اختُتم الويك اند الاول من موسترا البندقية أمس (27 آب - 6 أيلول)
بتشكيلة من الأفلام الجيدة التي تُحمّس على ترقب ما تخفيه بقية
اختيارات المدير الفني ألبرتو باربيرا في الأيام المقبلة، علماً ان
الادارة الفنية تقترح مستوى لائقاً من الأعمال السينمائية التي
تسيطر عليها أزمة الفرد والضمير ومأزق العيش وصعوبة التأقلم مع ما
آلت اليه أحوال العالم. في الآتي، قراءة لخمسة عناوين، في انتظار
افلام أصبحت على بُعد نظرتين من عيوننا، كـ"القطع" لفاتي اكين و"بازوليني"
لأبيل فيرارا.
¶ "99
بيتاً" لرمين بهراني:
سادس أفلام الأميركي الايراني رمين بهراني (مسابقة) يحملنا الى
ازمة العقارات في الولايات المتحدة بأسلوب ايقاعي يقطع الانفاس.
الافتتاحية ملهمة والاهداء للناقد الراحل روجر ايبرت الذي كان دعم
بهراني في بداياته. التوتر العالي يرافق تقريباً كل فصول الفيلم
المتحولة والمتبدلة، وعندما يتراجع أحياناً ليدع المُشاهد يلتقط
أنفاسه، نراه يحافظ على حال من التشدد والرهبة. الممثل الشاب أندرو
غارفيلد يضطلع بدور ناش، عامل متواضع يعيش مع أمه وابنه (الزوجة
غائبة) في واحدة من تلك المدن الأميركية التي يحلو للإيراني الآخر،
أمير نادري، تصويرها ونقل واقعها. المخرج نادري، المُشارك في
السيناريو، يعرف جيداً هذا الهامش المنسي، بكل ما يتضمنه من نمط
حياة يتطور في شبه العزلة وشبه الاقصاء.
فيلم بهراني لا يصوّر الفقراء ولا متعاطي المخدرات ولا المجرمين،
بل هؤلاء الناس العاديين من الطبقة تحت الوسطى الذين لا يحلمون الا
بمنزل مع حديقة من دون ان يؤمنوا بالضرورة بالحلم الأميركي. ولكن،
هناك مَن يتربص بهم وبأحوالهم المادية ويريد انتزاع املاكهم وتحطيم
آمالهم، ولا يهم اذا كان "الهدف" شاباً لا يزال قادراً على العمل
أو شيخاً في خريف عمره. الشرّ كله مجسد هنا في شخص نيك كارفر
(مايكل شانون في قمة فنه)، سمسار عقارات، وحش مادي يتعامل مع مصرف
يرهن الناس بيوتهم فيه. ناش هو واحد من هؤلاء الضحايا الذين
سيتلقّون زيارة من نيك يُعلمه فيها بأن لديه دقيقتين فقط لإفراغ
محتوى المنزل والرحيل. اللحظة قاسية، يصورها بهراني بكل تفاصيلها
النفسية والضغط الذي يمارسه المتواطئون على الضحية. قبل ذلك، رأينا
ناش وهو يحاول اقناع القاضي عبثاً بمنحه المزيد من الوقت لتسديد
المبلغ الذي استدانه من المصرف. طبعاً، الكل متواطئ، الشرطة تخدم
صاحب المال وليس المواطن، الخ.
ينطوي الفيلم في جزئه الأول على نقد لاذع لسيستام مصرفي يضاجع
العالم من الخلف. الاخراج يمسك بالمُشاهد ولا يتركه الا بعد 112
دقيقة. الهنة الوحيدة في الفيلم هي في تحول شخصية ناش. فجأةً، تصبح
لديه صحوة ضمير عندما يدرك أنه يقف في مكان الجلاّد بعدما كان
الضحية. فهذا نظام يعيد تدوير الناس وضمائرهم الى ما لا نهاية.
سينمائياً، المشكلة ليست في عذاب الضمير، فالشاب لا يُبدي أيّ نزوع
الى الشر منذ البداية، إنما في تقديمه على هذا النحو العاطفي
والسهل: ذلك المكان الخطر الذي تنزلق اليه دائماً السينما
الأميركية.
¶"فدية
المجد" لكزافييه بوفوا:
فيلم ما دون الـ"جانر" (الاستيلاء على شيء وطلب فدية لإعادته)،
فرنسي في أدق التفاصيل. نتكلم عن فترة السبعينات. اعادة تجسيد
المرحلة تلك ليست اقوى ما في الفيلم، ويبدو ان مخرجه فضّل ان
يسطّحها ويتركها لخيال المشاهد. بعد "رجال وآلهة" ("سيزار" أفضل
فيلم عام 2010)، يلجأ بوفوا الى موضوع أقل سقامة تزيّنه موسيقى
تصويرية بديعة لميشال لوغران (82 عاماً). نشعر انه يتسلى بمكوّنات
الفيلم الجماهيري. مبادرة جيدة لولا انه حصر تركيزه بالتمثيل ووضع
نصب عينيه اللقاء الحاصل بين ضدين: بونوا بولفورد رجل فاشل يخرج من
السجن ولا يعرف ماذا يفعل وأين يذهب، فيؤويه صديقه عثمان (رشدي
زمّ)، لكن لا افق في هذه البقعة الضائعة من سويسرا عشية عيد
الميلاد.
نحن في العام 1977، ولن يتأخر الرجلان في تلقي خبر وفاة تشارلي
شابلن. نجد انفسنا وقد ركبنا مغامرة النصّابين التي تقتضي سرقة
تابوت شابلن وطلب فدية من عائلته مقابل استرجاعه، من دون أن يزودنا
الفيلم أي معطيات إضافية عن مكان وجود قبر الكوميدي. بيد ان رعونة
الرجلان وغبائهما المستمر، يجعلان العملية ساقطة لا محالة. أولاً،
الحبكة لا تصدَّق وإن كانت الحكاية صحيحة، اي انها حدثت فعلاً (في
الواقع، كان الرجلان بلغاريا وبولونيا). ولكن، شتان بين ما هو
حقيقي وما يُنقَل بواقعية تؤكد حقيقته. هذه واحدة من القواعد
السينمائية التي لا يجهلها بوفوا، لكن اختباره الكوميديا للمرة
الأولى يضع قدراته في هذا المجال على المحك.
يعالج بوفوا كوميديا المواقف على طريقته غير الإيقاعية والألوان
الرمادية والمشاهد الطويلة، في محاولة لاستخراج الدراما منها.
بونوا بولفورد رهيب في دور المهرّج الفاشل، رشدي زمّ كان أفضل
حالاً في أفلام سابقة، أما نادين لبكي التي تطلّ من خلال خمسة
مشاهد قصيرة فتقدم ما يمكن اعتباره تمثيلاً هو غاية في السوء. يبقى
الخطاب الذي يأتي به بوفوا عن التهريج، مُظهراً كم أن التهريج مصدر
اعجاب عندما يكون نظرياً وسينمائياً وممسرحاً، وكم يصبح متعباً
ومثيراً للشفقة اذا مورس في الحياة (الفيلم مشارك في المسابقة).
¶ "في
القبو" لأولريش زيدل:
في مقابلة سابقة مع اولريش زيدل نُشرت في "النهار"، كان يخبرنا
الآتي: "ستفاجأ ربما اذا قلتُ لك ان أشياء مهمة كثيرة في بلادنا
تحصل في الكهوف. انها الأماكن المفضلة للناس، فهم يفعلون فيها ما
يحلو لهم، علماً ان سواد هذه الأمكنة مقلق وما تخفيه لا حدود له.
يمكنك قول الكثير عن مجتمعنا وعالمنا وأنت جالس في كهف".
بعد سنوات على هذا التصريح، يأتينا مخرج "استيراد/ تصدير" بهذا
الفيلم (خارج المسابقة) عن تلك العوالم السفلية التي يمارس فيها
مواطنوه أفظع هواياتهم. معظمهم تجاوز أزمة منتصف العمر، احدهم حتى
يدعى فريتس لانغ. في هذه الأقبية، نجد مثلاً احد المتعاطفين مع
النازيين يحتفظ بكل مقتنياته التي تعود الى أيام الرايخ الثالث،
ومنها لوحة هتلر التي تلقّاها هدية لعيد زواجه. وقد نعثر على سيدة
تدلل طفلاً تخفيه في علبة، او رجل يزيّن جدران القبو برؤوس حيوانات
مصبّرة. أما الأكثر استفزازاً، فهي مشاهد المازوشية والخضوع، نرى
فيها رجلاً ينظف حمّام "معبودته" بلسانه.
مثلاً: لا يتوانى زيدل عن طرح أفكاره غير المستقيمة سياسياً عبر
مجموعة رجال يتكلمون عن المهاجرين المسلمين وعدم قدرتهم على التكيف
والانتماء، وفي نظرتهم شيء من التعميم وشيء من الصواب. زيدل من
معلّمي السينما الحديثة، ولكنه هنا يذهب بعيداً في السخرية الهدامة
ولا يحفظ خط الرجعة. الأهم: لا يرحم. بيد أن أهم ما عنده هو هذه
الضبابية التي يخلقها بين المفاصل. لا ولن نعرف اذا كان ما نراه
وثائقياً أم روائياً، اذا كانت الشخصيات تصدق ما تفعل أم انها
تتظاهر بذلك. الفيلم مُهندَس على هذا النحو. وسحر أفلام زيدل الذي
يواصل تشكيلاته البصرية الثابتة والباردة بلا اي حراك، يتأتى من
هذه النقطة تحديداً. زيدل من أروع المراقبين والمتأملين للطبيعة
البشرية. لؤمه لا حدود له. يكفي كيف يحول ملل النمسويين هنا الى
مادة تلصص عجيبة. كل مشروع زيدل يقوم على هذه المنطقة الضائعة بين
ما نعتقده وما يدفعنا الى اعتقاده. في النهاية، نتخلى عن هذا الهمّ
حباً بالمتعة!
¶ "تحقير"
لباري لافينسون:
الفيلم (خارج المسابقة) يتشابه بشكل كبير مع مضمون "بردمان": تقهقر
ممثل يواجه شياطينه. لكن آل باتشينو يأخذ السيرة الى مكان آخر.
نضحك عليه ومعه. للمناسبة، هناك ثلاثة أفلام تأتي على ذكر
"برودواي" في هذه الدورة من البندقية: "بردمان" لأليخاندرو
غونزاليث ايناريتو، "هي مضحكة هكذا" لبيتر بوغدانوفيتش، وهذا
الفيلم. آل باتشيتو (74 عاماً) الذي اذعن في السنوات الأخيرة الى
ادوار "غذائية" في افلام تجارية رديئة، يعود هنا بفيلم ينطوي على
خطاب ضمني بين واقعه كممثل وبين الدور الذي يضطلع به. العمر،
المرض، العجز الجنسي، التعاسة، العزلة، كل هذا يقاربه لافينسون في
افلمته هذه لرواية فيليب روث الصادرة عام 2009.
في "تحقير"، يضطلع آل باتشينو بدور ممثل مسرح معروف يرمي نفسه من
الخشبة في احد العروض فيرتطم أرضاً. حادثة ستوقعه في إحباط هائل لا
يعود يعرف على إثرها اذا كان يمثل او يعيش. نراه يقتل ما له من وقت
في منزله الفخم قبل أن تدخل حياته فتاة لعوب تصغره سناً (الموهوبة
غريتا غرويك)، التي ستجعله يدرك اكثر فأكثر مساوئ الشيخوخة،
وخصوصاً انه يشكو ايضاً من آلام رهيبة في الظهر تسمّره في الفراش
أحياناً. باتشينو، هذا الشكسبيري، الممثل الذي يمثل كثيراً، محامي
الشيطان، كل هذه الجوانب منه، يدركها لافينسون جيداً ويوظفها في
عمل يفتقر الى الاسلوب، لكنه ممتع الى حدّ ما. فالاسلوب الوحيد هنا
هو باتشينو نفسه الذي يسرق الفيلم من يدي المخرج. يذكر ان باتشينو
يشارك في المهرجان بفيلم آخر ايضاً: "مانغلهورن" لديفيد غوردون
غرين الذي يتسابق على "الأسد الذهب".
¶ "الرئيس"
لمحسن مخملباف:
بعيداً من عالم الفنّ والـ"شوبيز"، قدّم المخرج محسن مخملباف، احد
أسياد السينما الإيرانية المعاصرة، فيلماً سياسياً اسمه "الرئيس"
(قسم "أوريزونتي") عن رجل عجوز باعتباره ديكتاتوراً حكم بلاداً
وهمية لسنوات قبل أن يطيحه الثوار. يفتتح الفيلم على مشهد "سوريالي"
يتخطى حدود العقل للرئيس المخلوع لاحقاً وهو جالس على كرسيه يعلّم
حفيده كيف يتحكم بالناس عبر التحكم بالتيار الكهربائي. نراهما
يتصلان بجهة تقطع التيار عندما يطلبان منها ذلك، وتعيده نزولاً عند
رغبتهما. الفيلم بأكمله مغامرات هذا الرجل برفقة حفيده الطفل،
وتنقّلاته من مكان الى آخر هرباً من الخطر الذي يلاحقه، في "رود
موفي" نبرته شرق أوسطية. لم يستمع الديكتاتور الى مطالب الشعب
ورغباته، لذا عليه ان يدفع الآن ثمن التجاهل. خطاب مباشر يجعل
الفيلم يبدو كنكتة في أحايين كثيرة، على الرغم من الحرفة العالية
التي يتمتع بها مخملباف. المشكلة في الحجة السيناريستية وليست في
كيفية تقديمها، وهي حجة يصعب تصديقها. المشكلة الثانية تتجسد في
اننا نعرف مسبقاً كل ما يريد قوله. "الرئيس"، خلافاً لفيلم
ايناريتو، لا ينطوي على اي اختراق، فهو يتبلور كمسار نهر يصبّ في
المكان الذي تصب فيه مئات الأفلام ذات البال المرتاح. يبقى اننا
نلتفت الى ضوء من هنا، فكرة من هناك، لكن هذا كله لا يصنع فيلماً
مجيداً تصل أهميته الفنية الى أهمية الموضوع المطروح. ما اراد
مخملباف قوله قاله باختصار في جملة خلال المؤتمر الصحافي: "بعضهم
ينسى مَن كان قبل ان يصبح صاحب قوة. يتعاطى مع النفوذ كأنه ملكه
منذ الأزل".
hauvick.habechian@annahar.com.lb |