استياء إسرائيلي من مهرجان برلين...
وغزوة آسيوية باسم السينما
برلين - فيكي حبيب
هل هو «النق» الإسرائيلي المعتاد واللعبة الدائمة التي يتقنها
اليمينيون الاسرائيليون - في مجال السينما هذه المرة - للظهور
بمظهر الضحية؟ أم أن السينمائي البريطاني كين لوتش، لديه فعلاً من
السلطة والقوة، ما أجبر مهرجان برلين في دورته الـ64 على استبعاد
السينما الاسرائيلية من المسابقة كشرط لحضوره وقبول التكريم الصاخب
الذي أقيم له بمنحه جائزة «الدب الذهبي» عن مجمل أعماله؟
إذا صدّقنا بعض الصحافة الاسرائيلية، سنجدنا امام هذا السينمائي
الذي يلقب بآخر اليساريين المحترمين في عالم الفن السابع وقد
استخدم سلطاته للتصدي لإسرائيل لتكون النتيجة أقل حضور لأفلامها في
«برلين» منذ سنوات طويلة.
ولا يبتعد التقرير الذي نشرته صحيفة «هآرتس» من طرح علامات
الاستفهام هذه. فهو، وإذ يسلط الضوء على الامتعاض الاسرائيلي من
هذا التكريم، يغمز من قناة المهرجان الذي ضم في دورته المنصرمة
أفلاماً اسرائيلية (كلها خارج المسابقة) قليلة العدد نسبياً مقارنة
بالسنوات الماضية.
ويعزز التقرير حجته بنقله عن موقع «Haolam»
موقف لوتش تجاه مقاطعة مهرجان إدينبرغ الدولي عام 2009 بعدما اكتشف
ان السينمائية تالي شالوم عازار من المدعوين وأن الحكومة
الاسرائيلية ساعدت في تغطية نفقات رحلتها. والأمر ذاته تكرر معه
(دائماً وفق الموقع الالكتروني الاسرائيلي) حين ألغى حضور مهرجان
ملبورن الدولي في العام ذاته بعدما اكتشف أن الحكومة الاسرائيلية
دفعت ثمن تذكرة سفر فنانة الرسوم المتحركة تاتيا روزينتال الى
المهرجان.
ولا يخفي التقرير الاسرائيلي التعاطي الحذر لقادة يهود في ألمانيا
مع هذا التكريم. وينقل عن رئيس مكتب برلين للجمعيات
الأميركية-اليهودية ديدر برغر قوله: «يستخدم كين لوتش شهرته للدعوة
الى مقاطعة ثقافية لإسرائيل، الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق
الأوسط حيث حرية التعبير مُصانة بالكامل. ولهذا، من العار أن ينقاد
مهرجان سينمائي ألماني مهم وراء منتج أفلام يحاول أن يميّز نفسه
بتعصبه الأعمى وإنكار حق اســـرائيل في الوجود». ويضـــيف: «لا
يجوز محـــاكمة أعمال لوتش بمقياس الفن وحده، خصوصاً انه نفسه يحكم
على أعمال الآخرين على قاعدة الجنسية فحسب».
ولا تغيب تصريحات لوتش عن تقرير صحيفة «هآرتس» التي تنقل عن صحيفة
«تاغسبيغل» الألمانية، ردّه على سؤال حول سبب دعمه مقاطعة الدولة
العبرية، إذ قال فيه ان «إسرائيل تقدم نفسها كديموقراطية غربية،
لكنها في الوقت ذاته تخلّ بالاتفاقات الدولية، وتكسر بنود معاهدة
جنيف وتُسيطر على أراض لا حق لها فيها، وتُلقي بالأطفال في السجون
وتُكذب في شأن أسلحتها النووية». مضيفاً انه يساند «مقاطعة
أكاديمية وثقافية لدولة إسرائيل، لأن مثل هذه المقاطعة هو الشيء
الوحيد الذي يمكن فعله لتحقيق ما عجزت عنه الأمم المتحدة والرئيس
الاميركي في جعل اسرائيل تنسحب من الأراضي المحتلة».
في المقابل، أفاد التقرير بأن كين لوتش يرفض أيضاً المشاركة في
مهرجان طهران «احتراماً منه لمعارضي النظام»، ما يدعم التصريح الذي
نشره مدير الـ «برليناليه» ديتر كوسليك على موقع المهرجان حول انه
معجب بِكِين لوتش لـ «اهتمامه العميق بالشعوب وحق تقرير المصير
بمقدار إعجابه بالتزامه شؤون المجتمع».
غزو صيني وآسيوي
الامتعاض الاسرائيلي من «مهرجان برلين السينمائي» قابله ترحاب صيني
عبّرت عنه تغريدات عدد من الشبان على مواقع التواصل الاجتماعي بعد
فوز فيلم دييو ينان «فحم أسود، ثلج رقيق» (Black
coal,thin ice) بجائزتي «الدب الذهبي» وأفضل ممثل
(ليو فان). ولم تغب الاحتجاجات عن تلك الرسائل، خصوصاً لجهة ما
يتعلق بالخوف من مقصّ الرقيب او الامتعاض من عدم عرض أفلام صينية
تحظى بإعجاب الغرب وجوائزه في بلادها.
وإذا كان بعضهم يخشى ان يصادف «فحم أسود، ثلج رقيق» مصير فيلم
«لمسة الخطيئة» ذاته (فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان «كان»
وجائزة «اللؤلؤة السوداء» في مهرجان أبو ظبي)، أي عدم عرضه في
الصين بعدما كان مبرمجاً في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فإن
مشاهدة فيلم دييو ينان في برلين، كافية لدحض مثل هذه المخاوف. فهو،
وخلافاً لـ «لمسة الخطيئة» الذي يتناول، ولو مواربة، أجواء الفوضى
وغياب العدالة الاجتماعية في البلد، لا يوارب ولا ينطق سياسة، بل
ينتمي الى السينما البوليسية السوداء (Cinema
noir)
التي تقوم على تحقيق في جريمة قتل قد يكون مسرحها أي بقعة من
العالم.
ولهذا يمكن أن نصدق ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية عن إحدى وسائل
الإعلام الصينية حول أن الضوء الأخضر أُعطي للفيلم من السلطات وأن
نزوله في الصالات الصينية مرتقب بين نيسان (أبريل) وأيار (مايو).
وعندها قد يخيب ظن كثيرين في الصين إذ سيجدون أنفسهم أمام حبكة
بوليسية واضح تأثرها بـ «السينما الاميركية والأوروبية»، كما عبّر
مخرج الفيلم نفسه. فماذا عن القصة؟
منذ الدقائق الأولى، تتجه أصابع الاتهام في جرائم قتل حدثت في
أحياء صينية عدة، نحو الحسناء «وو زيزان»، بعد ان يكتشف الشرطي
السابق «زانغ زيلي» ان الضحايا جميعاً ربطتهم علاقة وثيقة بها.
ولهذا، يبدأ تحرياته من حولها فيراقبها في يومياتها ويتابعها حيثما
تذهب من المصبغة حيث تعمل الى حلبة التزلج التي تهواها وصولاً الى
المنزل. ولكن، شيئاً فشيئاً، تبتعد الشبهات عن بطلتنا بعد ان تتجلى
الحقيقة أو ما يبدو انها الحقيقة; فها هو «رجل المزلاج» (نسبة الى
المزلاج الذي يرافقه حيثما يذهب ويقتل به ضحاياه) أو «شبح» زوج «وو
زيزان» يعود الى الحياة لينتقم من كل رجل يقترب من زوجته. وطبعاً
لن يكون المحقق «زانغ زيلي» بمنأى عن الخطر المحدق به أسوة بسواه
من الرجال الواقعين في غرام الفتاة الحسناء. أمام هذا الواقع، تبدأ
لعبة شدّ الحبال بعد 5 سنوات من الجريمة الأولى، لكنّ القبض على
المجرم لن يكون صعباً حين تشترك الزوجة في تسليمه الى حبيبها
الجديد لتأخذ العدالة مجراها.
نهاية متوقعة؟ صحيح، ولكن ماذا لو لم تكن هذه هي النهاية؟ هنا
بالذات تكمن قوة الفيلم، ففي اللحظة التي يبدو فيها اننا امام
حقيقة لا لبس فيها، يطلّ خيط جديد ليعيدنا الى الدائرة الأولى، أي
الى نقطة الصفر، بإعادة اتهام البطلة الحسناء التي سرعان ما يتبين
انها ارتكبت الجريمة الأولى بعدما أفسدت معطف صاحب إحدى الحانات
وعجزت عن سداد ثمنه، فما كان أمامها إلا تصفية الرجل بتقطيعه أجزاء
أجزاء وتوزيع أشلائه على عدد من معامل الفحم بحيث لا يمكن التعرف
الى هويته.
فهل نحن هنا أمام نقد اجتماعي جديد في السينما الصينية؟ أكيد، ولكن
ليس من ذاك النوع المباشر الذي قد يؤدي الى منع عرض الفيلم.
الفائز الأكبر
ولم تكتف الصين بجائزتي «الدب الذهبي» وأفضل ممثل، بل حصد فيلم «بلايند
ماساج» للو يي جائزة «الدب الفضي» لأفضل مساهمة فنية. كما فازت
اليابانية هارو كوروكي بجائزة افضل ممثلة عن تجسيدها دور خادمة في
طوكيو في الفيلم الياباني «ليتل هاوس»، ما دفع كثيرين للقول ان
السينما الآسيوية هي الفائز الأكبر في برلين.
أما السينما الأميركية والتي توقع كثر من النقاد أن تخطف جائزة
«الدب الذهبي» من خلال فيلم ريتشارد لينكليتر «صبا»، فاكتفت بجائزة
أفضل مخرج للينكليتر، إضافة الى جائزة لجنة التحكيم الخاصة للمخرج
ويس اندرسن عن فيلم «أوتيل بودابست الكبير».
وتبقى مفاجأة الجوائز منح السينمائي الفرنسي آلان رينيه (92 سنة)،
جائزة ألفرد باور (تيمناً باسم مؤسس المهرجان) التي تكافئ سنوياً
فيلماً يفتح آفاقاً جديدة، عن فيلم «أحب، غني واشرب»، ما حدا ببعض
النقاد للتعليق: أي آفاق جديدة يفتحها رينيه وهو محاصر في فيلم
مسرحي؟
وبعيداً من الجوائز والانقسام الذي تُحدثه في صفوف النقاد
والمشاهدين على حد سواء، يمكن القول إن المهرجان الذي يميّز نفسه
دوماً عن منافسيه الكبيرين (مهرجانا «كان» و «البندقية») بأنه
الأكثر شعبية، أي انه مهرجان موجّه الى الجمهور، كسب الرهان مجدداً
بوصوله الى عتبة بيع 330 ألف بطاقة في سابقة في تاريخ الـ «برلينالي».
ولهذا، كان بديهياً أن يتلقى المهرجان أكثر من 5 آلاف فيلم من حول
العالم، عرض منها 409 أفلام من 72 دولة في أقسام المهرجان العشرة.
ولعل الخلاصة التي وصلت إليها مجلة «سكرين» الانكليزية في وصفها
للدورة 64 من المهرجان، الأكثر تعبيراً عن يوميات الـ «برليناليه»
الـ11، إذ كتبت: «واضح ان برلين هذا العام كان عبارة عن افتتــاح
قوي («أوتيل بودابست الكبير»)، متن بطيء وذروة لا بأس بها». |