هذا العام، يُصابُ تييري فيرمو ـ المدير الفني لمهرجان «كانّ»
السينمائي ـ بحُمّى فرنسية، بتمتينه مسابقته الرسمية بـ 4 أفلام
محلية دفعة واحدة، ومعها شريطا الافتتاح «مرفوع الهامة» لإيمانويل
بركو، والختام «جليد وسماء»، وثائقي المخرج لوك جاك، بالإضافة إلى
7 عناوين دولية بتمويل فرنسي، لتصبح الدورة الـ 68 (13 ـ 24 أيار
2015) ـ التي يترأس لجنة تحكيمها الأخوان الأميركيان جويل وإيثان
كوّن ـ استثناءً خالصاً، بتكرار اسم بلده 13 مرّة في سابقة
تاريخية، تُخرِس الاعتراضات المرتفعة دائماً ضدّه، بشأن الحصّة
الفرنسية عند حافة الـ «كروازيت».
لسان إنكليزي
يُكرِّس فريمو، مُحصَّناً بالحظّ ودهاء الاختيارات، عولمة سينمائية
في الخانة الأكثر إشراقاً، مع توافر 10 نصوص ترطن بلسان إنكليزي،
وتزخر بطلّات أهل هوليوود. الإشارة بليغة. أحكام السوق المتعددة
الوسائط تُحتّم الخنوع للّغة الأقوى والأوسع انتشاراً. هذه حالة
سائدة منذ زمن. إلا أن حنكة فريمو وفريقه ـ من دون قيصر «كانّ» جيل
جاكوب، إذ يحلّ مكانه القطب الإعلامي النافذ بيار لسكور ـ تهادن
طرفي الأطلسي، وتضمن تواجد بريقهما ودولاراتهما التي يُعنى بها
«كانّ» إلى حدّ الوله، سواء في «سوق الفيلم» المتعاظمة القوة، أو
ببذخ الحفلات والصفقات والهرج الإعلامي، على الرغم من اعترافه في
المؤتمر الصحافي الخاصّ بإطلاق برنامجه: «في كل عام، نرفض أعداداً
لا تحصى من أفلام ناطقة باللغة الإنكليزية، تتقدم بها دول أجنبية
(غير ناطقة بها). بيد أن (الإيطاليَّين) باولو سورنتينو وماتيو
غاروني لم يختارا ذلك لإرضاء السوق الأنكلو ـ سكسونية، بل لأن
لديهما حكايتين يجب أن تُرويا».
لا أحد يجرؤ على اكتشاف مفارقة خفيّة في هذا الكلام. فأولوية
«كانّ» منتصرة دائماً لاستثناءات السينما بكل صروفها، ومستدعية
قوّة بصيرتها، وفرادة بشرها، وإنسانية موقفها. ذلك أن منطق مهرجان
«السعفة الذهب» يؤمن أن «دم السينما لا يجفّ وهو خلاّق وجارف».
عليه، يُفَلسف مخرج «الجمال العظيم» (أوسكار الـ 2013) سورنتينو،
في «فتوّة»، دلالات خواتيم العمر: هل يتوجّب الركون إلى عطالة موت
ذاتيّ، ترقّباً للمَنُون؟ يتوسّل بطلاه الموسيقار فرد (البريطاني
مايكل كين) والسينمائي مايك (الأميركي هارفي كايتيل) روّاد منتجع
ثريّ في جبال الألب، لتحقيق نصر أخير. يُستدعى الأول لقيادة
أوركسترا في حفل ملكي بريطاني، ويقرّر الثاني كتابة فيلمه الختامي.
يقتبس مواطنه غاروني، في «حكاية الحكايات»، نصوصاً شعبية
لغمباتيستا بازيلي، مكتوبة بين العامين 1634 و 1636، صائغاً
فانتازيا من 3 فصول حول عائلة تعمل في سيرك، وملكة (سلمى حايك)
تدفعها غيرتها إلى إهدار حياة زوجها، وملك (فنسنت كاسيل) يقع ضحية
إغواء شقيقتين غامضتين.
عبر مجابهة مخرجة سينمائية وشقيقها لبلوى وهن قلب والدتهما الراقدة
على فراش الموت، يرصد المعلّم ناني موريتي، في «أمي»، مآلات آصرة
عائلية في مجتمع أناني ومادي. على منواله، يستدعي صاحب «اختطاف
ميشيل ويلبيك» (2014)، الفرنسي غيّوم نيكلو، قضاء عبثياً في «وادي
الحب»، ممتحناً أزليّة أبوة مع قرار زوجين (كاترين دونوف وجيرار
ديبارديو)، منكوبين بوفاة ولدهما في «وادي الموت» الأميركي، السفر
إلى هناك، وانتظار عودة ابنهما. هذا الأخير (الانتظار) يتحوّل إلى
رحلة تأمل ذاتيّ في عمل الأميركي غاس فِن سانت «بحر الأشجار»، حين
يلتقي أرمل أميركي (ماثيو ماكنوهي)، يسعى إلى الانتحار في غابة عند
سفح جبل فوجي، يابانياً قادماً للغرض نفسه، لتتنوّر رفقتهما،
فيمتثلان للحياة.
ثيمات عائلية
يأتي هذا الحَتَم الكوني بنبرة عبثية في عمل الإغريقي يورغوس
لانثيموس «جراد البحر» (لوبستر)، عن شعب مستقبليّ يواجه جور قرار
يحوّل أفراده إلى حيوانات تُطلَق في غابة وحشية، عندما يفشلون في
الارتباط بحبيب خلال 45 يوماً. فيما تصبح بطلة شريط المعلّم
التايواني هو شاو ـ شين، «القاتلة»، قرينة سينمائية لبطل لانثيموس
الذي يجد الحب، لكنه يبقى طريداً أبدياً، إذ تعشق الشابة الدموية
إحدى ضحاياه. فهل تكتفي بسفك الدم؟ الأميركي تود هينز يضع هذا الحب
في قالب صدامي تهتزّ لأخباره نيويورك الخمسينيات الفائتة، الواجدة
في علاقة سحاقية بين امرأتين عاراً. في حين ترسم الفرنسية مايوان
في «ملكي» صورة قاتمة لاستعادة شابة باريسية، إثر تعرّضها لحادث،
ذكريات علاقة غرامية بارت مع والد طفلها.
يختار الياباني كوري ـ إيدا هيركازو في «أختنا الصغيرة»، والنرويجي
يواكيم ترير في «أعلى ضجيجاً من القنابل»، والصيني تشيا تشانغ كو
«قد تبارح الجبال»، ثيمات عائلية باهرة، يجعلها الأول عنواناً
لتكافل شقيقات يكتشفن أختاً غير معلنة في مجلس عزاء والدهنّ،
ويتّخذها الثاني مقاربةً لصون ذكرى، عبر استعادة أب وولديه موت
الأم المصوّرة الفوتوغرافية الشهيرة (إيزابيل أوبير) بمعرض شامل.
أما الثالث، فيُشيد منها رؤية انقلابات صين معاصرة، على غرار عمله
الأخّاذ «لمسة الخطيئة» (2013)، مكوَّنة من مقاطع ثلاثة لحياتيّ
الشابين تاو ودونغ في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تتخلّى الأولى
عن حبيبها للاقتران بصاحب منجم ثري. لكن دونغ يكتشف، بعد عقود وهو
على فراش موته، أن حبيبته مطلّقة وابنها منفي. ونُقابل الفتى في
أستراليا في العام 2025، حيث أن الكلمة الصينية الوحيدة المتبقية
في قاموسه هي «أماه».
يتّخذ المنفى، في جديد الفرنسي جاك أوديار «ديبان»، بعداً عنفياً،
إذ يلعن مخرج «نبي» (2009) الحروب وتبعاتها، التي تدفع بمُقاتل من
تاميل (سريلانكا) وأسرته الصغيرة إلى منفاه الفرنسي، لينتهي حارساً
ليلياً في لهب ضواحي باريس. أما مخرج «حرائق» (2010)، الكندي دوني
فيلنوف، فيختار في «قاتل محترف» نصّاً سوداوياً قاسياً عن عميلة
أميركية تستأجر قاتلاً لملاحقة قطب مخدرات عند حدود المكسيك. زميله
المكسيكي الموهوب ميشل فرانكو يُقارب طامة الموت في «مرض عُضال»،
حيث تتحدّاه ممرضة عبر مواساة ضحاياه قبل غيابهم. الأسترالي جاستن
كريتزل يُضفي رونقاً ميلودرامياً مفخّماً على اقتباسه مسرحية وليم
شكسبير «ماكبث»، مع مايكل فاسبندر في دور المستبدّ، والفرنسية
ماريون كوتيار في دور الليدي ماكبث التي لن يغفر لها الدم آثامها،
فيرهن ضميرها إلى الأبد. نصّ الهنغاري لازلو نمش «ابن شاوول»
يستعيد سفك دمّ أوروبي في جريمة أخرى مرتكبة في محارق «أوشفيتز»،
حيث يعمل البطل مشرفاً على الجثث اليهودية، لكنه يفشل في إتمام
خديعة حاكها لإنقاذ ولده الوحيد من نيران الأفران.
14-05-2015 01:54
AM
لجان التحكيم
1ـ) «المسابقة الرسمية» الخاصّة بالأفلام الروائية الطويلة:
المخرجان الأخوان الأميركيان جويل وإيثان كون رئيسان (إنها المرّة
الأولى التي يتم اختيار مخرجين اثنين معاً لرئاسة لجنة التحكيم
هذه)، وعضوية الممثلات الإسبانية روسّي دي بالما والفرنسية صوفي
مارسو والإنكليزية سيينا ميلر، والمغنية والمؤلّفة الموسيقية روكيا
تراووري (مالي)، والمخرجان المكسيكي غيلّيرمو دل تورو والكندي
كزافييه دولان، والممثل الأميركي جايك غيلّنهال.
2ـ) لجنة تحكيم
Cinefondation
والأفلام القصيرة:
المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو رئيساً، وعضوية المخرجتين
اللبنانية جوانا حاجي توما والفرنسية ريبيكا زلوتوفسكي، والممثلة
البلجيكية سيسيل دو فرانس، والممثل البولوني دانيال أولبريشسكي.
3ـ) لجنة تحكيم «نظرة ما»:
الممثلة الإيطالية الأميركية إيزابيلاّ روسّيليني رئيسة، وعضوية
المخرجتين السعودية هيفاء المنصور واللبنانية نادين لبكي، والمخرج
اليوناني بانوس ه. كوتراس، والممثل الفرنسي طاهر رحيم.
4ـ) لجنة تحكيم «أسبوع النقد»:
الممثلة والمخرجة الإسرائيلية رونيت إلكابيتز رئيسة، وعضوية
المخرجة الفرنسية كاتيل كيلّيفيري، ومدير التصوير البريطاني بيتر
سوسشيتزكي، ومبرمجة أفلام في مهرجان تورنتو الكندية أندريا بيكار،
والصحافي والناقد البلجيكي بويد فان هويج.
14-05-2015 01:54
AM
المهرجان
يُعتبر مهرجان «كانّ» أبرز المهرجانات السينمائية الدولية، إلى
جانب مهرجاني البندقية (1932) وبرلين (1951).
في العام 1946، يُقرّر وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة حينها
جان زاي (الجبهة الشعبية) تأسيس مهرجان سينمائي يحمل اسم «المهرجان
الدولي للفيلم» لغاية العام 2002، قبل أن يحمل اسم المدينة. يتضمّن
عروضاً مختلفة في برامج متنوّعة، أهمها «المسابقة الرسمية»، من دون
أن يتغاضى عن بعض كلاسيكيات السينما، وتكريمات الدول المُصنّعة
للأفلام.
إلى جانب «المسابقة الرسمية» (هناك أفلام يتمّ اختيارها للعرض
الأول في العالم داخل المسابقة وخارجها)، هناك مسابقات وبرامج
أساسية أخرى:
1ـ) «سوق الأفلام»: أول سوق سينمائية في العالم يتمّ تأسيسها في
العام 1959. يصل عدد المُشاركين فيها إلى 11 ألف في أكثر من دورة.
2ـ) «أسبوع النقد»:تؤسّسه «النقابة الفرنسية للنقاد السينمائيين»
في العام 1962 باسم «الأسبوع الدولي للنقد» لغاية العام 2008، الذي
يشهد تغيير الاسم إلى «أسبوع النقد».
3ـ) «أسبوعا المخرجين»: بعد أحداث أيار 1968، يتمّ تأسيسه من قِبل
«جمعية مخرجي السينما».
4ـ) «نظرة ما»: للاهتمام بسينما أكثر أصالة وتجديداً وابتكاراً
وجرأة، يتأسّس هذا البرنامج في العام 1978 على يديّ المندوب العام
للمهرجان حينها جيل جاكوب.
5ـ)
Cinefondation:
جيل جاكوب نفسه، لشدّة اهتمامه بالمواهب الجديدة وباكتشافها، يُنشئ
هذا البرنامج في العام 1998.
مهرجان «كانّ» السينمائي الـ 68 (13 ـ 24 أيار 2015)
الفرنسية أنياس فاردا.. أول مخرجة تحصل على «السعفة الشرفية»
نديم جرجوره
«إنها أول مخرجة سينمائية تحصل على هذا التكريم». تُقال كلمات كهذه
لحظة إعلان نبأ منح المخرجة الفرنسية أنياس فاردا (مواليد «إيكسال»
في بلجيكا، 30 أيار 1928) «سعفة شرفية» عن مجمل أعمالها، في ختام
الدورة الـ 68 (13 ـ 24 أيار 2015) لمهرجان «كانّ» السينمائيّ
الدولي، أي قبل 6 أيام فقط على احتفالها بعيد ميلادها الـ 87.
السعفة نفسها ممنوحة سابقاً لقلّة: الأميركيان وودي آلن (2002)
وكلينت إيستوود (2009)، بالإضافة إلى الإيطاليّ برناردو برتولوتشي
(2011). أما مغزى الجائزة، فحاضرٌ في تعريف رسميّ لها: «إنها
الجائزة التي تُمنح لمخرج مشهور، يحتلّ نتاجه السينمائي مكانة
مرموقة في المشهد الدولي، لكنه لم يحصل على «السعفة الذهبية»
أبداً».
بعد 60 عاماً على إنجازها أول فيلم روائي طويل لها بعنوان «لا
بوانت كورت» (اسم شارع صيّادي سمك في
Sete،
تلك المدينة الفرنسية التي تعيش فيها المخرجة أعواماً عديدة من
طفولتها ومراهقتها)، ينتبه إليها كبار صانعي أهمّ مهرجان سينمائي
في العالم. عند تلقّيها النبأ، تقول، بسخريتها اللاذعة والمبطّنة،
إن عدد مُشاهدي أفلامها لم يقترب من ذاك الخاص بمشاهدي أفلامهم،
قاصدةً أولئك الحاصلين على السعفة نفسها قبلها.
«فنانة كاملة»
مُصوّرة فوتوغرافية. كاتبة سيناريوهات. مخرجة. فنانة تشكيلية.
باختصار، «إنها فنانة كاملة»، كما في تعليق نقدي لأوليفييه
دولاكروا (الصحيفة اليومية الفرنسية «لو فيغارو»، 9 أيار 2015).
يصفها دولاكروا بقوله إنها «فنانة كبيرة، تعمل في كل شيء تُغريها
حشريتُها ـ التي لا تشبع ـ بفعله عبر المشاريع الأكثر تفاوتاً فيما
بينها، وهي (المخرجة) تصنع منها الأفضل دائماً». هذا منسحبٌ على
غالبية أفلامها الروائية والوثائقية، كـ «كْلِيو من 5 إلى 7»
(1962)، و «إحداهما تُغنّي، والأخرى لا» (1977)، و «من دون سقف ولا
قانون» (1985)، و «جاكو من نانت» (1991) كأفلام روائية، إلى بعض
الوثائقيات المهمّة بصرياً ومعالجة درامية، كـ «جدران جدران»
(1981)، و «الآنسات بلغنَ الـ 25 من أعمارهنّ» (1993)، و «عالم جاك
ديمي» (1995). جاك ديمي (1931 ـ 1990) هو نفسه السينمائي المتزوّج
فاردا، بعد لقاء التعارف بينهما في العام 1958، ولهما ابن هو
الممثل والمخرج الفرنسي ماتيو ديمي (1972).
تُعتبر أنياس فاردا إحدى السينمائيات القليلات المنتميات إلى تيار
«الموجة الجديدة»، المنبثق من رغبة سينمائيين يُنجزون أفلامهم
الأولى المختلفة كلّياً عن أنماط الاشتغال حينها، مطلع خمسينيات
القرن الـ 20. اختلاف منوط بـ «التقنيات السينمائية الثورية
حينها»، كما بحنكة الشباب أولئك، المتمثّلة بتحويل صُورهم البصرية
إلى لغة اكتشاف أعمق وأهمّ في العلاقة القائمة بين تحوّلات المرحلة
الطالعة من نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وقيام
المخرجين جان ـ لوك غودار وجاك ريفيت وفرانسوا تروفو وإيريك رومر
وكلود شابرول وجاك أوستاش وفاردا بالتعرّف إلى السينما الأميركية،
بتفاصيلها وعناوينها وأساليبها المتنوّعة.
قبل السينما، تدرس فاردا التصوير الفوتوغرافي وتاريخ الفنّ. تعمل
في المجال الأول في «المسرح الوطني الشعبي» بإدارة جان فيلار. في
العام 1954، تستخدم وسائل واقعية في تحقيق أول فيلم لها
La Pointe Courte،
متعاونة مع آلان رينيه في توليفه: عبر حكاية ثنائي يأتي إلى الشارع
هذا لاستراحة، تتوغّل فاردا في ثنايا الحياة اليومية للمدينة التي
تُحبّ، مخترقة بعض الأبواب، وكاشفةً بعض المتاهات والنزوات،
ومتوقّفة عند بعض العلاقات الإنسانية المتنوّعة. «المجلة
السينمائية البلجيكية» (العدد 20، تموز 1987) تنشر بعض المكتوب عن
الفيلم، فترى أن هذا الأخير يكشف أن «السينما الجديدة كلّها لا
تزال تنشأ» فيه. يُضيف التعليق النقدي: «المميّزات كلّها الخاصّة
بالمدرسة السينمائية الشابة (الموجة الجديدة) تجتمع في الفيلم،
وآلان رينيه (صانع توليفة) لم يُخفِ أبداً تأثّره به».
الواقعية الشديدة في معاينة دقائق الحياة اليومية تتوضّح أكثر في
فيلمها الثاني «كليو من 5 إلى 7»: إنها الساعة الخامسة بعد الظهر
في باريس. كليو مغنية شابّة ولعوبة، لكنها مُصابة بقلق فظيع إزاء
احتمال إصابتها بمرض سرطاني. لديها ساعتان فقط لمعرفة نتائج الفحوص
الطبية. تذهب كاميرا فاردا معها في شوارع ومتاهات، بحثاً عما أو
عمّن يمنحها قدرة ما على غلبة القلق، ولو مؤقتاً. تستقيم علاقتها
بنفسها بفضل شخص لا تعرفه.
أمكنة السينما
أسلوب العمل هذا انعكاس لغليان المرحلة السينمائية في خمسينيات
القرن الـ 20 وستينياته. لم يكن سهلاً الخروج من فظائع الحرب
العالمية الثانية. المسائل كلّها مطروحة للبحث. «الانقلاب» المصنوع
باسم «الموجة الجديدة» أحد تعابير الانقضاض على الفظائع تلك. مثلٌ
أول: «الكائنات» (1966). اختيارات فاردا أمكنة التصوير جزءٌ من
صناعة الفيلم. لديها قدرة على تحويل المكان إلى فعل درامي، أو إلى
شخصية أساسية. جزيرة «نوارموتييه» (مقاطعة «بلد لوار» الفرنسية)
مناسِبَة لاستكشاف معنى التحوّل الملتبس، الحاصل في تلك المرحلة.
روائي يقيم في الجزيرة صُحبة زوجته الفاقدة عادة الكلام. يريد أقلّ
قدر ممكن من التواصل مع الآخرين. هناك مهندس مقيم في المنزل
المجاور. غرائبية اللحظة تدفع السكّان إلى عيش تحوّلات غير مفهومة.
الرجلان يستفيدان من معاينتهما الأحداث: أحدهما لكتابة رواية
فانتازية، والآخر لصناعة آلة تعينه على فهم ما يجري. مثلٌ ثانٍ:
«من دون سقف ولا قانون». هنا، تلتقي «الموجة الجديدة» (السينما) بـ
«الرواية الجديدة» (الأدب). الفيلم مهدى إلى ناتالي ساروت. التقيّد
بالقواعد الموضوعة من قِبل آباء «الرواية الجديدة» (ساروت وآلان
روب ـ غرييه وغيرهما)، يدفع فاردا إلى استخدام نبرة حيادية
بالمطلق، في مرافقتها شخصيات «لا تمثّل، بل تتكلّم». شخصيات تعيش
على هامش الحياة، أو تبحث عن ملجأ أو عن طعام. تلتقيهم المخرجة.
تتحدّث إليهم. هذا كلّه انطلاقاً من لحظة العثور على جثة شابّة في
حفرة، متوفاة بسبب البرد الذي يغلبها في نهاية عيش قاس.
تتعدّد الأمثلة. لأنياس فاردا أفلام وثائقية وقصيرة أيضاً. لها
تجربة أميركية (الفترة الأولى بين العامين 1968 و1970، والفترة
الثانية بين العامين 1979 و1981) تُفضي إلى تحقيق
Lions Love (1970)،
المتمحور حول كارلوس المتوجّه إلى المطار لاستقبال السينمائية
شيرلي كلارك. هناك امرأة تُدعى فاليري سولاناس تُطلق النار على
آندي وارهول. أصدقاء يعيشون، كل واحد منهم بطريقته الخاصّة، حالة
منبثقة من لحظة اغتيال جون كينيدي. بالإضافة إلى الوثائقي «جدران،
جدران»، عن «الرسوم الجدارية» (غرافيتي).
السينمائية المناضلة من أجل حقّ الإجهاض بحماية الطبّ والقانون
(إحدى الموقّعات على «بيان الـ 343» في فرنسا، المُطالب بتشريع
الإجهاض)، تلتقي جيم موريسون (1943 ـ 1971)، فيصبحان صديقين، قبل
أن تكون من قلّة شاهدة على موته في منزله الباريسي، فتتولّى دفنه
في المقبرة الباريسية المشهورة «الأب لاشيز». السينمائية نفسها
تستعدّ لنيل تكريم لها في «كانّ» الـ 68، منصرفةً بعده إلى عالمها
الأثير: السينما. |