كان يستعد لإطلاق إغراء تتكلّم
عمر أميرالاي... رحيل
مخرج السينما الفُراتيّة
بيروت - محمد الحجيري
رحل المخرج السوري عمر أميرالاي (67 عاماً) في دمشق على أثر جلطة
دماغية كما
قال البعض، وبدأت الشائعات تحاك حول هذا الرحيل، خصوصاً أنه أتى في يوم
الدعوة الى «يوم الغضب في سورية»، الذي كان يوم استنفار
للأجهزة الأمنية السورية.
الشائعات حول وفاة أميرالاي بديهية، وهو المشهور بمواقفه السياسية
وأفلامه
التسجيلية التصويرية الممنوعة في سورية، خصوصاً فيلمه «طوفان في بلاد
البعث» الذي
كان سبباً في القطيعة مع المؤسسة العامة للسينما، الجهة الوحيدة المنتجة
للسينما في
سورية. كذلك، كان هذا الفيلم سبباً في إغضاب السلطات السورية
عند عرضه على إحدى
القنوات التلفزيونية العربية.
كان أميرالاي يصوّر أفلامه بعين المثقّف النقدي، ولا يختار مواضيع
عابرة بقدر ما
يلحّ على أفكار لها تداعياتها في الوسط الثقافي والسياسي، وهو كان نموذجاً
للسينمائي المتدفّق والسيال إبن الهويات المتعددة. قال عن نفسه: «أصلي
عثماني من
خليط قومي شركسي كردي تركي وعربي، وُلدت في الشام عام 1944 على
مرمى حجر من مقام
شيخنا الأكبر محيي الدين بن عربي، معطّراً بروحانيته مباركاً باسمه وكنيته،
وقد
عاهدت نفسي مذ صرت مخرجاً أن أنذر له ذبيحتين على روحه الطاهرة كلما رزقت
فيلماً.
واليوم في رصيدي نحو 20 فيلماً حققتها على
مدى 35 عاماً في ممارستي مهنة السينما،
طفولتي في ما بعد أمضيتها في حي الشعلان على بعد خطوات من
المقرّ التاريخي لحزب
البعث الذي صار اليوم دكاناً لبيع الألبسة الجاهزة، وفي بيت عربي متواضع
كان أضخم
ما فيه نوافذه العريضة المطلة على الشارع العام الصاخب بالحركة والناس، من
خلال تلك
النوافذ التي كان أخي الكبير يصلبني وراءها ليشغلني عن
المطالبة بأمي الغائبة في
الوظيفة تربّيت على الفضول وعلى حب الملاحظة وعلى تشريح الناس والأشياء
ورصد تفاصيل
الحياة اليومية للحارة والجيران، خصوصاً صاحب صيدلية الانقلاب الذي صرعه
استقرار
البلاد بعد قيام الحركة التصحيحية، طفولة مسترخية بامتياز أتيح
لها الانشغال
بالآخرين ومراقبتهم والتفرغ لقصصهم ما يدحض القول المأثور السخيف: «من راقب
الناس
مات هماً». أما والدي رجل الأمن النزيه الذي قضى نحبه شاباً على طريق دوما
عام 1950
وهو يطارد المهرّب الأعور الشهير لورانس الشعلان، فقد أبى - رحمه الله -
إلا أن
يورثني صفارة الخدمة خاصته وشيئاً آخر أعتز به اليوم أكثر ألا
وهو احتقار السلطة
وأهلها من الساسة والعسكر من محترفي مهنة الأمر والنهي والتصرف بأحوال
البلاد
والعباد».
اللافت في سيرة الراحل السينمائية أنه كان يختار في أفلامه المواضيع
«المحرمة»،
هكذا جاء أول أفلامه «محاولة عن سد الفرات»، و»الدجاج» الذي صوّره عام
1977عن قرية
صدد. ذكر أميرالاي عن هذا الفيلم: «لاحظت في صدد هذا التحول العجيب من ضيعة
عريقة
كانت معروفة بصناعة البسط، إلى دخول نمط رأسمالي صناعي هو
تربية الدواجن». وأضاف:
«اخترت
أن أحكي عن البشر بلغة الحيوان، فذلك نوع من التعبير عن قهر المثقف، وعجزه
عن إنطاق الناس». في الثمانينيات، قدم أميرالاي أفلاماً خارج سورية، مثل
«مصائب
قوم» عن الحرب اللبنانية، وفي مصر صوّر «الحب الموؤود»،
و{العدو الحميم» عن
المهاجرين العرب في فرنسا، وهذه جميعها من إنتاج التلفزيون الفرنسي. وفي
التسعينيات
انتقل أميرالاي إلى العمل على مجموعة من البورتريهات عن المسرحي سعد الله
ونوس
والمستعرب الفرنسي ميشال سورا والسياسي اللبناني رفيق الحريري
والزعيمة الباكتسانية
بناظير بوتو، وجاءت بمثابة تساؤلات حول المجتمع والحراك السياسي والتاريخي
في
المنطقة من خلال تصوير الأفراد وحيواتهم.
جهاد إسلامي
كانت لكل فيلم من هذه الأفلام تداعياته، فعندما ذهب أميرالاي لتصوير
فيلمه عن
بناظير بوتو لم يستطع الوصول إليها، فصوّره عن الطريق المقطوعة الى السيدة
الباكستانية. وهو صوّر فيلماً عن صديقه ميشال سورا صاحب كتاب «الدولة
المتحوشة»
الذي اغتالته عام 1986 جماعة تطلق على نفسها اسم «الجهاد الإسلامي في لبنان».
في فيلم «الرجل ذو النعل الذهبي»، عرض أميرالاي لعلاقة المثقف بصاحب
السلطة ورأس
المال، تلك العلاقة الإشكالية المعقدة، وأظهر المثقفين مجموعة من المتآمرين
يجلسون
كالمخابرات في غرفة معتمة. وقد صوَّر أميرالاي العمل مع الراحل رفيق
الحريري، رئيس
الوزراء اللبناني السابق، فتابع محاولة صياغة وعي المواطن العربي عن طريق
توصيف تلك
العلاقة ومحاولة إظهار مَواطن الخلل فيها. وأظهر انتهازية الناس في تعاملهم
مع رجل
المال، وفي هذا الفيلم كان أميرالاي محايداً وتعرّض لانتقادات
شديدة من بعض
المقربين لأنه لم يأخذ موقفاً نقدياً من رجل المال، بل اكتشف من خلال
تصويره الفيلم
أن صورة هذا الرجل ليست كما يراها أهل الثقافة الغارقون بالأوهام
والمثاليات وقراءة
الكتب، على أن النظرة إلى فيلم أميرالاي عن الحريري انقلبت بعد
اغتيال الأخير في 14
فبراير (شباط) 2005، فمنهم من وظّفه أيديولوجياً، ومنهم من اعتبر أن
الأغتيال قتل
الفيلم معه.
ولعل الذروة في تجربة أميرالاي السينمائية، كانت في فيلم «طوفان في
بلاد البعث»
الذي ينتمي بحسب النقاد إلى أسلوب «التحريض الدعائي»، الذي يستند إلى وسيلة
مضادة
للتهكم والسخرية من النظام الحاكم، وهذه الوسيلة مُستمدة من
طبيعة النظام وآليته،
والقائمة على مبدأ «من فمك أدينك». هذه الرؤية النقدية الحادة التي لا تعرف
المهادنة، ولا تقبل التدجين، والترويض الفكريين هي التي جعلت من عمر
أميرالاي أحد
رواد السينما التسجيلية الهادفة في العالم العربي. وهذا الفيلم «يرصد عملية
غسيل
أدمغة الأطفال الأبرياء وتلقينهم شعارات البعث» أوضح اميرلاي،
وتابع أنه أخرج
فيلماً عام 1970 عن سد الفرات، وعندما انهار سد زيزون في سورية خطرت بذهنه
تلك
التجربة، وقرر أن يزور السد بعد 33 عاماً فوجد بحيرة وراء السد وكل الأوابد
الأثرية، والقرى التي يعرفها، وتاريخ سورية القديم أصبح في قاع
الغمر. وأضاف: «قررت
أن أصور ما تبقى من القرية، وفعلاً صورت في قرية «الماشي»، إذ قدمتُ
شخصيتين
مختلفتين وهما شيخ العشيرة وهو نائب في البرلمان وشخصية ابن أخيه مدير
المدرسة
ومسؤول الحزب في القرية، وأكثر من نصف الفيلم يدور حول النظام
شبه العسكري الذي
يطبّق في المدارس السورية، والذي يخضع فيه الأطفال الأبرياء لعملية غسيل
أدمغة،
وتلقين شعارات «حزب البعث» إضافة الى نوع من تجريع المعلومات بالقوة
والترديد».
في حوار صحافي قال أميرالاي: «لغة الفيلم «فوتوغرافية» فعلاً، لكن
المراد منها
حث المشاهد على قراءة ما وراء الشفاه والحركة والصوت. فالسوريون فاقدون،
للأسف،
ملكة النطق والتعبير الحر منذ صادرها منهم الناطقون باسمهم. ويكفي أن يتابع
المرء
مقابلات التلفزيون السوري مع الناس العاديين، وغير العاديين،
ليصعق حيال حجم الدمار
الذي لحق بلسان الفرد وبتعبيره، خصوصاً عند الشباب والأطفال». وحين عرضت
قناة «العربية» الفيلم في ظروف سياسية متشنّجة،
اعتبرت السلطات السورية العرض استفزازاً
لها، واتّهم أميرالاي القناة بتعمّد عرض فيلمه «الطوفان» في
«توقيت وسياق غير
مناسبين»، جعلاه يصطدم بغضب السلطات السورية. فردت «العربية» قائلة إن
«المخرج
يحاول أن يرمي كرة النار التي سددت في وجهه من السلطات السورية في أي ملعب
بعيداً
منه، ولا مانع لدينا من أن تكون «العربية» كبش الفداء إذا أسعف
ذلك المخرج في
الخروج من أزمته».
بريجيت باردو
قبل وفاته، كان أميرالاي يستعد لإخراج فيلمه الجديد «إغراء تتكلم»
الذي يتطرق
إلى حياة النجمة السينمائية السورية المعتزلة نهاد علاء الدين التي أطلقت
عليها
صحافة السبعينات لقب «بريجيت باردو الشرق»، وحول مشروعه هذا قال أميرالاي:
«بعد صمت
طويل واعتزال مندد بمواقف ساسة ومديري الفن والسينما في سورية تجاهها؛
ستخرج إغراء
إلى الوجود للحديث عن سيرتها السينمائية التي لن ترضي كثراً. هذه الفنانة
النجمة
التي انزوت لسنوات من دون تكريم أو اعتراف بدورها في الترويج
للسينما السورية، لأن
القيمين على شؤون السينما ينظرون إليها كممثلة أفلام تجارية. ومشروعي هو
إعادتها
بحقيقتها إلى الشاشة، فقد كان لهذه النجمة المفتونة بالفن السابع مشروع
قاتلت لأجله
لسنوات، وهو مشروع يتعارض مع الأمر الواقع والمفاهيم السائدة، وهي تملك من
الجرأة
التي تحسد عليها، وهي مثال للمرأة الحرة، وأعتقد أن مَن يتملقون جواريهم
ويجلدون
زوجاتهم لن يعجبهم هذا الفيلم».
أصرّ أميرالاي على صناعة الفيلم الوثائقي، وفي هذا السياق علّق في
حديثه لقناة «الجزيرة»:
«الفيلم التسجيلي لم يخذلني على مستوى التعبير ولا على مستوى علاقتي
بالواقع، لأنّ الفيلم بالنسبة إلي هو نتاج عَرَضي لعلاقة جديدة
أبنيها مع الواقع
عند كل مشروع فيلم، والفيلم يأتي كمحصلة لهذه المغامرة الجديدة التي أرمي
نفسي فيها
في الحياة وفي اكتشاف الناس». حاول المخرج الراحل أن يصنع أفلاماً ووثائق
بصرية عن
الفترة التي عاصرها وعايشها. وكان مفصلاً مهماً في تاريخ
السينما العالمية
والعربية، وأدى دوراً مهماً كمثقف بعيداً عن الأنتليجنسيا التي يعيشها كثر
من
المثقفين والفنانين في العالم العربي. وقال ذات مرة: «أريد أن أعمل سينما
فُراتية،
سينما متدفّقة جارية غير ساكنة».
في الجانب الآخر، المباشر والعملي، من انحيازه إلى المعارضة
الديمقراطية في
سورية، كان أميرالاي أحد صانعي «بيان الـ99»، الذي أطلق أولى شرارات «ربيع
دمشق»،
واعتُقل ومُنع من السفر وصُودر جواز سفره.
سيرة
وُلد أميرالاي في دمشق عام 1944. درس الفن المسرحي في «مسرح الأمم» في
باريس
عامي 1966 - 1967، ثم انتقل إلى دراسة السينما في معهد
IDHEC، ومنه التحق بالمعهد
العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنّه انقطع عن الدراسة بسبب أحداث
الطلبة
عام 1968.
أنجز أميرالاي أول أفلامه بعنوان «محاولة عن سدّ الفرات» عام 1970،
ليحقق بعد
ذلك أفلاماً عدة، من بينها:
الحياة اليومية في قرية سورية - 1974، الدجاج - 1977، عن ثورة - 1978،
مصائب قوم - 1981، رائحة الجنة - 1982، الحب الموؤود - 1983، فيديو على الرمال - 1984،
العدوّ
الحميم - 1986، سيّدة شيبام 1988، شرقي عدن - 1988، إلى جناب السيّدة رئيسة
الوزراء
بناظير بوتو - 1990، نور وظلال - 1994، المدرّس - 1995، في يوم من أيّام
العنف
العادي، مات صديقي ميشيل سورا... - 1996، وهنالك أشياء كثيرة
كان يمكن أن يتحدّث
عنها المرء 1997- ، طبق السردين - 1997، الرجل ذو النّعل الذهبي - 1999،
الطوفان - 2003.
حل أميرالاي ضيفاً على مهرجانات عربية وعالمية عدة، وفاز بجوائز
عالمية
كثيرة.
|