منذ الأمتار الأولى
بدايات الفيلم الوثائقي السوري
فجر يعقوب
منذ الأمتار الأولى تبدو ( الحياة اليومية في قرية سورية ) 1974 للمخرج
السينمائي السوري عمرأميرالاي ، وكأن ثمة مايشي بالفعل أن البداية تكمن هنا
، وبخاصة في تلك الكادرات في " ذهب " الصحراء الذي لايهدي سوى الرمال فقط .
ثمة أيدي " بريئة " مخشوشنة هنا تقوم بالفعل الشائن نيابة عن هذه الصحراء
المتوحشة ، حين تنحّل ذرات الرمال وتتذوب أمام عدسة الكاميرا في أسلوبية
قلقة يعلن عنها الفيلم السوري بصراحة ، ولايخفي تردداتها ، وكأن كل
التصورات البصرية التي وضعها المخرج برفقة المسرحي الراحل سعد الله ونوس عن
أهل قرية مويلح ، الواقعة شمال شرق سورية ، ستشكل بداية السينما الوثائقية
الحقيقية ، أقله هنا في سورية ، وكأن حكاية هذه السينما تبدأ هنا ، ويراد
لها أن تنتهي هنا ، اذ يبدو أن " الأشباح " المستغرقين في كادرات الأسود
والأبيض ليسوا على عجلة من أمرهم ، وانما من يبدو مستعجلا في واقع الأمر
ليس إلا الشريط المصور ، ذلك أن شبحية الصورة تظل هي لغة الوصل بين
الفلاحين الذين يتنقلون بين بيوتهم الطينية الموجودة في خلاء عازل ، كما لو
أنهم يقومون بعمليات توليف الفيلم من داخل الفيلم نفسه .
لاشك أن ( استخدام ) هذا الفليم كذريعة للحديث عن بدايات السينما الوثائقية
السورية ، وإن سبقتها ( محاولة عن سد الفرات ) 1972 للمخرج نفسه ، يشكل
سانحة ذهبية للقول إن هذه السينما بدأت مع ( الحياة اليومية ) ، وأن هذا
الفيلم سوف يستمر من بعد ذلك بفتح الرموز المغلقة التي تتشكل منها حيوات
أهل قرية مويلح على افتراض ، وهذا سوف يقال حرفيا ، إنه نوع قائم بذاته ،
ذلك أن الأيدي التي تقوم بين الفينة والأخرى بتخيل الرمل لا يبدو أنها
ستدخل في عراك مع ذرّاته حتى لو أنها كانت تذروها على مهل على عظام جيفة
متموتة ، أو في لقيا حذاء مقطّع .
الريح التي تهب على أهل مويلح من جهة الشرق ولاتحمل لهم سوى وعودا بالغبار
، تجعل منهم بشكل أو بآخر ممثلين يقفون أمام كاميرا أميرلاي ليعيد تنقيط
تلك العلامات بصمت ، كما في صور العائلة المجتمعة على " وليمة " الخبز
والشاي ، ليخبرنا الفيلم أن زاد يومهم يبدأ في الواقع هنا ، وأن على
المشاهدين ، أن يتوقعوا أن انصراف أفراد هذه الأسرة إلى العمل في الأرض
والحقول القحطة على وقع الأهازيج الخاصة بتلك المنطقة ، انما للتأكيد على
أن مصائرهم لن تكون بعد اليوم إلا معلقة في ذلك " الخواء " المستقطع كلية
من صمت مستحدث وبائن ، ولايقوم سوى على هداية الصحراء ، فالفيلم عموما يمكن
له أن يظهر من قبل وجودهم كممثلين أو من بعد هذا الوجود ، وهذا قد لايشكل
فارقا جوهريا ، طالما أن أهل مويلح يمكنهم حجز أمكنة اضافية فيه للتثبت من
يقين الرمال ومصير الزراعة الآيلة إلى تفكك التربة وعدم صلاحها ، فهنا
المعلم الذي سيقوم من بعد كل ذلك على رطانة اللغة المدرسية في الصفوف
الابتدائية ، ويقوم بتلقينها للطلاب الصغار في هذا المقلب الآدمي ، وهي
ذاتها الكلمات التي لن تجدي ، ذلك أن مراد الجميع يتعدى هذه الرطانة
اليومية إلى ماهو أبعد من شبحية اللغة التي يبصر بها المعلم طريقه إلى غرفة
الصف الطيني .
كل هذه الموجودات والتفاصيل الصغيرة التي ينشأ عنها الفيلم ، تخبر من زاوية
أخرى أن اللقاء مع المختار الأمي جاسم الذي ورث " المخترة " عن أبيه عام
1952 لايملك راديو ، وسيلة الاتصال المباركة في تلك الأيام مع العالم
المحيط ، ليعرف متى حلت هزيمة حزيران ، إنما تشكل أسلوبية تجمع هنا بين
المزاج التوثيقي وايقاع القصة الروائية التي جعلت من أهل مويلح مادة لها ،
وهذا المفتاح الأسلوبي – إن جاز التعبير – الذي اعتمده المخرج ، وربما
المونتيير قيس الزبيدي لاحقا أعطى المشاهد وقتا للتأمل في مجرى العملية ،
كما لو أن الجميع هنا يتعاطون مع الواقع المرّ في لعبة تمثيلية ، وأنهم
ليسوا مجرد فلاحين بسطاء يقومون بلعب أدوارهم الصغيرة الثانوية أمام
الكاميرا ، وأنه يتوجب على الشريط الوثائقي أن يسجل بحرفية مايدور أمامه من
أحداث وأفعال دون الحاجة الفعلية إلى تصورات أميرالاي – ونوس – الزبيدي ،
وهذا في الواقع ينجزه القطع بين الرموز الكثيرة التي تتجمع على أرض بائرة
تتشكل بهدوء على مرأى من أهل مويلح ، وبين المستقدمين إليها من معلمين
وأطباء وبيروقراطيين . هذا القطع يشكل أيضا في وجه منه " فلترا " يقوم على
تنقية الدور الواقعي الذي ينشده هؤلاء الفلاحين في مواجهة لعبة السينما
الوثائقية المصورة ، ويقدمهم بوصفهم أولئك الممثلين الذين يمتلكون عوالم
داخلية حارة تزيد من حضورالصورة وتكويناتها الشفافة الأنيقة ، ذلك أن عنوان
الفيلم لايشي من الآن فصاعدا عن حدث يدور في قرية بعينها . إنه ينكر الاسم
، لابل وينقحه على نسج الحياة اليومية من خلال نول بصري ، كما لو أن هذا
يتكرر من قبل ، وسيتكرر من بعد من دون حصول كل تلك الأخطاء الفادحة لدى
الآخرين الذين ينتظرون مثل هذه الأخطاء ليقدموها بوصفها دروعا في الاملاء
البصري الذي يقوم عليه التصور الدرامي للفيلم ، لأن بناؤه المشروط يبدو كما
لوأنه يقوم على تصورات وتخيلات مسبقة ، ولكن هذا نتاج وثائقي يقيض له أن
يشكل تلك العلامة الفارقة في السينما الوثائقية السورية خاصة ، والعربية
عموما التي أطلقها اميرلاي في ( الحياة اليومية ) ولتكر من بعده كل تلك
الأفلام التي انشدّت إلى الريف السوري بغية محاكاته ، ومحاكاة الجدات
والأمهات الريفيات فيه علّ وعسى يمكن اقتناص موجودات جديدة سوف تتشكل منها
بعض الأفلام اللاحقة في سجل هذه السينما الوثائقية التي لم تفقد نضارتها ،
ولكنها لم تتجاوز هذه الحياة اليومية في محاولة تخفيف وطأة القطع والتركيب
والمراقبة والتسجيل ، وإن قدم بعضها رؤى جديدة في بعض الأحيان ، ولكن من
دون شرط اعادة تركيب الواقع بالطريقة ذاتها ، اذ لم تنص الحياة الطبيعية في
أي شرط من شروطها على تجاوز التركيب الذكي الذي اعتمده أميرلاي وقدّم له
امكانية أن يصبح علامة فارقة في مجاله ، لأن السقالة الدرامية في هذا
الفيلم ستتشكل على مدى ثمانين دقيقة من يوميات هؤلاء الفلاحين البسطاء ،
ومن نفسيات الطاعنين في السن منهم ، وقد خبروا الحياة بطرائق مختلفة ، لهذا
سوف يلجأ المخرج أميرالاي إلى ذلك العجوز الذي ينزع ثوبه عن صدره أكثر من
مرة ، وليجمده في كادر منتقى بعناية في نهاية الأمر ليبوح بما يثقل صدره
بالذات ، ذلك أن بعض هؤلاء الشيوخ انما يشكلون فاكهة لمراقبة دقيقة ،
وماعلينا كمشاهدين سوى التحقق من هوياتهم ، لأنهم هم من سوف يستثيرون فينا
الرغبة في التأمل .
هل يمكن القول بعد كل ذلك أن ( الحياة اليومية ) هو نوع سينمائي قائم بذاته
؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال ربما يجب تغطية ذلك بالقول إنه في الفيلم
الروائي يتجلى الفعل قبل كل شيء في الممثل ،وأن العلاقات المتبادلة مع
المحيط تلعب هنا دورا دراميا نشطا في تقديم هذا الممثل للناس ، وبالتالي
فإن مأزق البطل الدرامي في السينما يقبع في الوسط بين النظرية والتطبيق في
فن الممثل . والبناء الناظم للفيلم السينمائي يطل هنا بوصفه علامة غير
قابلة للقسمة مع ابطال غير قابلين للقسمة أيضا . هنا البطل يجد نفسه في
أوضاع قائمة ومكتملة وعليه أن يتحرك ضمنها . أما الأبطال في الفيلم
الوثائقي ، فهم يجدون أنفسهم في أوضاع أكثر تأزمية من أبطال رواية ما ،
وكأنه لاحلول أمامهم ، وليس لديهم امكانية إلا في تجاوز مايمكنهم قوله عن
أحوالهم ، وماآلت إليه اوضاعهم المكربة في قرية يمكنها أن تصبح افتراضية
أيضا وتقع في أكثر من منطقة جغرافية ، فليس هناك تعداد فعلي للرمل الذي
يتشكل منه عالم هؤلاء البسطاء ، وهذا فيه استحالة بالطبع ، ولايبدو أن هذه
القسمة ستكون مجدية في الواقع ، لأنها قابلة للانشطار أو التعدد ، وعليه
يمكن القول إن أميرلاي أسس هنا بشكل مبكر أسلوبا يغطي هذه الفكرة ، لأن هذا
الفعل الذي يخلقه هذا الفيلم عبر اعادة رسم الواقع بغية توثيقه واعادة
تركيبه بأدوات الواقع نفسه ، اذ يمكّن حبّات الرمل التي تنخّل بالايدي
ذاتها أن تملأ حذاء فارغا ، وأن تغمر علبة سردين فارغة ، وأن تظلل حيوات
ماتبقى من اشباح آدميين ليس بوسعهم سوى الانتقال إلى امكانية التأكيد أن كل
قراءة متشكلة في الوضعيات التي وجدوا فيها ليست إلا ملجأ آخر ، يقومون
بالاحتماء واللوذ به ، حين يعاد رسم الظلال البشرية في كادرات متقنة
ومونتاج داخلي ذكي ، يؤكد أن فكرة الانشطار والتعدد التي تميز هذا النوع
لم تجيء من فراغ ، وهذا مايفعله أميرالاي ، على امتداد الفيلم ، وهو
ماشكل في الحقيقة بدايات الجدل حول السينما التي سيصنع منها أفلامه اللاحقة
، وملاحقة واحدة لأبطال الفيلم تؤكد هذه النظرة ، ويصبح اللجوء إلى هذا
الانشطار الذي ينتج عن احوال صادمة يعيشها هؤلاء الفلاحون ، وبعضهم غارق عن
عمد في أمية متحققة ، حتى حين يلجأون إلى الخبز المصنوع من القمح والشاي
الأود الثقيل اللذين يشكلان تسعين في المئة من طعامهم اليومي ، وإلى أفعال
الشعوذة المتعلقة بأوضاعهم الصحية ، فإن أميرلاي يستبق هذه الطروحات بصور
لاتتعدى مضغ اللقيمات ، ذلك ان الايقاع الداخلي للفيلم ينشا في مثل هذه
الحالة عن التصادمات الدينامية التي يلجأ إليها الشريط ، كما هو حال المرضى
في الأوتوبيس المتوجه إلى مدينة دير الزور لمراجعات مستشفياتها بعد أن
أكدوا عجزهم عن تأمين الطبابة الصحية في أماكنهم ، حين تحل الشعوذة محل كل
شيء ، حتى في أبسط العلامات الطبية . هذه التصادمات الدرامية تؤكد بالفعل
أن السؤال عن دينامية السلوك الانساني المتجذر في هؤلاء " الأبطال " يكمن
في الواقع في مادة هذا الفيلم دون سواه ، وهو مايقود إلى دينامية نفسية
ليست أقل انعكاسا من كل تلك الوسائط الداخلية المتصلة بالعالم الخارجي
المحيط بهم ، وهم يعيشون ويدورون فيه . والمثال العاكس الذي ينشأ عنها
يكشفه احساس مبكر بواقع مترد ليس ثمة امكانية لاعادة تركيبه إلا من خلال
هذه الفرضية حول الانشطار والتعدد الذي ينطلق منه الفيلم .
هل كان يحدث كل ذلك صدفة ؟
لايمكن الاجابة بنعم عن مثل هذا التساؤل ، ذلك أن الاشكاليات التي يطرحها
فيلم ( الحياة اليومية ) كما سبق وأسلفنا، قائمة بالفعل على فرضية من هذا
النوع تتجلى أكثر فأكثر على متعة الكشف من خلال كادرات متقنة تشكل بنية
درامية متصاعدة مستقلة يمكنها خطف المشاهد من مقعده الوثير ليفكر، علما انه
ليس من الأكيد أن جميع " المختطفين " هنا سوف يقبلون بمثل هذه الاضافة من
حول هذا الفيلم – العلامة ، وربما يقبلها البعض بتشكك ، باعتبارها موضوعا
اجتماعيا قابلا للحل والمعاينة والمساومة إن أمكن على أوضاع حيّة . وحتى
يصبح الموضوع الذي نقاربه أكثر جلاء في مثل هذه الحالة ، يمكن القول إن
التعبير الوصفي ينتج هنا عن مشاعر الأبطال الواقعيين ، وهم ينكبون على لعب
أدوارهم كي يعاد تشكيل هذا الواقع من خلال حيواتهم ، اذ تبدو أن ثمة
ازدواجية في المعنى يمكن المراهنة عليها بوصفها علامة جديدة في التأليف
الوثائقي ، وهي في نفس الوقت معطى عن العلاقة مع العالم المحيط . سيتحصن
المؤلف خلف هذه الازدواجية ، لأن السؤال سيتأكد خلف شحوب الصورة نفسها التي
يلجأ إليها وهو يعاين الواقع في مويلح عبر قوانين داخلية ، هي كل مايبقى له
في هذه اللعبة الواقعية المثيرة .
من فيلم ( الحياة اليومية في قرية سورية ) بدأت مرحلة نوعية في ابداعات
السينما الوثائقية العربية دون شك ، وبالتأكيد ليس الكمّ ، بل النوع الذي
يتحقق فيه ، وهو بالتأكيد ماحدث ، ويحدث في سينما أميرالاي اللاحقة التي
تشكلت منها بعض أفلامه الأخرى مثل الدجاج وطبق السردين على سبيل المثال ،
ذلك أن المؤلف الوثائقي هنا لايحصر خياراته وموضوعاته في قالب واحد ، بل
يدعو أبطاله الواقعيين بجرأة إلى فكرة الانشطار والتعدد بغية الانكشاف أمام
الكاميرا ، وليظهروا عراة من كل ستر ، ولهذا سيظل يحمل مغزى أكبر أن تقوم
افلامه اللاحقة بعكس المصائر المختلفة لأبطاله المنتقين بذكاء مدروس ،
بوصفهم النموذج المحتذى من خلال تأكيدهم بعفوية على مرونة المحتوى ، ذلك أن
الشكل يظل في المقام الأول ملقى على عاتق التوصيل بين فكرة الانشطار
والتعدد التي يخبئها أميرالاي في معظم أفلامه تقريبا ، ذلك أن حيوات هؤلاء
" الأبطال " تحمل معنى الازدواجية وهي تظل محك الوصف والسرد الوثائقيين
اللذين يبعثان على تحييد المنطق النقدي في محاولة تتبع هذه السينما الشديدة
الخصوصية القائمة على العلاقة بين السلوك الداخلي والخارجي لهؤلاء الأبطال
، لأنها لاتجيء مباشرة ، فهم ينهون شيئا أمام الكاميرا ويخفون شيئا آخر ،
وهذا ينتج عن تلك الرطانة التعليمية المدرسية التي يعيشون على وقعها ،
ويؤكدون من خلالها على واقع أشد رطانة ، يتفكك ويتحلل بدهاء ذرات الرمل
وهبوبه المنقطع النظير . والسؤال الأول الذي يمكن له أن ينتج بالعلاقة مع
كل ماتقدم يكمن فيما اذا كانت الواقعة الدرامية في هذا الفيلم ايجابية لجهة
العلاقة مع التيمة المطروحة سينمائيا بوسائط اللغة الوثائقية ذاتها . يمكن
القول هنا إنه من المهم في الاجابة ليس الكم ، بل الجانب النوعي في السؤال
ذاته ، ذلك أن الواقفين بدراية أمام الكاميرا يقبعون خلف الاشارات بوصفهم
رموزا واقعية ، وليس مجرد أعداد مؤلفة صمّاء ، وهم أقلية في النوعية ،
ولكنهم يشكلون مايمكن تسميته بايديولوجية التمدد في الفراغ ، لأن نظرية
الانشطار والتعدد التي نحيل إليها الفيلم لاتقدم سوى وعيا ذاتيا يكاد يغطي
الأبطال أنفسهم ببديهيات تنشأ عن السينما الوثائقية نفسها . وفي النهاية ،
فإن مؤلفا من عيار أميرلاي يتوجه نحو اشكاليات قريبة من جوهر تفكيره تقوم
على بناء متعدد أيضا في الشكل والمضمون ، وهذا يشكل عن سابق تصور وتصميم
علاقة ايجابية بين هذه الفروقات ، فثمة سؤال كان ينشأ هنا على الدوام بشكل
واضح وصريح عن العودة دائما إلى المدرسة لتقديم أفضل مافيها من رطانة يومية
. وإذا كان عمر أميرلاي ينجذب نحو هذه العلامات التي يرسمها في الفليم
بوصفها حلولا مسبقة ، فإنه من غير المشكوك به أبدا أن تكون أشكال هذه
العلامات تنص على اعادة ملء الفراغ برمل التفاصيل اليومية لحياة هؤلاء غير
القادرين على الانعتاق إلا من خلال التدرج في الرطانة غير المؤجلة ، ولكن
إذا كانت علاقة المؤلف تتشكل من خلال عوالم أهل مويلح ، فإن ذلك يجب أن
يتبعه اعتراف أن الشكل في الفيلم محلق فنيا ، والفضل في ذلك يعود إلى
الأسلوبية وآلية العمل عليها ، وهو ما اعطى نتاجا متعطشا لفرضية الانشطار
والتعدد في حيوات أبطاله المتجددين ، القائمة على خضّ الوعي دون تردد ورجّه
في أماكنه المرئية وغير المرئية اذ يبدو أنه من خلال هذه الوجهة الدرامية
المعقدة يمكن استمالة كثر منهم نحو جراحة أشد صرامة بغية توصيف أمراض مزمنة
يعيشها الريف السوري .
هنا في ( الحياة اليومية ) تظهر الوجوه دائما في مقاطع منفصلة ، كما لوأنها
تخضع بالفعل إلى جراحات غير تجميلية في كادرات متتالية ، وهي جراحات من غير
مخدر ، اذ لم يكن متوفرا لحظة الانحناء عليها بمشرط البحث والكشف ، كما
لوأن المخرج لايستعيض عنه إلا بنصل مشرط حاد لايمكن القبول به ، كما
لايمكن الاستغناء عنه . وهذا لايحدث إلا في السينما الوثائقية ، اذ لايمكن
اعادة ترتيب الواقع – فنيا – إلا باللجوء إليه ، وأميرلاي لايفوت فرصة من
دون الاستقواء بهذه الجراحة الضرورية ( الحديث عن حلول عشائرية في علاقات
الناس ببعضهم البعض – رطانة الدروس اليومية – اتقان الجهل في معارك الحياة
اليومية ) للخروج بتفاصيل مؤرقة ليس لأصحابها فحسب ، بل ولجملة مشاهدين
يقعون في مستقبل الصورة ، لأن الاطلالة من خلال وجوههم على خيبات الرمل بعد
ذره في الفراغ ، وهي ذرات لايعاد صوغها ابداعيا إلا من خلال مأثرة الانشطار
والتعدد التي تقوم عليها حيوات أهل مويلح ، والتي تسمح بنشوء ازدواجية في
المعنى والمبنى في حياة من سبق له وشارك في فيلم وثائقي يعتبر بحق بداية
السينما الوثائقية في سورية ، بالشكل الذي يجب أن تكون عليه ، كتحقق في
الشكل والمضمون الذي يقوم على دعائم فلسفية وتعبيرية وبصرية لاتهادن ،
فالأفلام الوثائقية لاتخون صاحبها إن أدمنها ، وهذا نزوع خاص بهذا المخرج
الذي لم يخن ولعه بهذه السينما يوما ، الولع القائم على الانشطار والتعدد ،
اذ لولاهما لبدت سينما أميرلاي ضالعة في فراغ لايستهان به ، ولما تمكن فيلم
( الحياة اليومية ) من الصمود في هذا الفراغ والاستقواء عليه بما يضمن له
البقاء الدائم والمتجدد في أي مستقبل يعرض فيه. |