حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رحيل توفيق صالح

توفيق صالح.. الصديق

منى ثابت

إذا رأيت توفيق صالح، المخرج الشهير بتميز أعماله القليلة، بدون صحبة زوجته »رودا« أو إحدي ابنتيه «ريم» و»ريهام»، أو ابنه «محمد» فأنت لم تره.. إنما رأيت المخرج المتشدد، الذى سلم سلاح الكاميرا مبكراً جداً، خوفاً من إهدار قيمة وكرامة السلاح.. سلم الكاميرا لأجيال عفية وساندهم فى معهد السينما، يفتح لهم خزائن أسرار سلاحه الغالى الحميم، الذى بادله العشق، والطاعة، والإيمان بقوة الكلمة والصورة فى اختراق عقل ومشاعر وارادة الإنسان، وفى تبديل حياته.. وقضية توفيق صالح هى أن يعيش كل إنسان بكرامة، وأن يموت بكرامة.

وهى قضية اقحمته فى معارك، ومنحته ألقابا طاردة فى الحفل السينمائي، مثل السابح ضد التيار، المشاكس، والمتمرد.. لانه وضع لنفسه معايير عمل لن يتنازل عنها. ومعايير لتقبل النقد السينمائي، ولحدود الرقابة على العمل الفني.

سلم توفيق صالح الكاميرا لكنه لم ينسحب من البلاتوه.. انما حول الحياة والعالم الى بلاتوه واسع ممتد.. يراه برأس مرفوعة مندهشة غالبا، وآسفه أحيانا ومخذولة كثيرا، يراه لقطة واحدة متناغمة، سيمفونية حياة،المايسترو فيها هو الله.. وكل إنسان على الكرة الأرضية هو عازف ومغنى وراقص وراهب.. كل يلعب جميع الأدوار بالتبادل.. وعلى جالس على كرسى المخرج والشاهد على الحقيقة، يغلى ويحترق لأن رؤساء العالم هم النشاز وليس الشعوب.. هم الأشرار .. هم رؤساء العصابة.. ويتأكد كلما مر عليه أحد أفلام الحياة من حقيقة أن رئيس العالم هو الشيطان وأن الله هو رئيس السماء وأن الحياة الأفضل لن تكون الا هناك أعلي السحاب، حيث السلام والتسبيح والنقاء وكل الحرية..

والحرية.. هى سر الألم وسر السعادة فى حياته.. وهو اختار طريقها الملغم ولم يتنازل عنه.. ودفع الثمن متألما لكن راضيا ومزهوا، فالثمن بخس.. وهو خسارة بعض أرانب وفئران البشر، أو ثروة تسرق الروح ولاتغنى النفس أو البدن.. اختار أن يعيش مرفوع القامة والهامة بعلمه ومشاعره وإنسانيته، لأنه نافر وكاره لحياة العبيد.. يؤمن توفيق صالح مثل أغلب الفللاسفة ان الله منح الفقراء الكنز الأبقي.. وهو القلب النقى الذى لم تثقله أو تعميه شهوات العالم الباطلة.. فطاردهم بالكاميرا لثقة انهم هم انقياء القلب الذين يعاينون ويحاورون الله ببساطة ووضوح ومباشرة ، فظلوا هم الصيد الثمين لتوفيق صالح، يصطادهم من روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وغسان كنفاني.. ليحكى عنهم ولهم، ويصارعهم ليفوز فى النهاية.

هذا هو توفيق صالح الذى رأيته منذ حوالى عشرين عاما، وعرفته من صوت ضحكة «رودا» فى دورة لمهرجان الإسماعيلية.. وجه «رودا» ينير ويشع كالكشاف وهى تضحك.. تحيل أمسيات المهرجان الى ليال قمرية مبهجة وخاصة، تكمن فى الذاكرة كالمصل فى الدم.. ثم عرفت ريم وريهام ومحمد.. وتواصلنا عائليا فارتوينا.. نهلنا من نهر هذه العائلة المتدفق بالمحبة والعطاء والضحكات الصافية، والتمرد، ورفض القبح والغباء السياسى وظلم الفقير.. رفضا صارخا يصل الى كتابة لافتات الأدانة والمشار كة فى مظاهرات الثورة ثم مظاهرات سرقة الثورة، لأن مصر هى الوطن الغالي.. وفترات السفر هى هروب للاستشفاء واستعادة الصلابة ومضاعفة التحدي.. محمد قلبه يرتجف وهو يحيط بهن حارسا.. وتوفيق فى شرفة منزله المطلة على النيل وعلى منارة الجامعة، يتأمل عائلته المتمردة بابتسامة راهب.. ويمضى بنا قارب الحياة..

تتلاطم أمواج الحياة.. يتعرض توفيق لما أدانه فى أفلامه السبعة.. الظلم والترصد والإقصاء من أصحاب العمر والرسالة، ومن الأقزام.. ينسحب لكنه يظل أسير الحنين للعودة للكاميرا.. مع كل رواية إنسانية، وكل نشرة أخبار يتشكل سيناريو جديد يطارده ويصطاده ويحفزه.. يقترب بوجل من قدس الأقداس ، ثم يتراجع ويكمن فى دور الشاهد الأمين والمحلل الواعى والمبشر بما هو آت.. لكن المواجهة، والقبض من جديد على آلام الأنسان فى شريط سينمائي، يبقى حلما مستحيلا.. وعذابا يوميا يؤنبه لأنه تخلى عنه بعدما تعاهدا زمان، وتلازما، وشطحا المغامرة والتحدي، ونعما بلحظات الصدق والبوح والتحدى والجوائز والتقدير.

ولماذا لا أفصل ما بين توفيق وأسرته!.. لأنهم حصاده، «رودا» هى إختياره، وأولاده هم صورته ثمارة وسر فرحة. أسرته هى أهم وأنجح أفلامه.

يتقدم العمر.. ويدخل توفيق صالح شخصيا فى مشاهد أفلامه القديمة.. فتعود حية لكنه لدهشته ودهشتنا هو البطل.. هو بطل الأفلام السبعة الطويلة التى أخرجها، وهو جسد الفيلم المسجى الذى تدور عليه الأحداث الآن بكاميرا صامتة.. تسجل بدموع وخشوع ولكن بكبرياء.

يعيش توفيق صالح مشاهد المرضى ضحايا إهمال وفساد الحكومة، والتجارة بهم فى مستشفياتنا.. بنفس المعنى الى صوره عام 62 فى فيلمه الثانى «صراع الأبطال»، الذى حول توفيق من سيناريست الى مخرج بسبب مرض مخرجه عز الدين ذو الفقار.. والفيلم هو حكاية صراع المصريين مع الكوليرا اثناء الاحتلال الانجليزى قبل الثورة.. صورة مؤلمة لجمهور المرضى فى مصحة حكومية نموذج واقعى لميلودراما الحياة فى مصر وقتها، يعتبر دعوة للثورة ضد حياة تحرم الإنسان الفقير من حقه فى الحياة الأدمية وبكرامة، تحرمه من العلاج، ومن المياه النظيفة..سجل حال عنابر بلا مياه والمرضى يمصون الزلط لبل الريق.. ثم صورهم يحطمون خزان مياه الأغنياء فى فيلم المتمردون ليرتوو. سجل حال المستشفى الحكومى الذى تحول إلى سجن ومدفن لفقراء الشعب البائسين.. وبعد أكثر من ثلاثين عاما لايختلف الحال إلا ظـاهريا، مستشفيات الأثرياء الاستثمارية تنافس مستشفيات الغلابة الحكومية فى الاهمال والاستغلال وتدنى الخدمة الطبية.. وفى سرقة المال والروح والأمل.. وتتصاعد الدراما فيتحول المخرج الشاهد المؤرخ الأديب إلى حالة فى مستشفى تنقل له أمراضا نفسية وبدنية مضاعفة!!... فيتألم صامتا كالمسيح..

شراهة بيزنس الصحة فى مصر فاقت قسوة المستعمر الاجنبي.. المصريين أصبحوا عددا بلا قيمة فى وطنهم، ومنظومة العلاج هى الدليل.. كل سلطة مشغولة بالتجارة والتخدير والتغيب لجمع المغانم.. نفس الصورة التى صرخ بها توفيق فى أول أفلامه «درب المهابيل» عام 55 ليعود الزمن ساخرا بنا للخلف نصف قرنا.. وبنفس أزياؤه الدقن والجلابية !!... عدنا للحارة الغارقة فى الجهل، والخلط ما بين الدين والسحر والخرافة والهبل والشعوذة والريالة والدروشة.. جموع فقيرة جهلها عمدا رؤساء هم سلاطين سلطة، لتغيب وعيها بحقها فى الحرية والكرامة الإنسانية.. حتى لو وجدت ورقة اليانصيب فهى لاتعرف كيف تستخدمها.. الورقة بعد صراع تأكلها معزة الدرويش.. والدرويس مبسوط لأن المعزة اكلت الورقة وشبعت وستمنحه لبنا ليشبع وشبع البطون هو سعادة المهابيل!!.

وفى المقابل يقدم لنا حقيقة الشيخ عصفور فى فيلم «يوميات نائب فى الأرياف».. شيخ نصاب يأكل مال النبي، ويلعب بالعقول وبالقانون مدعيا علمه بالغيب وبصحيح الدين فماذا تغير لترصده الكاميرا اليوم!!.

لذلك تحزن عيون توفيق ويختار الصمت موقفا.. فقد أمن فى عنفوان شبابه بقوة سلاح السينما وصدق الواقع، فى تغيير الواقع البائس للمشاهد سواء كان واعيا به أو مغيبا.. أن يدفعه الفن للثورة على الظلم والقهر والأستبداد.. وأن يعى ويقاتل لانتزاع حق فى حياة كريمة أيا كان انتماؤه الطبقى أو السياسى أو الديني.. وأن يثورعلى أغانى الغلابة الحزينة التى نتوارثها باستمتاع وخنوع فى مصر.. مثل مواويل الصبر الحزين التى يرقص عليها الفقراء فى الأفراح الشعبية -فيلم «سيد البلطي»- يصمت توفليق صالح لأن درب المهابيل يتوسع ويتوغل فى مصر.. ولأن صراع الأبطال المصريين اليوم هو لمجرد البقاء أحياءا.

يشعر توفيق بالغربة وفقد التواصل مع المجتمع الجديد على مصر الذى نعيشه وبلفظنا ويقصينا.. ولأن من تبقى من الحرافيش يقتات من الذكريات ليحيا زاهدا.. يسعد أكثر بالماضي، ويخشى المستقبل لأن السحب المحملة بالتخلف والعنف ثقيلة وجاثمة..

رغم جذور توفيق الطبقية وتعليمه فى أرقى مدارس النخبة فى مصر.. إلا انه قبض على واقع الفقراء وأحلامهم.. وأوهامهم.. وكشف المصائد التى يصطادهم بها لصوص السلطة، وتجار الدين، والانتهازيين محترفى الثراء من بيع دماء الأبرياء كما فى القضية الفلسطنيية.. نجح فى القبض على واقع وأحلام والآم البسطاء.. لأن تعليمه كان سليما، وهادفا إلى الرقى بالإنسان واستفزاز ملكاته الإنسانية والإبداعية.. تعليم للرقى بالحياة والاحتفال بالقفيم الإنسانية..

يغلق توفيق صالح ملفا يحوى مشروعات أحلامه للإنسان.. أفكار لم يرسلها للكاميرا لإحساسه انها لن تضيف جديدا.. ولن تفجر ثورة.. ربما توقظ وعيا وربما تنير طريقا قديما.. لكن الطرق اليوم مزدحمة ومكدسة.. وغير ممهدة وغير مضيئة.. تحتاج سواعد وعضلات وجموع عاشقة لمصر وللوطن.. وهى آتية وعفية يعرفها توفيق صالح ويثق فى نجاحها ، لذلك مهازال مبتسما فى صمته.. إبتسامة قدم بها شهادته وختم بها رحلته السينمائية، وأغلق الكاميرا برضا..لأن المحارب لابد وان يستريح..

أخبار النجوم المصرية في

13/05/2013

 

شيخ المخرجين توفيق صالح:

الوفاء مع جيلنا هو التكريم الحقيقى

فاطمة شعراوى 

المخرج القدير توفيق صالح صاحب لقب شيخ المخرجين بدأت صحته تتحسن بعد الأزمة الصحية التى تعرض لها أخيرًا، وكانت لها أثر سيء على حالته النفسية، جعلته يقرر العزلة عن الآخرين. 

وفى لفتة إنسانية قامت مجموعة من الفنانين والمخرجين بالتليفزيون المصرى والذين تتلمذوا على يديه ومحبوه بزيارة له دعا إليها الأب بطرس دانيال مدير المركز الكاثوليكى للسينما، وخلال الزيارة تحدث المخرج القدير عن امتنانه بالسؤال عنه، مؤكدًا أن الوفاء مع هذا الجيل هو التكريم بمعناه الحقيقى، ورافق الأب بطرس فى الزيارة سمير سيف، وعلى بدرخان، ورجاء حسين، وعاطف بشاى، ود.فاروق الرشيدى، وسيف عبدالرحمن، ومن التليفزيون المخرجون رضا شوقى، وحمدى متولى، وأسامة عبدالعزيز، وآخرين، وتم تكريم المخرج القدير عن مشواره على مدى 40 عامًا، أخرج فيها أعمالًا مهمة منها «درب المهابيل» 1954، والذي تعاون فيه مع الكاتب نجيب محفوظ و«صراع الأبطال»، و«المتمردون»، و«يوميات نائب في الأرياف» 1968، عن رواية بنفس الاسم للكاتب توفيق الحكيم، و«السيد البلطى» 1969، عن قصة لصالح مرسى، ثم سافر إلي سوريا، وقدم فيلم «المخدوعون»، وعمله كأستاذ غير متفرغ للإخراج بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة، حتى أصيب بنوبة نفسية جعلته يبتعد عن الوسط.

بوابة الأهرام في

02/06/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2013)