... وبعد
واحد وعشرين عاماً من الغياب عن «السعفة الذهبية»، استعادت السينما
الفرنسية هذه السعفة التي كانت، حتى حين نالتها قبل خُمس قرن عن فيلم «تحت
شمس الشيطان» للراحل موريس بيالا جوبهت باحتجاج صاخب من النقاد العالميين،
أجبر المخرج وهو يعتلي الخشبة على رفع يده في حركة شتيمة تجاه الصاخبين.
ومنذ ذلك الحين (1987) وأهل السينما الفرنسيون يشعرون بالمرارة: في كل عام
يقولون هذا العام عام سعفتنا الذهبية، ثم يخيب أملهم، حتى في الحصول على ما
هو أدنى منها. ولكن هذه المرة حدثت «المعجزة» الصغيرة. لكنها لم تحدث إلا
في شكل غير متوقع. وفي مكان آخر غير ذاك الذي صخب النقاد والصحافيون
الفرنسيون في حديثهم عنه منذ أول أيام المهرجان. ففي البداية كانت
«الإشارة» واضحة: على النقاد أن يركزوا، حديثاً وتعليقاً وتوقعاً على فيلم
«حكاية عيد ميلاد» لآرنو دبليشان، ابن «كان» المدلل، والجامع لعدد وفير من
النجوم الفرنسيين. بالنسبة الى الفرنسيين، ستكون السعفة من نصيب هذا الفيلم
حتماً. وهو أمر لم يشاركهم فيه غيرهم من النقاد الآتين من شتى بلدان
العالم. وخلال الأيام الأولى لم يكن ثمة ذكر لفيلم فرنسي آخر هو «بين
الجدران»، كان جرى اختياره في شكل متأخر جداً، وعرض في اليومين الأخيرين
للمهرجان من دون أية بهرجة إعلامية أو صخب، الى درجة أن كثراً لم يتنبهوا
الى ضرورة حضوره.
ولكن منذ
عرضه، بدا كثر واثقين من أنه إذا كان لفرنسا أن تنال السعفة الذهبية هذا
العام، فإنها لن تنالها إلا من طريق هذا الفيلم... الفيلم الذي لا دراما
صاخبة فيه ولا نجوم، وبالكاد يعرف أحد من أهل السينما العالمية اسم مخرجه:
«بين الجدران» الذي سمي في الإنكليزية «الصف» وهو من إخراج لوران كانتيه،
الذي لم يعرف قبل الآن إلا بأفلام يغلب التوثيق الاجتماعي عليها. ومن هنا
إذا كان كثر فوجئوا بنيل «بين الجدران» السعفة الذهبية، فإن الذين شاهدوا
الفيلم لم يفاجأوا... بل بالأحرى فوجئوا كيف أن عالم «كان» المخملي الصاخب
تنبه الى هذا العمل الاجتماعي – السياسي القوي (راجع عن «بين الجدران»
مكاناً آخر في هذه الصفحة). لكن حدة المفاجأة تضاءلت حين تذكّر الجميع أن
رئيس لجنة التحكيم هذه المرة هو شون بن، الممثل والمخرج الأميركي المشاكس
الذي كان وعد الصحافة قبل الافتتاح بأن «هذه الدورة من كان ستكون سياسية إن
لم يكن في التوجه العام لعروضها، ففي نتائجها». إذاً، مساء اليوم الحادي
عشر للدورة 61 لمهرجان «كان» السينمائي، تحقق لفرنسا ما كانت تتطلع إليه
واستعادت سعفتها الذهبية. وحقق شون بن ما كان وعد به وسيّس النتائج. أما
أهل السينما ونقادها فإنهم تراكضوا يتساءلون كيف سيقيض لهم أن يشاهدوا «بين
الجدران» ليكتبوا عنه. وكان الجواب واضحاً: في الليلة نفسها بعد إعلان
النتائج، وتحديداً في رفقة أصحاب الفيلم ودزينتين من مراهقين سود وعرب
وصينيين وفرنسيين متواضعي الموقع الاجتماعي، هم أبطال هذا العمل.
البؤس
والثروات
وإذا كان
فوز «بين الجدران» قد شكل مفاجأة في ليلة «كان» الأخيرة، فإن عنصر المفاجأة
هذا لم يسر على بقية الجوائز، التي وزعها شون بن ورفاقه في لجنة التحكيم
وسط حفلة تنافس صخبها مع تقشفها على الخشبة، مع أناقة الفاتنات والسادة من
الحضور في صالة راحت تضج بالتصفيق كلما أعلن عن اسم فائز، حتى بصرف النظر
عن التناقض الكبير بين روحية الأفلام الفائزة، ومظهر الصخب الاجتماعي
الأنيق في الصالة. إذ أمام المشهد الإجمالي كان يحق للمرء أن يتساءل: ترى،
ما الذي أتت أفلام الجوع والبؤس والسياسة والاستسلام أمام صعوبة الحياة
والنضال الثوري تفعله أمام هذا العالم المتأنق الجميل؟ والجواب بسيط: إنها
معجزة السينما. المعجزة البسيطة التي سمحت لشون بن ورفاقه بمكافأة
سينمائيين عبّروا عن بؤس العالم، أمام نجوم وشخصيات، قد تكفي ثرواتها لدرء
هذا الجوع!
إذاً،
فيلم عن صعوبة العيش والتعايش بين أستاذ للفرنسية وطلابه الآتين من الطبقات
المسحوقة («تحت الجدران»)، وفيلمان عن المافيا الإيطالية وعلاقتها بالسياسة
(«غومورا» و «ال ديفو»)، وفيلم عن حياة بطل التحرير في أميركا اللاتينية
ونضاله وسقوطه («تشي»)، وفيلم عن مجتمعات البؤس والجوع والتفكك في برازيل
اليوم («خط العبور»)، وفيلم عن التفكك العائلي والسقوط الأخلاقي في اسطنبول
الراهنة («ثلاثة قرود»)، وواحد عن بؤس العمال المهاجرين المسحوقين في
بلادهم، المرفوضين في ديار الهجرة («صمت لورنا»)... هذه الأفلام كلها،
بمشكلات الحاضر التي تطرح، تتضافر هنا لتشكل مجموعة الأفلام التي اختارتها
لجنة التحكيم في «كان» للجوائز السبع الرئيسة التي تمنح مرة في كل عام في
هذا المهرجان. وهذه الأفلام في تضافرها، إنما تعكس في الحقيقة، ما كان يمكن
أن يكون متوقعاً من لجنة تحكيم يرأسها شون بن، المكافح منذ بداياته ضد
الظلم والهيمنة على العالم وضد الإدارة الأميركية التي يعتبرها مسؤولة عن
هذا كله. ومن الواضح أن شون بن حين سعى الى «فرض» اختياراته هذه، إنما
تعمّد أن يقدم في المقابل ما بدا أنه تنازل شكلي مزدوج: جائزة خاصة ابتكرت
للمناسبة وأطلق عليها اسم «الجائزة الخاصة للدورة الواحدة والستين» وهو،
للمناسبة، اسم غريب ولا معنى له. ولكن كان من الضروري اللجوء إليه. فإذا
كانت التوقعات «السعفية»، سارت منذ البداية في اتجاه ان الفرنسيين يريدون
الجائزة الكبرى لـ «حكاية عيد ميلاد»، فيما يريد شون بن إعطاءها لصديقه
كلينت إيستوود، عن رائعته الجديدة «الإبدال» (أولاً لأن هذا الفيلم يستحق
ذلك، وثانياً لأن بن – كما قيل – يجب أن يردّ الى إيستوود جميلاً كان هذا
الأخير أسداه له قبل سنوات حين أعطاه في فيلم «مستيك ريفر» دوراً نال عنه
أوسكار أفضل ممثل)، إذا كان التوقعات سارت في هذا الاتجاه، فإن تسوية ما
يبدو أنها فرضت نفسها في النهاية تفضي بتنازل كل طرف عن رغبته لمصلحة إعجاب
مشترك بـ «بين الجدران»، في مقابل أن يعطى كلينت إيستوود (مخرج «الابدال»)
وكاترين دونوف (بطلة «حكاية عيد ميلاد») معاً جائزة الدورة 61 الخاصة. ولئن
كان هذا الفوز قد سرّ دونوف وجعلها تتألق في وصولها الى الخشبة، فإنه – كما
يبدو مؤكداً – أغاظ كلينت إيستوود الذي امتنع من حضور الحفلة، فكان في
غيابه، الحاضر الأكبر!
الضحك ...
في مكان آخر
وإيستوود
نفسه، الذي كشف غيابه منذ بدء الحفلة عن أن فيلمه استبعد من كل جائزة كبرى،
كان في الأصل حاضراً طوال ايام المهرجان، كما كان يصر على مشاهدة بعض
الأفلام ولو خفية عن الأعين الفضولية للصحافيين والجمهور، ويقال إنه ضحك
كثيراً حين شاهد «فيكي كريستينا برسلونا» لزميله وودي آلن، مشيراً من طرف
خفي الى أن على الجميع أن يضحكوا كثيراً حين يشاهدوا هذا الفيلم لأنه
«الفرصة الوحيدة للضحك في هذه الدورة». وكان من الواضح أن إيستوود يشير
هنا، وربما ناقداً، الى غياب الضحك عن أي فيلم في المهرجان. فإذا كانت كل
العواطف قد حضرت، كما حضرت كل السياسات والقضايا الاجتماعية الساخنة، فإن
الضحك والمرح كانا الغائبين الأكبرين... ولنكون أكثر صدقاً، لا بد من أن
نشير الى أن الجمهور ضحك، مع هذا، في فيلمين لم يكن الإضحاك مقصوداً فيهما:
فيلم «حدود الفجر» للفرنسي فيليب كاريل، الذي توّج «أكثر الأفلام إثارة
للضجر» في الدورة، وضحك الجمهور على بعض مشاهده «الأكثر رومنطيقية»، وفيلم
«تصوير باليرمو» الذي أثار بعض الحوارات، لا سيما الحوار مع الموت، فيه،
سخرية ظالمة، فضحك بعض الجمهور، ما أساء الى فيلم من الواضح أن مكانته
ستكبر أكثر وأكثر مع الوقت (وهذا على أي حال دأب كل فيلم من أفلام صاحب
«تصوير باليرمو» الألماني فيم فندرز: يستقبل أول الأمر استقبالاً سيئاً ثم
يعاد إليه الاعتبار، بل يصبح عملاً كلاسيكياً كبيراً، لاحقاً).
على رغم
السخرية من بعض حواراته، لا بد – إذاً – من الاعتراف بأن «تصوير باليرمو»
فيلم كبير، وكان يستحق الفوز بجائزة ما. وهو في هذا الغياب عن الجوائز انضم
الى بضعة أفلام أخرى كانت كل التوقعات تعطيها حظوظ فوز كبيرة منذ عرضت،
لكنها خُذلت في النهاية. وفي مقدم هذه الأفلام فيلم «عبادة» للكندي –
الأرمني – المصري آتوم ايغويان، هذا الفيلم الذي دنا، في شكل تركيبي موفق
من بعض أكثر المشاكل والقضايا سخونة في عالم اليوم: الإرهاب والتعامل معه،
قضية الشرق الأوسط، المجابهة بين الأديان، العنصرية ثم الإنترنت ودوره في
حياتنا اليومية. ويبدو أن هذا الدنو الذكي والواعي من كل هذه المسائل لم
يمكّن فيلم ايغويان الجديد هذا من إقناع لجنة التحكيم بمنحه ولو جائزة
السيناريو، التي بدا مستحقاً لها أكثر بكثير من فيلم «صمت لورنا» للأخوين
داردين، الذي بدا مستحقاً للسعفة الذهبية أو لجائزة لجنة التحكيم الكبرى.
ولكن ليس لجائزة أفضل سيناريو التي منحت له.
طبعاً،
يمكننا هنا أن نورد قدر ما نشاء من ملاحظات واعتراضات، كما نفعل ويفعل
غيرنا في كل مهرجان، وفي كل دورة... مع معرفتنا بأن هذا لن يبدل من طبيعة
الأمور، ومع معرفتنا أيضاً بأن هذا لن يكون في النهاية سوى اختيار شخصي
ذاتي، مثله مثل النتائج نفسها، إذ نعرف دائماً أن مجرد اختيار لجنة
التحكيم، هو تعيين مسبق للأفلام التي ستفوز. وهنا، في هذا الإطار لن يفوتنا
أن نشير الى أنه، حتى وإن كان غياب أفلام مثل «تصوير باليرمو» أو «عبادة»
أو حتى «فالس مع بشير» لآري فولمان (إدانة بالرسوم المتحركة الوثائقية
لمجازر صبرا وشاتيلا)، عن الجوائز أدهش كثراً وأغاظهم، فإن أسماء الأفلام
الفائزة، في النهاية، لم تثر أي احتجاج... فهي – أو معظمها – كانت الأسماء
المتداولة منذ عرضت، مع انزياح من هنا وانزياح من هناك، ما جعل تطابقاً ما
يلوح بين المتوقع وما أسفرت عنه الأمور، مع بعض الاستثناءات. فمثلاً،
بالنسبة الى جائزة أفضل ممثل التي حظي بها بنيسيو ديل تورو عن لعبه دور
غيفارا في «تشي» لستيفن سودربرغ، كان واضحاً – ولاعتبارات كثيرة من بينها
بالتأكيد أسلوب ديل تورو الرائع في تأدية الدور – انها ستذهب إليه، من دون
منافس جدي. والذين رأوا «خط العبور» لوالتر ساليس، لم يكن لديهم أدنى شك في
أن بطلته (ساندرا كورفيولوني) ستعطى جائزة أفضل ممثلة، لروعة أدائها دور
الأم الشجاعة التي تعمل خادمة في بيوت الأثرياء في ساوباولو اليوم لتعيش
أسرتها المؤلفة من أربعة صبيان مختلفي المشارب والأخلاق، فيما هي حامل
بالخامس الذي لا يعرف أحد من هو أبوه. وفيلم «ثلاثة قرود»، الذي فاز مخرجه
التركي نوري بلجي جيلان، بجائزة أفضل مخرج، لم تكن المفاجأة أنه فاز
بالجائزة، بل كونه لم يفز – مثلاً – بالسعفة الذهبية (وهذا الفوز هو الثالث
لجيلان، عن ثالث فيلم يعرضه في «كان»). وقد سبق أعلاه أن تحدثنا عن «صمت
لورنا» للأخوين البلجيكيين داردين وفوزه بجائزة السيناريو واستحقاقه ما
يفوقها. إذاً، هذا كله بدا واضحاً مريحاً وبدهياً، وتبقى مسألة أخيرة: فوز
فيلمين إيطاليين بجائزتي لجنة التحكيم، الكبرى لـ «غومورا» لماتيو غاروني،
والخاصة لـ «ال ديفو» لباولو سورنتينو. فالحقيقة ان هذا الفوز الإيطالي
المزدوج كان المفاجأة الوحيدة في نهاية الدورة. ليس لأن الفيلمين لا
يستحقان الفوز (راجع عنهما معاً في مكان آخر من هذه الصفحة)، بل لأن
«العادة» جرت بألا تعطى جائزتان (من أصل ما مجموعه 7 جوائز) لفيلمين آتيين
من بلد واحد ويدوران من حول قضية واحدة، لا سيما قضية المافيا التي يقال
دائماً إنها أشبعت أفلمة وصخباً، ولكن أتى هذان الفيلمان ليقولا – على أي
حال – ان لمسألة المافيا وجوهاً كثيرة ودائمة الجدة.
في
النهاية، عرف شون بن كيف ينهي الدورة في شكل مقبول وكيف يرضي كثراً – ولكن
ليس بالتأكيد صديقه وربما أستاذه كلينت إيستوود -. ولئن قيل كثيراً – في
محاولة لهجائه – انه «قاد» دورة فيها الكثير من السياسة والقليل من الضحك،
فإنه – هو المعروف بنضاله ومشاكسته – لن يجد في هذا القول ضرراً، بل لن
يكون لديه من الوقت ما يكفي للتوقف عنده، هو الذي سيكون – وربما رفقة صديقه
بنيسيو ديل تورو – منهمكاً في إرضاء إيستوود وإغداق وعود مستقبلية عليه،
وتبرير عدم إعطائه «سعفة» كان إيستوود يتطلع للحصول عليها وهو في سنه
المتقدمة هذه.
الحياة اللندنية في 30
مايو 2008
«بين
الجدران»:
السعفة الذهب للقاء الحضارات الصعب
ما الذي
يشبه أكثر من أي شيء آخر فيلم «بين الجدران» الفائز بالجائزة الكبرى
«السعفة الذهبية» في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»؟ يشبه صفاً دراسياً
ثانوياً في منطقة شديدة الصعوبة من مناطق باريس، هي الدائرة العشرون التي
بقدر ما يتضاءل فيها عدد السكان ذوي الأصول الفرنسية «الصافية» يزيد التنوع
العرقي والديني أو اختلاط الفئات والشرائح البائسة العائشة غالباً على هامش
مجتمع الوفرة الفرنسي. ويزيد، بالتالي، حجم المشاكل اليومية وصعوبة العيش.
وكل هذا
ينعكس عادة، وأكثر مما في أي مكان آخر، على المؤسسات التربوية، حيث
الاختلاط فعل حياة يومي، والصراعات صورة هذه الحياة الجوهرية. في فرنسا،
وفي سلك التعليم يقال عادة ان الأستاذ الذي يعين في واحدة من مدارس هذه
المنطقة، إنما يكون وضعه وضع كاتب سوفياتي يساق الى الغولاغ. طبعاً قد يكون
في هذا التشبيه قدر كبير من المغالاة. غير أن فيلم لوران كانتيه «بين
الجدران» يعزز الصورة، حتى من دون أن تكون في هذا التعزيز إدانة ما. أو
لنقل إن الإدانة التي يحملها تشبه، حرفاً حرفاً، الإدانة التي قد توجه في
الحياة اليومية – العادية – خارج السينما، الى مجتمع فرنسي يبدو عاجزاً عن
استيعاب الوافدين إليه ودمجهم في ثقافة شاملة تعبر، في تنوعها، عن هضم
لذهنيات كثيرة مشكّلة منها ذهنية شاملة تتماشى مع أزمان العولمة
الكوزموبوليتية الجديدة. ذلك أن «بين الجدران»، ونكررها هنا: يشبه الحياة
تماماً.
ومن
الواضح أن جوهر أهميته يكمن ها هنا. إذ كما أن الحياة هي درامات ولقاءات
وصراعات وحوارات متواصلة، كذلك حال هذا الفيلم، الذي لا يحمل قصة محددة
تُروى في شكل خطي سردي متواصل حتى نهاية ما. هنا لا بداية ولا نهاية إلا
شكلاً. أي أن البداية تكون هنا مع وصول أستاذ الصف الرابع الثانوي للغة
الفرنسية فرانسوا، الى المدرسة ليبدأ عاماً دراسياً، يتلاقى فيه يومياً مع
25 طالباً وطالبة. والفيلم ينتهي مع نهاية ذلك العام الدراسي، من دون أن
يحدث أي أمر جلل بين البداية والنهاية.
الفيلم هو
إذاً، صورة لـ «المجابهة» اليومية الدائمة بين الأستاذ وطلابه، ثم بين
هؤلاء، ومن خلف ذلك صورة لمجابهة كل منهم، ومجابهتهم جميعاً مع العالم، مع
المجتمع، مع صعوبات العيش وكيف تنعكس لديهم عنفاً لفظياً ومحاولات للتملص
من الدراسة والتعبير عن هواجس اكسترا – مدرسية وتعلُّق كلِّ واحد بمثل أعلى
له، قد يكون لصاً أو لاعب كرة أو مغنياً أو رجل دين أو إرهابياً. وهذا كله
استقاه الكاتب فرانسوا بيغودو من تجربته الشخصية مدرساً في كلية فرانسواز
دولتو (التي لأن فيها أشغالاً استبدلت في التصوير بكلية أخرى)، مع طلاب
يشبهون، كالإخوة، الطلاب الذين ظهروا في الفيلم.
وهؤلاء
على أي حال هم من طلاب كلية فرانسواز دولتو الفعليين، جرى اختيارهم من بين
50 طالباً ليقوموا بدورهم في الحياة لا أكثر ولا أقل. وبالفعل، تحت إدارة
لوران كانتيه، وبإشراف فرانسوا بيغودو، اللاعب هو أيضاً دوره في الحياة،
تحرك الصف الرابع ثانوي أمام أعيننا في حياته الغنية، في لحظات العنف
والمرح. في لحظات الود والصراع، فيما الكاميرا محمولة على الكتف غالباً،
تتنقل كعين متلصص مندهش، بين الوجوه والعبارات ملتقطة لحظات شديدة العفوية،
كما في السينما الوثائقية، مع أن العمل ليس وثائقياً. والحقيقة أن أداء
الأستاذ وطلابه بدا من الصدق والعفوية بحيث أن كثراً من النقاد والمتابعين
لم يصدقوا أن الفيلم تمثيل في تمثيل. والواقع أن هؤلاء يبدون محقين الى حد
ما. ذلك أن هذا الفيلم ينتمي، في الحقيقة، الى موقع وسط بين السينما
الروائية والسينما الوثائقية: إذ حتى وإن كان الجانب الروائي هو الأساس،
فإن الأهم أن «الممثلين» لا يمثلون سوى دورهم في الحياة، بل إن معظم
الحوارات، بين بعضهم البعض، وبينهم وبين الأستاذ، جاءت مرتجلة بمعنى أن
المخرج وكاتبه كانا يحددان الإطار العام للموقف المطلوب التعاطي معه، ثم
يتركان لـ «الممثلين» قول ما يرون أنه كان يمكن أن يقولوه في مشهد مثل هذا
يعيشونه حقاً في الحياة اليومية.
في
النهاية ستكون الكلمة
هنا، إذا
كان من البديهي لفرانسوا بيغودو، كاتب الفيلم و «ممثله» الرئيس، أن يتقن
دوراً عاشه سنوات طويلة من حياته، وكتب عنه كتباً كثيرة، منها الكتاب الذي
أخذ عنه الفيلم مباشرة، فإن المدهش كان قبض الطلاب على الموضوع وعيشهم إياه
تماماً، كما لو أنه حياتهم الخاصة، ومن ثم التعبير عن ذلك كله بقوة وصدق
عرفت كاميرا لوران كانتيه كيف تلتقط كل لحظة منهما. ومن هنا عاش المتفرجون
– كما عبر الكاميرا الخفية – لحظات مدهشة ومتوترة، لحظات مضيئة ومحزنة،
لحظات عابثة وأخرى شديدة الجدية، مع فرانسوا والناظر (الذي هو الناظر
الحقيقي للكلية) والأساتذة الآخرين (وهم أيضاً أساتذة الكلية)، كما مع نسيم
وشريف وكودوما وازميرالدا وسليمان وهنرييت ولوسي وبابكر ورباح... وغيرهم من
طلاب صاروا بعد عرض الفيلم نجوماً حقيقيين في «كان» وشخصيات لا تنسى، كمثل
حال والدي الطالب الصيني واي، ذي الذكاء المفرط، والذي يراقب بعينين
حزينتين رغبة السلطات في طرد والديه لأن أوراق دخولهما فرنسا غير مستوفية.
ونلاحظ هنا كيف أن الفيلم حين أطل على العالم الخارجي، أطل عبر مثل هذه
الحالات، التي لا تخرج أصلاً عن إطار الموضوع العام للفيلم.
من الواضح
أن هذا كله فتن لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، كما فتن رئيسها شون بن، الذي
تتلاقى معه – أصلاً – رسالة الفيلم، الداعية الى التحاور والتسامح بدلاً من
الصراع، والى تغليب اللفظ على الضرب والى أن الناس إنما يلجأون الى العنف
لانعدام الحوار في ما بينهم، فكانت السعفة الذهبية من نصيب فيلم غريب مدهش.
ولم يكن هذا لا متوقعاً ولا محسوباً، خصوصاً أن إعلان مشاركة «بين الجدران»
تأخر أسبوعاً عن إعلان أسماء بقية الأفلام المشاركة. وأنه حين وصل ليعرض
اعتبر مجرد فيلم فرنسي آخر. ثم بعدما عرض بدا، للوهلة الأولى مملوءاً
بكليشيهات عن الهجرة والعنصرية والمجتمع الفرنسي، امتلأت بها عشرات الأفلام
التي حققت في فرنسا خلال ربع القرن الأخير. غير أن هذا الفيلم سرعان ما عاد
واحتل مكانته في الصف الأول بين الأفلام المرشحة للفوز. وحين فاز ساد تصفيق
عميق وكبير، فيما توجهت أنظار الحضور نحو الطلاب المراهقين، الذين سرعان ما
صارت لهم سمات النجوم الكبار، ونحو أستاذهم فرانسوا بيغودو، الذي وصل هنا
الى ذروة مجد من الواضح أنه لم يكن يحلم به حين كان مجرد أستاذ ثانوي للغة
الفرنسية يصارع بينه وبين نفسه لإيجاد أفضل السبل للتعامل مع مجتمع صعب...
صعب الى حد الإرهاق.
لوران
كانتيه مخرج «بين الجدران»
من المؤكد
أن اختيارات لوران كانتيه الفنية وأسلوبه السينمائي ونزعاته الفكرية، منذ
دخل مجال الإخراج السينمائي عام 1993، ما كانت لتؤهله أبداً لأن يحلم بأن
ينال السعفة الذهبية يوماً في كان. فهو واحد من أولئك السينمائيين الذين
قام فنهم على أسس اجتماعية محاولاً أن يستلهم مواضيعه، ليس فقط من قلب
الحياة والمجتمع، بل من نزعة تصر على أن تكون الكاميرا هي التي تصل الى
المجتمع لا أن يصل هذا الأخير الى الكاميرا. ومن هنا فإن أفلامه اتسمت
بنزعة نصف وثائقية – نصف واقعية مع شيء من التوجه الروائي. وسم هذا فيلميه
القصيرين الأولين «الكل الى التظاهرة» – 1993 – و «لعبة الشاطئ» – 1995 -.
وهو، بفعل النجاح الذي حققه هذان الفيلمان، تمكن عام 1997 من تحقيق روائيه
الطويل الأول «الدمويات»، ليتبعه عام 1999 بـ «موارد بشرية» الذي فاز،
خصوصاً، بـ «سيزار أفضل عمل أول». وفي 2001 حقق كانتيه «البرنامج» الذي فاز
بالجائزة الكبرى في مهرجان البندقية. وعام 2005 حقق «نحو الجنوب» الذي عرض
في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية. وبهذا يكون «بين الجدران» فيلمه
الروائي الطويل الخامس.
إ. ع.
الحياة اللندنية في 30
مايو 2008
المافيا:
الدويلة وصاحب الدولة
هو أمر لا
يحدث كثيراً في «كان». بل انه لم يحدث قبل الآن أبداً: فيلمان من بلد واحد،
عن موضوع هو في نهاية الأمر واحد. وفي توجه سياسي – إجرامي – اجتماعي
واحد... وكذلك مع ممثل هو نفسه في الدور الرئيس في كل فيلم من الفيلمين،
يفوزان بجائزتين تحملان تقريباً الاسم نفسه: جائزة لجنة التحكيم، التي توصف
في المرة الأولى بـ «الكبرى» وفي المرة الثانية بـ «الخاصة». البلد هو
ايطاليا والفيلمان هما «غومورا» لماتيو غاروني (فاز بجائزة لجنة التحكيم
الكبرى) و «ال ديفو» لباولو سورنتينو (الذي فاز بلجنة التحكيم الخاصة). ومن
المعروف عادة ان «الكبرى» تعتبر أرفع جائزة تعطى لمستوى فني في مهرجان
«كان» – ما يميزها أحياناً حتى عن «السعفة الذهبية» ذات الطابع الأكثر
استعراضية، اما «الخاصة» فإنها تعبر عن توافق في الذوق السينمائي بين
المحكمين. وهذا يعطي الأفلام الفائزة بهاتين الجائزتين نكهة خاصة. وهذه
النكهة لم تفت الإيطاليين الذين بفوز فيلميهم اعتبروا أنفسهم منتصرين
انتصاراً كبيراً، هم الذين يكاد غيابهم عن «كان» وجوائزها خلال السنوات
الأخيرة يغيظهم.
والفيلمان
يتناولان حكايات تتعلق، من قريب مباشر، أو من بعيد متجذر، بالمافيا وأكثر
من هذا: بالطابع السياسي للوجود الكلي الحضور للمافيا في الحياة الإيطالية.
يتحدث «غومورا»
عن المافيا النابوليتانية، وهي – في إيطاليا – اكثر فاعلية وحضوراً، وإن
تكن اقل صخباً من المافيا الأخرى، الأكثر شهرة والنابعة من جزيرة صقلية
لتصل الى اميركا، وثلاثية «العراب» والتي صارت مع الوقت شديدة الفولكلورية.
في المقابل فإن الغومورا النابوليتانية هي اشبه بدويلة حقيقية داخل الدولة
الإيطالية، لها جيشها المسلح – الخفي طبعاً – ونواديها الاجتماعية ومخازنها
التجارية وفروعها المصرفية... أما أموالها – المقدرة سنوياً بأكثر من 200
بليون دولار -، فتأتي من تجارة كل ما هو ممنوع ولكن بخاصة من تقليد البضائع
الفاخرة وبيعها في شتى أنحاء العالم. من حكايات هذه المافيا، يستقي الفيلم
5 حكايات يولّف بينها، ليقدم من خلالها في مونتاج متوتر إنما راسخ في سيره
الى الأمام، شخصيات لا يجمع بينها إلا عملها مع تلك الدويلة: عجائز
مخضرمون، فتيان يحلمون بعد ان شاهدوا مرات ومرات فيلم «سكار فايس» لبريان
دي بالما، كما شاهدوا «عراب» كوبولا و «فتية طيبون» لسكورسيزي، يحلمون بأن
يصبحوا من قادة هذه المافيا. إنهم هنا جميعاً يقدمون في حياتهم اليومية، في
علاقاتهم وأحلامهم، في بيئاتهم العائلية، في فرحهم بالحياة... وكأن الفيلم
عمل وثائقي عن مجتمع يقف خارج العالم، لكنه مختلط به حتى الثمالة.
«ال ديفو»
لباولو سورنتينو، يختلف بعض الشيء عن «غومورا» حتى وإن كان مثله مأخوذاً عن
نص مكتوب. فـ «غومورا» مقتبس من كتاب عن المافيا النابوليتانية صدر قبل
فترة وبيع منه 4 ملايين نسخة في إيطاليا حتى الآن. أما «ال ديفو» فمأخوذ عن
محاضر محاكمات الزعيم السياسي الإيطالي السابق جوليو اندريوتي، الذي حكم
ايطاليا – باسم حزب الديموقراطية المسيحية – منذ ما بعد الحرب العالمية
الثانية حتى الثمانينات من القرن العشرين، رئيساً للحكومة سبع مرات، وزيراً
عشرين مرة، ونائباً ثم سيناتوراً مدى الحياة. والفيلم يمكن اعتباره في آن
معاً، توثيقياً - إنما في شكل روائي ومن طريق ممثلين – عن حياة اندريوتي،
ومرافعة تدافع عنه وتعلن في النهاية براءته من كل ما اتهم به في شكل
صاخب... ولكن قبل هذا أو ذاك هو عمل عن التداخل المرعب بين المافيا والسلطة
الإيطالية، علماً بأن التهم الرئيسة التي وجّهت الى اندريوتي واستدعت
محاكمته مرات عدة وابتعاده بالتالي عن السياسة، اضافة الى انهيار حزبه
وتفككه، هي على علاقة بارتباطات له، مزعومة او حقيقية، مع المافيا ومع
اموال المافيا. ولكن اذا كان «ال ديفو» (على اسم اللقب الذي يطلق على
اندريوتي في ايطاليا، وهو مذكر «ديفا» أي النجمة السماوية) يتناول موضوعاً
يفترض انه كلاسيكي الأسلوب (السيرة والسياسة)، فإن مخرجه اختار له لغة
سينمائية مبتكرة شديدة التشظي والتفتت، تتنقل بين السرد والقطع، بين لحظات
التوتر والحوارات الهادئة، ما جعل الفيلم اشبه بـ «فيديو كليب» طويل. ولهذا
الأمر حسناته وله سيئاته بالطبع. كثر حين عرض الفيلم رأوا السيئات غالبة
على الحسنات ولكن يبدو ان لجنة التحكيم، ومن دون اية حسابات تسووية (كانت
لو أخذت في الاعتبار ستمنعها من مكافأة «الديفو» طالما كافأت «غومورا»)،
آثرت ان ترى الحسنات، وهي على اية حال كثيرة، فمنح هذا الفيلم الجريء
والشديد الابتكار (مع ان فيه لحظات مضجرة حد الهلاك) جائزة لجنة التحكيم
الخاصة. وهكذا اذا كانت فرنسا فازت في «كان» بالضربة القاضية، فإن ايطاليا
فازت بالنقاط.
الحياة اللندنية في 30
مايو 2008
|