المخرج الأميركي الشهير ستيفن سبيلبرغ معروف بأفلامه التي تميل
عادة إلى الحبكة التقليدية التي تمنح الإحساس بـ”محاكاة الواقع” أو
بالأحرى، تخلق الإيهام بالواقع، في حين يميل الثنائي السينمائي،
الأخوان إيثان وجويل كوين، إلى خلق واقع آخر مواز، مشبع بروح
الفكاهة والسخرية العدمية السوداء، تغشاه شخصيات تسير نحو مصائرها
الخاسرة، فماذا عن الفيلم الجديد لسبيلبرغ “جسر الجواسيس” الذي جمع
بين سبيلبرغ والثنائي كوين؟
يطرح الفيلم الجديد للمخرج الأميركي الشهير ستيفن سبيلبرغ “جسر
الجواسيس” تساؤلات عما يمكن أن يجمع بين سبيلبرغ والثنائي
السينمائي الشهير الأخوين إيثان وجويل كوين، وبين الممثل توم هانكس
الذي يقوم بالدور الرئيسي في الفيلم.
فالمعلومات تقول إن الأخوين كوين هما اللذان كتبا سيناريو هذا
الفيلم الذي يدور في عالم الجاسوسية خلال فترة الحرب الباردة بين
الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، التي بلغت ذروتها في
الخمسينات. وقد تولى كاتب السيناريو مات شارمان، بعد ذلك، صقل
السيناريو.
العلاقة بين سبيلبرغ والأخوين كوين، بدأت منذ فترة، عندما أنتج
سبيلبرغ فيلمهما الشهير “عزم حقيقي” قبل خمس سنوات، كما سبق أن قام
توم هانكس ببطولة فيلم الأخوين كوين “ليدي كيللرز” (2004)، وسبق أن
قام ببطولة ثلاثة من أفلام سبيلبرغ السابقة.
وسنلاحظ أنه رغم قتامة الموضوع الذي يتناوله فيلم “جسر الجواسيس”
إلاّ أنه لا يخلو من لحظات مليئة بالسخرية السوداء والتهكم المألوف
على النظام الأميركي، كما في أفلام الأخوين كوين.
قصة حقيقية
لا شك أن موضوع الفيلم يمثل أكثر من تحدّ أمام أي مخرج يرغب في
تقديمه للسينما، ويكمن التحدي الأول في أن الموضوع، نفسه يمكن
النظر إليه على أنه موضوع قديم عفا عليه الدهر، لقد كان يصلح أكثر
لنوعية “الفيلم- نوار” التي ازدهرت في الأربعينات والخمسينات.
من أهم العوامل الفنية التي جعلت فيلم سبيلبرغ صادقا ومعبرا،
الإمكانيات الكبيرة التي رصدت للإنتاج
نحن أمام فيلم أقرب ما يكون إلى نوعية “الدوكيو- دراما” أو الدراما
التسجيلية، فهو مأخوذ من قصة حقيقية، هي قصة الجاسوس الروسي رودلف
أبيل الذي ولد في بريطانيا لوالدين من المهاجرين الروس وحصل على
الجنسية البريطانية، لكنه ذهب في العشرينات إلى موسكو وتدرب هناك
على العمل كجاسوس، وقضى فترة في فنلندا، قبل أن يتسلل عبر الحدود
الكندية بشكل غير قانوني إلى الولايات المتحدة، واستقر في نيويورك،
حيث بدأ عمله بالتجسس لحساب المخابرات السوفييتية، وكان يقوم
بتهريب المعلومات إلى السوفييت باستخدام أقلام الرصاص والعملات
المعدنية المفرغة من الداخل.
هذا الجاسوس الهادئ الذي يقوم بدوره في الفيلم ببراعة كبيرة الممثل
البريطاني مارك ريلانس، سيقع في قبضة المباحث الفيدرالية عام 1957،
بعد سنوات من البحث والاستقصاء.
والفيلم يبدأ بمشاهد تصور كيف كان هذا الجاسوس رساما بارعا، وكان
يقضي الوقت في الرسم بالحدائق العامة، حيث يقوم بإخفاء المواد التي
تحوي المعلومات في أماكن معينة ويتركها لعميل آخر يحصل عليها
وينقلها.
ومع ذلك فالشك يقود ضباط المباحث للقبض عليه، ويتم استجوابه لكنه
يظل صامتا، يرفض الاعتراف بوجود أي صلة له بالتجسس، فيتم تسليمه
إلى شرطة الهجرة باعتبار أنه دخل إلى البلاد بشكل غير شرعي، ولكن
مع تفتيش منزله يتم اكتشاف الكثير من مواد التجسس، فتوجه له ثلاثة
اتهامات بالتجسس والتآمر قصد تخريب الديمقراطية الأميركية.
رجل المبادئ
ما يحدث في الواقع، وفي الفيلم، أن النظام القضائي الأميركي ينتدب
محاميا للدفاع عن هذا الجاسوس. هذا المحامي هو جيمس دونوفان الذي
يقوم بدوره في الفيلم توم هانكس، وهو أصلا محامي تأمينات، وبعد
تردد كبير من جانبه، يقبل القيام بتلك المهمة التي ستجلب له كما
نرى، الكثير من السخط ونظرات الريبة والشك من جانب الجميع: من
راكبي قطارات الأنفاق وهو في طريقه للعمل يوميا، الجماعات اليمينية
التي تغذي حالة الهستيريا الجماعية التي كانت سائدة في تلك الفترة
والتي عرفت بـ “الرعب النووي”، وقد وصلت إلى حدّ إطلاق الرصاص على
منزله، وإرهابه مع أسرته كما نرى، بل ومن جانب القاضي الذي تولى
النظر في القضية ورفض كل طلبات دونوفان مصرا على ضرورة إدانة
الجاسوس وإعدامه.
والأكثر قسوة أن زوجة دونوفان وأبناءه الثلاثة (لديه ابنة وولدان)
ينظرون إليه بتشكك، ويتشككون في مدى ولائه للقيم الأميركية.
إن دونوفان هنا هو ذلك البطل الأميركي الليبرالي التقليدي الذي
شاهدناه من قبل في الكثير من الأفلام الأميركية التي تتناول مواضيع
سياسية، وهو محور الفيلم، والشخصية التي يمكن أن يتعاطف معها
مشاهدو اليوم، لأنه ينحاز إلى جانب العدالة بالمفهوم الغربي، مصرا
على أن أفضل ما يمكن تلقينه للجاسوس السوفييتي هو التمسك بالتقاليد
القضائية في مجتمع ديمقراطي.
ومع ذلك فسيناريو الفيلم يجعل من شخصية الجاسوس أيضا، معادلا
أخلاقيا من الناحية الأخرى، لشخصية المحامي الأميركي، في احتفاظه
بالشجاعة والهدوء ورفض الموافقة على العمل كجاسوس لحساب الأميركيين
مقابل إطلاق سراحه. أي أنه رجل مبادئ مثله.
يمكن القول إن من أهم العوامل الفنية التي تجعل الفيلم صادقا
ومعبرا، الإمكانيات الكبيرة التي رصدت للإنتاج، ونجاح فريق مصممي
المناظر في تجسيد المعالم المميزة لشوارع وممرات وجسور وأنفاق
نيويورك في الخمسينات، ثم بعد ذلك، البراعة في إعادة ملامح تلك
الفترة العتيقة إلى الجسر الشهير “غلينكه” الذي يربط بين برلين
الغربية وبرلين الشرقية الشيوعية. وهو الجسر المعــروف بـ”جسـر
الجواسيس”.
وقبل أن نصل إلى الجسر، سيتعين على المحامي أن يدافع باستماتة عن
الجاسوس بغض النظر عما إذا كان مذنبا أم بريئا، فهو يقول له
ببساطة: طالما أنهم يتهمونك بالتجسس فليس من الممكن تغيير التهمة،
لنحاول أن نحصل لك على عقوبة السجن بدلا من الإعدام، فالإعدام لن
يفيد أحدا.
يستند المحامي في إصراره على ضرورة الإبقاء على حياة أبيل، إلى ما
يمكن أن يحدث مستقبلا في حالة وقوع جاسوس أميركي في أيدي السلطات
السوفييتية، والحاجة إلى مبادلته بأبيل.
دونوفان هو ذلك البطل الأميركي الليبرالي التقليدي الذي شاهدناه من
قبل في الكثير من الأفلام الأميركية التي تتناول مواضيع سياسية
وتنجح خطة دونوفان فيصدر الحكم بسجن أبيل لمدة خمسة وأربعين عاما،
لكن نبوءة دونوفان تتحقق، عندما يسقط السوفييت طائرة التجسس
الأميركية “يو-2” عام 1961 ويعتقلون قائدها الطيار الشاب فرانسيس
غاري باورز، وهو الحادث الذي سيثير غضب السوفييت ويجعل خروتشوف
ينسف مؤتمر الأقطاب الذي كان من المقرر عقده في جنيف خلال تلك
السنة.
لن نرى تفاصيل ما حدث على الصعيد السياسي، لكننا سنرى كيف اصطفت
المخابرات المركزية مجموعة من الطيارين وأخضعتهم لتدريبات شاقة على
استخدام كاميرات متقدمة لتصوير المواقع العسكرية والاقتصادية داخل
الاتحاد السوفييتي من على مسافات شاهقة محلقين بطائرات “يو-2”، ثم
نرى كيف يسقط السوفييت طائرة باورز، ويكافح الطيار في الجو لكي
يتمكن من فتح المظلة ثم الهبوط ليقع في أيدي السوفييت. وكلها مشاهد
ممّا يجيد سبيلبرغ تصويره عادة.
ينتقل الفيلم منذ تلك اللحظة، بين نيويورك وبرلين الشرقية، حيث
يتوجه دونوفان بطلب من المخابرات الأميركية لكي يتفاوض على مبادلة
الجاسوس أبيل بالطيار باورز، بشكل شخصي ودون أن يكون ممثلا للحكومة
الأميركية بأي شكل. وتصبح هذه الأجزاء الأفضل والأكثر جاذبية ودقة
وواقعية، في بناء الفيلم.
تتميز مشاهد عبور دونوفان من غرب برلين إلى شرقها، بالبراعة
الشديدة في تصميم المواقع؛ قطار الأنفاق القديم، الجسور، البدء في
تشييد جدار برلين، حالة الرعب المنتشرة بين السكان على الجانبين،
محاولة بعض الألمان في ما بعد التسلل إلى الغرب وإطلاق النار عليهم
في مشهد مروع (سيستعيده دونوفان في ما بعد حين تنتهي مهمته وهو
داخل قطار يعبر جسرا في نيويورك)، كما نرى كيف يتسلل طالب أميركي
هو فردريك بريور، إلى الجانب الشرقي أثناء تشييد الجدار لكي يقابل
صديقته، فيعتقل وتوجه له اتهامات بالتجسس.
فيلم التفاصيل
يركز الفيلم بعد ذلك على التفاصيل الكثيرة للمفاوضات المرهقة بين
دونوفان، ورجل “الكي جيه بي” بالسفارة السوفييتية في برلين، ثم
مفاوضاته مع ممثل قانوني لحكومة ألمانيا الشرقية، وما يقع من
تداعيات وتعقيدات بسبب إصرار دونوفان على مبادلة الرجلين (الطيار
والطالب) بالجاسوس الروسي.
وبينما تقبل موسكو مبادلة الطيار باورز بالجاسوس الذي لا تقر بأنه
جاسوس وستظل على هذا الموقف في ما بعد، ترفض برلين الشرقية الإفراج
عن الطالب الأميركي، لكن دونوفـان سيحصل في النهاية على بغيته.
عندما يصل دونوفان إلى برلين الشرقية عبر الجسر الشهير، وسط انتشار
الثلوج، تحيط به مجموعة من الشباب يسرقون معطفه، وعندما يصل إلى
الاجتماع بالمسؤول السوفييتي يبدأ في السعال، بعد أن يكون قد أصيب
بالبرد.. يقطع سعاله حديثه مع نظيره السوفييتي فينصحه الرجل
بالعثور على معطف بديل.
ليس هناك شك في أن فكرة الإصابة بالبرد والسعال ومشاهد الثلوج التي
تغطي الشوارع والجسر، سوى نتاج لمخيلة الأخوين كوين المغرمين بمثل
هذه الأجواء. وما الصورة السلبية القاسية التي يصورها الفيلم
للقاضي الأميركي الذي يبدو مستعدا للتغاضي عن الإجراءات القانونية
في محاكمة الجاسوس أبيل، استنادا إلى مفاهيم أقرب للفاشية، سوى
صورة صادرة من خيال الأخوين كوين.
مزيج بين التوتر والفكاهة والسخرية، وتقاليد "الفيلم – نوار":
الظلال والأركان المخيفة، والشخصيات الغامضة، والمطاردات، والشخصية
الرئيسية التي تواجه مصيرها بعد أن تنطلق في مهمتها الفردية وتنقطع
صلتها بالعالم الذي جاءت منه (دونوفان يقول لأسرته إنه ذاهب في
رحلة لصيد السلمون في بريطانيا)، هذه العوامل تجعل الفيلم يحقق
الكثير من المتعة البصرية والإثارة. ولا شك أيضا أن الأداء المتميز
لمجموعة الممثلين، وفي مقدمتهم توم هانكس، يلعب دورا كبيرا في
تجسيد الصراع.
ومن الممثلين المتميزين هنا البريطاني مارك ريلانس في دور الجاسوس
مارك أبيل بهدوئه وصمته ونظراته المسترابة الغامضة التي تختفي وراء
نظاراته. وعندما يسأله دونوفان بين وقت وآخر: هل أنت قلق؟ تأتي
إجابته كل مرة بعفوية ومرارة وسخرية: وهل يســاعد هذا؟ أي هل
سيفيدني الشعور بالقلق؟
ولعل شخصية الجاسوس في هذا الفيلم تضارع تماما وتوازي شخصية
المحامي، فميزته -كما أشرت من قبل- هي التمسك بالمبدأ. والمحامي
يفهم هذا مما يجعله يرفض وصفه بالخائن، مصرا على أنه كان يقوم
بدوره من أجل وطنه، تماما مثل أي أميركي يمكن أن يقوم بمهمة مماثلة
من أجل وطنه.
ونتيجة تقارب الشخصيتين في الصدق والإخلاص، يتلقى المحامي في
النهاية، بعد أن تتم المبادلة، هدية يتركها له الجاسوس هي لوحة
“البورتريه” التي رسمها له. |