لماذا منحت
لجنة التحكيم جوائزها لتلك الأفلام ؟
مهرجان كان "58" ينتصر لسينما الواقع ويعزز من قيم
التواصل والحوار في فلسطين
كان. فرنسا. صلاح هاشم
اختارت لجنة تحكيم مهرجان " كان " 58 برئاسة أمير كوستوريتسا , علي عكس
توقعاتنا وتقديراتنا, حيث رشحنا للسعفة الذهبية الأفلام: " مستور " لهانكه(
حصل علي جائزة الإخراج ) و" الزهور المتكسرة " لجامروش ( فاز بالجائزة
الكبري ) و" لاتأت لتطرق الباب" لفيم فندرز( لم يفز بشيء) و" ثلاث أوقات "
لهو سياو سين( لم يفز بشيء ) , ولم نستبعد حصول فيلمي " الطفل " و"
ماندرلي " علي جائزة أخري غير السعفة , من جوائز المهرجان, واستبعدنا حصول
" الطفل " علي السعفة, من منطلق أننا لم نعتبر انه قدم إنجازا فنيا مبهرا
فائقا يستحق عليه تلك الجائزة, كما في الأفلام الأربعة المذكورة, وكنا نري
انه كان يستحق مثلا جائزة لجنة التحكيم الخاصة فقط, ولا أكثر من ذلك, حيث
ان فيلم " الطفل " في رأينا , كان امتدادا لنفس منهج الشقيقين البلجيكيين
داردين السينمائي, في تقديم شريحة لواقع البؤساء الهامشيين المهمشين, كما
فعلا في فيلمهما " روزيتا " ..
إلا أن اللجنة الموقرة, اختارت عن قناعة, أن تنحاز إلي سينما " الطفل " L ENFANT
البلجيكي, وتمنحها سعفتها الذهبية, وتنتصر هكذا لسينما الواقع,
CINEMA DU REEL
أو بالاحري للسينما الواقعية, التي تقترب
كثيرا في أعمالها الروائية الاجتماعية من نبض الواقع المعاش, وتهزنا
بمباشريتها وتصدمنا, حتى تصبح اقرب ما تكون الي أفلام السينما التسجيلية,
كما في فيلم " بويلينج لكولومباين " للأمريكي مايكل مور, التي تصور أو تسجل
بالكاميرا وقائع عصرنا, ومشاكل مجتمعاتنا الإنسانية تحت الشمس , وتنحاز إلي
عالم المهمشين, التائهين المعذبين, في المجتمعات الغربية الاستهلاكية, في
ظل أزمات البطالة, التي تدفع الي الانحراف والسرقة والجريمة, مع اتساع
الهوة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء, وإفلاس السياسة والسياسيين..
مشكلة الحدود
كما نوهت اللجنة أيضا من خلال جوائزها الاخري بمشكلة اللاجئين والحدود, كما
في فيلم " ثلاث جنازات " الذي يناقش قضية تسلل العمال المكسيكيين الي
أمريكا, و فاز بجائزة احسن سيناريو, كما فاز أيضا بجائزة أحسن ممثل , التي
ذهبت لمخرج الفيلم وبطله الممثل الامريكي الكبير تومي لي جونز , وأشارت
اللجنة كذلك الي أهمية "الحوار" في الشرق الاوسط, من اجل ايجاد حل لمشكلة
الفلسطينيين تحت الاحتلال , وهي القضية التي شكلت العامود الفقري, وجوهر
فيلم " منطقة محررة " للاسرائيلي آموس جيتاي, بمشاركة الممثلة هيام عباس من
فلسطين , فمنحت بطلته الاسرائيلية حنا لاسلو جائزة أحسن ممثلة, علي الرغم
من أننا كنا نتوقع ان تذهب مثلا للامريكية جيسكا لانج, التي تألقت في
فيلمين من افلام المسابقة , هما فيلم " لا تأت لتطرق الباب " وفيلم "
الزهور المتكسرة " , أو للممثلة البلجيكية الشابة ديبورا فرانسوا بطلة فيلم
" الطفل " التي بهرتنا حقا بتمثيلها, الا انها الجائزة ذهبت للممثلة
الإسرائيلية في فيلم, او بالاحري لافيلم, اعتبرناه , بسبب خطابه
الإيديولوجي الذهني , صالحا للعرض في فصول الدراسة الثانوية , وغير مناسب
بالمرة للدراما السينمائية..
السينما" فن الصورة " أم" فن الواقع" ؟
وقد عكست هذه الخيارات للجنة التحكيم يقينا العديد من الدلالات, لعل أهمها
التزامها بفكرة ان السينما ليست" فن الصورة", بقدر ما هي" فن الواقع",
وعن جدارة, كما بينت انه من أجل أن تكون السينما فاعلة ومؤثرة, لابد وان
يكون لها بعدها التاريخي. ذلك البعد الذي يجعل الأفلام مرتبطة بحركة زمننا
وعصرنا, والتغيرات التي تطرأ علي مجتمعاتنا, وتعكسها أو تقدمها لنا السينما
في أفلامها, وتحرضنا علي اتخاذ موقف.فالسينما, كما ارتأت اللجنة, ليست
ترفا, بل هي التزام بقضية , وتأصيل لنظرة , وابتكار ل" رؤية " , وإبداع ل"
زاوية " جديدة, نطل من خلالها علي تعقيدات الواقع وتناقضاته , ونحن نتساءل
ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش. ولذلك كانت السينما التي اختارتها
اللجنة ومنحتها جوائزها, لا تحكي في المحل الأول قصة, بل تؤسس ل" منهج ",
وتحفر لسكة, وتشق طريقا جديدا للاعتبار والتأمل والتفكير, فليست قيمة
الحكاية في الحكاية ذاتها , بل في ما يكمن خلف الحكاية, من درس وعبرة
وموعظة, ضد تلك الإيديولوجية التي تروج لها أفلام السينما الأمريكية,
وتكون مهمتها زرع التفاؤل, كقيمة أساسية, من قيم أسلوب الحياة علي الطريقة
الأمريكية بأي ثمن, وتروح تبروز, أي تضع في إطار, وتمجد كل " النهايات "
السعيدة, في أفلام السينما الهوليودية التجارية التافهة العاطلة, التي تلحس
دماغك, بكل متبلات الإبهار, والهراء , من مطاردات وعنف وقتل ومؤثرات
خاصة..
فيلم " الطفل " يذكّر ب" كليفتي " لمحمد خان
تعاطفت اللجنة مع فيلم " الطفل " لأنه يقدم سينما "الحد الادني" , في صنع
صورة تشبه مجتمعاتنا, وبأقل التكاليف ( صور الفيلم بكاميرا 16 مم, ثم تم
تكبيره الي 35 مم ) ومن دون بهرجة ومناظر كارت بوستال للزينة, ولانه يحكي
عن مجرم شاب في العشرين من عمره عاطل عن العمل, ذكرنا ببطل فيلم " كليفتي"
للمخرج المصري الكبير محمد خان, وعن ذلك" البؤس" المادي والخواء الروحاني
الذي يعيشه مع حبيبته, وهو يتحايل علي البقاء علي قيد الحياة بأي ثمن,
فيدير عصابة من الصغار, تنشل أجهزة الاستماع والتليفونات المحمولة, وتبيعها
بثمن بخس, ثم تتقاسم في ما بينها الغنيمة..
ونتابع في الفيلم حياة ذلك ال" كليفتي " ألحرامي أو اللص الصغير الشقي في
بلجيكا ويدعي " برونو" وتكون حبيبته " سونيا " في الثامنة عشرة من عمرها,
خرجت لتوها من المستشفي, وهي تحمل مولودهما الصغير" جيمي " وتروح في بداية
الفيلم تبحث عنه في المقاهي والحانات والبارات التي يتردد عليها اللصوص
والحرامية المجرمين من أمثاله, بعدما ذهبت الي شقته , فإذا بها تكتشف انه
قام بتأجيرها لمدة يومين, اثناء غيابها في المستشفي , لأحد أصدقائه, الذي
يرفض ان تدخل سونيا الشقة لتبحث عن بطارية تليفونها المحمول, ويطردها شر
طردة , بعد ان قطعت عليه استمتاعه في الداخل بمضاجعة مومس لقيط, فتهبط الي
الخارج, وهي تلعن برونو الضائع المستهتر واصحابه , واليوم الذي حملت منه ب"
جيمي ". غير ان كل غضبها يتلاشي فجاة , حين تعثر علي الأب , حبيبها برونو,
الصايع المشرد, الذي ترفض أمه المومس, ترفض ايضا أن تأويه, فيضطر الي النوم
كل ليلة في مكان مختلف, فتعنفه سونيا لانه لم يزرها في المستشفي, وتدفع
اليه بجيمي, ليشاهد بنفسه قطعة من دمه ولحمه وكيانه, ويضمها الي صدره في
حنان, ثم يذهبان بعد ذلك الي حيث ينام برونو في احدي البيوتات المخصصة
للمشردين, وبعد الحاح , يقبل حارس البيت, ان تصعد سونيا مع الطفل للنوم في
الجناح المخصص للنساء, وعلي مضض..
ومن ريع صفقة سرقة , يستأجر برونو سيارة فارهة حمراء ويروح يستمتع بالحياة
اللذيذة مع سونيا الشقراء الجميلة, فيركضان سويا علي العشب في حديقة غناء,
ثم يتبادلان القبل, ويشتري برونو عربة أطفال صغيرة لجيمي وسترة جلدية
لسونيا, وفي غفلة من ألام يحمل الطفل, ويختفي. يذهب برونو بالطفل إلي منطقة
مهجورة في ضواحي تلك المنطقة الصناعية التي تقع فيها أحداث الفيلم, علي
حافة نهر كئيب بارد و ملوث بنفايات المصانع, ويبيع " جيمي " لعصابة تتاجر
بالأطفال المواليد الصغار. وحين تكتشف سونيا الامر تروح تلطم, حيث لم يخطر
علي بالها قط ان يكون هذا البرونو الذي تحبه , وتعرف انه مجرد ضحية وإفراز
لبؤس مجتمعات البطالة الرأسمالية الصناعية الاستهلاكية في أوروبا, التي
يتصور ويتوهم البعض في عالمنا الثالث المتخلف أنها جنة الخلاص الموعودة,
يمكن ان يقدم علي هذه الفعلة الشنعاء, ويبيع قطعة من لحمهما ودمهما, ويسرق
منها بهجة الحياة, وعرس حبهما جيمي , فتقوم بإبلاغ الأمر للشرطة..
ضياع يأكل العمر وبؤس يقتل الروح في الأرض الخراب
وتتعاقب أحداث الفيلم, وينجح برونو, الذي يقوم بدوره في الفيلم جيرمي
رينييهو ينجح في استرداد طفله بعد ان تكون العصابة باعته , وتعاقبه العصابة
علي فعلته بعلقة ساخنة, ويضطر برونو بعد ان تورط في قضية خطف حقيبة نقود,
يضطر الي تسليم نفسه للشرطة , لإنقاذ الطفل الصغير الذي تورط معه في
الجريمة من الحبس,والاعتراف أمام الشرطة بأنه ارتكب الجريمة وحده , وتكون
سونيا قبل ذلك, حملت جيمي ورحلت بعيدا عن هذا البرونو المستهتر الجبان,
الذي لن يستطيع ابدا ان يصبح أبا مسئولا, لأن بؤسه لايجعله يفكر الا في
إشباع حاجاته الوقتية العابرة, فهو دائما يصرخ في الفيلم أنا جوعان , ويبحث
في كل لحظة عن مأوي ولقمة , ويتلهف الي صدر حنون يضمه في تلك الارض
الصناعية الخواء الخراب, التي تفرض حضورها بقوة في الفيلم من خلال مشاهد
الطرقات العالية المخصصة للسيارات والشاحنات التي تنهب الارض , حيث ينطلق
برونو بدراجته النارية, في حلقة ذلك الضياع الذي يأكل العمر, و البؤس الذي
يقتل الروح, ويدلف الي متاهة العبث , وينتهي الفيلم في السجن , حيث تحضر
سونيا لزيارة برونو, أجل بعد كل مافعله, فيأتي اليها ذليلا, ولا يعرف كيف
يحادثها وبأي كلام , وفجأة عندما يبدأ برونو في احتساء المشروب الذي احضرته
له سونيا , فجأة ينفجر في بكاء صامت طويل جدا وحزين , تنفطر له قلوبنا,
فندرك ان برونو اخيرا قد ثاب الي رشده وصار يندم علي كل مابدر منه في حق
سونيا, التي وعلي الرغم من كل شييء, غفرت له, وتصالحت معه, والدليل علي ذلك
زيارتها له في سجنه, كما غفرت ميراندا في مسرحية " العاصفة " لشكسبير, آخر
مسرحيات الكاتب المسرحي الانجليزي العظيم, غفرت لكل المجرمين, وجعلتنا
نتصالح مع أنفسنا والعالم , ولاشك ان صلح سونيا وبرونو في نهاية الفيلم,
يمهد الطريق لتربية جيمي الوليد, في عش الأسرة الجديد السعيد, بعد خروج
برونو طبعا من الحبس, هكذا فكرنا, ولا مانع, هكذا فكرت سونيا ايضا من دون
شك, لامانع من إعطائه" فرصة" عمر جديدة..
هذه هي حكاية برونو, التي كتبها الشقيقان جان بيير( من مواليد 1951 ) ولوك
داردين ( من مواليد 1954 ) علي الشاشة, بأسلوبهما السينمائي الواقعي
المباشر, ومشاهد الكاميرا المحمولة علي الكتف, التي تقرب افلامهما ,
ببساطتها وواقعيتها ومصداقيتها, كما في فيلمهما الأثير " روزيتا " الذي خطف
سعفة " كان " الذهبية عام 1999 , تقربها من أفلام السينما الواقعية
التسجيلية, التي تطرح صورة " الواقع " من دون تزوير او تجميل. واقع
الهامشيين البؤساء المعذبين, من ضحايا المجتمعات الصناعية الرأسمالية في
الشمال الأوروبي الكئيب البارد , التي شرعت, في إطار قوانين العولمة
الجديدة في إغلاق مصانعها, وتسريح عمالها, او نقل تلك المصانع الي الدول
النامية, حيث تدور عجلة الإنتاج هناك, بتكلفة أقل, وتدر ربحا مضاعفا, ونشأ
عن ذلك انهيار سوق العمل وارتفاع معدلات البطالة, وزيادة طوابير طلاب
الضمان والتعويضات الاجتماعية والمتسولين..
ومبروك علي الشقيقين طفلهما الجميل, الذي حصد سعفة " كانت " الذهبية, وكانت
لفتة نبيلة منهما ان يمنحا سعفتهما الي فلورانس اوبانا وحسين حنون الاسري
في العراق, هذا " الطفل" الذي كشف بأصالة , رغم كآبته وسوداويته, كشف عن
الأمل في الانعتاق من دوائر البؤس والضياع, وتلك السحابات المظلمة التي
تحلق في سماء تلك الصحراء الصناعية الرأسمالية في الشمال الأوروبي البارد,
وربما تذهب بعيدا, وحتما ستذهب بعيدا..
وتحية الي لجنة تحكيم " كان " السينمائي 58 الموقرة علي اختياراتها
الملهمة, وانحيازها الي سينما الواقع, وتلك الأعمال التي تكشف عن تناقضات
مجتمعاتنا, وتوظف السينما كأداة تفكير, كي تقربنا أكثر من إنسانيتنا..ولنا
وقفة مع أهم أفلام وأحداث المهرجان الكبير قريبا..
|