أيضا
يستحقها. وما علينا سوى أن ننتظر ونرى!
الأوسكار وجدال العنصرية
محمد موسى
لم تنخفض حدّة النقاش المُتواصل عن الحضور الهامشي للغاية
للأمريكيين من أعراق غير بيضاء في ترشيحات جوائز الأوسكار
السينمائية القادمة، والذي تفجّر بعد ساعات قليلة من إعلان قوائم
المتنافسين قبل أسابيع. بل أن جدال الإثنيات أو الأعراق وحضورهم
على الشاشات السينمائية في الولايات المتحدة لم يبلغ أبداً هذا
المستوى من عدم الرضى والغضب الذي يصل إليه هذه الأيام.
والذي ترافقه دعوات ساخطة من داخل عوالم صناعة السينما ومن خارجها
لهزّ الذهنيات والكيانات الإنتاجية التي تهيمن على صناعة الفن
السابع، حتى تعكس هذه الأخيرة التنوّع الموجود في المجتمع الأمريكي
وتعبر عن فسيفسائه الواسع، وأن تتوقف عن إقصاء أمريكيين بسبب عرقهم
أو لون جلدهم. بيد أن كثير من تغطيات الإعلام تُركِّز بالتحديد على
"الأوسكار"، وتغفل أن هذه الجوائز هي مُحصِّلة ومرآة لواقع الإنتاج
السينمائي، وأن التغييرات الفعليّة الناجحة يجب أن تبدأ من الصناعة
ذاتها، عندها ستكون الجوائز صدى للحال السينمائي، لا مُحدِّدة
لقواعده أو طبيعته.
كما يبدو أن هذا الاهتمام المسبوق بعلاقة جوائز السينما والإثنيات
لن يتوقف قريباً، بل سيتواصل إلى الحفل ذاته، فمن المؤكد أن يقوم
"كريس روك"، الكوميدي الأمريكي الأسود المشاكس، بالسخرية من
"الأوسكار" ويوظِّف قضية الأعراق في مقدمته الكوميدية للحفل في
الثامن والعشرين من شهر شباط (فبراير). في الوقت الذي سيلقى غياب
بعض النجوم الكبار عن الأوسكار اعتراضاً على ترشيحات هذا العام،
هالة قاتمة على الاحتفال الأهم للسينما في العالم، وربما يدفع
جمهور واسع لعدم متابعته على شاشات تلفزيوناتهم وحتى مقاطعته،
ليزيد هذا من مشاكل التغطيات التلفزيونية للحفل في الأعوام
الأخيرة، ذلك أن شعبية مشاهدة "الأوسكار" على التلفزيون في تراجع،
وكما تُبين الإحصاءات المُتوافرة من الأعوام الخمس الأخيرة.
والحال أن قضية الأعراق والفنون في الدول الغربية، هي واحدة من
القضايا الشائكة التي يتم بحثها في دوائر مختصّة في الولايات
المتحدة وبريطانيا والعديد من الدول الأوروبية منذ أكثر من عقد. إذ
شهدت هذه المناطق في الخمسين عاماً الأخيرة نمو سكاني مضطرِّد
لمواطنيها من الإثنيات والعرقيات غير البيضاء، في حين لم تكن
استجابة الصناعة السينمائية والتلفزيونية توازي سرعة التغيرّات
السكانية والاجتماعية. فهناك كثير من المبادرات في بريطانيا على
وجه التحديد والتي تشهد هجرة مقلقة لمواهبها السينمائية
والتلفزيونية من أعراق غير بيضاء إلى الولايات المتحدة، لأن هذه
الأخيرة ورغم كل الانتقادات لها، توفِّر فرصاً أكثر للممثلِّين
السود مثلاً في التلفزيون الأمريكي. النقاش حول هذه القضايا والتي
كانت تدور بين متخصصين، بعضهم عينتهم حكومات غربية، تحول بسبب أزمة
الأوسكار الأخيرة إلى قضية عامة، يجري تداولها يومياً على الصحف
والمواقع الإلكترونية الغربية، ويُطلق الحديث فيها نقاشات حاميّة
على مواقع التواصل الاجتماعي.
شارك الإعلام الغربي بشكل فعّال في الأسابيع الأخيرة في إبقاء جذوة
النقاش الدائر، كما انتقلت تغطيات الإعلام لهذه القضية من صفحات
السينما التي انطلقت منها إلى صفحات المجتمع وأحياناً السياسة.
وتحولت السينما إلى كناية عن قضايا أكبر تخصّ وضع الإثنيات في
الدول الغربية والتحدّيات والمشاق التي يتعثّرون بها في حياتهم
اليومية، وخاصة أن هذه القضية تأتي بعد سلسلة من الحوادث الدامية
التي وقعت بين الشرطة وشباب سود في الولايات المتحدة خلال العام
الماضي، والتي تبعتها احتجاجات عنيفة وصدامات مع الشرطة. لذلك ليس
غريباً أن يشارك الرئيس الأمريكي باراك أوباما في نقاش جوائز
الأوسكار، وأن تُشجِّع هذه الأخيرة شخصيات عامة، ومفكرين من خارج
عالم السينما، للبحث مجدداً في العلاقة بين الفنون وفئات المجتمع
الأمريكي المتنوعة، كمدخل لمراجعة مفاهيم التعايش والمساواة
والوطنية في أمريكا اليوم.
لم تكن جميع التغطيات الإعلامية على القدر ذاته من المسؤولية
والحصافة، فجنح بعضها للإثارة، و تم التركيز أحياناً على تصريحات
مُخالفة للسائد وغير متزنّة لنجوم ومشتغلين في السينما، وإبرازها
في عناوين الصحف وحوارات الإعلام معهم، لتحصل بالتالي على اهتمام
يُشتِّت الانتباه عن القضية الأساسية. كما تحوّلت قضية الإثنيات
إلى ساحة معارك بين ممثلين وممثلات وجدوا في اللحظة الإعلامية
الكبيرة الفرصة لجذب الاهتمام والتذكير بمواهبهم المنطفئة. وتعثّر
نجوم كبار في ما يريدون قوله، ليشوب بعض تصريحاتهم العدائية،
وليعودوا ويعتذروا على هذه التصريحات، أو يتهموا وسائل الإعلام
بأنها أساءت استخدامها.
مسؤولية الأكاديمية
لم يكن مُتوقعّاً رد "الأوسكار" السريع على الضجة الواسعة التي
أعقبت إعلان الترشيحات الأخيرة والوعود التي أعلنت عنها الأكاديمية
بتصحيح النظام الداخلي للجوائز، لأن هذه الأكاديمية كانت دائماً
بعيدة عن الجدالات الإعلامية التي تخصّ الجوائز، ولم تكشف الكثير
من قبل حول تركيبتها الداخلية التي يحيطها الكثير من الغموض. فليس
من المعلوم على وجه التحديد العدد الإجمالي لأعضاء "أكاديمية فنون
وعلوم الصور المتحركة" والتي تختصر بالأوسكار، أو الضوابط التي
تتعلق بانضمام الأعضاء الجدد، عدا أن الفائزون بالأوسكار ينضمّون
تلقائياً إلى الأكاديمية، كما يُمكن أن تساعد توصيات أعضاء في
الأكاديمية في قبول سينمائيين لم يفوزوا بالأوسكار من قبل. في
الوقت الذي تتكتّم فيه الأكاديمية على حيثيات اختياراتها من
الأفلام سنوياً، وتبتعد تماماً عن كشف أرقام الترشيحات للأفلام
المتنافسة أو لتلك التي تفوز بالجوائز النهائية.
يمكن قراءة بيان الأكاديمية الأمريكية بما يتضمنّه من تفاصيل ووعود
واعتراف ضمني بالتقصير، بأنه نقد ذاتي للأداء العام، صادر من داخل
المؤسسة، ويمثل اتجاهاً ممتعضاً من ترشيحات هذا العام، وبالتحديد
من غياب أمريكيين من أصول عرقية غير بيضاء عنها. فكان يُمكن
للأكاديمية أن تكتفي بالصمت - وكما تفعل في الغالب - أو تدافع عن
مهنية أعضائها التي نالت منها اتهامات عديدة أقذعها العنصرية. وهو
الأمر الذي نبّهت إليه الممثلة الإنكليزية القديرة شارلوت رامبلينج
(مرشحة هذا العام لجائزة أفضل دور في فئة الأدوار النسائية
الرئيسية عن فيلم "45 عاما")، عندما صرحت في حديث صحفي أخيراً، بأن
الشكوى من غياب أسماء سينمائية أمريكية من أعراق أخرى، هو اتهام
واضح وغير مقبول للبيض الموجودين في الأكاديمية بالعنصرية. وهو
التصريح الذي حظي بقدر كبير من الاهتمام والنقد على حد سواء، وعادت
الممثلة وتراجعت عن محتواه، معللة بأنه تم تحريف كلامها عن معناه
الأصلي.
بشكل عام، لا تختلف مهام أعضاء الأكاديمية الأمريكية عن ما تقوم به
كل يوم لجان تحكيم الأفلام في المهرجانات السينمائية حول العالم.
لكن إذا كان النقد الذي يوجه أحياناً إلى أداء لجان تحكيم
المهرجانات يبقى في حدود محدودة، وفي أوساط المشتغلين في السينما
بالتحديد، يتسّع الجدال حول الأوسكار ليتعدّى دوائر السينما،
وليكتسب معاني جديدة، وينوء تحت ثقل التاريخ المعاصر وأحداث الحاضر
الآنية. بالطبع يمكن انتقاد الأكاديمية وخياراتها لهذا العام،
والحديث بالتحديد عن أفلام بعينها لسينمائيين أمريكيين سود لم تصل
إلى الترشيحات النهائية للأوسكار رغم استحقاقها.
لكن هذا سيندرج تحت وجهات النظر والذائقة الصرفة، ولا يمكن إملاءها
على أعضاء الأكاديمية الأمريكية، أو حتى على لجنة تحكيم أصغر
مهرجان سينمائي. فالجائزة السينمائية مهما كان نوعها وشهرتها تبقى
في نهاية المطاف، إجماع مجموعة محدودة من السينمائيين وغيرهم على
ما يشاهدوه من أفلام منتخبة، يجب أن تتم في فترة زمنية تؤثر بها
الأهواء العابرة والمزاجية والحالة النفسية لهم، وتتفاعل قراراتهم
أحياناً مع ما يجري في العالم من أحداث.
ولعل الأمر الحميد الذي يُمكن ينتج من الجدالات الدائرة، هو دفعها
للشركات المنتجة للتفكير مليا بالسوق السينمائي ومسؤوليتها عن
تمثيل المجتمع بكل تنوعه، ومنح المزيد من الفرص لسينمائيين من
خلفيات عرقية مختلفة. والذي يشترط من هذه الشركات الشجاعة، وأن
تغامر وتزجّ أسماءً غير متوقعة في أفلامها السينمائية، وتخالف
البديهيات الخاصة باختيارات الممثلين والممثلات، وكما يحدث أحياناً
وبنجاح كبير. فالجزء الأخير من سلسلة حرب النجوم والذي يُعرض
حالياً حول العالم، يقدم شخصية مُهمّة يلعبها ممثل أسود من أصول
بريطانية. نال أداءه في الفيلم على ثناء النقاد والجمهور على حدِّ
سواء. ويرجح أن يكون أحد أبطال السلسلة في السنوات القادمة. وهي
مغامرة تحسب للمخرج والشركة المنتجة، وجاءت نتائجها مبهرة، فالفيلم
جنى الإيرادات الأكثر في العام الماضي (2015)، وينافس ليكون الأعلى
في الأموال التي جمعها على مدار تاريخ السينما. |