كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 

معظم أفلامه دارت عن الغريزة "الملعونة" والخوف منها:

سعيد مرزوق مخرج الجنس الأول في السينما العربية!

عصام زكريا

عن رحيل فيلسوف الصورة سعيد مرزوق

   
 
 
 
 

فقدت السينما المصرية واحدا من أخلص وأجرأ أبنائها برحيل المخرج والفنان السينمائي الكبير سعيد مرزوق، بعد معاناة طويلة مع المرض والاكتئاب.

قدم سعيد مرزوق للسينما المصرية أربعة عشر فيلما فقط، كلها تقريبا، فيما عدا واحد أو اثنين، أثارت الجدل فنيا وجماهيريا وسياسيا، وأربعة منها، على الأقل، تعد من كلاسيكيات السينما المصرية هي "زوجتي والكلب"، "أريد حلا"، "المذنبون و"المرأة والساطور".

انتمى سعيد مرزوق إلى جيل جديد من مخرجي الستينيات الذين تأثروا بالسينما الأوروبية والمناخ العالمي الثائر، والمناخ

المحلي في مصر المحتقن بهزيمة 1967 ومولد جيل شاب متمرد على الأوضاع القائمة.

في هذه الفترة ظهرت جماعة السينما الجديدة التي قدمت عددا من الأفلام المختلفة عن السينما السائدة لمخرجين ومؤلفين جدد مثل علي عبد الخالق ومحمد راضي وغالب شعث، كما قدم شادي عبد السلام رائعته "المومياء"، وحتى بعض المخرجين الأكبر سنا مثل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف أعادوا اكتشاف أنفسهم في أفلام سياسية غاضبة.

ولد سعيد مرزوق وسط رياح وعواصف التغيير العاتية، وحيدا، لم يتعلم في أكاديمية أو معهد، ولم ينتم إلى "شلة" ولم تتبناه شركة... بلا مرجعية ولا ديون ولا تراث مفروض عليه، شق طريقه مثل سهم يثير حوله الإعجاب والعجب والحسد.

لم يكن سعيد مرزوق جزءا من صناعة السينما المصرية رغم أن هذه الصناعة لجأت إليه لضخ روحا ودماءا شابة في جسدها المترهل، وكثيرا ما كانت لا تحتمل أفكاره ورؤاه وصوره الصادمة.

منذ فيلمه الأول، بل المشهد الأول، لفيلمه الروائي الأول "زوجتي والكلب"، 1971، يدرك المشاهد على الفور أنه أمام عمل مختلف، غير مسبوق، وربما غير ملحوق، في جرأته الفنية و"الجنسية".

سعيد مرزوق من القلائل جدا الذين اهتموا بالجنس، الغريزة الأقوى والأخطر في حياة الكائن البشري، وهو من القلائل جدا الذين كرسوا معظم أعمالهم، إن لم يكن كلها، لاستكشاف أثر الغريزة الجنسية على الأفراد والمجتمعات والسياسات، وتأثيرها المدمر.

الخوف من الجنس هو "التيمة" الأساسية التي تتردد عبر أفلام سعيد مرزوق، خاصة في أفلامه: "زوجتي والكلب"، "الخوف"، " أريد حلا"، " إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، " أيام الرعب"، "المغتصبون"، "المرأة والساطور"، و"جنون الحياة".

في "زوجتي والكلب" يخشى الزوج الكهل، محمود مرسي، من الغريزة المتوهجة لزوجته الشابة، سعاد حسني، وتنتابه الهواجس والشكوك من خيانتها له،  ويستيقظ داخله الشعور بالذنب وانتظار العقاب بسبب ماضيه المنفلت جنسيا، والذي قام فيه بخيانة أحد زملاءه الأكبر منه مع زوجته الشابة.

لا يستطيع الريس مرسي أن ينزع عن ذهنه خيالات جنسية يتصور فيها زوجته وهي تخونه مع زميله الصغير نور، الذي يؤديه نور الشريف، وهو شاب صغير محروم وفائر بالرغبة الجنسية لا يستطيع بدوره أن ينزع الخيالات الجنسية التي تراوده حول زوجه الريس مرسي وغيرها من النساء.

كل من مرسي ونور يعملان مع عدد آخر من الرجال في فنار على البحر، بشكله القضيبي الواضح، وعزلتهم القاصرة على الرجال بعيدا عن النساء والعالم، لا يصحبهم سوى كلب، يمثل المعادل الموضوعي لغريزتهم ورغباتهم البدائية المشبوبة. حياتهم تتمحور حول الخوف من النساء والتنافس الذكوري الذي يتجسد في المثلث الأوديبي الشهير، الزوج والزوجة والابن، أو أوديب الخائف والهارب والذي يعاني من الشعور بالذنب لجرم جنسي ارتكبه في طفولته، أو ربما قبل أن يولد أصلا، بسبب اشتهاءه لأمه وخصومته لأبيه.

في "الخوف"، ثاني أفلام سعيد مرزوق، 1972، تتجلى فكرة الخوف من الجنس كأوضح ما يكون، رغم أن المثلث معكوس هنا.

في "زوجتي والكلب" كان الأب هو الذي يخشى فحولة الابن ويتمنى الخلاص منه بالقاءه من فوق الفنار. في "الخوف" يصعد العاشقان الخائفان إلى سطح بناية تحت الإنشاء، ولكن الخوف يطاردهما هناك مثلما طارد نور في نهاية "زوجتي والكلب"، ورغم أن مصدر الخوف يتمثل في بواب العمارة مخيف الملامح، إلا أنه وفقا للنهاية الأصلية للفيلم كان يفترض أن يكون الخوف أكثر عمومية وايحاءا بالخوف السياسي والاجتماعي الذي يشل الشباب وطاقاتهم الجنسية والإبداعية، بالرغم من أن رمز "بواب العمارة"، مثل "ريس عمال الفنار" لا يبعد كثيرا عن المعنى المراد.

في "زوجتي والكلب" كان الخوف يهدد الرجال فقط. في "الخوف" يهدد العاشقين الشابين، أما في "أريد حلا"، 1975، فهو يهدد المرأة، فاتن حمامة، رمز الأنوثة الطيبة في السينما المصرية، ومصدره هو الذكر الذي يجسده رمز الفحولة الذكورية رشدي أباظة، ونعرف من سياق الفيلم أن الزوجة تطلب الطلاق بسبب غريزة زوجها المنحرفة والفائضة عن الحد الطبيعي.

الفوضى الجنسية المدمرة هي أيضا موضوع فيلم سعيد مرزوق التالي، "المذنبون"، 1976، ولكنه يستطيع هنا أن يقدم تصوره عن الفساد الاجتماعي والسياسي الذي تتسبب فيه الغريزة المنفلتة عن عقالها، وكل الناس هنا مذنبون بمعنى من المعاني بسبب انسياقهم وراء الغرائز والأطماع. وقد أثار الفيلم ضجة هائلة وقتها بسبب المعاني السياسية والاجتماعية التي يتضمنها، وليس المشاهد الجريئة، فهي مشاهد عادية مقارنة بأفلام منتصف السبعينيات.

في "إنقاذ ما يمكن إنقاذه، 1985، تتكرر أفكار "المذنبون" بصورة أخرى من خلال "فيللا" قديمة تمثل مصر، بعد أن كانت مقرا للوطنية والشرف تحولت إلى بيت دعارة على يد مالكها الجديد، القادم من أسفل طبقات المجتمع، ويهدد الجنس هنا بإفساد، واغتصاب، الفتاة الشريفة، ميرفت أمين، وهي نموذج لجيل الشباب، ومصر المستقبل، التي تضيع في النهاية تحت أقدام الداعرين والمتطرفين دينيا!

في " أيام الرعب"، 1988، يعود سعيد مرزوق إلى "تيمة" الخوف الفردي الأوديبي، ومع أن الخوف هنا منبعه عادة الثأر والموت، وليس الجنس بشكل مباشر، ولكن لا يجب أن نهمل أن بطل الفيلم محروس، محمود يس، على وشك الزواج، وهو يعاني من الخوف المرضي بسبب ماض قديم يطارده ويهدد بقتله، أو اخصاءه، عقابا له على جريمة لم يرتكبها.

في "المغتصبون"، 1989، نعود لفكرة المجتمع المنحل طبقيا وأخلاقيا والذكورة المدمرة التي تتمثل في مجموعة من الشباب الفقير المحروم المريض يقومون باغتصاب وحشي لفتاة عذراء. في السنوات التي سبقت انتاج الفيلم تعرض الرأي العام في مصر إلى صدمة وحالة فزع بسبب سلسلة من حوادث الإغتصاب الجماعي التي كانت شيئا غريبا وغير معتادا في تلك الفترة، قبل أن تستفحل الظاهرة وتصل إلى حالتها المرعبة التي ظهرت في حوادث اغتصاب "ميدان التحرير".

في "المرأة والساطور"، 1997، يرصد سعيد مرزوق ظاهرة أخرى هي انقلاب المرأة التي تعرضت للإغتصاب والإهانة إلى وحش تقوم بقتل زوجها والتمثيل بجثته، وكان المجتمع المصري وقتها يعاني من حالة صدمة وفزع آخر بسبب سلسلة من حوادث قتل الأزواج على يد زوجاتهم!

الاغتصاب من الخلف، رمز "البهيمية" و"الكلبية" كما يرى سعيد مرزوق، كان سبب مطالبة فاتن حمامة بالطلاق في "أريد حلا"، ولكنه في "المرأة والساطور" يدفع الزوجة نبيلة عبيد إلى قتل زوجها، أبو بكر عزت، وتمزيقه، اخصاءه، حرفيا.

لقد انتهى زمن المرأة المهذبة التي تخسر قضية الطلاق لأنها تعففت عن الحديث في الجنس أمام القاضي ليأتي زمن النساء القاتلات على يد نادية الجندي ونبيلة عبيد.

في فيلميه الأخيرين " جنون الحياة"، 1999، و"قصاقيص العشاق"، 2003، تتكرر "التيمات" نفسها بتنويعات أخرى، في الأول تقوم إلهام شاهين بقتل الشاب الفحل متعدد العلاقات كريم عبد العزيز بعد أن يدخل في علاقة معها ثم مع ابنة أختها ياسمين عبد العزيز، وفي الثاني يقوم مصطفى فهمي بفعل الشىء نفسه مع نبيلة عبيد التي يترك زوجته وبناته من أجلها ليكتشف أنها صنعت مفرش سرير من قصاقيص ملابس عشاقها!

يبدأ أول فيلم روائي صنعه سعيد مرزوق بسرير يضم زوجين يتضاجعان، وينتهي آخر أفلامه بمشهد سرير وعاشقين يحترقان. وليس هناك مشهدان آخران يمكن أن يعبرا بهذا الوضوح عن الفكرة الأساسية التي شاغلت المخرج الراحل طوال حياته الفنية...بغض النظر عن رأينا في مدى مطابقة هذه الفكرة للواقع، أو نوع أخلاقيتها، أو تركيبتها النفسية.

الـ Facebook في

20.09.2014

 
 

سعيد مرزوق مات!

كتب الخبرمجدي الطيب

غيب الموت المخرج الموهوب سعيد مرزوق (1940 ـ 2014) بعدما ساءت حالته الصحية، نتيجة إصابته بجلطة جديدة عقب دخوله مستشفى القوات المسلحة في المعادي للعلاج على نفقة الدولة.
كانت أزمة المخرج الكبير قد بدأت لحظة أن شعر بوعكة صحية، منذ ما يقرب من أربع سنوات، لم يتم التعامل معها بالشكل الطبي الصحيح، ما أدى إلى تفاقم الحالة، وإصابته بجلطة منعته من النطق والحركة والعمل، واستدعت علاجه على نفقة الدولة خارج مصر، لكنه فوجئ، ىبعد وصوله إلى ألمانيا، أن المبلغ الذي خصصته الحكومة المصرية، ويُقدر بثمانية آلاف يورو، لا يكفي نفقات العلاج، وأن عليه تدبير مبلغ يناهز 25 ألف يورو. ولحظتها قرر العودة إلى مصر بسبب شعوره باللامبالاة التي تحكم أداء الموظفين، والإهمال الذي سيطر على مسؤولي السفارة المصرية، الذين لم يفكروا في إيفاد موظف صغير ليسأل عنه. غير أن المصريين، والأشقاء العرب المقيمين في ألمانيا، تولوا زمام المبادرة، ونجحوا في تدبير نفقات العلاج، وانضمت إليهم السفارة القطرية في العاصمة الألمانية؛ حيث فوجئ بالسفير يسأل عنه، ويبلغه أن زوجة الأمير القطري أمرت بأن تتكفل سفارة قطر في ألمانيا، بتحمل جانب من نفقات علاجه في المستشفى الألماني!

عاد مرزوق إلى مصر لاستكمال علاجه، وواصلت السفارة القطرية في القاهرة تحمل النفقات، وزاره السفير القطري في القاهرة، كذلك أرسل طاقماً طبياً لمتابعة حالته الصحية، في حين قوبل بتجاهل غير مبرر من وزراء الثقافة: فاروق حسني، د.عماد أبو غازي، ود. شاكر عبد الحميد. ومع تولي د. صابر عرب حقيبة وزارة الثقافة قام بالسؤال عنه، في حدود ما تمليه عليه وظيفته. لكن الدعم المعنوي الكبير جاء من رفاقه الذين عملوا تحت قيادته كمخرج، وأولئك الذين لم يلتق بهم في حياته، ممن لم ينقطعوا عن زيارته في الدار التي يُعالج فيها في طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، وبقدر فرحته بمظاهرة الحب التي رأها ولمسها، وقال لي إنه لم يتوقعها، وكانت سبباً في الروح المعنوية العالية التي خففت عنه، إلا أن شعور المرارة لم يفارقه بسبب تقصير الحكومة تجاه مبدع قدم الكثير لوطنه، ولما أعياه المرض أهملته، وأعلنت علاجه على نفقتها من باب حفظ ماء الوجه أمام الرأي العام!

لم أنقطع عن زيارة المخرج الكبير في الدار التي كان يتلقى فيها جلسات العلاج الطبيعي ولكن الاستجابة كانت بطيئة للغاية، وبين الحين والآخر كانت تتملكه حالة من اليأس تنعكس سلباً على حالته النفسية. غير أن زوجته القوية ريموندا وقفت إلى جانبه تشجعه وتشد من أزره، ونتيجة تدهور العلاقات المصرية القطرية، توقف الجانب القطري عن علاجه، واضطرت زوجته إلى بيع ما تبقى من ممتلكات حتى نفدت المدخرات، وتدهورت صحتها أيضاً، وطوال الوقت ظل مؤمناً بقضاء الله وحكمته. وعندما كنت أستحثه على أن يطالب الدولة بحقه كان يُعلق: «الشكوى لغير الله مذلة» !

ربما كانت الدولة المصرية في حاجة إلى من يُذكرها بأن سعيد مرزوق هو المخرج الذي منح مهرجان لايبزج للأفلام التسجيلية والقصيرة فيلمه التسجيلي القصير {أعداء الحرية} (1967) الجائزة الثانية، وفي الدورة الأولى لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي العام 1976 فاز فيلمه {المذنبون} بجائزة التمثيل رجال (عماد حمدي)، ولم يُشارك في مسابقة محلية من دون أن ينتزع جوائز الجمعيات السينمائية الأهلية، ولم يُعرف عنه، يوماً، أنه حصل على جائزة بالمجاملة؛ إذ إنه لم يكن صاحب شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية بل كان يتحرك داخل دائرة محدودة للغاية من الأصدقاء، ما دفع البعض إلى اتهامه بالغرور. بينما واقع الحال أنه كان متواضعاً وخجولاً للغاية!

غيب الموت {العصامي} سعيد مرزوق، الذي ثقف نفسه بنفسه، وأوجد لنفسه لغة سينمائية خاصة ورؤية متفردة، حتى صار أحد كبار {المُجددين} في السينما العربية عموماً، والمصرية خصوصاً، وعلامة فارقة في تاريخ الإخراج المصري، بأسلوبه الفني المُدهش، الذي أجبر مخرجين كُثراً على تغيير جلودهم، والاقتداء به، وكان من الطبيعي، والحال هكذا، أن يُسفر الاستفتاء الذي أجري العام 1996، وشاركت فيه نخبة من النقاد لاختيار قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، عن اختيار ثلاثة من أفلامه هي: {زوجتي والكلب}،}أريد حلاً} و{المذنبون}.

رحل سعيد مرزوق، لكن روحه لن تهدأ ما لم نسع إلى إنصافه، ولتكن البداية بمنحه جائزة الدولة التقديرية، التي انتظرها ولم ينعم بها في حياته رغم أنه يستحقها عن جدارة، وإخضاع سينماه للدراسات البحثية والتحليلات النقدية التي تتناول مبدعاً كبيراً لم يكتف بفهم حرفية السينما، والتجديد في لغتها، وإنما حرص، في غالبية أفلامه،على الاقتراب من هموم المواطن، والاشتباك مع قضايا الوطن.

الجريدة الكويتية في

20.09.2014

 
 

رنـات
ليس تحصيل حاصل

بقلم: خيرية البشلاوى

أحياناً يكون الموت مجرد تحصيل حاصل.. تغييب للجسد بعد ان وهن العظم وغابت الارادة والقدرة علي الحركة. وتوقف الإنتاج الفعلي. وأصبح الإتكاء بالكامل علي الآخرين

وحين يصل المرء إلي هذا المستوي من العجز يصبح الموت مجرد تحصيل حاصل فاللهم لا تجعل الموت حين يحين الأجل مجرد تحصيل حاصل

وأحياناً يكون الموت "صحوة". بعث من حالة ركود. من نسيان ويصبح مناسبة لاستعادة الوهج بعد انطفاء طويل فرضته ظروف ليست من صنع الإنسان

حين غيب الموت المخرج سعيد مرزوق منذ أيام أطلق من الذاكرة صوراً كثيرة من شرائط أفلامه احتفظ بها العقل الواعي لارتباطها الشديد بشخصية صانعها كفنان وإنسان وصانع فيلم.. هذه الصور افسحت في الحال مكاناً لاعادة النظر فيما خلفه لنا من أعمال "14 فيلم روائي طويل" فمعظم أفلامه لم تمر مروراً هادئاً علي الشاشة ولا أمامها بالنسبة للجمهور. بعضها أثار جدلاً بين الرفض والقبول والمنع رقابياً ثم إعادة السماح بالعرض. وأتذكر كثيراً من المشاهد التي أثارت حفيظة الجمهور وأيضاً حفيظة بعض النقاد بسبب الهواجس الجنسية الملحة التي عكست تفاوتاً في المعالجة الفنية لها بين الرهاقة والحرفية العالية وبين التعبير الصاخب الكاشف لتفاصيل مرئية تضيف لعنصر الإثارة الحسية من دون دواعي درامية ملحة

سعيد مرزوق - رحمه الله - استطاع ان يلفت النظر منذ فيلمه الأول "زوجتي والكلب" "1971" كمخرج يمثل اضافة فنية للفيلم المصري. وان يؤثر في جماليات الصورة السينمائية باستخدامات بليغة لعناصر الاضاءة والتكوين "المصور عبدالعزيز فهمي" ويدفع بلغة التعبير المرئي وأسلوب السرد الروائي إلي مستويات مختلفة ولافتة وان يكتشف امكانيات الصمت وايحاءاته. وتلوين حركة الكاميرا وتحميلها بالدلالات والمعاني ويخفف كثيراً من وظيفة الحوار. ويلفت الانتباه إلي مفردات المكان والتي يمثل بعضها رموزاً تدعم عناصر الصراع الدافعة لحركة الدراما موضوع الفيلم

في صحوة "التذكر" مع خبر الرحيل وقفت أمام فيلمه "الخوف" "1972" ثاني أعماله الروائية الطويلة فأنا أعتبره أقرب أعماله إلي نفسي.. ولا أخفي إعجابي فنياً بفيلمه الأول ولكنني أحببت فيلمه الثاني وهي حالة تتجاوز مجرد الإعجاب

استعدت الانطباع الأول الذي خلفه. وأتذكر انني توحدت مع بطلته "سعاد حسني" وتوجعت بألامها وتواصلت مع شحنات الخوف المتدافع داخل صدرها. والتجربة المرة التي عاشتها بعد التهجير وترك مدينتها السويس وقد حولتها الحرب "1967" إلي اطلال وبقايا مدينة شهدت مأساة ما جري

بالهزيمة بالنسبة لجيلي غائرة مازالت وكانت في ذروة تأثيرها السلبي حين كنت أشاهد الفيلم وأشهد لمخرجه أنه لم يكن وقتها خارج السياق النفسي والإنساني والسياسي الاجتماعي لبطلته التي هبطت من العاصمة لتلقي مصادفة بمصور صحفي شاب نور الشريف وشاهد بالضرورة علي ما جري وما يتم عرضه داخل معرض للصور التي سجلت جانباً من دراما حرب الأيام الستة.. هو أيضاً لم يكن متحرراً من "الخوف". 

تأثير الفيلم بقصة الحب الغارقة في الخوف مما جري ولم تزل اثاره وما يجري داخل البناية التي لم تكتمل بحارسها "المخيف" تأثيره قوياً يتولد ليس فقط من قلبي العمل وانما من خارجه أيضاً

لا أريد ان أقلل بطبيعة الحال من تأثير فيلم مثل "أريد حلاً" أحد الأفلام المهمة في تاريخ السينما بتأثيره المعروف علي وضعية المرأة في علاقتها بالرجل وجود قوانين الأحوال الشخصية التي أصبحت بعد تعديلها قوانين للجور علي الرجل وعلي الأسرة والأطفال وأشير إلي قانون قذر اسمه "قانون الرؤية" باثاره الموجعة وهو من مخلفات السيدة سوزان مبارك وينبغي ان يُلغي

"الصحوة" بعد الرحيل يمكن ان تضع صانع الفيلم - سعيد مرزوق - في ميزان الحسنات ومن اهمها ما تركه للناس وما يجعلهم أكثر حياة وأكثر استعداداً لاعادة التفكير في حياتهم وأكثر إقبالاً علي مستقبل أفضل والأهم أكثر انسانية.

المساء المصرية في

21.09.2014

 
 

سعيد مرزوق:

عندما تكون السينما صوت إنسان متفرد

أشرف الشريف

رحل المخرج السينمائي المصري سعيد مرزوق عن دنيانا في صمت وهدوء، ولم يلق خبر وفاته ما يستحقه من اهتمام وسط تضخم أخبار السياسة ومولد الجدل العام في مصر. أتصور أن تجربة سعيد مرزوق السينمائية تستحق وقفة تحليلية مطولة لوضع مسيرته في سياقها الفني التاريخي وإلقاء الضوء علي أهم معالم تجربته وأعماله الفنية وعناصر تميزها وفرادتها، وهو ما يحاول هذا المقال عمله.

المرحوم سعيد مرزوق كان جزءً من حركة "السينما الجديدة" في السينما المصرية، والتي ظهرت في أواخر الستينات وأوائل السبعينات على يد مخرجين وكتاب سيناريو ومصورين ونقاد سينمائيين شبان (مثل أشرف فهمي وعلي عبدالخالق ومحمد راضي وممدوح شكري وسامي السلاموني ورأفت الميهي وآخرين، بعد الإرهاصات المبكرة لأفلام حسين كمال وسعد عرفة الأولى قبل هذا بسنوات قليلة) محاولة الخروج من معطف الجيل الكلاسيكي للآباء المؤسسين للواقعية السينمائية في مصر (صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وهنري بركات وغيرهم). وتحت تأثير سينما "الموجة الجديدة" المتمردة في بريطانيا وفرنسا في الستينات، كان هذا الجيل مهموم بالتجريب والتجديد واختراق آفاق التعبيرية والأسلوبية السينمائية والواقعية الذاتية والواقعية الموضوعية وسينما المخرج المؤلف والانشغال بإشكاليات الفورم السينمائي والتحرر من التقاليد الفنية والإنتاجية  السائدة.

وعبر أربعة عشر فيلما سينمائيا روائيا طويلا، والعديد من الأفلام القصيرة والتسجيلية والسهرات التليفزيونية، كان سعيد مرزوق هو أكثر أبناء هذا الجيل موهبة وشغفا بالتجريب على مستوى الصورة واللغة السينمائية. لم يتلق دراسة سينمائية منتظمة بسبب ظروفه الشخصية الصعبة، وكان وافدا من خارج شبكات السينمائيين المصريين وقتها، وقام بتعليم وتدريب نفسه بنفسه في دأب وجدية وعصامية لافتة للإنتباه وتفاعل مستمر مع المتغيرات الإجتماعية والسياسية.

تبقي الناصرية هى المرحلة المرجعية والمؤسسة للحلم والأزمة عند مرزوق، والتي طاردته دائما وحاصرته بإحباطاتها لدرجة الإختناق والصراخ اليائس، وكان مرزوق هو الأكثر إخلاصا في التعبير عن أزمة جيله المتمرد على كلاسيكيات السينما المصرية، بحكم تأثره بموجات التمرد في السينما الأوروبية وقتئذ، وبحكم إنكسار مشاريع ويقينيات المرحلة الناصرية سياسيا، لكنه التمرد الذي جاء مبكرا عن موعده بعض الشيئ سينمائيا، وقبل أن تنضج ملامح الجيل التالي من المبدعين السينمائيين، وهو جيل مخرجي الواقعية الجديدة في الثمانينات والذي نقل مضامين وأشكال السينما المصرية نقلة تاريخية لا رجوع عنها.

ظهر شغف سعيد مرزوق بالتجريب منذ فيلمه التسجيلي الأبرز "طبول" والذي كان نقلة نوعية، ليس فقط على مستوى أفلامه التسجيلية ولكن أيضا على مستوى السينما التسجيلية المصرية بشكل عام، ثم قدم رائعته "زوجتي والكلب" من تأليفه وإخراجه سنة ١٩٧١، الفيلم الذي ما يزال طليعيًا حتى بمقاييس اليوم، وتضافر فيه مع مدير التصوير الأسطورة عبدالعزيز فهمي لتقديم شريط بصري أبيض وآسود برجماني الطابع مليء بالظلال وألعاب الضوء والذاكرة والوهم والحلم والخيال، عن مجموعة من العمال في فنار قديم يتبادلون الكلام والتخيلات والصور الذهنية عن الحب والنساء والخيانة والمتعة والإخلاص، شريط مذهل وخارج عن السياق في تحدٍ كبير لكافة الموروثات البصرية السينمائية المصرية، وبالطبع التقاليد السردية والإيقاعية مع آداء تمثيلي رائع من ممثلين ممتازين مثل محمود مرسي وسعاد حسني ونور الشريف وآخرين.

ثم استمر سعيد مرزوق في نفس الإطار التجريبي في مغامرة سينمائية أخرى، مخرجاً ومؤلفاً مع فيلمه "الخوف" مع نور الشريف وسعاد حسني أيضا عام ١٩٧٢. لونج شوت طويلة وممتدة عبر ساعة من الزمن عن حبيبين شابين: مصور سينمائي (لعله مرزوق نفسه) وفتاة لاجئة من التهجير من مدينة السويس، يتعرفان على بعضهما البعض ثم تنمو مشاعر الحب بينهما ويبدآن في البحث عن لحظات من الحنان والحميمية تهرب بهما من القهر الذي تثيره الأشياء المحيطة بهما، وذرات الهواء المعادية وكلمات الناس المزعجة الخاوية، ونظراتهم المتطفلة ودعاية الصحف الكاذبة الجوفاء وغفير عمارة تحت الإنشاء، يطاردهما في إلحاح وبكراهية قدرية غريبة تذكرنا بمطاردة آلهة جبل الأوليمب لأبطال التراجيديات اليونانية القديمة.. الفيلم بلا قصة تقريبا ولكنه دفقة شعورية من الخوف واللايقين واليأس غير المعلن والذعر الصامت اللامبالي والمغترب عما حوله، وهو المعادل التعبيري لحالة ما بين حربي 67 و73.

هي فترة مظلمة في تاريخ مصر، نلمح ظلالها في الأعمال الأدبية والفنية التي قُدمت في هذه الفترة، سواء كانت في عبثية وقسوة قصص نجيب محفوظ، أو في غضب مسرحيات ميخائيل رومان وراديكالية مسرحيات محمود دياب، أو في كوميديا علي سالم اللاذعة، أو في تمسك مسرحيات نعمان عاشور وألفريد فرج وسعد الدين وهبة بالأمل الواقعي الإشتراكي بعد النقد الذاتي، أو في سوداوية أفلام يوسف شاهين وانتقامه من خيانة المثقفين وبؤس الدولة، أو في أفلام حسين كمال العابثة، أو في عواصف أمل دنقل الشعرية الهوجاء، أو في أحزان صلاح عبد الصبور الفلسفية الهائلة، أو في صمت صلاح جاهين إلى الأبد، أو حتى في أفلام فؤاد المهندس (البارودي) الهزلية.. لكن سعيد مرزوق آثر أن يهرب من التنظير والتحليل إلى رسم حالة شعورية ذاتية من الخوف والرعب وصمت قبور الحياة في فيلم بلا حوار أو أحداث تقريبا.

ثم يترك مخرجنا الموهوب التجريب والذاتية جانباً ويقدم عام ١٩٧٤ على مقارعة أساتذة الواقعية في مصر (صلاح أبو سيف ورفاقه) في عمل كلاسيكي فخم ومحكم وعملاق، ليحتل مكانه بين أعظم أفلام السينما المصرية، ألا وهو فيلم "أريد حلاً" عن قصة حُسن شاه وسيناريو سعد الدين وهبة، مع آداء تمثيلي راق وممتاز من نجوم هذه السينما الواقعية الإجتماعية: فاتن حمامة ورشدي أباظة، وموضوع به قضية إجتماعية مهمة وملحة هي سحق المرأة المصرية تحت عجلات ماكينة الإستلاب والتحكم الإجتماعي، ويقدم الفيلم طرحاً بعيد عن الميلودراما والبكائيات التطهرية، ويجوب بنا بين مستويات القهر المختلفة للمرأة المصرية: القهر الإجتماعي والمادي والنفسي والعاطفي والجنسي والثقافي والقانوني المؤسسي، بإيقاع رشيق وآسر وممتع تقوده كاميرا سعيد مرزوق المميزة ودعوة للممثلين للتعبير الحر المتدفق والنهم، عكس لغة الإيجاز التي كانت سائدة في أفلامه التجريبية قبل هذا.

لقد سار سعيد مرزوق في "أريد حلاً" على خيط رفيع بين الإلتزام بالهم الإجتماعي، لتجنب أسر الشكلانية، مع التعبير عن هذا الهم بلغة سينمائية طازجة لها جمالياتها وخصوصيتها، ولقد نجح مرزوق في تحقيق هذا نجاحا كبيراً ونستطيع أن نلمح تأثر أحد أساتذة الواقعية الكلاسيكية المصرية (هنري بركات) بما قدمه مرزوق في "أريد حلاً" في الفيلم الذي قدمه بركات لاحقاً مع فاتن حمامة أيضا وتناول عذابات عالم المرأة المطلقة في مصر ("لا عزاء للسيدات" سنة 1977).

ثم يضرب سعيد مرزوق من جديد في عام ١٩٧٥ مع أحد أشهر أفلام السينما المصرية "المذنبون" عن قصة لنجيب محفوظ  وسيناريو سعد الدين وهبة، ومشهدية سينمائية ملحمية من نجوم سينما السبعينات في مصر. اكتسب فيلم "المذنبون" شهرته من مشاهده الجنسية الجريئة وتدخل الحكومة والصحافة الرجعية وقتها لمعاقبة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية على إجازته لهذا الفيلم، لكن في حقيقة الأمر كان الفيلم رائدا في ابتكار (genre) سينمائي وفني وأدبي مصري جديد، حيث سينما النقد الإجتماعي والسياسي التي تعرض ريبورتاج سينمائي لفضاء واسع من الشخصيات والأحداث في إطار بوليسي تشويقي غير تقليدي، تتطور فيه القصة مثل الدمى الروسية حتى تصل إلى نهايتها مع العقدة التي لا تنحل إلا بالإشتباك مع قلب التكوين الإجتماعي والسياسي نفسه، كما ظهر في مشهد النهاية الشهير.

وقد تأثر لاحقاً العديد من الكتاب والفنانين بهذا الفيلم وعملوا في الإطار نفسه، سواء في الأعمال الجادة أو التجارية، وأتذكر هنا مثلاً مسلسل بلال فضل الشهير"أهل كايرو" وأعمال أخرى. كما أن "المذنبون" كان في طليعة الأفلام المصرية الراصدة للتحولات الإجتماعية المصاحبة لعصر الانفتاح الاقتصادي، وما اتصفت به من فساد صارخ وسقوط وصعود لطبقات وقوى مختلفة، وما صاحب هذا من صراعات وإنهيارات وإحباطات، فقد سبق "المذنبون" زمنياً أفلام "المحفظة معايا" و"انتبهوا أيها السادة" و"أمهات في المنفى" و"أهل القمة" و"سواق الأتوبيس" و"الغول" و"حب في الزنزانة" و"الصعاليك" وغيرها من أيقونات أفلام الإنفتاح النقدية الشهيرة.

قام سعيد مرزوق في السبعينات أيضا بتقديم بعض الأفلام القصيرة والسهرات التليفزيونية مع فاتن حمامة  وهي سهرة "أغنية الموت" و"حكاية وراء كل باب" (فيلم يضم مجموعة من الأفلام القصيرة مثل "هذا الرجل أريده" و"ضيف على العشاء" و"النائبة المحترمة"). وكانت محاولة الثنائي فاتن حمامة (أيقونة العصر الكلاسيكي الساعية بجدية  للتجديد ومواكبة روح العصر) وسعيد مرزوق (مخرج التجريب السينمائي الصاعد كمخرج وكسيناريست) لنقل بعض مسرحيات الفصل الواحد لتوفيق الحكيم ـ والتي عُرفت بإسم "مسرح المجتمع" ـ  للشاشة مع قصص أخرى لكاتيا ثابت محاولة موفقة، حيث كان مرزوق أمينا على إيقاع توفيق الحكيم المميز برشاقته وسلاسة طرحه لمواضيعه الإجتماعية مع وضع بصمته التعبيرية على مستوى الصورة وخاصة في سهرة "أغنية الموت".

في الثمانينات اختتم سعيد مرزوق أفلامه الجيدة بفيلمين لم يحتلا الموقع الذي يستحقانه في الذاكرة السينمائية المصرية: فيلم "أيام الرعب" من بطولة محمود ياسين وميرفت أمين سنة ١٩٨٨، وقبله بقليل فيلم "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" سنة ١٩٨٥ من بطولة حسين فهمي ومحمود ياسين وميرفت أمين ومديحة كامل.

وللمرة الثالثة بعد فيلمي "الخوف" و"المذنبون" أثار فيلم "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، عن قصة إبراهيم الجرواني وسيناريو سعيد مرزوق، مشاكل رقابية عديدة وقتها، بل وطالب بعض المثقفين والنقاد بمنع عرضه ومحوه من الوجود لأنه "يسيئ لسمعة مصر" ويظهرها أنها تسبح على بحر من الفساد ويدعو إلى الإرهاب والعنف كحل وحيد في مواجهة الفساد (الفيلم تم إنتاجه سنة 1983 لكن لم يتم عرضه إلا سنة 1985 بعد صراع مرير مع الرقابة والصحافة).

وعبر أبطال الفيلم: ابن الطبقة الأرستقراطية المتعطل اللامنتمي العائد مرة أخرى إلى قصر وأملاك أسرته بعد رفع الحراسة عنها، ورجل الأعمال النجم الصاعد لعصر الإنفتاح والسلب والنهب، والمناضلة المثالية المتعلقة بأهداب قيم الشرف والوطنية وذوبان الذات الفاعلة في إطار جمعي هو "مصلحة الوطن"، وباقي شخصيات الإنفتاح الطفيلية المتسلقة من جهة، وشخصيات الهامش الإجتماعي المنسحق والطبقة الوسطي التقليدية والملتزمة بمثالياتها البائدة من جهة أخري، يدور الفيلم في فلك فيلم "المذنبون" لكنه أكثر تشاؤما وغضبا وإقراراً بسقوط الآلهة الإجتماعية والقيمية للحقبة الناصرية وإنتفاخ دولتها العاجزة لدرجة التضخم والإنقراض الديناصوري وطغيان طوفان العصر الجديد، ومن ثم إنهيار عالم مرزوق بأكمله وتشوقه للخلاص الذي يعترف أنه لا يلوح في أفقه ولا أفق جيله وأنه في حقيقة الأمر ـ وبرغم ما قد يوحي به عنوان الفيلم من بعض الأمل ـ إلا إنه ليس هناك ما يمكن إنقاذه في هذا البناء المتداعي، ويعمد الفيلم إلى تقديم تصورات نبوئية الطابع من الناصري المغدور سعيد مرزوق في إدانة مختلف جوانب الحياة السياسية والإجتماعية في مصر الثمانينات.

وبرغم إضطرار سعيد مرزوق (تحت الضغوط التجارية الإنتاجية والرقابية) لإقحام العديد من توابل السينما التجارية على الفيلم، ولوضع نهاية إكليشيه تتدخل فيها الحكومة والأمن للقضاء على الفساد بقوة القانون وتتمسك بقايا الطبقة الوسطى بما تبقى من عالمها الأخلاقي والقيمي القديم كبؤرة ضوء وسط السواد، إلا أنها نهاية مصطنعة ولا تتفق مع الروح السوداوية اليائسة والعدمية والكافكاوية أحيانا الغالبة على الفيلم وجاليري الشخصيات المتنوعة والمواقف الغرائبية التي يزخر بها. الفيلم في تقديري هو أكثر محاولات نقد الناصرية وتفكيك قيمها والعبث بموروثاتها الإجتماعية سوداوية ووجعاً وإيلامًا على شاشة السينما، ربما بسبب هذا لم ينل الفيلم ما يستحقه من الشهرة والتقدير ولا ينال حظه من العرض التليفزيوني حتى الآن إلا نادرًا.

أما في فيلم "أيام الرعب" سنة 1988، عن قصة جمال الغيطاني وسيناريو يسري الجندي، يعود المخرج سعيد مرزوق مرة أخرى لإحدى تيماته المفضلة: الخوف والرعب، وهو هنا رعب المثقف المتعلم ابن الصعيد (محمود ياسين في أحد أعظم أدواره) الذي يهرب من كابوس الثأر في الصعيد ويعيش في القاهرة، وتحديدا في أحيائها المملوكية الشعبية القديمة لمدة عشرين عامًا، حيث يدرس في الجامعة ثم يعمل في المتحف المصري ويحب ويعزم على الزواج ممن أحب، وفجأة يصحو على عودة كابوس الثأر مرة أخرى وخروج غريمه من السجن وعزمه على الأخذ بثأره منه، وهنا يترك المثقف الصعيدي المرتعب عمله ويحبس نفسه تقريبا في منزله، ويترك كل ما كان له في هذا العالم وتنحصر حياته في محاولة الإختباء من هذا الخطر المرعب، ومن ثم تضمحل علاقته بحبيبته ومعارفه وجيرانه، لكن حالته تسوء مع الوقت ليدخل في دوامة من شبه الجنون، والتي تفقده إنسانيته وتتركه في حالة بدائية أشبه بالفأر المذعور، ثم ينهار ويستسلم لمصيره ولكنه ـ في لحظة وعي نادرة ـ وفي محاولة أخيرة لإنقاذ إنسانيته يدرك أن رعبه قديم المنشأ وقد بدأ معه منذ البداية منذ أن فر إلى القاهرة من عشرين عامًا وأن طمس هذا الرعب عبر عشرين عامًا كان جزء من الأزمة لا الحل، وأن الحل الوحيد هو الصدام الإنتحاري مع غريمه ليموتا سويا، وعندها فقط ينتهي الرعب ويتحرر ما تبقى من إنسانيته مع نهايته.

ينتهي الفيلم مع موت الإثنين معا، ليطرح العديد من التساؤلات حول ما الذي كان يقصده سعيد مرزوق بهذا البطل المرتعب، من هو؟ وما هو هذا الرعب المزمن والحاضر والقادم؟ وهل هي تنويعة على أزمة المثقف المصري الحديث ذي الجذور التراثية والتقليدية مع جذوره الحضارية والتاريخية المقطوعة ووقوفه في مهب الريح، بين حاضر باهت مجدب قلق وبلا ملامح وبين ماضٍ مرعب لا فكاك منه ينتقم من هذا المثقف بسبب خيانته له؟

نال آداء محمود ياسين التمثيلي الممتاز في هذا الفيلم الإستحسان عن جدارة، إلا أن كاميرا سعيد مرزوق قد خطفت الأبصار والقلوب وهي تجول بنا في مواقع التصوير المميزة لهذا الفيلم، حيث البيوت والمساجد والأسبلة والتكايا والدكاكين القديمة المميزة للقاهرة المملوكية القديمة، كلوحة فنية تشكيلية في خلفية الأحداث، لوحة مقبضة ومليئة بالخوف والتجهم وعلامات الإستفهام والأسئلة المتقطعة والإجابات ذات النهايات المفتوحة والمآلات المأساوية للأبطال.

بعد "أيام الرعب" وبعد محاولة مرتجلة وناقصة وغير معدة جيداً لدخول منطقة غير مطروقة عند مرزوق وتقديم كوميديا سياسية في فيلم "آي آي" سنة 1992، دخل سعيد مرزوق في مرحلة من الأفول مع أفلام تجارية ضعيفة القيمة الفنية والفكرية وبلا جدية منه تذكر، مثل "المغتصبون" و"الدكتورة منال ترقص" و"المرأة والساطور" و"هدى ومعالي الوزير" و"جنون الحياة" و"قصاقيص العشاق" وغيرها من الأفلام الرديئة والركيكة التي لم تحقق حتى أي نجاح تجاري (بإستثناء المغتصبون)، ثم أصابته الأمراض وابتعد عن الساحة تمامًا، حتى رحل عن دنيانا مؤخرا بعد رحلة طويلة لم يتميز خلالها على مستوى كم الإنتاج ولكنه وفي مرحلة إنتاجه المتميزة، وبرغم اضطراره أحيانا للتعايش والتكيف مع شروط وإكراهات السينما التجارية، إلا أنه قدم مجموعة مؤثرة من الأعمال القوية والمتنوعة والتي ظل عبرها مخلصًا لسؤاله الرئيسي: وهو كيف تقدم سينما ملتزمة بهموم إجتماعية وسياسية ومفجرة لإشكاليات أخلاقية وقيمية، لكنها أيضا تعكس ذاتية المبدع عبر لغة سينمائية خاصة ومتفردة ومتجددة على مستوى الصورة والشكل والأسلوب.. أو كيف تصبح ملتزمًا سياسيًا وإجتماعيًا بشكل نقدي وفعال وموضوعي من جهة، وثائرًا سينمائيًا أبدياً مؤمنًا أن الشريط السينمائي هو صوت إنسان متفرد من جهة أخري.

تحية لروح المخرج الذي جاء من بعيد ورحل في صمت مع دقات طبوله.

موقع "مدى مصر" في

21.09.2014

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)