ملفات خاصة

 
 
 

//ملف//

رحيل صباح.. العاشقة العابرة للأزمان

المدن - ثقافة

عن رحيل الشحرورة

صباح

   
 
 
 
 
 
 

منذ انطلاقة الشحرورة اللبنانية، وحتى رحيلها عن 87 عاماً، فجر الأربعاء 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، يتحفز كتّاب وصحافيون وفنانون لتوثيق "حياتيها"، الفنية والخاصة، وفهمهما والتعليق عليهما

وسعت "المدن" إلى إحاطة مكثفة بـ"الأسطورة" في مقالات عدة، هنا روابطها...

 

####

 

موت الشحرورة لم يعد شائعة

محمد حجيري

نادراً ما رافقت شائعات الموت، فنانة مثلما رافقت الشحرورة صباح، التي ماتت عشرات المرات في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، كأن لدى بعض الاعلاميين مشكلة في بقاء  فنانة تحب الفرح على قيد الحياة. كانت الشائعات تزيد في مراحل، كان لبنان يغرق في مآسيه وسواده، حتى المشعوذين لم يرحموا "شحرورة الوادي"، اذ كان متخيل موتها في صدارة توقعاتهم السوداء والكالحة، ربما ترافقت شائعات الموت مع تقاعد صباح الفني ودخلوها في مرحلة العمر المتقدم الذي اقعدها ولكنه لم يبعدها عن الأضواء والمجلات الملونة وحتى الصحف والمواقع الصفراء. كان مخزياً أن تقرأ صباح عشرات الأخبار عن موتها، وحين أعلن أخيراً عن رحيلها، فجر اليوم الأربعاء، كثيرون ظنوا أن الخبر شائعة جديدة، وانتظروا قليلاً حتى يتم نفي الخبر، لكن هذه المرة ودعت صباح الدنيا، وموتها لم يكن شائعة.

صباح، صاحبة التاريخ العريق في الفن المتعدد الأوجه، ولدت لعاشر من تشرين الثاني 1927 في بلدة بدادون. بدأت علاقتها بالفن حين قررت المدرسة تقديم مسرحية اسمها "الأميرة هند"، ورشحتها الراهبة المسؤولة عنها لأداء دور البطولة فيها، وكانت صباح في الرابعة عشرة من عمرها. راحت الراهبة تخفق لها يومياً خمس بيضات وتقول لها: "إشربي، فهذا سيفيد صوتك ويجعله قوياً". صدقتها صباح وراحت تشرب صفار البيض المخفوق، ومما ضاعف من ثقتها بنفسها أن بعض من حضروا تمارين المسرحية وشاهدوها، وهي تستعد لأداء دور "الأميرة هند"، شجعوها ومن بينهم الممثل الراحل عيسى النحاس الذي اعتزل التمثيل بسبب كبر سنه، ثم أصبح بعد ذلك يعتمد تأجير الملابس المسرحية كمصدر عيش، وهو أعجب بهذه الممثلة الناشئة فأحضر لها ملابس لدور الأميرة هند. عرضت المسرحية ولم يتقبل والد صباح اشتراك ابنته في الغناء. ثم قبل ذلك على مضض لأن المسرحية كانت تحت إشراف الراهبات، وجاراه في الرأي جدها الخوري لويس، وخال أمها المطران عقل وبقية أفراد العائلة

شاهد صباح، قيصر يونس، صهر الممثلة اللبنانية الأصل آسيا داغر التي كانت مشهورة في مصر، فاقترب من والدها قائلاً له: "حرام ألا تدخل ابنتك مجال السينما". ولما كانت موجة الغلاء على أشدها في فترة الحرب العالمية الثانية، وكانت تسعيرة النجوم قد وصلت الى أسعار خيالية، فسجل المنتج يوسف وهبي إنجازاً حين اكتشف صوت الفنانة نور الهدى، وكرسها بطلة في أفلامه. وأتت آسيا داغر إلى بيروت بحثاً عن نجمة منافسة، واستعانت في هذه المهمة بقيصر يونس موزع أفلامها وقريبها الذي كان يعرف جانيت فغالي، ووقع الاختيار عليها.

وصلت الصبية الى مصر برفقة والدها، وفي مقهى بشارع فؤاد الأول، ولد اسمها الفني "صباح"، وقد أطلقه عليها الشاعر صالح جودت. أحضرت آسيا داغر كبار الملحنين للإستماع الى جانيت وإبداء رأيهم بصوتها فكان إجماع على أن صوتها لا يزال غير مكتمل المعالم. الا أن المخرج هنري بركات وجدها صالحة للتمثيل السينمائي نظراً لخفة ظلها. كانت بداية صباح في فيلم "القلب له واحد" لا تبشر بنجاح كبير مستمر، كان صوتها غير ناضج، وقدرتها على غناء الألحان المصرية محدودة وتكاد تكون عجزاً. لم تكن ملامحها التي ظهرت في الفيلم ملامح ممثلة جميلة أو ممثلة مثيرة. كانت أشبه بملامح فتاة قروية، لا تستطيع الصمود في مدينة القاهرة. بعد فيلم "القلب له واحد" اتجهت صباح الى الأغاني الخفيفة التي تلحن بسرعة، وتؤدى بسرعة، ويسمعها الناس بسرعة وينسونها بسرعة، وسماها بعض النقاد في ذلك العهد "مطربة السندويش".

نجحت صباح في هذا اللون واتخذته شعارها الفني، وعقب الحرب العالمية الثانية تغيرت أفكار الناس وميولهم. وبدأت مطربة "السندويش" تجنح الى الأفول بعد النجاح والاشراق، وكادت في مرحلة أخرى أن تدخل طي النسيان لولا أن تداركت نفسها، فغيرت لون غنائها، وأطلت بالأغاني التي لحنها المصري كمال الطويل. فانقلبت صباح بأغانيه من مطربة مرحة إلى مطربة حزينة، وكشفت عن قدرات صوتها، وبدأت منذ ذلك الحين تتحول إلى مطربة بعدما كانت أقرب الى المنولوجيست

وكان صوتها يتجلى على حقيقته في الأغاني اللبنانية والمواويل الجبلية ذات الامتدادات الصوتية حيث ينتقل صوتها صاعداً من طرفه الثقيل الى طرفه الحاد وبالعكس، لقد انتقلت صباح من مونولوجيست خائفة من المستقبل الى مطربة راسخة

عندما سافرت صباح الى القاهرة لأداء دور البطولة في فيلم "القلب له واحد"، رافقها والدها وكان شديد السيطرة عليها، يتصرف بأموالها، ويوقع العقود السينمائية عنها. وهي وصفته في إحدى اللقاءات التلفزيونية بـ"القاسي"، وأضافت أنه سبب لها عقدة دفعتها إلى الزواج أكثر من مرة لتثبت لنفسها أنها امرأة مرغوبة، بعدما دأب والدها على تذكيرها بأنها ساذجة. وما إن بلغت صباح السن القانونية، حتى هربت من منزل الأب، لتتزوج من نجيب الشماس، الذي لم يكن أقل من الأب في فرض القيود عليها وحرمانها من مكاسبها. ومع أنها رزقت منه إبنها الوحيد، صباح، لم تستطع الاستمرار في العيش معه. كان نجيب شماس في عمر والدها، قبلت به ولم تختره. وهو اختار طرابلس لإقامته، وهي لا تستطيع العيش بعيداً من العاصمة والقاهرة، فطلبت الطلاق لأنه منعها من السفر الى القاهرة لتصوير فيلمها "سيبوني أحب".

بعد طلاقها من نجيب شماس، واقفت صباح على الغناء في ملهى طانيوس في مدينة عاليه، وكانت تسعى إلى أن تكون اطلالتها بمثابة مفاجأة للناس والمهتمين بالشؤون الفنية. في هذه الفترة سرت شائعة حب ربطت بينها وبين أحد أثرياء العرب، وبالفعل لم يطل الأمر حتى تزوجت صباح من الثري الكويتي الشيخ عبدالله المبارك، ودامت العلاقة أسابيع محدودة.

اعتادت صباح أن تغني، واعتاد أن يرافقها مع الفرقة عازف الكمان أنور منسي، ومن خلال اللقاءات المتتالية، كان أنور يبادل صباح الإعجاب الذي تحول في ما بعد الى حب وزواج، ورزقت منه ابنتها هويدا، وهي اختارت اسمها نسبة إلى أغنيتها اللبنانية "يا هويدا هويدلك". غير أن هذا الزواج انتهى أيضا بالطلاق لأسباب، منها ان أنور كان يحب المقامرة والسهر ويهمل البيت، ويضرب صباح عندما ترفض أن تعطيه المال اللازم للقمار. بعد طلاقها من أنور منسي، طلبت أن تلعب البطولة في فيلم "امرأة وثلاثة رجال"، الذي ظهر فيه أول مرة المذيع أحمد فراج، وفي أثناء وجودها في لبنان، سرت شائعة تقول بأن صباح ستعود الى زوجها الأول. لكن ما أن عادت الى القاهرة حتى تبددت الشائعة، لتنتشر شائعة أخرى تقول بأن قصة حب تجمع بينها صباح وأحمد فراج توجت بالزواج. سارع الإثنان إلى نفي الخبر لكن القصة كانت حقيقة، وصباح وأحمد تزوجا. ومنذ الشهر الأول، بدا لها الاختلاف بين عقليتيهما، فهي فنانة وهو متديّن. وقد طالبها بعدم القيام بأدوار ساخنة في السينما وإرتداء الملابس المحتشمة، والغاء رقة الصوت من أغنياتها، والابتعاد عن الغنج والدلال في تصرفاتها، وعدم تقديم المشروبات الروحية لضيوفها. وبعد ثلاث سنوات، تم الطلاق بين صباح وأحمد في ربيع 1963.

عادت صباح الى لبنان، لتستقر فيه، وتشارك في عدد من المسرحيات الغنائية التي كانت تقدم في بعلبك وبعض المسارح في المناطق "كالشلال" و"القلعة"، أو لتشارك في بعض الأفلام السينمائية. وفي مطلع أيار/مايو 1967، استيقظت بيروت على شائعة خبر زواج صباح ورشدي أباظة من دون مقدمات. في برنامج "سيرة الحب" مع الكاتبة الكويتية فوزية الدريع، أكدت أنها أحبت رشدي أباظة كثيراً لكن لأسباب تتعلق بشراهته في الشرب، لم تتحمله، أما في حالاته الطبيعية فكان يعاملها أحسن معاملة، وكان يرسل لها الورد الأحمر، فآخر كلمة نطقها رشدي أباظة قبل وفاته هي كلمة صباح.

في صيف 1970 تزوجت صباح من النائب جو (يوسف) حمود، وكان مختلفاً عن كل الرجال الذين عرفتهم في حياتها.  كانت أول اطلالة اجتماعية لهما في حفلة اقيمت في فندق "شبرد" في بحمدون، وكانت المناسبة تقليدها وسام الاستحقاق اللبناني برتبة فارس. عاشت صباح أياماً صعبة بعد طلاقها من النائب جو حمود، وكانت الصعوبة تكمن في أنها كانت خلالها بلا عمل مسرحي، ولم يكن ممكناً لها ان تعد مسرحية جديدة بعد الانتهاء من عرض مسرحيتها "الجنون فنون". في تلك المرحلة طلبت منها صديقتها ايفيت سرسق أن تشارك "فرقة السيغال" بغنائها، خصوصاً ان الفرقة تقدم حفلات كثيرة في كل المناطق اللبنانية. فوافقت صباح لأنها وجدت نفسها أمام عمل فني متجرد يسليها ولا يرهقها. وبدأ العمل، ومن خلاله تعرفت الى وسيم طبارة أحد نجوم الفرقة البارزين. ولم يضيع وسيم الوقت، فأعلن عن حبه، ورغم ما أبدته من أسباب وأعذار لتصرف إهتمام وسيم بها، تحول دون الحب، الا أن الزواج تم في 18 آب/أغسطس 1973. مضت سنوات على زواجهما، فبدا أن الحب بينهما هدأ بعض الشيء. وفجأة، ومن دون سابق تصور أو تصميم، أعلنت صباح انهاء علاقتها بزوجها وسيم تمهيداً للطلاق.

أما زواجها من الفنان فادي (قنطار) لبنان الذي كان يصغرها بأكثر من عشرين عاماً، فانعكس عليها سلباً، فقد تم الزواج في لندن بتاريخ 18 آذار/مارس 1987. وبعد مرور حوالى العشرين عاماً على زواجها الأخير انفصلت صباح عن فادي لبنان في عيد العشاق في شباط/فبراير 2002 واعتبرت ان زواجها منه كان غلطة لن تسامح نفسها عليها.

صباح المرأة، الدون جوان الأنثى، الوجه الآخر لفيروز، هي التي عاشت الحياة على عواهنها الجميلة. ولو وفّقت بـ"رعاية" فنية شاملة، بما يشبه شخصيتها، كما توفر لفيروز، لربما زادت فرصها في التفوق. تقول في سياق وصفها لعلاقتها العاطفية "قصة الحب اجمل من الحب". تعتبر إن سبب زيجاتها الكثيرة أنها كانت تحترم مكانتها كمطربة معروفة ولم تكن تسمح لنفسها ولا لمكانتها بإقامة علاقة "محرمة" مع أحد عشاقها. تختزل تاريخها في كل مرة تظهر فيها على الشاشة بالحديث عن زيجاتها المتعددة فقط، تعترف صباح بأنها لم تكن محبوبة من أي من أزواجها وتقول: "أحببتهم جميعاً، لكنهم اعتبروني مدام بنك.. لم يحبني أحد".

صباح صاحبة السيرة الزاخرة بالتناقضات والهواجس والشائعات، تشبه ألف ليلة وليلة بأخبارها المرة والحلوة، الفرحة والتراجيدية، الرصينة والفضائحية، المرأة العادية والقريبة من رجالات السلطة. كانت تتمتع بشباب دائم وحاولت أن تعاند الزمن في سنواتها الأخيرة. عرفت صباح بأناقتها الدائمة وبشبابها الدائم... قالت صباح ذات مرة في مقابلة صحافية: "قضيت عمري سجينة بشكل ملون، وإطار لمّاع، وأناقة مفرطة". وكتب حازم صاغية في ملحق "نوافذ" في جريدة "المستقبل" مقالاً عنوانه "مغنيات": "صباح شيء آخر. فهي أقرب ما تكون الى "مهنة" الغناء، بمعنى الصلة بالمسافة بين الصورة التي يصنعها الدور، وبين حقيقة الشخص نفسه. تصنع حياتها في ضوء ما تتطلّبه المهنة. هكذا، مثلاً، تبالغ في الزيجات والطلاقات، كما لو أن "الصورة" هي المثال الذي يُسعى إليه في حياة تُعاش حقاً. وصباح التي "تعبد" الرئيس كميل شمعون، ولم تكن مقربة من الرئيس (الجنرال) فؤاد شهاب، كانت ولا تزال تحب العسكر والحكم العسكري، وهي نسيبة "شحرور الوادي" القومي اللبناني "الانعزالي"، قدمت أغنية لعبد الناصر منعتها الإذاعة المصرية بسبب كمّ الدّلع الذي تحويه وهي بعنوان: "عيونك...ياه"، وبعدما غنتها لعبد الناصر في إحدى حفلاتها بثّتها الإذاعة المذكورة بطيبة خاطر!".  

ساهمت صباح أيضاً في انتشار الأغنية اللبنانية، ويعود الفضل لها في انتشار الأعمال الفولكلورية اللبنانية في الوقت الحاضر إلى جانب فيروز. ولأن كانت فيروز غالباً في دور المطربة السرية التي لا يعرف الجمهور أسرار بيتها، ولا تصرح للصحافة بذلك، وبالتالي لا يهتم الجمهور إلا بصوتها، في سياق مختلف كانت أسرار صباح مطروحة مكشوفة، وأخبارها رائجة مثل أغنياتها

قدمت صباح عشرات المهرجانات والمسرحيات، ضمن مهرجانات بعلبك وبيت الدين، وجبيل وغيرها، ومنها "موسم العز"، "دواليب الهوا"، "القلعة"، "الشلال"، "فينيقيا"، "شهر العسل"، "ست الكل"، في آذار/مارس 2003 اعلنت هجرتها الى اميركا لتعيش الى جانب ولديها وشقيقها وعائلته، نظراً لضيق سبل العيش في لبنان وشعورها بالوحدة. ورغم الثروة المالية التي حققتها صباح في مشوارها الفني، صارت صباح وحيدة في غرفة في فندق.
ولا مجال هنا لسرد كل تفاصيل حياة صباح، الفنية والشخصية، فهي تحتاج مجلدات
...

 

####

 

دُمّر مزاج الستينات.. ففازت فيروز على صباح

فادي العبد الله

مضى سبعون عاماً على ظهورها الأول على شاشة السينما المصرية، فيلم "القلب له واحد" المصور، بحسب ما يروى، العام 1944 والمعروض في السنة التي تلتها. كانت قاصراً آنذاك، لكنها غنت للسنباطي، كبير الملحنين، مثلما غنت لاحقاً لكل الملحنين البارزين في مصر ولبنان، من محمد فوزي وعبد الوهاب وفريد الأطرش وبليغ حمدي إلى الرحابنة وفيلمون وهبي. كانت السينما المصرية آنذاك تبحث عن امرأة مغنية قادرة على ان تشكل النجمة الجديدة، وكانت اللبنانيات مرشحات دائمات، فاشتهرت صباح ونور الهدى، وظهرت نجاح سلام قليلاً مع محمد سلمان، في حين كانت زيارات مغنيات آخريات كوداد عابرة

والحق أن صباح جسدت تماماً صورة المرأة اللبنانية في عيون المصريين، ببياضها وشقرتها كما بتحررها وغنجها وجرأتها، مغناجاً من دون براءة شادية مثلاً. ربما كان هذا سبباً لعودة صباح إلى لبنان نهائياً في آخر السبعينات حين بلغت الخمسين من السنين، بعدما كانت أقامت جسراً بين القاهرة وبيروت، محققة انجازاً مذهلاً في اقامة مسيرتين ناجحتين فنيتين شبه مستقلتين آنذاك ما بين السينما المصرية والأوبريات المسرحية اللبنانية. وربما كان هذا أيضاً سبباً لبقاء محبتها الراسخة في مصر، خلاف ما صارت عليه الحال في لبنان.

في لبنان، كانت الشحرورة، الطالعة من وادي شحرور، عالقة في منافسة طيلة عشرين عاماً مع فيروز، الصاعدة بعدها بعقد من السنين. ورغم تعاونها مع الرحابنة، إلا ان هويتها ظلت مختلطة ما بين الغناء الجبلي والشعبي اللبناني وبين الأغنيات السينمائية المصرية، ولم يبد عليها توجه نحو الأغنية الرحبانية الرومانسية التي شكلت صورة فيروز المنزهة عن الزمن وعن الرغبة.

على العكس من ذلك كانت صباح، ذات الصوت الهائل الذي لا يهاب أحداً ولا حتى وديع الصافي، تحيا باستمرار في لحظتها الحاضرة وترفض تعليق الزمن أو الابتعاد عنه. لهذا كان هناك مجال واسع للغناء الزجلي وبهوراته، ومجال أوسع للضحك والنكات في أغانيها، كلاماً ولحنا لا سيما مع فيلمون وهبي، مثلما كان هنالك تعلق بحقيقة البلاد والعيش لا بصورتهما الموهومة. ففيروز، إن غنت لمشغرة، بعثت بها إلى زمن تأسيسي لا يطال، مثلما تحول الجنوب أرضاً اسطورية موهومة، وإن غنت لحبيب (عدا أغانيها المتأخرة مع ابنها زياد) تحولت أغانيها، صوتاً وكلاما ولحنا، بحثاً عن تنزيه الحب عن كل رغبة وغريزة وجسد. على العكس من كل ذلك كانت صباح، إن غنت لبيروت، عددت أحياءها حيّاً حيّاً، من البسطة إلى الأشرفية مروراً بالصنائع وباب ادريس، وإن غنت للبنان حتى في أغنية تزعم الرغبة في دزينة من العرسان، عدّدت قراه ونواحيه، ناحية ناحية، من الأرز إلى سوق الغرب فمغدوشة ويحشوش (على شاكلة وديع الصافي). كذلك كانت صباح عاشقة وغلبانة في مصر، لكنها كانت أيضاً تلك التي تغني "الله يقصف عمر الحب وعمر ال بتصدق رجال" وتغني "جوزي ما بيلفي عالبيت". وهي التي توازن غناءها حين يحن إلى الضيعة باستذكار الفقر وعناء الحياة فيها ورغبتها في حياة المدنية ورفاهها (كما في مغناتها مع وديع الصافي). وهي التي، إن غنت لابنتها، لم تحاول ان تنيّمها برتابة الايقاع، بل سألتها "أكلك منين يا بطة" أو تغنت بخفة دم وروح صبيتها الحلوة

وهي من يدرك حرقة الرغبة وفورانها، فتدعو عبدو كي يتزوج ويتركها مثلما تدعو عبود إلى أن يرقّصها ويغمزها. حتى في أحاديثها الصحافية ورواياتها عن مذكراتها، التي كتب عنها قبل سنوات محمد أبو سمرا قراءة سوسيولجية لافتة، كانت الصبوحة دائمة الصراحة ومفاجئة الجرأة، في اعلان حبها لنفسها ولأغانيها، وفي حديثها عن الجنس والنزوات وإعجابها بجمال الرجال من دون تخفي الفنانات العرب عموماً وراء الكلمات الوسيعة الفارغة. وفي علاقتها مع الرجال كانت الصبوحة الدلوعة فائقة الكرم، ليس فقط بالمال، بل أيضاً بالشهرة، فمن سيذكر سعادة النائب جو حمود، أو الفكاهي وسيم طبارة، أو الراقص فادي لبنان، لولا أن صباح ألقت عليهم بعضاً من نجوميتها وألقها، وأبت أن تختفي يوماً خلفهم مثلما رفضت أيضاً اخفاءهم مثلما فعلت أم كلثوم.

في نهاية الأمر تبدو صباح محبوبة الجماهير حقاً، لكن هذه الجماهير تحب صباح أكثر من أغانيها بعكس تعاملها مع فيروز. والمقارنة بينهما حسمت لصالح فيروز في آخر السبعينات، لا لصالح الصوت بل لصالح الدور الذي تؤديه فيروز. فصباح لم تصلح أمّاً كفيروز الوطنية، ولا حبيبة منزهة عن الزمن، كما لم تستطع صباح بسبب هويتها المصرية/اللبنانية، وأدائها الضاحك والساخر والصريح، حسم تلك المنافسة حين كانت في عز نجوميتها. الأمر تطلب حرباً كاملة دمرت المزاج اللبناني الستيني، كي تفوز فيروز، التي لم تكن لتربح أمام من تفوقها جمالاً وصوتاً وحضوراً وغواية وشعبية وشهرة ونجومية سينمائية. لماذا تم تتويج فيروز إذاً، بالتحديد في لبنان؟ أولاً بسبب مسألة الهوية التي صاغها الرحابنة والتي كانت مثار انقسام لم ينته إلا بوصول الحرب إلى مرحلة افلاس مشاريع الجميع وحنين الكل إلى وهم الهوية بمفاتيحها الرحبانية التي لا تكتفي بالغناء الجبلي أو المصري، اللذين أدتهما وفضلت بينهما صباح، بل تزعم تلك الهوية السيطرة على تيارات متنازعة (من البيزنطي إلى الحلبي إلى الأوروبي، فضلاً عن المصري واللبناني الجبلي) ودمجهم في مشروع واحد. ثم إن زمن الحرب كان زمن الحاجة إلى صورة أم حاضنة مثلما كان زمن الحاجة إلى التفجع والتراجيديا الفيروزيين، في وقت كانت قدرات صباح الصوتية تتراجع فيه كما جاذبيتها بحكم العمر، بحيث بات حضورها يذكر بماضيها الجميل، ويناقض حاضره، حتى انسحبت تماما. وإلى الفصام اللبناني وعقدة "الفن الراقي" الذي تعتبر فيه الكلمة "الشاعرية" المعيار الفصل، وهنا تميل الكفة لصالح الرحابنة وسعيد عقل في مواجهة عبد الجليل وهبي وشفيق المغربي.

ينبغي أن نضيف أيضاً أن الجماعات اللبنانية غير الجبلية لم تكن بالضرورة مؤهلة لاستقبال الجرأة الصباحية المتحررة، لذا ستظل صباح رمزاً لتحرر الجبل اللبناني آنذاك مجتمعاً وأخلاقاً كما لحدود توسع هذا التحرر خارج منبته إلى الجماعات اللبنانية الأخرى. ينبغي أن نضيف أيضا انتهاء عهد الدلع الذي هو السمة الصباحية الأساسية، باندلاع العنف وانفلات الغرائز الهوجاء وانفلات الآمال الخلاصية معاً، كل تلك عوامل آذنت بانتهاء المنافسة الصباحية الفيروزية لصالح الأخيرة، لكن أحداً لا يعلم الغيب والآتي.

والدلع الصباحي مربك للذكورة العربية عموماً. فهو، وإن لم يقع في الحرية الجنسية (رغم فيلمها الباريسي وأجساده شبه العارية)، إلا أنه يموضع الغواية على حافة التحرر الغامضة. فدلع صباح دلع المرأة العارفة بجمالها والواثقة بغوايتها، بلا خجل، إلا المصطنع منه، للايحاء للرجل بدور ما وهي تعلم تماماً كيف يسعها أن تتلاعب بالرجال، لا أن تتحايل عليهم. كما أنه دلع المرأة المتقبلة لجنسانيتها، دون محاولة لاخفائها أو تعليقها. هي صباح المرأة التي تدعو الرجل إليها، بالضحكة والعيون والكتف العاري، فلا يسعه إلا الارتباك، كعبد الحليم حافظ في مواجهتها. أي صدى يردده صوت الرغبة المعلنة في مخيلة عربية تخاف شبق المرأة وتوكيده؟ أليس هذا أيضاً احد اسباب اختلاف جرأة شعراء صباح المصريين عن أندادهم اللبنانيين المنفتحين على لهو الحياة وضحكها؟

من كل ذلك ولدت صباح، هذه المحبوبة المرذولة، المنظور لها بإعجاب وبابتذال معاً، كما لو انها مارلين مونرو لو لم تمت شابة. هذه صباح، "مارلين العرب"، التي عشقت ذاتها وأغانيها وفساتينها ومتعتها وأبناءها، والتي وهبها الدهر حياة مديدة استمتعت فيها وبذخت قدر ما شاءت وطاب لها. لكنها باصرارها على حقها في الأضواء والمتعة حرمتنا لذتنا الأنانية في التفجع على سرعة عبور الجمال كما ذكرتنا مرة تلو أخرى بأجسادنا وبفعل الزمن فيها، وتالياً بالحاجة إلى الحنو الدائم عليها والرفق بها واشباعها متعاً بما يليق بها، وإن على حساب صورة المرء نفسه عن ذاته. مثل هذه الصباح تستحق ان يقيم دلعها فينا من دون ذبول، لأنها تحرض اجسادنا علينا مطالبة بدلع متواصل لا تقطعه إملاءات الرقابة المتعففة والطهرانية.

* رحلت الفنانة صباح فجر اليوم، الأربعاء 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، عن 87 عاماً.

 

####

 

صباح على جبهات القتال

عمر حرقوص

لم ترتبط صباح بذاكرة الشبان اللبنانيين خلال معارك الحرب الاهلية بصور الخطف والقتل والتحريض على القتال. فهذه المرأة الجميلة بلون شعرها الذهبي كانت تعطي صورة الفرحة دوما وبشكل غريب، وخصوصاً في تلك المرحلة. ولذلك لم يكن للحزن مكان في الوقت الذي تحضر به بصوتها. فهذه الإنسانة التي تمثل المرأة المتحررة من ضوابط المجتمع لا يمكنها أن توافق على الحزن بسبب الموت، فهي التي غنت كثيراً وابتسمت أكثر لا تعطي مجالاً لانتصار الحزن على صورتها الضاحكة.

في الحرب الأهلية وحتى بعض السنوات التي سبقتها كانت صباح بالنسبة للشبان الذين ”يناضلون“ ويحملون السلاح إمرأة غير محبوبة، يرفضون الاستماع إلى أغانيها لأسباب عديدة، مرة لأنها كالفنانة المصرية أم كلثوم والتشبيه غير معروف سببه.. ومرّات لا يطيقونها لأنها تزوجت ”فلان الفلاني“ وطلقته وتزوجت غيره وطلقته وتزوجت غيره وطلقته إلى نهاية السيرة، من رشدي أباظة إلى فادي لبنان.. وفي الحرب كرهها المقاتلون ومقربوهم لأنها تغني الضحك والفرح والتلفون البيروتي فيما القصف يلاحق الناس إلى جانب العبوات الناسفة، لتثبت لاحقاً الايام أن الحرب كانت جرعة غباء كافية لانهاء البلد.

صباح تلك كُرهت وحُقد عليها أكثر وبشكل مدمر في مراحل أخرى، يوم وضعت يدها بيد الرئيس المصري محمد أنور السادات بعد سنوات قليلة جداً من توقيعه اتفاقية ”كامب دايفيد“. وكذلك بعد حصولها على الجنسية المصرية، إذ استفز الجميع لتخليها عن لبنان "يا قطعة سما".. حتى تحالف ”جبهة الرفض والممانعة“ صار لبنانوياً في تلك اللحظة ويكره كل شيء مثل ”شرشبيل“ في مسلسل ”السنافر“ الكرتوني وخصوصاً ”الصبوحة“.. ولكنه مثل كل جبهات الصراع اللبناني في ”الشرقية“ و”الغربية“ كان مغروماً بالفنانة فيروز، التي وحدت المتقاتلين وجعلتهم يؤمنون ببنادقهم ورصاصهم وقناصيهم ورماة القذائف على رؤوس الناس.

في سنوات الحرب اللاحقة، استطاعت ”الصبوحة“ أن تتواصل مع الناس في مراحل الهدنة والسلم، تغني فترتفع أصوات السيارات ومحال بيع ”الكاسيت“ والمقاهي بأغنياتها، تصفق بيديها فيصفق الناس بحركتها العجيبة. لم تتوقف عن اثبات حضورها كل مرة خف فيها صوت الرصاص، في تلك اللحظات كانت هي الأفضل والمحبوبة أكثر، استطاعت أن تربط أغنياتها بمراحل الهدوء والسلم.. فيما تحولت ”فيروز“ إلى رمز لـ"الشؤم" خلال ساعات النهار والليل الذي تغطيه الاشتباكات والعبوات الناسفة، حيث تتناقل الإذاعات الحزبية وإذاعات ”الاف ام“ أغنياتها ومسرحياتها وخصوصا مسرحية ”جبال الصوان“، التي حفظ الجميع تفاصيلها وكرهوا ساعات الاستماع إليها.

صباح ورغم مقاطعة أكثرية إذاعات المنطقة ”الغربية“ لأغنياتها استمرت بحيادها بالنسبة للجميع. أغانيها المفرحة لم تتبن موقفاً سياسياً مع إحدى القوى المتحاربة. كانت تتهرب من إعطاء رأي محدد بما يحدث في ظل صراع دولي إقليمي داخلي تحوّل فيه الجميع إلى حجارة ”داما“ تتنقل حسب الأوامر القادمة من خارج البلد. وكذلك لم تكن الأحزاب والقوى اللبنانية المسيحية والمسلمة تتبنى ”الصبوحة“ سياسياً كما تبنت هذه الأحزاب ”فيروز“ وأغنياتها. فصباح التي عاشت الحياة بمرح حتى الثمالة لا يمكن للأحزاب أن تتبناها، وهذه الأحزاب رغم مشاريعها الضخمة بقيت تمثل العلاقات القديمة في مجتمع شرقي محافظ. علاقة الأحزاب مع صباح كانت على خلاف علاقتها بفيروز التي تمثل المرأة الشرقية المنزوية في المنزل، تؤدي واجباتها كاملة بلا أي صوت، ولا أحد يعرف مشاكلها مع زوجها ولم تقم بالانفصال والطلاق علنا عن الرجال كما كانت تفعل "الصبوحة".

في السلم داخل الحرب وخارجها كانت صباح صوتاً ”ملعلعاً“، أي انها ارتبطت بالهدوء والتنقل في المناطق اللبنانية، شوارع بيروت والمنارة وطرق بعيدة عن العاصمة. هي نفسها التي غابت نهائياً في ساعات القصف، نجحت بأن تكون نموذجاً جميلاً لحياة الناس بعيدا عن الموت.

صباح المرأة التي تصنع الابتسامة لم تتضايق يوماً من النكات الجميلة والسخيفة التي تحدثت عن عمرها وعلاقاتها وأزواجها، كانت في مقابلاتها تضحك وترفض الانهيار أمام الشائعات، كأنما هذه الحياة السعيدة لا يعرف سرها إلا هي. صباح الحيادية رحلت، تركت كل شيء لأنها كما ولدت لم تكن تملك شيئاً، ذهبت إلى الفرح وتركت "عزرائيل"، المقيم الدائم في بلدها، ينتصر عليها هذه المرة بعدما ضحكت طويلاً من كل شيء حتى الثمالة.

 

####

 

بلد "ذو وَجه" صباحي.. انتهى

روجيه عوطة

أول ما يتبادر إلى المرء عند سماع خبر رحيل الفنانة صباح، هو السؤال عن وجهها. ماذا حل به في لحظة موتها؟ فقد دأبت "الشحرورة" على الإعتناء به، كأنه المحرك الجمالي لكل قدّها، ملّسته، وليّنته وكوَته، ثم رتبته، ومدته، وأوثقته، وفي ما بعد، شدته. مزاحاً، انتشرت قصة نزوحه من مكانه، تدحرجه بين الأعضاء، واستقراره في مكان مغاير لمكانه الرأسي. "سبعت الكارات" قالت صباح في إحدى مقابلاتها، متحدثة عن زيجاتها المتعددة، و"تسبيع" الحِرف العاطفية، حباً وخيانة، استلزم منها أن "تُصَفِر" وجهها، أن تغيره صفراً بمقدوره، ببساطة، أن يحوي كل الأرقام، ولا يحويها بالفعل نفسه. إنه صراعها مع الزمن، الذي يمثله عمرها، إذ تزاحمه على الجسم، وتتركه محاصراً في ميدان معين، حيث باستطاعتها أن تكون "امبراطورة" عيشها.

المحدق في الصور الأخيرة لصباح، يلاحظ أنها دخلت في مرحلة ذوبان الجلد، الذي بدا، في أحد تقارير قناة "الجديد"، رقيقاً وسهل التقشير. كانت الصورة تجزم في اقتراب الفنانة من ذروة التنافس مع سنّها، وتؤكد أن الشخصية-الأسطورة تمضي ما تبقى لها من ألقٍ، قبل أن تنطفئ. ثمة حزن في كل ذلك، يحضر هذا الشعور وراء إشراق صباح، فهي تكلمت مرةً عن وحدتها، ومرات عن حزنها من جراء أمرين، وفاة أختها وحرب لبنان

لطلما شكلت، بغنائها وتمثيلها "وجه" البلاد، الذي اتفق في ميثاقه الوطني، على أنه "ذو وجه عربي"، مرة، يتقلص، وحيناً، يُكبت. لا يعرف كيف يبرزه جيداً، ولا كيف يخفيه. على عكس نجمته، التي قررت، منذ بدايتها، أن تطلق العنان لوجهها، مخضعة إياه للعمليات الجراحية، كي ترسخه على حال من الريعان والإبتهاج، وليظل مطابقاً لوضعه في ستينات القرن المنصرم

"لا، الحرب لم تقع"، كأنها تقول الصبوحة، و"أَلَقي من ألق البلاد، وجمالي من جمال سويسرا الشرق". إلا أن الألق يتحول أرقاً، والجمال ترهلاً في البروز، والحالان ينمّان عن الهجس بمنيّة مداهمة.

وقوع الحرب، وموت الأخت، وخسارة الأصدقاء، وخيانة العشاق... كل هذه الوقائع، تتلفقها صباح بوجهها، تنفيها به، وعندما تغني، تستمر في فعلها هذا، ليكون صوتها جزءاً من الوجه، الذي تلفظ كلماتها عبره. أغنية صباح المرئية، غير المسموعة، هو وجهها، الذي حاولت أن توازن بينه وبين الصوت، التعامل معه كأنه حنجرة ثانية، أو كأنه هو الحنجرة. لكنها، يوم قررت نفي شائعة موتها، أطلت بصوتها فقط، فكرمتها قناة "أم.تي.في" كمغنية، ككائن صوتي، ما عاد من الممكن أن يداري صورته البتة، رغم كل محاولاته، التي بذلها على طول عقود سابقة

اختارت صوتها لتنفي خبر موتها قبل أن تموت، ولتحجب عنا، كمشاهدين، أرقها، ولتكفل لنا أن لبنان لا يزال موطناً جديراً بالبقاء في رحابه. لقد استعانت بسلاحها الأخير، بالصوت، يوم، عرفت أن وجهها نضب. صباح لا تموت دفعة واحدة بل تدريجياً. الوجه تميته الإشاعة، الصوت يتحلل إثر الخشونة، ثم تتوقف باقي أعضاء الجسم.

رحلت صباح في نومها. وصلت إلى تسوية مع الموت، عقدت اتفاقاً معه، يفيد مجيئه في حين نعاسها، وليس في لحظات أرقها. تنازلت عن وجهها لصالحه، فأعطاها فسحة من النوم اللانهائي. بذلك، خسر المهتمين بها دورهم كمشاهدين، وظلوا مستمعين فقط. يعيدون الإصغاء إلى أغانيها، وإذا شاهدوا أفلامها، يكترثون بصورتها من جهة صوتها، عارفين أن الحزن يلفهم، وأن الحرب كانت قد وقعت في البلاد

مات صباح لبنان، غاب وجهه، وانهارت آخر قلعة لنفي وقوع الحرب. ربما ستحتل مباني الإقتتال اللبناني مكانها، برج المر مثلاً. لا أذكر، في هذا السياق، مَن هو المقاتل، الذي قال في إحدى مقابلاته، أنه حين يمر بالقرب من ذلك البرج، ومن المباني المدمرة، يُصاب بالنعاس، لكنه لا يتمكن من النوم، لأن الحرب اندلعت ظهراً. هكذا، مع موت وجه صباح، باعتباره مَعلَماً من معالم ما قبل الحرب، تبقى معالم الحرب فقط، ويتستحيل أرق وجهها قلقاً فوق وجوهنا، التي لا نوم لها، ولا أرق. إنها وجوه فقداننا للفقدان.

 

####

 

صباح التي فتحت ذراعيها للإعلام.. فلم يردّ التحية بمثلها

نذير رضا

بدأت صباح حياة جدلية، وأنهتها بالجدل نفسه. فتحت ذراعيها للإعلام، وتعاطت معه بشفافية، فساهم في تكريسها "ديفا" على الساحة الفنية.. لكن الإعلام نفسه، كسر هالتها خلال السنوات العشر الأخيرة، وكرّس صورة مغايرة لها: صورة الفنانة العجوز التي ينتظر كثيرون موتها، ويطلقون الشائعات عليها، فتسخر من الشائعات معلنة تمسكها بالحياة.

لم تضع صباح في يوم من الأيام استراتيجية إعلامية لنفسها. تعاطت معه بعفوية وبرحابة صدر. عاندت عمرها، وأباحت ظهوره في الصور الأخيرة. صورها، بجميع أحوالها ومرحلها العمرية، كانت مباحة. حتى تفاصيل حياتها الخاصة، والحميمة. وإذا كان الإعلام في مراحل سابقة، أضاء على انتاجاتها، (توقف قبل عشر سنوات، بعد تقديم دويتو "يانا يانا" مع المغنية رولا)، والمتغيرات التي طرأت على حياتها، فإنه في السنوات الأخيرة حوّلها الى سبق صحافي، يقوم على الفضائحية، بالنظر الى تعدد زيجاتها، وعلاقاتها مع الزعماء العرب، أو حتى بصورتها كامرأة عجوز.

المسافة التي يجب أن تفصل بين الحياة الخاصة والفنية، تقلصت الى حدود تهشيم صورتها في الميديا. لطالما كانت عرضة لشائعات الوفاة، وشائعات الزواج المتأخر. لا تتحمل صباح مسؤولية هذا التحول، بقدر ما يتحمله الإعلام نفسه. لم يحافظ عليها كأيقونة، أو أسطورة كما يزعم في وصفها. وربما الصفة الأخيرة، اكتسبتها من امتداد عمرها على أكثر من ثمانين عاماً، مرفقاً بصورة تظهر تجاعيد وجهها، أو عجزها عن الحراك.

والعمر الذي بلغته صباح، تتشاركه مع آخرين لم يكتسبوا تلك الصفة (الأسطورة)، لأن صورتهم بقيت في مكان مغاير. تم الحفاظ على الصورة القديمة التي تثبت أن وديع الصافي أو سعيد عقل أو مريم فخر الدين – إستطراداً – ما زالوا وجوهاً جميلة في الذاكرة. وعلى النقيض، فتحت صورها شهية المشيعين لاطلاق شائعات وفاتها، بوصفها تقدمت في العمر وآن لها موعد الرحيل.

تحفظ لصباح قدرتها على الصمود، وتمسكها بالحياة كآلية للفرح، بما يتخطى انتظار الموت القادم لا محالة. سخريتها من الشائعات، كانت أبسط رد على احباط الآخرين بها. ولم تتعرض فنانة في زمانها لكمّ من الشائعات، بقدر صباح التي فتحت حتى آخر أيامها نافذة للصورة. تعاطت مع العمر بوصفه واقعاً إنسانياً لا نفاذ منه. تحركت في إطاره صورةً تتخذ آلية الـ"قبل" والـ"بعد". لم تهلها الصورة، ولا الإطلالات الآيلة الى التهشيم. وظلّت ذراعاها مفتوحتين للصحافة التي شكرتها في يوم من الأيام في أغنية "ألو بيروت"، ولم يردّ الصحافيون التحية بأحسن منها.

شائعة وفاة صباح، باتت اليوم حقيقة. لا تُلام على تعاونها مع الإعلام الذي هشم هالتها في السنوات الأخيرة، وفتح الشهية على الإنتقاص من وقعها وموقعها، لكنها بذلك، أثبت تواضعها، وتخطيها عقد العمر والشكل. صباح اليوم، صورة من الماضي، أكثر جمالاً، واسطورة في تحديها العمر ومهانة السبق الصحافي!

 

####

 

جانيت الفغالي

إيلي القصيفي

ولدت جانيت الفغالي في "حي الفغالية" في وادي شحرور في العام 1927، عمها الشاعر أسعد الفغالي الملقّب بشحرور الوادي، وجدّها الخوري لويس الفغالي وهو في الأصل شاعر أيضاً.

قد يبدو ذكر "أصل" صباح، يوم مماتها، تفصيلاً بالنسبة لكثيرين، لكنّه في الحقيقة أساسي في فهم صباح، وصوتها و"زهوها". وإذا كانت صباح قد "تعددت" واكتسبت شهرة عربية وحتى عالمية، فإنّ منبتها ونشأتها لهما بلا أدنى شك تأثير "جوهري" في ذلك.

والواقع أن أول ما نواجهه عند الحديث عن "الشحرورة" هو هذه الحيرة في تناول صباح كامرأة استطاعت أن تكون حالة خاصة وقصة خاصة، أو تناولها كفنانة ارتبطت بزمن لبناني معين ما زال لبنان الحالي يستمد منه "أسطورته" وهويته وبنيته الرمزية، بالرغم من سقوطه "سياسياً". وهذا دليل على أنّ "وظيفة" صباح وغيرها من فناني جيلها- خصوصا الرحابنة ووديع الصافي- في ترسيخ هوية غنائية ورمزية للبنان، لم تمت بعد. وهذا دليلٌ أيضاً إلى صعوبة، بل استحالة، استيلاد "أسطورة" وبنية رمزية جديدتين للبنان.

لعلّ صباح من أكثر الفنانات العربيات اللواتي اختلط في حياتهن "العام" و"الخاص". ولعلّ هذا ما يميزّها أكثر. لكن مع ذلك، ثمة في قصتها ما يحفزنا على تناول "خصوصيتها" وحياتها مجردتين من أي "أيديولوجيا" وأي محمولات سياسة واجتماعية. وهذا ليس سهلاً، إذ كلما حاولنا ان نروح إلى "الشخصي" في حياة جانيت الفغالي يستوقفنا "العام" فيها، والعكس صحيح. فإذا تناولنا، مثلا، تعدد زيجات صباح، أخذنا تفكيرنا إلى مجتمع صباح الأول، إلى وادي شحرور في جبل لبنان "المحافظ"، فيتراءى لنا أنّ صباح بالرغم من زواجها تسع مرات- وهو ما يأخذه عليها البعض أو يتناولها البعض عبره أولاً- تبقى إمراة "محافظة" في "كليتها".

لكن مهما بلغ قدر اختلاط العام والخاص في حياتها، إلا أنّ تحولّها قصة تروى، هو بحد ذاته انتصار كبير للخاص على العام في مسيرتها. إذ أنّ قصتها هي أولاً قصة امرأة فاتنة عرفت في حياتها الكثير من المتاعب والمآسي، لكنّها مع ذلك أحبّت الحياة وضحكت وغنّت. وهي في تحولها إلى قصة، تذكرنّا- من غير أن ترغب في ذلك أو تفكر فيه ربما- بداليدا واديت بياف، وكذلك بأسمهان.

مع ذلك ثمة شيء في حياة صباح يردنا إلى جانيت الفغالي، إلى وادي شحرور والجبل البناني عموماً. وهذا يتجاوز عادةَ نسب الناس إلى قراهم- وهي عادة آخذة في الاضمحلال- إلى التوقف، أولاً، عند قدرة صباح على تجاوز "نفسها"، و"تمدين" صوتها وفنها، عبر البوابة المصرية، حيث "طوّع" رياض السنباطي بـ"صعوبة" صوتها الجبلي، على ما يروى. وثانياً عند قابلية الجبل اللبناني، في زمن صباح، للحياة بمعناها الواسع، وهي قابلية ساعدته على تطوير فنّ و"ثقافة" معينين. وهذا ما تجدر مراجعته بالنظر إلى "ركود" جبل لبنان ولبنان عموماً راهناً.

لكن ما همّ صباح في كل ذلك، وما ذنبها فيه، فهي، أولا وأخيراً، جانيت الفغالي التي صارت قصة.

 

المدن الإلكترونية في

26.11.2014

 
 
 
 
 

توقف قلب الأسطورة صباح في غفلة من عشاقها وممرضتها الخاصة

مراسم الدفن تجرى الأحد بحضور ولديها.. وابنة أختها تنشر وصيتها الأخيرة

بيروت: فيفيان حداد

صباح التي أبت إلا أن ترحل في الصباح تيمنا باسمها، غادرتنا فجر أمس الأربعاء عن عمر يناهز 87 عاما، بعد أن توقّف قلبها، وهي نائمة في سريرها كعادتها كل مساء لتنتقل إلى العالم الآخر بهدوء. وروت كلودا عقل ابنة شقيقة الفنانة صباح التي كانت تلازم خالتها لـ«الشرق الأوسط» يوم أمس وهي لا تتوقف عن البكاء أحداث الليلة الأخيرة التي أمضت جزءا منها معها وقالت: «لا أدري لماذا استدعيت طبيبها قبل رحيلها بيوم واحد، فطلبت منه أن يفحصها مليّا وأن يقف على حالتها الصحية، وعندما انتهى من عمله، طمأنني بأنها في أحسن حال وقال لي بالحرف (صحتها جيدة جدا، تماما كبنت 14)». وعن أسباب استدعائها الطبيب المعالج لها ردّت كلودا موضحة: «لا أدري بالفعل لماذا اتصلت به، ولكنني لاحظت بأن عينيها زائغتان، وبأنها تشعر بالحرارة، إذ كانت تقول لي: (هويلي شوي كأني معبأة ومشوّبة) (أي تطلب نفحة هواء لأنها تشعر بالحرارة تجتاح جسمها)، كما كانت تشعر بالضيق ولا تعرف السبب. ولكنني عندما ودّعتها مساء كانت مرتاحة وتركتها بعد أن غفت نحو التاسعة والنصف».

وتتابع كلودا بصوت متهدّج: «عند الثالثة صباحا اتصلت بي الممرضة التي تعتني بها وأخبرتني بأن صباح فارقت الحياة، وأنها اكتشفت ذلك إثر تفقدها لها في تلك الساعة، رغم أنها كانت طبيعية وتتنفس براحة بعد منتصف الليل عندما تفقدتها للمرة الأولى». وختمت كلودا عقل بالقول: «المصاب كبير ولكن ما يعزيني هو محبة الناس الكبيرة لها وهي حتى لو رحلت باقية في قلوبنا».

أوصت الفنانة صباح ابنة أختها كلودا عقل قبيل رحيلها، وهي التي بقيت إلى جانبها طيلة سنين مرضها، أن تنقل إلى اللبنانيين وصيتها: «قوليلن يحطو دبكة ويرقصوا بدي ياه يوم فرح مش يوم حزن، بدي ياهن دايما فرحانين بوجودي وبرحيلي متل ما كنت دايما فرّحن. وقالتلي قلكن إنها بتحبكن كتير وانو ضلوا تذكروها وحبوها دايما».

شكك اللبنانيون بصحة خبر وفاة صباح عندما سمعوا به، رحلت الشحرورة... لم ترحل... هكذا اعتاد اللبنانيون أن يعلقوا على الإشاعات التي كانت تطال صباح في السنوات الأخيرة. وكانت آخرها قبل 48 ساعة من إعلان نبأ موتها. فكتبت كلودا عقل ابنة شقيقتها (الممثلة الراحلة لمياء فغالي) تكذّب الخبر. قلب صباح الضعيف وكثرة زياراتها إلى مستشفى قلب يسوع في الحازمية إثر إصابتها بأكثر من أزمة صحية ساهما في إشاعة البلبلة حول وضعها الصحّي. إلا أن السادس والعشرين من الشهر الحالي حمل الخبر اليقين... الخبر الحزين الذي غيّب صاحبة البسمة الدائمة إلى الأبد. فهذه المرة الخبر ليس مجرّد إشاعة، بل حقيقة مؤلمة أصابت جمهور الشحرورة الواسع. توالت التعليقات على موت الفنانة التي قالت يوما «أعتقد أنني سأكون ختيارة مهضومة»، فغرّد محبوها من سياسيين وفنانين وإعلاميين على موقع «تويتر» ينعونها، وعلى صفحات «فيسبوك» والـ«انستاغرام» يرثونها بحزن عميق.

غرّد الوزير السابق وليد جنبلاط في الثالثة صباحا على حسابه الخاص على موقع «تويتر» يقول: «مع رحيل صباح يرحل ماض جميل للبنان لن يعود». فيما كان للنائب هادي حبيش تغريدة قال فيها «من قال: إن العظماء يموتون حين يموتون؟ اليوم بدأت حياة صباح في مسار تاريخنا الفني والاجتماعي والثقافي».

الفنانون أيضا عبّروا عن حزنهم لرحيل صاحبة لقب «شحرورة الوادي»، فعلّقت نوال الزغبي بالقول «ما حدا متلها كان يحب الحياة، كرمال هيك الحياة اليوم زعلانة على رحيلها، رح نتذكرك صباح كل يوم يا خالدة». أما راغب علامة فغرّد عبر «تويتر» بالقول: «بعد نصري وعاصي ومنصور وزكي ووديع، حان الآن موعدك مع الرحيل.. كبارنا يرحلون أرزاتنا يتناقصون. وداعا يا شحرورتنا وداعا يا حبيبتنا رحمك الله». وكتبت إليسا أيضا عبر حسابها الخاص على موقع «تويتر» الإلكتروني تقول «كانت الحياة بكل ما من معان لجمالها هكذا سنتذكرها دائما». أما الفنانة نانسي عجرم فكان لها أكثر من تغريدة على الموقع نفسه وقالت في إحداها «اليوم خسر لبنان أسطورة، رحلت صباح ولكنها باقية في قلوبنا».

وسائل الإعلام المسموعة والمرئية أعلنت وفاة الفنانة رسميا، وكانت قناة (إم تي في) السباقة في تخصيص معظم فقرات برنامجها الصباحي اليومي «Alive»، للتحدث عن تاريخ الفنانة الراحلة وإنجازاتها. كما استضافت بعض الضيوف من شعراء وفنانين تحدثوا عنها. وكانت أيضا السباقة في نقل أجواء الحزن السائدة بين أهلها وأحبائها الذين توافدوا إلى فندق «برازيليا» في الحازمية الذي شكّل عنوان إقامتها الدائمة منذ أن تركت منزلها في المنطقة نفسها. كما نعتها أيضا نقابة الفنانين المحترفين في لبنان بشخص رئيسها الفنان إحسان صادق.

شكّلت صباح في حياتها أسطورة حقيقية، فتركت أثرها على من التقاها أو من كانت له فرصة إجراء حديث معها. فالفنانة كارول سماحة ذكرت أكثر من مرة أن صباح أحدثت تغييرا جذريا في حياتها، بعد أن أدت شخصيتها في مسلسل «الشحرورة» في موسم رمضان من عام 2011. وكتبت سماحة عن رحيل صباح تقول: «عشت أحاسيسها أفراحها وأحزانها واليوم رحلت تاركة أثرها في مكان عميق في حياتي وداعا صبوحتي وشحرورة لبنان». أما المخرج سيمون أسمر فكان يعدّها وجه الخير الذي يفتتح به برامجه الفنية، فكانت تشكّل دائما بالنسبة له أول الضيوف الذين يستقدمهم في (استوديو الفن) أو (كاس النجوم) وغيرهما من البرامج. كما كانت المثل الأعلى بالنسبة لفنانات كثيرات، تأثرت بأناقتها نوال الزغبي، وبطريقة أدائها رويدا عطية، وبأغانيها بكل بساطة الفنانة رلى سعد التي أعادت أداء عدد كبير من أغانيها كـ(زي العسل) و(جيب المجوز يا عبود) و(دلوعة) و(يانا يانا) التي شاركتها فيها الغناء الفنانة الراحلة.

وعندما نتذكر حديثا أجريناه معها في منزلها في الحازمية، لا يمكنك أن تنسى إطلالتها كـ«ديفا» حقيقية وهي ترتدي بدلة بيضاء مبتسمة ومتأهّلة بك. تكتشف عن قرب صباح الإنسانة والفنانة العاشقة لوطنها. يومها وعند سؤالنا لها إذا كانت تبكي رغم أنها تبدو سعيدة دائما وابتسامتها لا تفارقها أجابت: «طبعا أنا أبكي كغيري من البشر، ولكن أحدا لم ير دموعي أبدا، إذ أنني أقفل على نفسي غرفتي عندما أرغب في ذلك، فأنا صباح الأسطورة وسأبقى كذلك في نظر الجميع حتى من أقرب المقرّبين مني».

بقيت الفنانة صباح في كامل قواها العقلية حتى آخر لحظة من حياتها كما أشار المقرّبون منها، وهذا الأمر أكده معظم الذين كانوا يزورونها من إعلاميين وفنانين ثابروا على الوقوف على حالتها الصحية بين وقت وآخر. ولدت صباح واسمها الحقيقي جانيت الفغالي في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1927. كانت تهوى الغناء منذ صغرها فلفتت بموهبتها المنتجة المصرية اللبنانية الأصل آسيا داغر، التي أوعزت لوكيلها في لبنان قيصر يونس لعقد اتفاق معها لتمثيل 3 أفلام دفعة واحدة. فكانت انطلاقتها الحقيقية في عالم الغناء والتمثيل.

قدّمت صباح 83 فيلما سينمائيا بين مصري ولبناني، و27 مسرحية لبنانية. أما مشوارها الغنائي فضم أكثر من 3000 أغنية، وكانت ثاني فنانة عربية بعد أم كلثوم وقفت على مسرح الأولمبياد في باريس، في منتصف السبعينات. كما وقفت على مسارح عالمية أخرى كـ«إرناغري» في نيويورك و«دار الأوبرا» في سيدني أستراليا، وقاعة «ألبرت هول» في لندن و«قصر الفنون» في بلجيكا وغيرها من المسارح في لاس فيغاس. اشتهرت صباح بغزارة أعمالها الفنية، وكثرة زيجاتها التي يذكر أنها وصلت إلى 9 زيجات، ولها ولدان الطبيب صباح شماس، وبنتها هويدا منسي التي شاركتها في أكثر من عمل فني.

تجري مراسم دفن الفنانة «الأسطورة» الأحد المقبل الواقع في 30 الجاري، في الثانية بعد الظهر في كنيسة مار جرجس وسط بيروت. وسيكون مأتما شعبيا كما أرادته الراحلة إذ دعت ابنة شقيقتها جميع محبيها للمشاركة في الصلاة على جثمانها، هي التي لم تكن تفرّق بين الناس مهما كان مستواهم الاجتماعي. ومن المتوقّع أن يصل ولدا الفنانة الراحلة (صباح وهويدا) اليوم إلى لبنان آتيين من أميركا مركز إقامتهما الدائمة للمشاركة في مراسم دفنها. وكان قد تردد أن ابنتها هويدا صدمت بالخبر وأن حالتها النفسية المتردية إثر سماعها بالخبر قد تؤخّر مجيئها إلى لبنان.

«يا أحباب الصبوحة، الصبوحة اليوم راجعة على ضيعتها عالأرض اللي حبتها، هي تودعكم وتقول لكم ما تبكوا وما تزعلوا علي ولا ترتدوا الأسود هيدي وصيتي الكن» هكذا أوصت «الصبوحة» محبيها والتي آثرت قبل أن تفارق الحياة تردادها على مسامع المقربين منها.

وصفت كلودا عقل رحيل خالتها الفنانة صباح بأنه خسارة شخصية كبيرة لها. وقالت لـ(«الشرق الأوسط»): «مهما قلت عن فقداني لها لا يمكن أن أعبّر فيه عما يخالجني في أعماقي. تركت فراغا كبيرا في حياتي، وهي كانت تعلم بذلك تماما وقالت لي أكثر من مرة (أنت أكثر من سيحزن علي لأنك كنت معي دائما طيلة فترة مرضي)». وتضيف كلودا: «لقد كانت بالنسبة لي الأم والخالة والصديقة والأخت، وعلّمتني الكثير في حياتي حتى أنها أجرت تغييرا جذريا فيها. علّمتني أن أكون دبلوماسية وأن ألجم نفسي عندما يثير أحدهم أعصابي، وكانت غالبا ما تردد على مسمعي عبارتها الشهيرة لي (كل منا يولد وقصّته معه، فلا تتعبي نفسك ولا تحزني واتكلي على ربّ العالمين فهو أدرى بما ينتظرنا)».

 

####

 

نجوم لبنان يرثون الفنانة صباح صاحبة الأيادي البيضاء

مصمم فساتينها وليم خوري: أناقتها أولويتها وليس الرجال

بيروت: فيفيان حداد

في اتصال مع مصمم الأزياء وليم خوري، الذي كان المسؤول عن أناقة صباح لأكثر من 40 عاما قال: «اليوم خسرنا أرزة من أرزات لبنان.. صباح التي لن تتكرر، وهي أكثر من أسطورة، إن في معاملتها للناس أو في أعمالها الفنية أو حتى في أناقتها».

وعن الصداقة التي كانت تربط بينهما قال: «لم تكن مجرد زبونة عادية، بل كانت أختا وصديقة، وأجمل ما فيها هي الراحة والإيجابية اللتين تمدك بهما بصورة غير مباشرة». وأضاف: «كانت صاحبة شخصية فذّة، دون أن تفرض نفسها على أحد، بل بدبلوماسية ماهرة، لقد صممت لها أكثر من 400 فستان، فكانت رائدة في أناقتها وهي التي ابتكرت أكثر من موضة في ملابسها الأخاذة. كانت زبونة مريحة وأعصابها هادئة، كما كانت لا تترك مناسبة دون أن تسأل فيها عن أحبابها وتطمئن عليهم». ويتذكر المصمم اللبناني آخر مرة زارها فيها منذ نحو الشهرين فقال: «لقد كانت في كامل وعيها وراحت تذكرني بأحداث جرت بيننا منذ أكثر من 40 عاما أنا نفسي نسيتها، فأمضينا أوقات جميلة ومسلية حتى وهي على فراش المرض».

وختم بالقول: «لقد عرضوا علي آلاف الدولارات لأبيع عددا من فساتينها، ولكنني رفضت وكنت أصر أن أعرضها في بلدان عربية مثل قطر ودبي وأبوظبي، كما عرضنا قسما منها في مهرجانات (بيت الدين) منذ نحو عامين في لبنان ولاقت نجاحا كبيرا، وقريبا سأحملها معي إلى معرض خاص سيتضمن أغراضا قديمة ينظم في دولة قطر. ويمكنني القول بأن فساتين صباح كنت تحتل الأولوية في حياتها قبل الرجل، فحبها لأناقتها كان يسبق أي حب آخر، عكس ما يعتقده الجميع عنها».

نقيب الفنانين المحترفين في لبنان الفنان إحسان صادق، وعلى أثر اتصالنا به حيث كان موجودا في كنيسة مار جريس وسط بيروت يقوم بالتحضيرات الخاصة التي سترافق الوداع الأخير للراحلة صباح بعد ظهر الأحد المقبل، وصف الفنانة الراحلة بأنها كانت إنسانة عظيمة، وأنه طيلة ترأسه النقابة، أي مدة 29 عاما، لم يحمل لصباح سوى الاحترام والود، إذ كانت فنانة فاضلة ومحترمة ترفض الدخول في أحاديث القيل والقال عن هذا الفنان أو ذاك وقال: «لم تحب المشكلات بطبعها فكانت مسالمة تلاقي الحلول» وقال: «طيلة عمرها كانت مهمة على الصعيدين الإنساني والفني، لا أحد يمكنه أن يمسك عليها ممسكا سلبيا بالنسبة لتعاملها مع زملائها، فكان لا يخرج منها إلا الكلام الجميل، فهي مجبولة بالفرح والبهجة اللتان تنشرهما أينما حلت». وأضاف: «صباح هي عضو مميز في النقابة ولديها ميزتان أساسيتان سيجلهما التاريخ لها، ألا وهما قيمتها الفنية التي رفعت من خلالها اسم وطنها لبنان، وثانيا قيمتها الإنسانية، إذ كانت تشكل للجميع ملجأ يدركونه عند الحاجة. فصباح لها أياد بيضاء على جميع الأصعدة ونحن نعرف بالأسماء الأشخاص الذين كانت تساعدهم ماديا دون أن تنبس بكلمة عن هذا الأمر. وختم النقيب إحسان صادق: «هذه هي صباح التي مثلت لبنان أفضل تمثيل ورفعت اسمه عالميا حتى شكلت أساسا من أعمدته الفقرية».

إلياس الرحباني: وكأنما غيابها كسوف للشمس

الموسيقار إلياس الرحباني وصف رحيل الفنانة صباح بانكساف الشمس عن لبنان وقال في حديثه عن رحيلها لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما كنت وزوجتي نينا نقول لبعضنا وكأن الشمس تحتجب عن لبنان عندما تسافر الصبوحة لارتباطها في عمل ما خارج بيروت، فهي كانت إنسانة مشرقة ومشرّفة بأعمالها للوطن العربي وللبنان. عندما سمعت بالخبر حزنت حزنا كبيرا رغم أننا كنا نعلم مسبقا بأن وضعها الصحي غير مستقر، لقد كانت إنسانة نبيلة لا تحب المشكلات، وخيّرة تقوم يدها اليمنى بفعل الخير دون أن تدري يدها اليسرى. لقد كانت مبتسمة دائما فلم أصادفها يوما حزينة أو متوترة، كانت تزودني دائما بالأمل والتفاؤل. وكان لديها ميزة عن غيرها وهي أنها تقرأ العيون، وتعرف سلفا معاناة هذا الشخص أو ذاك دون أن يخبرها أحد بذلك، حتى إنها كانت معطاءة لدرجة أنها كانت تشعر من بعيد بأن هذا الشخص أو ذاك يمر بضائقة مادية فترسل له الإعانة دون أن تسأل أو تمنن».

وختم بالقول: «لقد كانت تضج بالحياة والفرح أينما حلّت، وقد لحنت لها أكثر من 60 أغنية بينها (شفتو بالقناطر) و(قالوا عني مجنونة) و(عالغندورة) و(هالي دبكة يابا أوف) وهذه الأخيرة شكلت أكثر نسبة مبيع في فترة السبعينات، فضربت شهرتها الشرق الأوسط بأكمله. هذه هي صباح ومهما قلنا عنها يبقى قليلا، ولكنها دون شك هي عملاقة لن تتكرر، وحاليا التقت بعاصي ومنصور وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي، والحق أقول أصبح العالم الآخر برفقة جميع هؤلاء وصباح بينهم أجمل من الحياة التي نعيشها هنا».

ميريام فارس: أرجوكم صلوا لها

الفنانة ميريام فارس قالت عن الفنانة الراحلة: «أجمل ذكريات مع أجمل وأطيب نجمة في العالم، لقد كانت وستبقى مشعّة في سمائنا.. أرجوكم فأنا أطلب منكم الصلاة لها».
وعلقت الفنانة هيفاء وهبي بالقول: «الله يرحمك صبوحتنا على أمل أن تكوني في مكان أجمل من الأرض، وداعا يا شحرورة
».

فيما رددت الفنانة يارا قائلة: «لقد علمتنا الفنانة صباح كيف نحب أعمارنا ونعشق الحياة في أغنيتها (ساعات)، أما ابتسامتها في الدائمة فلتؤكد لنا أن الحياة حلوة».

 

الشرق الأوسط في

26.11.2014

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004