رسائل البحر.. رسائل داوود
بقلم: أحمد مختار عاشور
"ما وراء الرسائل "
"هذا الفيلم لو لم أشاهده .. لكنت كتبته .. لا إدعاءً للموهبة .. بقدر
ما لمسني"
فيلم "رسائل بحر" .. هو تأكيد آخر على عبقرية "داوود عبدالسيد" ..
قنبلة سينمائية بكل المقاييس ..
وعلى ما اعتقد .. هو الفيلم المصري الوحيد الذي يستحق المشاهدة لهذا
الموسم ..
"لو حسبت وَسَط التقييمات النقدية لأفلام "سارق الفرح" و"البحث عن سيد
مرزوق" و"أرض الخوف" و"الكيت كات" و"أرض الأحلام" .. وأضفت إليهم "رسائل
بحر" .. لاعتبرت "داوود عبد السيد" أفضل مخرج مصري على الإطلاق!
أن تسلم حواسك لمخرج فاهم ..
هناك مقولة لــ"بول فاليري" : (أوصيك بالدقة , لا بالوضوح)
تلك التي اختارها "إبراهيم أصلان" كمقدمة لروايته "مالك الحزين" التي
شاهدناها في فيلم "الكيت كات"..
هذه المقولة أكاد أقسم انها مقدسة -لا فقط مفضلة- لدى "داوود عبد
السيد" ..
الدقة على المخرج .. والوضوح يستخرجه المشاهد.
أنظر مثلاً على "يحيى" وهو يمارس الجنس مع "نورا" أمام أحد أبواب
البناية ..
بسرعة تساءلت : هل الشقة مسكونة وجماح الشهوة أطار لبيهما؟؟
حتى لمحت قفلاً معلق على الباب ..
عكس ما وجدته مثلاً من فيلم "ويجا" لـ "خالد يوسف" ..
عندما دخل "هاني سلامة" ومنة شلبي" إلى بيتها وهي سكرانة .. ولم
يُغلقا باب الشقة خلفهما
بل ومارسا الجنس أيضاً !
كنت أشاهد هذا وأنا ممتعض لدرجة إني تمنيت أن أقوم أنا لأغلق الباب!!
هناك فرق بين مخرج يحترم عقلية المشاهد .. وبين آخر يستفزه.
الرسائل
"بعضها تصويري .. غيرها مُقدَس"
الرسالة الأولى : "المُقدَس"
زجاجة في البحر , محكمة الغلق .. بها رسالة ..تعبث بها موجة ..
فتسلمها لموجة تليها .. حتى تصل إلى يد بحار عجوز
.. يُرعبه منظرها .. فيلقيها وهو يقول : "بسم الله الرحمن الرحيم" ,
ويستعيذ..
هي حيلة درامية بارعة من "داوود عبد السيد" ليبدأ الفيلم بالبسملة
وكأنه يخبرك إنك بصدد عمل مقدس , سِفر فني ..
يجب أن تنصت وتسلم إليه كل حواسك تماماً !
الزجاجة عندما تصل إلى "يحيى" .. في وقت كربه .. يحاول فك طلاسمها..
لم يفعل مثلما فعل البحار العجوز الذي تركها مغلقة , خائفاً من معرفة
محواها..
أراد يحيى فهم الرسالة , المكتوبة بلغة غريبة .. لا يتحدث بها أي من
أهل الأرض..
"نفسي أعرف الرسالة مكتوب فيها ايه"
تخبره "نورا" -واسمها مشتق من التنوير- انه لا يجب أن يهتم بما في
الرسالة .. فليكتفِ فقط باعتبارها رسالة من البحر إليه
.. وكفى.
عندما تضيق الظروف بــ "يحيى" .. وقبل أن يفكر في بيع ملابسه .. يذهب
ليصطاد القليل من السمك ليبيعه فيأتي له بالقليل
كالعادة .. لكن وقتها كانت هناك نوة شديدة .. أعجزته عن الصيد ..
فصرخ في البحر :
"جيتلك وأنا مش محتاج اِدتني .. جيتلك وأنا جعان صدتني .. ده ظلم ولا
فوضى؟؟؟"
الرسالة الثانية : "الوِحدَة"
لم يتبقَ من أهل "يحيى" إلا الأخ الأكبر الذي هاجر للخارج مع أسرته ..
وبقى "يحيى" وحيداً مع ظروف مادية أصبحت سيئة جداً .. بعدما تناقصت إيرادات
الأرض ..
فضل "يحيى" الذهاب ليقيم في شقة الأسكندرية المهجورة ..
حيث الذكريات والآلهة القديمة ورائحة البحر .
الرسالة الثالثة : "الحنين"
يلتقي بجارته اليونانية العجوز التي تقيم مع ابنتها "كارلا" ..
ويتبادل معهما الأحضان والذكريات القديمة ..تخبره "كارلا" بعدما يستعيدا
معاً ذكريات القبلات الماضية أن أشياءً كثيرة قد تغيرت فيها .. وسنعرف
بعدها أن من هذه الأشياء ميولها الجنسية ..
"الذكريات تموت حين نسترجعها"
الرسالة الرابعة : "الحيرة"
دور "يحيى" كان سيذهب في البداية للراحل "أحمد زكي" .. وكان سيجيده
بالطبع.. لكن القدر لم يمهله!
بعدها اندهشت من عرض هذا الدور على "خالد صالح" و"كريم عبد العزيز"
و"مصطفى شعبان"..
فالأول لن يجيد هذا الدور رغم عملقته .. والثاني بارع في الأدوار
الغير معقدة .. بينما الثالث لا أحسبه ممثلاً أصلاً!
ربما كان سيصبح الفيلم أكثر روعة لو قبل "هاني سلامة" أو "خالد
أبوالنجا" بالدور .. لكن "آسر ياسين" لم يخذلنّا قط .. وشهدت له بالعبقرية
التمثيلية في آداء هذا الدور المعقد .. رغم قلة خبرته .. إلا أني لم ألمح
أي افتعال في تمثيله ..
هذا الدور تشعر انه تكثيف أكثر عمقاً على شخصية المواطن في "مواطن
ومخبر وحرامي" ..
"يحيي" يتهته وهو يتحدث مع الناس , لكنه لا يفعل وهو يتحدث مع نفسه ..
لكنه يريد أن يتحدث مع الناس..
التهتهة هنا حالة نفسية رمزية عن الإنسان الحائر .. الذي لا يستطيع أن
يجزم بالموجود ولا يستطيع أن يؤكد شكوكه أيضاً
تجده في مشهد مع "نورا" وهو لا يتهته .. لأنه كان سعيداً ..
والسعادة أعطته حالة من الثقة .. حالة من اليقين .
"يحيى" يخبر "كارلا" انه ترك مهنة الطب .. لأن المرضى والممرضات كانوا
يضحكوا من طريقة كلامه ..
هو لا يستطيع مداواة الناس وهو أشدهم مرضاً بحيرته هذه ..
ويشعر بالذنب تجاه أبيه الذي يعتقد أنه مات مقهوراً من الحسرة عليه!
ويغتاظ من صديقه "قابيل" عندما يسخر من تهتهته .. لكن "قابيل"-ابن
البلد- يعود ليصالحه معتذراً ..
وتجد مالك العمارة "الحاج هاشم" -صلاح عبدالله- الذي يرمز لمادية
العالم من حول "يحيى" -الإنسان الحائر- وهو يثور من تهتهته .. فلا وقت لديه
ليعرف حيرة يحيى .. الوقت لديه من أجل المال فقط..
تخبره "نورا" بنكتة عبقرية عن زبون يتهته , طلب طعاماً من جرسون كان
يتهته أيضاً..
ولما أتى زبون آخر .. كانت طريقة نطق الجرسون طبيعية بلا تهتهة ..
فثار الزبون الأول وسأل الجرسون عن سبب سخريته منه؟
فأخبره الجرسون بتهتهة انه يسخر من الزبون الثاني لا منه !!
ضحكنا قليلاً مع "يحيى" على هذه الدعابة .. ولما قالت "نورا" : النكتة
بتضحك أكتر من كدة على فكرة ضحكنا أكثر معه !
وكأن النكتة ترميز مُصغر لفلسفة الفيلم :
ما الطبيعي وما هو غير الطبيعي؟؟
هل وُلدنا بالحيرة أم اكتسبناها نتيجة مواقف؟؟
هل لو أصبحت كما السواد الأعظم من الناس , تكون هكذا سليماً أمام نفسك
أم فقط أمامهم اصطناعاً؟!
الرسالة الرابعة : "المزيكا"
كنت انتظر بالطبع وجبة موسيقية رائعة طالما الفيلم لــ "داوود عبد
السيد" .. والموسيقى كانت أساس الفيلم .. للموسيقار "راجح داوود" ..
يتذوق "يحيى" الخمر لأول مرة .. ويهيم في الشوارع ثملاً .. حتى يتوقف
أمام بيت تصدح منه موسيقى خلابة .. يقف مسحوراً أمامه .. ومن شدة سحر
المزيكا يحاول اقتحام البيت لتسجيل إعجابه بالعازف .. فينتهي به المطاف في
قسم شرطة.
بعدها ..تصبح وقفته الثابتة أمام بيت الموسيقى من الطقوس اليومية
المقدسة التي يفعلها ..
تمنى أن يعلم من الذي يعزف هذه الألحان الخلابة .. حتى تعرف مصادفة
على "نورا" التي أرادت السير معه تحت شمسيتها , أسفل زخات المطر ..
وتصعد معه إلى بيته.
يتعارف على "نورا" بطريقة فانتازية , غير واقعية .. هكذا فهمنا في
البداية!
الرسالة الخامسة : "الصداقة"
يتعرف في البار على "قابيل" .. البودي جارد مفتول العضلات .. الذي سبق
له وأن قتل إنساناً في الماضي , بعد ضرب أفضى للموت .. فتاب عن فعلته ,
وأقسم على ألا يضرب أي إنسان مرة أخرى .. وإن كان لم يفلح في مهنة أخرى
بمنظره المرعب هذا غير "بودي جارد" .. وطلب من "يحيى" ألا يخبر أحداً أنه
لن يَضرِب ثانية .. حتى لا يُقطع عيشه ..
ها هو "محمد لطفي" الممثل محدود القدرة التمثيلية .. تجده فجأة أصبح
وحش تمثيل على يد "داوود عبد السيد" ..
سنعرف أن "قابيل" يعاني من الصرع , وأن ورماً ينمو في مخه يجب إزالته
سريعاً لكن للأسف العملية ستجعله يفقد الذاكرة .. فنجد "قابيل" يهرب من
غرفة العمليات قبل التخدير .. ويخبر "يحيى" انه لا يريد أن يفقد ذاكرته ولو
عاش كثيراً !! ..
هو يريد أن يعيش قليلاً على ذكرياته .. كما أنه يخشى أن يقتل إنساناً
آخر .. لو نسي ماضيه!
ها هو "داوود عبد السيد" وهو يجسد صورة رمزية عن توبة "قابيل بن آدم"
عن قتل أخيه!
الرسالة السادسة : "المهمشون"
يتعرف "يحيى" على بيسة .. صديقة "قابيل" .. اسمها يدل على السلام ..
الذي يعيش فيه معظم مهمشي الوطن ..
السلام وراحة البال ومتعة الجنس وحب الحياة .. الأشياء التي تبقى
البشر أحياءً رغم الصعاب.
الرسالة السابعة : "السلطة"
"يحيى" يدخل القسم مرتين .. مرة بعد تهجمه على بيت المزيكا , والمرة
الثانية بعد أن اعتقد ظابط الدورية أنه لص وعجز "يحيى" أن يدافع عن نفسه أو
أن يتكلم أصلاً .. فدفع الظابط في صدره .. فانهال عليه العساكر ضرباً ..وقت
سطوع أضواء بداية عام جديد , وبات ليلته في القسم!
الرسالة الثامنة : "المادية"
هناك مشهد لقاء "يحيى" بالحاج "هاشم" في السوبر ماركت الذي يملكه ..
فيه الكاميرا تركز على كل أنواع البضائع ..
كأنها تقول : "مرحباً بكم في عصر الإعلانات المادي" ..
الحاج "هاشم" صاحب البناية يحارب "يحيى" بكل الطرق لكي يجعله يترك
البيت .. يغريه بالمال .. ولما فشل .. سلط عليه بلطجيته الذين حاربوه
بالبذاءة والدين .. حتى طردوه !
المادية المسيطرة وجنودها المخلصين .. التدين السوقي والبلطجة..
المادية هي التي تحكم كل شيء ..
وقبلها عرفنا أن العجوز اليونانية وابنتها سيرحلا من مصر .. فهما لن
يقبلا بالعيش في مكان آخر في مصر غير المكان الذي نشأت فيه ذكرياتهما ..
الرسالة التاسعة : "طفولة"
"يحيى" لا يزال طفلاً .. لذلك حاولت "نورا" أن تصدمه علّه يفهم طبيعة
هذا العالم الذي أُلقي فيه .. ذلك العالم الذي لا مكان
فيه للحائرين أو الضعفاء ..
عندما صعدت معه أول مرة لبيته , ظن أنها عاهرة .. فعرض عليها مالاً :
"أنا معايا 20 جنيه بس , تاخدي 10 ؟؟"
فتوافق "نورا" على تمثيل هذا الدور .. وإن عرفنا فيما بعد أنها الزوجة
الثانية -الإسكندرانية- لرجل أعمال -قاهري- يأتيها كل حين ليرضي شهوته
ويمنعها عن التدخين .. فيتملكها إحساس أنها عاهرة بالفعل ..
الفنانة "بسمة" أجادت الدور ببراعة .. وأيضاً أستاذ التمثيل "أحمد
كمال" - المشترك الرائع في كل أفلام "عبد السيد"- في المشهد القصير هذا ..
الرسالة العاشرة : "المجهول"
ينتهى الفيلم على "يحيى" و"نورا" وهما على مركب في وسط البحر .. بينما
تدوى أصوات القنابل من حولهما .. تلك التي يفجرها "الحاج هاشم" كطريقة أفضل
لصيد السمك ..
الأسماك الميتة تطفو على سطح المياه من حول المركب..
ويبقى بين السمك الميت -البشر المطحونين- يحيى ونورا - الشك والفن -
بينما الحاج "هاشم" يسيطر -المادية المسيطرة برجالها على العالم- !
هنالك ملاحظة رائعة للصديق "أيمن عبد الحميد" .. أن المركب في مشهد
النهاية كان مكتوباً عليه "القدس" .. وبإضافة مشهد الأسماك الميتة من حوله
.. يأتي بعد سياسي آخر في الفيلم .. قد يكون مقصوداً !
"يحيى" لا يعلم في النهاية أن "نورا" ليست مومس .. لكنها يحبها
ويتقبلها كما هي .. بعد معاناة وصراع..
لكننا نعلم !
"يحيى" لا يعلم انها من كانت تبث الموسيقى , ومن بعد.. أثارها منظر
تهجمه على البيت إعجاباً بالألحان .. فتقرر التعارف عليه ..
لكننا نعلم !
"يحيى" لا يعلم ما المكتوب في الرسالة !
وكذلك نحن ..
موقع "حريتنا" في
07/02/2010 |