ماركو بيللوكيو: السينما والأوبرا والسياسة
العرب/ أمير العمري
مهرجان فينيسيا يصالح المخرج الايطالي ويعيده إلى المسابقة بفيلمه
الجديد'دم دمي'، حيث يصعب التكهن بما سينتهي إليه أمام لجنة
التحكيم الدولية.
يكرم مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الثانية والسبعين، المخرج
الإيطالي الكبير ماركو بيللوكيو (76 سنة) ويعرض نسخة جديدة من
فيلمه الأول “الأيدي في الجيوب”، في “مصالحة” خاصة بعد أن أعلن
بيللوكيو قبل ثلاث سنوات أنه لن يعود مطلقا للمشاركة بأفلامه في
المهرجان الذي اتهمه بتهميش السينما الإيطالية، خاصة بعد خروج
فيلمه “الجمال النائم” من مسابقة المهرجان عام 2012 دون الحصول على
جائزة رئيسية. وفي إطار المصالحة عاد بيللوكيو هذا العام إلى
مسابقة فينيسيا بفيلمه الجديد “دم دمي” الذي يصعب التكهن بما
سينتهي إليه أمام لجنة التحكيم الدولية.
“الأيدي في الجيوب” (1964) هو أول أفلام ماركو بيللوكيو، ويعتبره
الكثير من النقاد مع فيلم “قبل الثورة”، أول أفلام المخرج برناردو
برتولوتشي، بداية “موجة جديدة” في السينما الإيطالية، بعد حركة
الواقعية الجديدة. لكنه لم يكن فيلما سياسيا بل كانت جوانب الجدة
والتميز فيه تتجسد في قدرة مخرجه الشاب (25 سنة) على التعبير عن
تلك الحالة من عدم التجدد، من انعدام الرؤية، من الغضب الكامن تحت
السطح الذي سينفجر في عموم إيطاليا مع نهاية الستينات في شكل موجات
من الغضب والاحتجاج والتمرد.
يعبر هذا الفيلم، مجازا، عن الاضطراب الاجتماعي، وغياب اليقين
الفكري، ولكن من خلال التركيز على “الأسرة” المشروخة، غير السوية،
التي تكمن في داخلها عوامل انهيارها.
إنها أسرة من الطبقة الوسطى، تقيم في منزل بمنطقة ريفية نائية، فوق
ربوة جبلية وعرة، ويبدو المنزل من الداخل بأثاثه العتيق، كأنه لم
يعرف لمسات الحداثة بعد، وتتكون الأسرة من الأم، وهي عمياء، فقدت
السيطرة على أبنائها: الأكبر أوغوستو الذي يعمل في المدينة ويرتبط
بعلاقة حب مع فتاة تدعى لوسيا، أمنيته أن يغادر المنزل الكئيب
ويتزوج من لوسيا ويعيش معها في المدينة، ولكنه مرتبط بالأسرة بحكم
اعتماد الأم عليه وعلى ما يأتي به من دخل مادي، وهو بهذا المعنى،
الرمز البطريركي.
هناك شقيقان لأوغوستو هما الأصغر “ليوني”، وهو مصاب بالصرع وشبه
متخلف عقليا، و”أليساندرو” الذي يتعرض أيضا بين وقت وآخر، لنوبات
خفيفة من الصرع، وأخيرا هناك الشقيقة “جوليا” التي تبدو طفولية، أي
غير ناضجة تماما رغم أنوثتها الواضحة.
الأجواء داخل هذه العائلة شديدة التوتر فلا يبدو أن هناك أحدا يشعر
بالسعادة ولكن الجميع خاضعون للتقاليد المتزمتة.
تنمو في ذهن أليساندرو فكرة التصفية التدريجية لأفراد أسرته. يبدأ
بقتل أمه العمياء، يدفعها للسقوط من أعلى الربوة الجبلية، ثم يغرق
شقيقه الأصغر في البانيو. وبهذا يتيح الفرصة لأن يحقق أوغوستو
أحلامه في الزواج والتحرر من قيد الأسرة، ويظل يتباهى بما فعله
أمام شقيقته “جوليا” التي تبدو منجذبة إليه مشتركة معه ولو نفسيا،
في لعبة القوة التي يمارسها لكي يثبت لنفسه أنه أكثر الجميع ذكاء.
إنه يمارس القتل بدم بارد كقرار يعكس شعوره بالغثيان من وجوده وسط
تلك الأسرة التي يتسع اغترابه فيها يوما بعد يوم ويتضاعف بفعل
العزلة الباردة خارج المدينة، فوق تلك الربوة الكئيبة التي يمتدّ
أسفلها الوادي الزاخر بالمصانع.
معالم أسلوب
تتمثل ملامح أسلوب بيللوكيو في فيلمه الأول، في تعبيره ببراعة
واقتصاد عما يكمن تحت سطح الأشياء من خلال تكوين اللقطات،
الميزانسين، الاهتمام بالخلفية، التناقض في الإضاءة، استخدام
التناقض بين الأبيض والأسود، الحوار الموحي المقتصد، الأداء
التمثيلي الذي يتم التحكم فيه بدقة في اللقطات القريبة، المونتاج
الذكي الذي يعرف كيف ينتقل من لقطة إلى أخرى، بحيث يخلق إيقاعا
خاصا طبيعيا للمشهد، دون أن نلحظ أيّ قفزة في الانتقال من حجم إلى
آخر، ومن زاوية إلى أخرى، لكننا نلحظ التأثير الدرامي لهذا
الانتقال.
عن الفرق بينه وبين بيللوكيو يقول برتولوتشي: كان ماركو يدرس
السينما في معهد السينما بروما، بينما درست أنا السينما مع
بازوليني عندما كان يصوّر فيلمه الأول “أكاتوني”. قابلت ماركو عدة
مرات، لكننا كنا مختلفين. أنا ولدت في بارما، وهي مدينة تتميز
بالجمال الشديد والرونق والأناقة في المعمار، بينما ولد هو ونشأ في
مدينة بيتشينسا وهي مدينة صعبة. والمسافة بين المدينتين حوالي 60
كيلومترا. كان فيلمي الأول نوعا من السيرة الذاتية عن البورجوازي
الصغير، ابن الطبقة الوسطى المتمرد، وكان يعكس جمال مدينة بارما.
اهتمامات المخرج
أما “الأيدي في الجيوب” فكان يروي قصة تجسد نموذجا مصغرا
(ميكروكوزم) للمجتمع المحافظ: منطقة محاطة بالضباب، مليئة بالمطر،
وعلى حين يمثل الابن الأكبر للعائلة فكرة الامثتال للتقاليد، يعكس
أليساندرو فكرة التمرد من خلال التدمير. وكان لوكاستيل، الممثل
الذي أدى الدور، يذكرني بأدائه بمارلون براندو وهو شاب، عندما ظهر
في فيلم “عربة اسمها الرغبة” (1951). ولم يكن الفيلم سياسيا لكنه
كان يعكس رفض الطبــقة من خلال رفض العــائلة.
تتوزع اهتمامات بيللوكيو بين السياسي والاجتماعي، الرمزي والواقعي
والعاطفي. وفي الكثير من أفلامه خاصة تلك التي أخرجها في الستينات
والسبعينات، بعد “الأيدي في الجيوب” كان مشغولا بالقضايا السياسية
في إيطاليا المعاصرة ضمن سياق السينما السياسية الإيطالية التي برز
فيها إلى جانب روزي ودامياني وبتري ومونتالدو.
من أهم أفلامه السياسية في الستينات “الصين قريبة” (1976) الذي كان
يعكس التمزقات التي قسمت اليسار الإيطالي بين الاشتراكيين
والماويين ولكن أيضا من خلال الاتشقاق داخل العائلة الواحدة، وفي
السبعينات كان أشهر أفلامه “باسم الأب” (1971) الذي يرسم صورة
رمزية للمجتمع الإيطالي من خلال مدرسة داخلية كاثوليكية يديرها
قساوسة، تبدو كقلعة أو كسجن، يمارس فيها رجل الدين أقسى درجات
العنف ضد الطلاب ويخطط الطلاب للهرب باللجوء إلى أكثر الطرق غرابة.
قتل ألدو مورو
في فيلم “صباح الخير ليلا” (2003) يعود بيللوكيو إلى الموضوع
السياسي من خلال قصة تروى من وجهة نظر امرأة شابة اشتركت في اختطاف
وقتل رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق ألدو مورو عام 1978، وهو الحدث
الذي هز إيطاليا كلها في تلك الفترة، وكان وراءه تنظيم الألوية
الحمراء الفوضوي المتطرف. وبنى بيللوكيو فيلمه هذا على الكتاب الذي
سجلت فيه المرأة مذكراتها عن تلك الفترة. وهو يقدم فيه رؤية تبتعد
عن السياسة، بقدر ما تقترب من الجانب الإنساني.
إنه يسبر أغوار تلك الحالة الذهنية والنفسية التي تؤدي إلى مثل هذا
النوع من القتل، وتشترك فيه امرأة لديها أحاسيس ومشاعر متضاربة،
وهي تتخيل في لحظة ما أنها ستعصي أوامر”الألوية الحمراء” وتطلق
سراح ألدور مورو، في حين أننا نعرف من خلال مشهد آخر أنه قُتل
بالفعل.
وفي فيلم “لسن شقيقات” الذي أخرجه عام 2010 يعود بيللوكيو إلى
العائلة، ولكن بعد أن تغيّر الواقع الإيطالي كثيرا وانهار النسق
الطبقي التقليدي القديم.
إنه فيلم معاصر شديد الحيوية والجدة حول العلاقات المعقدة بين الأخ
وشقيقته الغائبة باستمرار، وابنتها التي تنمو وتحتاج إلى من يوجهها
في سن المراهقة، والخالتين اللتين تفكران في توسيع مقبرة الأسرة
استعدادا لاستيعاب الموتى الجدد من العائلة، في حين ينشغل بطلنا
بالحصول على المال لبدء عمل خاص، والارتباط بفتاة سرعان ما تهجره
بسبب فشله المتكرر، ومحاسب الأسرة أو القائم بأعمالها، الذي ينهي
حياته في مشهد تذكاري.
النصر
وهو يعود في فيلمه “النصر”
Vincere
عام 2009، مجددا إلى عالم السياسة مسلطا الأضواء على الحقبة
الفاشية في إيطاليا ولكن من خلال دراما نفسية تدور حول شخصية “إيدا
داسلر” التي أعجبت بالزعيم الشاب الصاعد موسوليني قبل أن يصبح
“الدوتشي” وساعدته وأمدته بالمال لتأسيس صحيفته، وأقامت معه علاقة
أسفرت عن إنجاب ابن منه، لكن موسوليني تنكر لها بعد أن وصل إلى
السلطة، ورفض الاعتراف بابنه ثم أودع المرأة مصحة للمختلين عقليا.
ويصور الفيلم صمود هذه المرأة ومحاولاتها المضنية من أجل إثبات
الحقيقة، ومقاومة كل محاولات تدميرها نفسيا وجسديا. وخلال وجودها
في “الأسر” تكتب إيدا خطابات إلى البابا والملك ورئيس الحكومة
والنائب العام والوزراء، تطالبهم بتحرّي الحقيقة وإطلاق سراحها
والسماح لها برؤية ولدها. وتتدهور الحالة العقلية لإيدا داسلر
تدريجيا، لكنها تظل مصرة على روايتها، غير مستعدة للتراجع تحت أيّة
ضغوط أو تعذيب.
وتبرز في الفيلم كما في معظم أفلام بيللوكيو، أجواء الأوبرا في
توظيف الموسيقى والأصوات الطبيعية على شريط الصوت، مع التحكم في
تصميم حركة الممثلين والأداء عموما في إطار المكان، بطريقة قد
تشوبها بعض المبالغة المسرحية كما في مشهد محاكاة الابن لوالده في
طريقته في الخطابة أمام زملائه في المدرسة، وصولا إلى تجسيد حالة
الخلل العقلي التي يصل إليها الابن قبل أن يغادر الحياة مبكرا.
و”النصر” كانت صيحة موسوليني التي يختتم بها خطاباته.
الجمال النائم
يعود بيللوكيو إلى المزج بين القمع السياسي والقمع الجسدي وانعكاسه
على المرأة في فيلم “الجمال النائم” (2012)، أما مدخله لموضوع
الفيلم الذي يدور حول الموت الرحيم، أو “الحق في الموت”، القصة
الحقيقية التي وقعت في إيطاليا عام 2009 عندما قضت محكمة لأب بأن
يوقف الأجهزة الطبية التي ظلت تبقي على حياة ابنته التي أصيبت في
حادث سيارة لمدة 17 عاما.
وقامت ضجة كبرى في إيطاليا وقتها، وانبرت حكومة بيرلسكوني بالاتفاق
مع الفاتيكان لإصدار قانون عاجل يحظر ممارسة “الموت الرحيم”.
من هذا المدخل يتناول بيللوكيو موضوعه من خلال 4 قصص، تتمحور حول
القتل والموت والحب، ويتوقف طويلا أمام الجانب الأخلاقي في موضوع
القتل الرحيم، ويلمس بقوة الجانب السياسي الذي تمثل في نفاق حكومة
بيرلسكوني، وادعائها الدفاع عن الحق في الحياة، ويصور كيف يحسم
وزير في حكومة بيرلسكوني أمره في النهاية ويقرر أن يتصدى لمشروع
القانون في البرلمان بالرفض متحديا حزبه.
ولعل ما يميز الفيلم ان بيللوكيو لا يتخذ موقفا أو يحكم على مواقف
الأطراف المختلفة فيه، بل يكتفي بعرضها وتجسيدها من خلال تناقضاتها
الذاتية. صحيح أنه يستخدم السرد الملتوي، غير الخطي في الكثير من
أفلامه، لكنه يظل مسيطرا على الحبكة، رغم جوانب شخصياتها
المتشابكة، ويترك مساحة للانتقال في الزمن، والقفز بين الأماكن
والشخصيات والأحداث، لكنه يعرف أيضا كيف يسيطر عليها ويستعيد الصلة
في ما بينها. تغيرت اهتمامات بيللوكيو بلا شك، من التمرد ورفض
العائلة والمجتمع في أفلامه الأولى، إلى رفض الجنوح إلى التطرف
والعنف ثم الإرهاب، ولكن دون أن يفقد قدرته على نقد المؤسسة
السياسية وإفرازاتها السلبية.
بيللوكيو يمضي في مسيرته، حيث يحافظ على مكانته كمخرج- مؤلف مرموق
داخل وخارج إيطاليا، يعبر في أفلامه عمّا يشغله من أفكار كسينمائي
ينتمي أساسا إلى اليسار، ولكنه رغم ذلك، يلتقي فكريا مع اثنين من
أعظم السينمائيين الإيطاليين في كل العصور: جياني إيميلو
(الإنساني) وإيرمانو أولمي (الكاثوليكي). |