Bridge of Spies -
جسر سبيلبرج السياسي لربط الماضي بالحاضر
حاتم منصور
أوائل يونيو وقت ظهور أول إعلان لـ جسر
الجواسيس Bridge
of Spies،
كان سبب اهتمامي الرئيسي بالفيلم، ومحور أول تغطية كتبتها وقتها،
هو مخرجه ستيفن
سبيلبرج، ونجمه توم
هانكس. الثنائي
الذي أمتعنا بـ 3 أفلام مشتركة سابقا، أشهرها وأفضلها إنقاذ الجندي
ريان Saving
Private Ryan 1998،
وأمتعنا أيضا بعشرات الأفلام غير المشتركة.
الآن بعد المشاهدة، من الإنصاف قبل أي شىء، أن أذكر أن السبب
الرئيسي الذي يجعل الفيلم جديرا بالمشاهدة أكثر وأكثر، هو الممثل
البريطاني مارك
ريلانسصاحب التاريخ المسرحي الطويل، والسينمائي القليل. أداؤه
لشخصية الجاسوس السوفيتي آبيل،
سيضعه غالبا ضمن الـ 5 مرشحين لأوسكار أفضل ممثل مساعد هذا الموسم.
لا يهدر سبيلبرج أي ثانية في افتتاحية فيلمه المقتبس من قصة
حقيقية، وتأتي مكثفة بصريا، ومُحملة بخبرات ثقيلة الوزن، من اسم
استثنائي في عالم الإخراج، يخوض تجربته رقم 27.
بدون موسيقى نهائيا وبتركيز تام، نتابع عام 1957 رجل يستلم بسرية
وبهدوء شىء ما قبل أن يتوجه لمنزله، ويبدأ فك ما استلمه. درجة
السكون والتركيز الصوتي، بالإضافة لأداء مارك ريلانس ونظراته، في
لقطة بارعة يظهر فيها بـ 3 طرق مختلفة (وجهه الحقيقي - انعكاس في
مرآة - بورتريه مرسوم باليد)، تخبرنا في ثوان كل ما نحتاج أن نعرفه
عن الشخصية مبدئيا.
هذا رجل معزول ووحيد، يعيش بشخصيات وهويات مزيفة أمام المجتمع،
ويمارس عمله السري بتركيز وولاء تام. رجل صلب لا يفقد أعصابه أو
ينسى أولوياته، حتى عندما تقتحم السلطات الأمريكية المكان، وتُلقي
القبض عليه.
التوقيت مرعب في أواخر الخمسينات والحرب الباردة على أشدها. الفزع
من المواجهة النووية المُحتملة بين أمريكا وروسيا، لم يعد مجرد
نقاش سائد سياسيا، بل أصبح محور حصص مدرسية يخوضها الأطفال. اصطياد
جاسوس في هذه الأجواء، فرصة جيدة من وجهة نظر الحكومة الأمريكية
لتقديم صورة حضارية إعلاميا، عن أمريكا التي تعامل أعداءها بنزاهة
وإنصاف قانونيا.
لإخراج الصورة المطلوبة بأفضل شكل ممكن، توكل الحكومة مهمة الدفاع
عن الجاسوس، لمحامي التأمينات جيمس دونوفان (توم
هانكس). الرجل
الذي شارك سابقا في محاكمات نورنبيرج ضد النازيين في الأربعينات،
ويحمل الآن وجها بعيدا عن السياسة، كمحامي تأمينات كبير.
دونوفان يرى الموقف بواقعية بعيدا عن الهستيريا الأمريكية
الجماعية. ويعامل موكله ومهمته باحترام، رغم ما يجلبه ذلك من ويلات
عليه، باعتباره المحامي الخائن الذي يدافع عن الأعداء.
للوهلة الأولى يبدو كشخص غارق في المثاليات. لكن خبراته كمحامي
تأمينات تجعله يرى الجاسوس بالأساس كبوليصة تأمين مهمة، يجب الحفاظ
عليها بعيدا عن كرسي الإعدام، من أجل إنقاذ أي جاسوس أمريكي يُحتمل
أن يقع في الأسر مستقبلا.
رؤيته تتحقق فعلا خلال أعوام عندما يسقط طيار أمريكي في الأسر على
الأراضي الروسية. ومهمته الثانية الجديدة الأصعب هى إجراء مفاوضات
سرية مع الجانب السوفيتي في برلين، من أجل تبادل الأسرى.
اختار سبيلبرج لفيلمه رغم أجواء الجاسوسية والحرب، إيقاع خفيف لا
يخلو من مرح. ولعل ذلك سبب الاستعانة الرئيسي بالأخوين كوين دونا
عن غيرهما، لاستكمال السيناريو الأولي الذي كتبه مات
شارمان.
سيناريوهات وأفلام الأخوين كوين قادرة دوما على شحن أكثر الأجواء
والأفكار دراما وجدية، بحوارات ولمسات كوميدية. وفي تاريخهما
الطويل قائمة أفلام ممتازة من النوعين.
مع هذا الإيقاع المُستهدف لا يوجد أيضا اختيار أفضل من توم
هانكس. الممثل
القادر دوما على المزج بين الجانبين (المرح - الجدية)، في نفس
الجملة ونفس المشهد. راجع أدواره في Big - Forrest Gump - Cast Away -
Charlie Wilson's War
على سبيل المثال لا الحصر.
هانكس شكلا ومضمونا يبدو أقرب لرجل الشارع العادي. رب الأسرة
الأمريكي النزيه الوطني، الذي لم تفسده حالة العداوة وتنتزع منه
تعاطفه الإنساني، أو تفرض عليه تفضيلات وأولويات عسكرية. وهي نقطة
ضرورية مع شخصية لا تجد فارق أهمية بين طيار أمريكي معتقل،
وأي مواطن أمريكي آخر معتقل. الكل سواسية والكل مهم كما يردد
دونوفان عدة مرات.
النزعة المثالية الأمريكية من فترة الستينات، والبصمة الكلاسيكية
الواضحة في إخراج سبيلبرج، تجعل الفيلم وشخصية دونوفان، أقرب
لأفلام وأدوار جيمس
ستيوارت وجاري كوبر وجريجوري بيك، من
نجوم هذه الفترة.
الجاسوس
السوفيتي أيضا رغم جديته وصرامته، تم شحنه سينمائيا بلمسات خفة ظل
بسيطة. وعندما يسأله دونوفان باستمرار عن أسباب عدم قلقه رغم صعوبة
الموقف، يُكرر إجابة واحدة، وفي كل مرة يزداد تأثيرها مرح وفاعلية
عما قبلها.
سبيلبرج صاحب التاريخ العريق في عالم الإبهار، لا ينسى وضع بصماته
السحرية في المقاطع التي تستحقها. ويساعده كالعادة من طاقمه
المُفضل، مدير التصوير يانوس
كامينسكي، والمونتير مايكل
كاهين.
لاحظ مثلا بصماته في تنفيذ مشهد المطاردة على الأقدام تحت المطر
(مغامرة بسيطة)، أو مشهد اصابة الطائرة (حدث مرعب).
والأهم مشهد شاهدت فيه لأول مرة، حائط برلين الشهير أثناء عملية
بنائه. تلك اللحظة التي قررت فيها تعقيدات السياسة العالمية، فصل
مجتمع ومدينة وثقافة واحدة، إلى دولتين مختلفتين إداريا وسياسيا،
لدرجة بناء سور فاصل. مشهد ينتزع درجة من الرهبة والدهشة والتعاطف
بطريقة فعالة، يصعب أن تراها بنفس التوازن، من مخرج آخر.
مشاهد برلين عامة سواء تلك التي دارت في الشوارع، أو النهائية التي
تدور على جسر شهير، اقتبس منه الفيلم اسمه، إعادة تنشيط للذاكرة
بخصوص تميز سبيلبرج بصريا. يعاونه هنا للمرة الأولى مصمم الإنتاج أدم
ستوكهوزن، الذي
أثبت للعام الثاني على التوالي بعد
The Grand Budapest Hotel
أنه ضمن الصفوة في مجاله.
يغيب عن فريق سبيلبرج هذه المرة الموسيقار العملاق جون
ويليامز بسبب
ظروفه الصحية، ويتولى المهمة بدلا منه توماس
نيومان.
ستلمس غالبا محاولة نيومان للتحليق بنفس أدوات وايقاعات ويليامز.
النتيجة لا ترقى بالطبع لموسيقى العملاق العجوز، لكن تلمس بالتأكيد
الروح الكلاسيكية للمثاليات الوطنية المطلوبة للفيلم.
قرب النهاية يشاهد دونوفان عبر نافذة القطار في نيويورك، مجموعة
شباب تقفز فوق سور، من أجل عمل ما غير قانوني. المشهد مماثل تماما
لمشهد سابق، شاهده وسط برلين. هذه المرة فقط لا يوجد من يطلق عليهم
الرصاص دون تفاهم. هذه المرة الحدث على الأراضي الأمريكية.
رسالة سبيلبرج سياسيا أن أمريكا والعالم كله، في حاجة إلى أمثال جيمس
دونوفان اليوم
أكثر من سابقا. في حاجة الى النزعة التفاوضية والقانونية والمثالية
الصبورة، التي لا ترى في العنف الحل الأول. في حاجة إلى مظلة
قوانين وأعراف تجمع الكل في اطار عادل، يراه دونوفان موجود في
الدستور الأمريكي، الذي جمع مئات الأعراق والثقافات، تحت مظلة دولة
واحدة راقية أفضل من غيرها.
إيمان دونوفان بأن الكل مهم، تم ترجمته في سياق سينمائي متقن
وممتاز، على مدار أكثر من ساعتين، لدرجة تتجاوز المساواة التي
يتحدث عنها، وتُجبر أى متفرج - حتى الأمريكي - على التعاطف
والاهتمام بمصير الجاسوس السوفيتي في نهاية الفيلم، أكثر من
اهتمامه بمصير الأسير الأمريكي نفسه!
الحجج التي ساقها دونوفان في الخمسينات للدفاع عن الجاسوس، لا تزال
مُستخدمة حتى اليوم (الدستور - القانون - الحقوق.. الخ). والحجج
التي ساقها خصومه وقتها، لا تزال أيضا مُستخدمة حتى اليوم (المخاطر
المُحتملة - الأمن القومي - ارهاب العدو بعقوبات صارمة وحاسمة..
الخ).
اختار سبيلبرج قصة حقيقية بنهاية قد تبرهن صحة وجهة النظر الأولى
عمليا، عن جدوى التسامح والصبر. عن جدوى الالتزام بالقانون. عن
جدوى الاختيارات والتفضيلات الأخلاقية. السؤال الحقيقي كم ألف قصة
أخرى تركها، قد تبرهن على العكس؟!
السؤال مهم جدا في عالم يشهد اليوم اضطرابات دولية معقدة، وتهديدات
واسعة، تفوق بمراحل زمن الحرب الباردة. هذا فيلم عن حاضرنا
ومستقبلنا، حتى لو دارت أحداثه في الخمسينات والستينات.
أراد سبيلبرج صناعة فيلم يدافع عن المثاليات، لكنه في واقع الأمر
سقط نسبيا في فخ ادعاء أن أتباع أخلاق الفرسان، كفيل بتحقيق النصر.
وكأن ألاعيب الحروب والتجسس والإرهاب، هى رياضات أوليمبية يمارسها
رجال محترمون، طبقا لقوانين ومعايير يلتزم بها الكل.
على كل أيا كان الخلاف بخصوص رسائل سبيلبرج السياسية والاجتماعية
في الفيلم، فالشىء المؤكد أنه صاغها سينمائيا بإتقان وفاعلية
كعادته. وباستثناء مقاطع لا داعي لها، ومنها مثلا علاقة ابنة
دونوفان الغرامية، التي تم تقديمها ولم يتم استثمارها في أى شىء
مؤثر أو مهم لاحقا، يمكن اعتبار السرد كله أكثر تماسكا وإيجازا
وسرعة، من أفلامه الأخيرة (Lincoln - War Horse).
سنظل نتساءل غالبا عما إذا كان تقديم نفس القصة في قالب ميلودرامي
حاد، قريب مما قدمه سبيلبرج في ميونج 2005
Munich
مثلا أكثر فاعلية أم لا. لكن في النهاية هذه قصة بنهاية غير
تراجيدية، وهو ما يجعل القالب هنا اختيارا مقبولا.
إجمالا لا يمكن اعتبار الفيلم ضمن الأفضل في تاريخ سبيلبرج، وهو
نفس ما يمكن قوله بخصوص توم هانكس. لكن يظل بالمقاييس العامة فيلم
متقن وجيد جدا، سنسمع اسمه غالبا ضمن ترشيحات الأوسكار القادمة، في
أكثر من فرع.
باختصار:
بمعايير آلهة سينما بوزن سبيلبرج وتوم هانكس، هذا فيلم بتقدير
(جيد). بمعايير السينما العادية، الفيلم بتقدير (جيد جدا)!.. ويصل
فيه أداء مارك ريلانس بالأخص للامتياز. احذف من ذهنك مبكرا أى
مقارنات مع التحف السينمائية في مسيرة العملاقين، وستستمع غالبا
بالفيلم.
|