خيط من الأسود كتب بخط رشيق ينعكس على صفحة الماء المخضب بلون الأصيل يؤشر
لعنوان "الدورة الحادية والستون للمعرض الدولي للفن السينمائي" ويعلن
انطلاق الدورة الجديدة لأعرق مهرجان سينمائي في العالم, مهرجان البندقية
(فينيسيا) السينمائي الدولي والذي ابتدأت نشاطاته الأربعاء الماضي الأول من
سبتمبر (ايلول) وتستمر حتى الحادي عشر من هذا الشهر.
إنه الطقس السنوي الذي تشهده جزيرة "الليدو" منذ ميلاد المهرجان على شرفة
فندق "الإكسيلسيور" العريق في ليلة من ليالي شهر آب (أغسطس) من عام 1932.
الأسود والبرتقالي المحمر إذاً. إنها المرة الأولى التي "يخون" فيها
المهرجان ألوانه التقليدية, أي الأزرق والذهبي, ويسلّم رايته إلى لون
ألأصيل الذي ينزل كل مساء على مياه الـ"لاغونا" - البحيرة, التي تحتضن
المدينة العائمة, البندقية, ليلفّها دفء وحميمية قلّما تجدهما في مكان آخر
من مدن المهرجانات السينمائية.
وينضم إلى لون الأصيل واحد وستون عموداً يحمل كل منها أسداً ذهبياً شبيهاً
بذلك الأسد المشرقي الذي يقوم في ساحة سان ماركو والذي يعتقد أهل المدينة
أنه يحميهم من أي مكروه, وصار شعاراً لكل ما هو رسمي في "البندقية" كما صار
الجائزة التي تمنح للمبدعين الذين تفوز أفلامهم وأعمالهم في مهرجانات
السينما والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقة والعمارة, وهي التظاهرات التي
تُقام في شكل منتظم تحت رعاية "بيينالة فينيسيا", أعرق مؤسسة ثقافية
أوروبية على الإطلاق. 61 أسداً لعدد دورات المهرجان منذ ميلاده. (توقف في
سنوات الحرب العالمية الثانية وخلال ثورة الشباب والطلبة في عام 1968).
حشد ضخم
لم يحدث أن تمكن مهرجان سينمائي من أن يجمع في ليلة واحدة فحسب العدد الضخم
من النجوم كالذي تمكن المدير الجديد للمهرجان ماركو موللر دعوته ليطلق شراع
تظاهرات المهرجان لريح الـ"لاغونا". مسؤولية تقديم حفلة الافتتاح منحت إلى
النجمة الإيطالية الشابة كلاوديا جيريني. تقول جيريني: "عندما سمعت صوت
ماركو موللر وهو يكلّفني تقديم حفلة الافتتاح شعرت بخيط من العرق البارد
ينزل عبر عمودي الفقري. شعرت برعب كبير, فماذا لو أنني أخطأت أو تلعثمت في
حضرة ذلك الحشد من الفنانين؟ لو فعلت لن أغفر لنفسي ذلك أبداً".
جيريني التي أدت دور زوجة بيلاطيس في فيلم "آلام السيد المسيح" من إخراج
ميل غيبسن تقول: "أنا أحضر مهرجان البندقبة منذ سبع سنوات كمشاهدة, ولم
يخطر في بالي أبداً أن أُمنح هذا الشرف لا سيمّا وأنني سأكون إلى جانب
النجمة الكبيرة صوفيا لورين في تقديم حفلة الختام" على خشبة مسرح "لا
فينيتشي" التاريخي في قلب مدينة البندقية والذي أعيد ترميمه وإعماره
بالكامل بعد أن أتت عليه النيران.
حضر حفلة الافتتاح أكثر من 900 مدعو شاهدوا عرض فيلم "المحطة الأخيرة"
لستيفن سبيلبرغ وبطولة توم هانكس.
هانكس وسبيلبيرغ حضرا العرض إلى جانب ميريل ستريب وجون ترافولتا وسكارليت
جوهانسن ودنزيل واشنطن وسبايك لي.
أما سكارليت جوهانسن وجيرمي أيرونس فقد لعبا دور "منادي المزاد" في عرض خاص
أقيم في قصر "مؤسسة تشيني" في جزيرة سان جورجو المقابلة لساحة سان ماركو,
وذلك في مزاد علني خاص جداً دفع فيه الحاضرون ثمن التذكرة مرتفعاً جداً,
وخصص ريع التذاكر والمزاد معاً لمؤسسة "آمفار" المتخصصة بالبحوث في مجال
مكافحة أمراض السرطان.
عرض بحضور ولي العهد
من المعروف في عالم السينما اليوم ان سينما جنوب شرق آسيا خطت خطوات عملاقة
وصارت تنافس عواصم السينما الأساسية في العالم, هوليوود وبوليوود. وهذه
الدورة من مهرجان البندقية ستعمّد بلداً آخر من بلدان جنوب شرقي آسيا, إذ
ستعرض شاشة المهرجان فيلم "أميرة جبل ليندانغ" من ماليزيا وهو من إخراج ساو
تيونغ هين. وليست ميّزة هذا الفيلم تكمن في أنه الفيلم الذي كلّف إنتاجه
أعلى موازنة في تاريخ الإنتاج السينمائي الماليزي على الإطلاق (15 مليون
دولار), بل لأنه أول فيلم ماليزي يُعرض في مهرجان دولي خارج بلاده, وهذا ما
دفع الدولة الماليزية إلى اعتبار هذه المناسبة فرصة مهمة في تاريخ ثقافة
البلاد, ما دعا ولي العهد الماليزي ديم توانكو سيد فيض الدين جمال الليل
إلى إعلان مرافقته للعرض الأول للفيلم في الصالة الكبرى من قصر المهرجان.
وسيرافق ولي العهد في هذه الزيارة الملكية إلى جزيرة الليدو كل من قرينته
ديتم ليلة الشهرين آكاشاه ووزير الثقافة ريس بين ووزير السياحة ميكائيل
توياد إضافة إلى أبطال الفيلم: تيارا جاكلينا التي تؤدي دور الأميرة في
الفيلم وعادلين أمان رمل الذي يؤدي دور السلطان.
عدا عن هذا كم سيكون رائعاً أن يحظى فيلم المخرجة المغربية الشابة ياسمين
قصّاري "الطفل النائم", الذي سيعرض ضمن برنامج (آفاق) في المهرجان, بجزء من
هذا الاهتمام الرسمي لا سيمّا أن وجود قصّاري في المهرجان لن يكون مجرد
مشاركة مغربية, بل تمثيلاً للسينما العربية في شكل عام, إضافة إلى كونها
إحدى الطاقات الشابة التي يُتوقع لها حضور كبير في الساحة السينمائية
العربية والعالمية وأن هذا الفيلم هو عملها الروائي الأول بعد أن صقلت
موهبتها وأدواتها الإبداعية بعدد من الأفلام القصيرة.
إلى جانب قصّاري في هذه الدورة من المهرجان تحضر مخرجة مشرقية أخرى هي
الإيرانية الشابة مرضية ميشكيني, زوجة الفنان والمخرج الإيراني محسن
مخملباف. ميشكيني تقدّم فيلمها الروائي الثاني
Stry Dogs
ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان ويتوقع أن يكون حضورها ممّيزاً بخاصة أنها
حققت نجاحاً ملموساً من خلال مشاركتها قبل ثلاثة أعوام بفيلمها الأول "يوم
أصبحت امرأة" الذي عرض في مسابقة أسبوع النقّاد.
المسابقة الأصعب
اما الدهشة الأكثر توقعاً فهي التي ستواكب العمل الجديد للمخرج الياباني
هاياو ميازاكي الذي سبق ان فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين.
مدير المهرجان ماركو موللر جمع عدداً كبيراً من كبار المخرجين للتنافس على
الأسد الذهبي للدورة الأولى التي يديرها من المهرجان, فبين المتنافسين
أسماء مثل الألماني فيم فيندرس الذي سيعرض "أرض الوفرة" والهندية ميرا ناير,
وفيندرس وناير يتنافسان على الأسد الذهبي مع البريطاني مايك لي بفيلمه "فيرا
دريك" والإسباني إليخاندرو أمينابار بفيلمه "البحر في داخلي", إضافة إلى
التنافس مع الروسية كيرا موراتوفا والفرنسيين كلير دينيس وفرانسوا أوزون.
وإضافة إلى فيلمي الكارتون الياباني "ستيم بوي" لكاتشوهيرو أوتومو و"شارك
تيل" من إنتاج شركة ستيفن سبيلبرغ "دريم ووركس" فإن عالم الطفل وخيالاته
الجميلة يعود أيضاً من خلال عمل درامي بعنوان "العثور على اللامكان" من
إخراج مارك فوستر وبطولة جوني ديب وكيت وينسليت. ويعرض الفيلم الحياة
المملوءة بالحركة والأحداث والتناقضات لـ جي إم بارييه مستنبطاً شخصية روبن
هود.
اما البندقية (فينيسيا) نفسها فإنها بطلة فيلم ضمن المسابقة الرسمية وهو
فيلم "تاجر البندقية" الذي اقتبسه المخرج روبرت ردفورد من المسرحية التي
تحمل العنوان ذاته من تأليف وليم شكسبير ويؤدي دور البطولة فيها "المرابي
اليهودي شايلوك" النجم آل باتشينو الذي سيحضر العرض الخاص للفيلم في قصر
الدوقية في ساحة سان ماركو ليلة الرابع من الشهر المقبل.
الهندية ميرا ناير: من الهند أروي قصة الإمبراطورية
تعود المخرجة الهندية ميرا ناير إلى مهرجان البندقية للمرة الرابعة. فبعد
فيلمها الثاني "ميسيسيبّي مازالا" (1991) والذي أدى بطولته دينزيل واشنطن
وساريتا تشوداهاري, عادت ناير في السنة التالية إلى فينيسيا عضواً في لجنة
التحكيم الدولية. وفي عام 2001 فازت بجائزة الأسد الذهبي عن فيلمها "زفاف
الونسون". وفي هذه الدورة الجديدة من المهرجان تعود ناير لتتنافس على الأسد
الذهبي في المهرجان بفيلم "مملكة الزهو" المقتبس عن رواية بالاسم ذاته
للكاتب الإنكليزي وليم ماكبيس تاكري كتبها في العام 1847.
تقول ناير عن فيلمها "إنه يروي قصة صراع الطبقات ومآسي الطبقات الدنيا في
المجتمع وحلم فتاة فقيرة لبلوغ أعلى ما تستطيع". وتضيف: "قد يتساءل البعض
لماذا استخدمت رواية انكليزية للحديث عن الهند, أجيب بأن هذه الرواية تبدو
هندية أكثر من غيرها, فإضافة إلى كون الكاتب ولد وعاش في كلكوتّا, فإنه
استخدم الهند وأوضاعها لتحليل واقع الأمبراطورية الأنغلوساكسونية. آمل أن
يحب الجمهور فيلمي بعد أن أحب الكاتب الذي اقتبس منه ستنالي كوبريك فيلمه
"باري ليندون". وعن معلمها الأول المخرج الهندي الكبير ساتياجيت راي تقول
ميرا: "إنه أبي الروحي والسينمائي".
ولدت ميرا ناير في بهودانشاور في مقاطعة أوريسّا الهندية في الخامس عشر من
شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1957 وفي عام 1988 أنجزت فيلمها الروائي
الأول "سلام بومباي" الذي حاز اهتماماً كبيراً من النقد والجمهور في الهند
وفي الخارج أيضاً. بعد ذلك أنجزت في العام 1991 فيلم "ميسيسيبّي مازالا".
أما أفلامها الأخرى فهي: "عائلة بيريز" (1995), "كاما سوتر - حكاية حب"
(1996), "زفاف المونسون" - (2001), و"العمى الهيستيرية" (2002). كما شاركت
في إنجاز أحد أجزاء الفيلم الكورالي عن الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).
"اميرة جبل ليدانغ" ... ماليزيا تفتح صفحة آسيوية جديدة
لمدينة البندقية الإيطالية عموماً, ولمهرجانها السينمائي على وجه الخصوص,
علاقة متميزة بالشرق الآسيوي. وتعود تلك العلاقة الى قرون عدة عندما كانت
هذه المدينة احدى الجمهوريات البحرية العريقة وعندما رحل ابنها الشهير
ماركو بولو لاكتشاف خبايا امبراطورية الصين العظيمة. ومنذ عشرات السنين صار
الأسد المجنح الذي, صبّ برونزه في الصين, شعاراً للمدينة ونموذجاً لجائزة
مهرجان البندقية, ويعتـبر من حاز على اسده الذهبي دخـل الى اوليمب السينما
العالمية.
علاقة مهرجان البندقية مع المشرق الآسيوي, ومع اليابان والصين بالذات,
علاقة حميمة إذ يعتبر هذا المهرجان نفسه أباً لاثنين من كبار المخرجين
الآسيـويين في العالم, الصيني زهانغ ييمو الذي عُمّد, هو وزوجته السابقة
غونغ لي, في هذا المهرجان بفـوزه بالأسـد الذهبي عن فيلم "ارفعوا القناديل
الحمر", والياباني تاكيسي كيتانو الذي ولج العالمية من خلال الأسد الذهبي
الذي حازه بفيلمه "هانا بي - ألعاب نارية" قبل بضعة اعوام.
حضور السينما الآسيوية الى المهرجان العريق مرّ عبر خبرة ومعارف المدير
الحالي للمهرجان ماركو موللر الذي يعتبر احد اكبر العارفين الأوروبيين
بخبايا الثقافة الصينية والسينما الشرق آسيويـة, وكـان متابعو المهرجان
يتوقعون حضوراً كبيراً لسينما تلك البلدان في ليدو البندقية, إلا انه لم
يكن من المعقول ان يخصص موللر للسينما التي احبـها مسـاحـة اكبر مما تـتاح
لسـينما القـارات الأخـرى في مهرجـان كـبير مثل البندقية.
بيد ان موللر بإصراره على عرض فيلم "اميرة جبل ليدانغ" من اخراج الماليزي
ساو تيونغ سيسجّل للدورة الأولى من مهرجـانه اطلق جـناح سـينما بلد آسيـوي
جديد على مسرح العالمية, فهذا الفيلم هو العمل السينمائي الماليزي الأول
الذي يُعرض في مهرجان دولي خارج حدود ذلك البلد, وكما علّمتنا تجارب
السينما الصينية واليابانية والتايوانية وسينما هونـغ كونغ, فإن من
المتوقع, أو بالأحرى من المؤمّل, ان يشهد جمهور السينما في المستقبل القريب
نماذج جميلة من السينما الماليزية.
الفيلم من إنتاج جيل روسّيلليني, ابن المخرج الإيطالي الكبير الراحل
روبيرتو روسّيلليني, رائد تيار الواقعية الإيطالية الجديدة, ذلك التيار
السينمائي العظيم الذي برز بعد الحرب العالمية الثانية وطبع ببصماته سينمات
العالم بأسره وما تزال آثاره جلية في العديد منها كالهندية والإيرانية
والعربية ايضاً.
فيلم "اميرة جبل ليدانغ" الذي بدأ عرض يوم الثامن والعشرين من هذا الشهر
على ملك ماليزيا وبدأ عرضه في 120 صالة في مسقط رأسه بالتزامن مع العيد
الوطني الماليزي, سيعرض في الليدو بعد غد (الأحد) في الصالة الكبرى
بالمهرجان وسيحضر العرض ولي العهد الماليزي وزوجته.
يروي الفيلم قصة الأميرة غوستي بوتيري رينتو دويميلاه الحاملة لطاقات سحرية
خارقة. إنها اميرة لا يراها البشر العاديون وتـظهر فقـط للذيـن يضـيّعون
السبل داخل الغابة كثـيـفـة الأشجــار في قمة جبل ليدانغ. وبموازاة قصة
الأميرة الساحـرة يـروي الفيلم حكاية الأميرال هانغ تاه وهو احد قادة
السلطان الأمينين. يقول المخرج تيونغ عن شخصيتي فيلمه "انهما شخصيتان من
فولكلورنا العريق, ويـدرس تلاميذ المدارس قصتيهما في المدرسة وهما مشهوران
بمقدار شهرة سندريلا وروبين هود بالنسبة الى الثقـافـة الغربية".
قد لا يكون ماركو موللر انحاز الى حبه القديم للسينما الآسيوية, إلا ان
بإمكانه القول بحق انه اطلق العنان لبلد آسيوي جديد لولوج نادي السينما
العالمية.
|