مصطفى العقاد
...
المخرج الذي بنى سينماه على التاريخ
هوليوود - محمد رضا
«أنا الآن في التاسعة والستين من عمري. إذا لم أحقق «صلاح الدين»
الآن، لن أستطيع تحقيقه حين أصبح في الخامسة والسبعين. إنه سن التقاعد
وكتابة المذكرات».
قال مصطفى العقاد هذا أكثر من مرة، وقبل يومين من مغادرته لوس أنجيليس الى
عواصم عربية أضاف: «مدعو على فرح في الكويت. بعد ذلك سأبقى في بيروت بعض
الوقت ثم أقصد حفلة عرس في عمّان». صمت قليلاً ثم تابع: «سأراك إذاً في
القاهرة». كنت أريد أن أقول له: لم كل هذه الدعوات؟ أين أصبح «صلاح الدين»؟
هل هناك من دعوة عمل لبحثه؟ لكنني كنت أعلم، من لقاءاتنا المتكررة الدائمة،
أن كل الدعوات السابقة التي تلقّاها لم تثمر عن نتيجة.
مع «صلاح الدين» لم تكن المرة الأولى التي حلم فيها المخرج الذي وصل
هوليوود في أواخر الستينات قادماً من حلب وفي جيبه بضع عشرات من الدولارات
ومصحفاً كريماً وحقيبة ملابسه. كان حلم بهوليوود. حلم بدخول صناعة السينما.
حلم بلقاء المشاهير والعمل معهم. حلم بتحقيق الأفلام وبتكوين شركة إنتاج أو
أكثر وفي سنوات قليلة حقق كل تلك الأحلام. «صلاح الدين» هو الحلم الوحيد
الذي لم يستطع تحقيقه. أستعصى عليه. كبّده الكثير من البحث والعمل والسفر
واللقاءات... ولم يتحقق.
عثرة ونجاح
في مطلع السبعينات، وبعد دراسة السينما في «جامعة لوس أنجيليس» في
كاليفورنيا الشهيرة
UCLA (حيث التقى هناك مع الإعلامي الكويتي محمد السنعوسي الذي شاركه
لاحقاً إنتاج فيلم العقاد الأول «الرسالة») استلم العقاد رسالة من محطة
تلفزيونية ردّاً على طلب عمل كان بعث به. المحطة خيّرته بين أن يتقاضى
مبلغاً كبيراً من المال او بين أن يتقاضى أجراً محدوداً وأسم على الشاشة
كمنتج منفّذ وذلك لإحدى الحلقات التلفزيونية التي كان يعمل عليها.
«كنت شاباً صغيراً وأحترت في أمري: هل أقبل المال او اللقب؟. توجهت الى سام
بكنباه وسألته ما العمل. نظر إلي وقال: يا لقيط. ماذا ستصنع بالمال؟».
ليس أن العقاد في ذلك الحين لم يكن بحاجة الى المال، لكنه كان بحاجة الى
تكوين نفسه وبكنباه دلّه كيف يضع الأسس. «أولاً تبني الإسم ثم يأتي المال
إليك». وفي نظرة سريعة على تاريخ مصطفى العقـاد السينمائي نجده فعل ذلك
بنجاح باستثـناء عثـرة «صلاح الدين».
في العام 1974 وصل مصطفى العقاد الى لبنان وجلس في الهورس شو وأخذ يتكلم عن
فيلم اسلامي كبير أسمه «الرسالة» يتحدّث فيه عن النبي محمد (صلى الله عليه
وسلم)، ورسالته الى البشر. بدا مؤمناً بما يقوله. في أول لقاء بيننا جلست
استمع إليه وأفكر كيف سيستطيع سينمائي له خلفية تلفزيونية في حلقات «ألفرد
هيتشكوك يقدّم» وفي بعض أعمال سام بكنباه وداني توماس التلفزيونية، إنجاز
فيلم يقول أن موازنته ستتجاوز الثلاثين مليون دولار؟
هذا السؤال وجد طريقه الى مقال حين اختاره رئيس تحرير القسم الثقافي
(المرحوم بلند الحيدري) عنواناً بعد أسابيع قليلة. حين بوشر بتصوير الفيلم
في ليبيا بعث العقاد الى مكتبه في لندن رسالة ورد فيها: «ابعثوا وراء هذا
المحرر الذي تساءل كيف أستطيع إنجاز فيلم بثلاثين مليون دولار»... بعد
أيام، كنت في ليبيا أحضر تصوير أحد أكبر إنتاجات السينما العربية وأكثرها
أهمية الى اليوم.
العقاد لم يكتف في فيلم «الرسالة» بمشاهد التجسيد الإيحائي طوال الفيلم بل
عمد إليها في مطارح محددة فقط. باقي الفيلم أريد له أن يكون بحجم إي إنتاج
ملحمي هوليوودي تاريخي وديني، وللغاية تم حشد عشرات المئات من الممثلين
الثانويين والفرسان وتصوير مشاهد المعارك بإدارة متخصصة وجهود سينمائية
صرفة لم تكن السينما العربية خاضتها على هذا النحو (وبهذا البذل) من قبل.
تجربة مصطفى العقاد، غير السهلة تنفيذياً وتبعاً للمعوقات الرقابية حيث
مُنع الفيلم في أكثر من موقع عربياً وعالمياً، كانت - على رغم ذلك - ناجحة.
أرسى العقاد مستوى من العمل لم تكن السينما العربية وصلت إليه. حملها، كما
اتفق معظم النقاد العرب، الى العالمية. وفي خلال ذلك أيضاً، حمل الإسلام
أيضاً الى الغرب والشرق البعيد.
... الى العالمية
بينما توزع مشاهدو الفيلم بين مؤيد لا يرى ضيراً مما أقدم عليه المخرج
الكبير ومعارض على أساس أن الفيلم لا يزال في حكم «البدع المخالفة
للشريعة»، كان العقاد يحضّر لفيلمه التاريخي الثاني: «عمر المختار» او «أسد
الصحراء».
العقيد محمد القذّافي هو الذي طلب هذا الفيلم. وكان هو الذي سمح للمخرج -
المنتج العقاد بالتصوير في ليبيا بعدما كانت المغرب قررت إيقاف التصوير بعد
أسابيع قليلة من بدئه على أراضيها. مصطفى العقاد أختار قصة المناضل عمر
المختار لسببين كما قال لي: «الأول هو أنني لم أكن أرغب في شخصية عربية
معاصرة في زمننا هذا، بل كنت أبحث عن شخصية تستطيع أن تفرض أهمّيتها على
المشاهد العالمي تماما كما هي الحال في فيلمي الأول. السبب الثاني، هو أنني
كنت أريد مواجهة كل هذه الإدعاءات بأننا شعب مهزوم لا يُقاتل ولا ينتصر
وكنت أريد أن أوضّح كيف أننا عانينا من الإحتلال الفاشي والإستعمار
ومعسكرات التعذيب تماماً كما اليهود. إنها صفحة مجهولة في التاريخ إن لم
نقدّمها ضاعت».
«عمر المختار» كان أفضل من «الرسالة» سينمائياً ودرامياً. هنا أبرز المخرج
قدراته بشكل كامل. لم يكن عليه إعتماد وجهة نظر والتلاعب على قوانين
الممنوع والمسموح بالنسبة لظهور شخصية النبي وباقي الخلفاء الراشدين على
الشاشة، بل وضع في المواجهة أنطوني كوين مؤدياً شخصية المناضل الليبي،
وبتحرر من القيود نفّذ الفيلم الملحمي- التاريخي الكبير بحسب القواعد
الهوليوودية كاملة: «عليك كمشاهد أن تلتقي عاطفياً والشخصية التي تختارها
كبطولة. عمر المختار كان أستاذاً في القرية. كان إنساناً حكيماً ومدركاً
ومسالماً. مال الى السلاح دفاعاً عن الوطن والعقيدة. أي مشاهد في أي مكان
من العالم سيتلاقى وهذا البطل وسيؤيده».
فيلما العقاد «الرسالة» و «عمر المختار» يختلفان عن الأفلام التاريخية
العربية سواء كنا ننظر الى «صلاح الدين الأيوبي» كما أخرجه يوسف شاهين او
«المسألة الكبرى» لمحمد شكري جميل او «القادسية» للمرحوم صلاح أبو سيف. ليس
إنتقاصاً من جهود هؤلاء، لكن ما خصّه وحشده العقاد من تقنيات وعناصر
إنتاجية لم يكن سبب التميّز الوحيد. السبب الآخر والموازي في أهميّته هو
أنه كان يعرف لغة التواصل مع الجمهور ويعمد إليها من دون وضع الذات وسط
العلاقة المرصودة بين الجمهور والمخرج. بذلك كان ينفّذ ما قاله ألفرد
هيتشكوك ذات مرة حين قال لفرنسوا تروفو: «لا شيء يجب أن يدخل بين المشاهد
والفيلم. ولا حتى المخرج».
لكن شيئاً إنتهى عندما أنجز الراحل «عمر المختار» سنة 1981. الفيلم دفع
بالمؤسسة العامة للسينما في العراق للتحوّل صوب أعمال مشابهة أخفقت في
الوصول الى الجمهور العريض كما فعل فيلما العقاد.
العقاد نفسه اختلف بعد هذين الفيلمين. عاد الى قواعده في هوليوود وأنجز،
منتجاً ومنتجاً منفّذاً، ثمانية أفلام من سلسلة رعب أسمها «هالووين».
السلسلة التي بدأت بفيلم أخرجه جون كاربنتر سنة 1978 بموازنة قدرها 325 ألف
دولار وجلب عائدات وصلت الى 47 مليون دولار ضمنت للعقاد حرّيته: «بعد «عمر
المختار» انهالت عليّ العروض المختلفة لكنني رفضتها جميعاً».
سألته: «لماذا؟». أجاب: «أولاً كانت عن رؤساء وملوك إما هم أحياء اليوم او
أنهم رحلوا لكنهم لم يتركوا آثاراً حضارية وإنسانية تثير إهتمام المشاهدين.
وأنا ملتزم بأن أحمل الإسلام والعروبة كقضية وليس كمواقف او سير شخصية او
سياسية. ثانياً، لأن إذا ما حققت فيلماً عن هذا الرئيس او ذاك تم تصنيفي
لحسابه. وأنا إنسان مستقل ولا أريد وصاية أحد».
سلسلة «هالووين» لم تؤمن له العيش رغيداً طوال حياته فقط، بل منحته تلك
الإستقلالية التي كان يصبو إليها. لم يكن عليه القبول بأي عمل لا يتم بحسب
رؤيته هو. ومع أنه جال كثيراً بحثاً عن التمويل لتحقيق «صلاح الدين» مؤمناً
بأنه الفيلم المناسب للمرحلة الحالية وذلك قبل أن ينجز ريدلي سكوت فيلمه
الأخير «مملكة السماء»، الا أنه تراجع في كل مرة أرتبطت فيها الموافقة
بشروط.
لا عجب أنه كان محط أهتمام العرب الحالمين بأفلام ضخمة من منوال فيلميه
السابقين، ولا لوم على أن العرب حلموا بـ «صلاح الدين» مثله. اللوم على كل
تلك الظروف التي لم تخلق سينما عربية مماثلة، او - بالنظر الى موقعها اليوم
- حيّة.
|