مهرجان الإسماعيلية السينمائي.. خمسة أيام حافلة
بالعروض
أفلام حية تحاصر الواقع وتنقل صوره وحالاته
لندن: محمد رُضا
يختتم مهرجان الإسماعيلية أعماله يوم غد، وذلك بعد خمسة أيام حافلة
بالعروض التي شملت أفلاما تسجيلية قصيرة وأخرى طويلة وأفلاما
روائية قصيرة كما أفلام رسوم متحركة.
مهرجان الإسماعيلية، في دورته السابعة عشرة، تشرف عليه وزارة
الثقافة ويرأسه السينمائي كمال عبد العزيز ويديره الكاتب والمنتج
الموهوب محمد حفظي، مع حضور جيّد لأعمال سينمائية تثير قضايا فنية
غير روائية تطرحها تلك الأفلام المختلفة المشاركة من نحو 35 دولة.
بالإضافة إلى بهجة متكاملة تأتي في الوقت ذاته الذي تدخل فيه مصر
عهدا جديدا بانتخاب عبد الفتاح السيسي رئيسا للجمهورية. وإذا ما
جرى التغلّب على بعض ما تناقلته الصحف المصرية في العام الماضي من
عثرات تنظيمية فإن النتيجة هذا العام تبشر بأن تكون أفضل منها في
السنوات السابقة.
وأجمعت الصحف المصرية على أن حفل الافتتاح، في الثالث من هذا
الشهر، جاء تتويجا للقاء السياسة، في مثل هذه الظروف الإيجابية، مع
السينما. وانعكس ذلك بحضور وزير الثقافة محمد صابر عرب والكلمة
التي ألقاها، وتلك التي ألقاها أيضا محافظ الإسماعيلية اللواء أحمد
القصاص.
*
بدايات مذهلة
كل ذلك يأتي وسط المناخات المختلفة التي يمر بها العالم، والعالم
العربي تحديدا. ما عاد خفيًّا أن القصد الإعلامي والمعرفي للسينما
التسجيلية لم يعد وحيدا أو جوهريا كما كان الحال أيام قام الأميركي
روبرت فلاهرتي بتصوير «نانوك الشمال» سنة 1922 والألماني وولتر
روتمان بتصوير فيلمه الأعجوبة «برلين: سيمفونية مدينة عظيمة»
(1927) والروسي دزيغا فرتوف بتحقيق «الرجل ذو الكاميرا السينمائية»
(1929).
المعرفة لم تكن وحدها عنصر هذه الإنتاجات المبكرة وسواها، بل تصميم
الفيلم التسجيلي ليكون فنًّا رديفا لأي فن تصويري آخر. لذلك تعددت
الأساليب وليس المواضيع المطروحة وحدها. «نانوك الشمال» يختلف في
أسلوب تحقيقه وتصويره لحياة سكان الأسكيمو آنذاك عن فيلم روتمان
الذي قدّم مدينة برلين في 65 دقيقة مذهلة من الصور والموسيقى، وهو
بدوره مختلف عن ذلك الهاجس السياسي الذي صاغه فرتوف. وحتى عندما
تشاركت الأفلام التسجيلية الطويلة الأولى بطرح موضوعها الاجتماعي،
كما الحال في «أرض بلا خبز» للوي بونويل (إسبانيا - 1933)
و«المحراث الذي هزم الحقول» لبار لورنتز (الولايات المتحدة - 1936)
مثلا، فإن لكل منها منوالا مختلفا عن الآخر يتضمّن طريقة التنفيذ
وأسلوب التصوير ومعالجة نواحي العمل المختلفة.
انطلق الفيلم التسجيلي من حب معرفة أمر واقع. ملاحظة حياة ورصد
ديناميكيّتها وما يجعلها تمضي. إنه تسجيل مباشر (في الأساس) لواقع
ما قبل أن يكون وجهة نظر. لذلك فإن «انتصار الإرادة» للألمانية
ليني رايفسنتال حول مسيرة واحتفال الحزب النازي سنة 1934 تحدّى
الزمن وبقي علامة فنية فارقة رغم موضوعه. كذلك الحال بالنسبة
لـ«الأسف والشفقة» للفرنسي مارسل أوفولوس سنة 1969 الذي تخصص في
سرد أوجه التعاون بين حكومة فيشي الفرنسية وألمانيا خلال الحرب
العالمية الثانية.
ليس هناك من فيلم من دون وجهة نظر حتى ولو بدت غائبة، وهذا ينطلي
على كل ما هو مصوّر تحت مظلّة السينما. لكن من بين الأفلام
التسجيلية ما تتقدّم فيها وجهة النظر بحيث تحتل صلب الموضوع من
خلال ذلك العرض المكثّف لما تصوّره الكاميرا. أحد أبرز الأمثلة
فيلم الأميركية باربرا كوبل المسمّى «هارلان كاونتي يو إس إيه» سنة
1976 الذي عاين إضراب عمّال منجم فحم في مقاطعة هارلن في ضواحي
مدينة أوستن، ولاية مينيسوتا. في المقابل غيّب مخرجون آخرون أي طرح
اجتماعي، ومن أبرز هؤلاء أندي وورهول الذي صنع فيلما من 485 دقيقة
عنوانه «إمباير» نصب فيه الكاميرا ليومين أمام مدخل ناطحة السحاب
في نيويورك «إمباير ستايت» من قبل غروب شمس اليوم الأول إلى الساعة
الثالثة بعد ظهر اليوم الثاني. لا حركة كاميرا ولا إدارة أشخاص أو
آليات ولا انتقال من وإلى المكان. لا شيء سوى كاميرا مفتوحة وبلا
مونتاج!
*
المعسكر الواقعي
السينما التسجيلية لها طريق طويل بدأت من فجر السينما إلى اليوم.
خلاله تعددت الاهتمامات والأساليب والغايات. وفي الكثير من الأحيان
تبعت هذه الغايات الأحداث المختلفة (سياسية أو اجتماعية أو علمية)
ولم تسبقها كما الحال مع السينما الروائية التي تتميّز بالمخيلة
التي تستطيع فيها - مثلا - الحديث عن الهبوط فوق سطح القمر، كما
فعل الفرنسي جورج ميلييس سنة 1902 بعشرة آلاف فرنك التي كانت ثروة
كبيرة آنذاك وضعها المخرج - المنتج والمبتكر ميزانية لعمل يصوّر
كيف قام فريق علمي بالوصول إلى القمر حيث اكتشفوا وجود مخلوقات
متوحشة ما دفعهم للهروب إلى المركبة التي أقلّتهم والعودة بها. هذه
المركبة، في إضافة ملموسة وطريفة كالفيلم بكامله، حطّت في قاع
البحر حيث بدأت مغامرة أخرى قبل أن يطفو العلماء بعدما برهنوا أن
الوصول إلى القمر أمر ممكن.
إذ لا يستطيع الفيلم التسجيلي أن يغادر معسكره الواقعي، يستطيع
بالتأكيد أن يصوّر الوقائع أو يعود إليها في شكل توثيقي وأرشيفي أو
من خلال مقابلات. فكرة الفيلم التسجيلي هي أن تصوّر الكاميرا ما هو
موجود ولو أن البعض - خصوصا في هذه الأيام - يرتكب خطأ المزاوجة
بين الدراما والتسجيلي (يسمّونه دوكيودراما) كفعل هجين لا يكفي
لاعتباره كفؤًا في أي من المنزلتين. سابقا ما كان مثل هذا التزاوج
غير مسموح به على أساس أن من يختار درب التسجيل أو التوثيق لا
يستطيع أن يغيّر في الواقع بل عليه الاكتفاء بنقله. على ذلك اتهم
روبرت فلاهرتي بأنه طلب من العائلة التي صوّرها في طبيعتها الثلجية
القاسية القيام ببعض الأعمال التي عدها ضرورية. بذلك الطلب انتقل
من مجرد تصويرها إلى تفعيل حركتها على نحو معيّن بحيث يضمن وجود ما
عده مفقودا. لكن هذا الاتهام هو «التلفيق» وكانت ردّة الفعل عليه
كبيرة آنذاك. اليوم نجد نماذج من التلفيق لا تكتفي بإخراج روائي
لمشهد واحد، بل لمشاهد عدّة. بل الرغبة فيما يُسمّى إعادة البناء
وعلى نحو واسع ومغاير لمفهوم السينما التسجيلية كما فعلت المخرجة
ناريمان ماري بن عامر في فيلمها الجزائري «لوبيا حمرا» (2013)
عندما اختارت الاستعانة بأولاد من اليوم لتمثيل أولاد ما قبل
الاستقلال الجزائري في فيلم عد - عن خطأ - تسجيليا وعرض بهذه الصفة
في مسابقة الدورة الماضية من مهرجان دبي السينمائي.
*
مدينة
تلك الدورة حوت ثلاثة أفلام نجدها متوفّرة في مهرجان الإسماعيلية
الحالي وهي «موج» لأحمد نور (مصر) و«حبيبي بيستناني عند البحر»
لميس دروزة (الأردن) و«أرق» لديالا قشمر (لبنان).
«موج»
استقبل بترحاب كبير أينما شهد عرضا وهو لمخرج جديد يمزج التعبير عن
الوضع الحاضر (أيام ثورة يونيو - حزيران) في مدينة السويس بالتاريخ
الشخصي للمدينة. موحٍ كيف أن المخرج أحمد نور يصر على تلك النظرة
الحانية للمدينة التي يحبّها رابطا متغيّراتها بخمس مراحل مرّ بها
كإنسان أيضا. استعراضه للمدينة وتاريخها يمر على تفاصيل غير معروفة
حول المدينة التي شهدت انطلاق الثورة المصرية حديثا.
وهو يجعل من البحر حالات انعكاس ذاتية وتأمّلية ليرتاح عنده من حين
لآخر. ما لا ينجح فيه هو الحديث عن تلك الطيور السوداء التي اختفت
بعدما صدر الأمر بإبادتها. هذا الإشعار بالحنان لطير ضاجّ ومفترس
يتنافى مع الرومانسية التي تعتمر الفيلم ما يعمل ضد الرمز المقصود.
بل مع مفهوم «طيور الظلام» الذي يدمجه المخرج كوضع استتب لحين في
حياة المدينة الجميلة.
ومن المدينة إلى حي منها. ففيلم «أرق» للمخرجة اللبنانية ديالا
قشمر عمل من المقابلات المفتوحة مع شباب حي من بين أفقر أحياء
بيروت ينتمون إلى الطائفة الشيعية متحدّثين عن ماض مؤلم ومستقبل
مجهول. المرء يبقى مع هذه الحالات ليعلم عنها، لكنه لا يخرج بمفاد
أكثر من لعب الفيلم للدور التعريفي من دون بلورة الأبعاد المأمولة.
ينتهي هذا الفيلم بعد 109 دقائق من بدء عرضه من دون أن يوفّر السبب
الذي حدا بالمخرجة ديالا قشمر إلى تحقيقه. لا تبدي المخرجة دافعا
ذاتيا ولا مبررا اجتماعيا أو وطنيا، بل تلتقط الكاميرا وتصوّر
مجموعة من الشباب الشيعي وهو يتحدّث عن كل شيء ولا شيء.
مشاهد الفيلم تمر على سجيّتها بالفعل، وحين لا يجري ترتيبها حسب
مفاد ما، تبقى كذلك على الشاشة ما يجعل الفيلم مجرد تسجيل لا يقدّم
في حياة أحد أو يؤخر فيها. تتحدّث قشمر إلى شباب واحد من الأحياء
الأكثر فقرًا في بيروت (إن لم يكن الأكثر فقرًا بالفعل) وتبدأ
بأشخاص يتعهدون بإيجاز تاريخه إنما حسب رواياتهم. على تعدد هذا
البوح الذي يوليه البعض من هؤلاء الرجال وجدنا الفيلم يدور حول
المحاور ذاتها ولا يضيف إليها جديدًا. يرتفع الفيلم إلى مستوى من
الأهمية في الجلسات الأخيرة مع انفتاح الرجال أكثر في أحاديثهم لكن
ذلك لا يترك أي تأثير ولا يعكس تصاعدا فنيا من أي نوع. استخدام
الكاميرا (أحيانًا خفية) محدود لحدود تطلعات المخرجة التي لا تضع
في حسبانها أي طموح فني يمكن للفيلم الاستفادة منه.
*
سريالية
الفيلم الثالث، «حبيبي بيستناني عند البحر»، الذي سبق الحديث عنه
هنا، بضع مرات، هو الأكثر تكاملًا بين هذه الأعمال المشاهدة.
المخرجة ميس دروزة تنتقل بين أشعار حسن حوراني وبين الصور المسجّلة
اليوم في منحى بحث المخرجة عما بقي من الهوية الفلسطينية. وبطريقة
لا تخلو من الشعرية بدورها، يطل البحر ليس فقط من خلال العنوان بل
من خلال الحاجة إليه. هو محور من محاور البحث والأحاديث التي
تجريها المخرجة مع من تلتقيهم من نساء ورجال إلى جانب محور التمسّك
بالهوية الوطنية رغم تشتت الوضع وشعور الشباب بالمنفى حتى وإن
كانوا يعيشون فوق أرضهم الواقعة ضمن خطر الاقتضام المتواصل. بين من
تتناول حياتهم كاميرا المخرجة الأردنية عائلة من رجل وزوجته
وطفلهما ترتسم في أرجاء عيشهم المشترك تاريخ القضية وحاضرها راسمة
علامات على مستقبلها أيضًا.
حسنًا فعل مهرجان الإسماعيلية بالحد من عروض الأفلام التي سبق لها
واشتركت في مهرجاني دبي وأبوظبي رغم أن هذين المهرجانين عرضا في
العام الماضي بعض أفضل ما جرى تحقيقه (والقليل من الأسوأ أيضًا).
المهرجان ليس عربي الاهتمام فقط، بل هناك أفلام من بقاع العالم
المختلفة في مسابقاته المتعددة، ولو أنه من المثير للاهتمام كيف أن
استقبال الفيلم المصري يحتفظ بوقعه الوطني كإنتاج يتحدّث لغة البلد
وثقافته قبل أن يقود للحكم له أو عليه. في هذا الإطار جاء فيلم
الافتتاح «عن يهود مصر: نهاية رحلة» لأمير رمسيس الذي هو رديف
لفيلمه السابق حول يهود مصر. لكن في حين أن الفيلم السابق تعامل مع
التاريخ وحده، ينتقل الفيلم الجديد إلى حاضر الجالية اليهودية التي
آثرت البقاء في مصر ويستدرجها في الحديث عن أسباب عدم نزوحها أو
هجرتها.
الفيلم الآخر في هذا الاحتفاء هو «القيادة في القاهرة». على هناته
(نتيجة التطويل) هو فيلم قفشات مرحة ضمن الملاحظات الناقدة لما
تحمل به قيادة السيارات والمركبات المختلفة في العاصمة المصرية.
ذلك القاموس الخاص من المفردات الشفهية والصامتة. الفوضى المحببة
(وأحيانًا الخطرة) وفن البقاء قيد الحياة في منوال يومي ملؤه الخطر
مع تلك السيارات والعربات والدراجات المتلاحمة. من العربة التي
يجرّها الحمار إلى السيارات الخاصّة مرورًا بالتاكسيات والدراجات
النارية يرسم المخرج عالمًا هو سريالي في كلّيّته. |