لم يخف كراهيته للصحافة، فكان، هو المشهور بكرمه الانساني، بخيلا في
احاديثه الصحافية. ومع هذا، وبعد مضي اشهر على موته (ولاحقا بعد عقود
طويلة)، لن تستطيع الصحافة مبادلته التجاهل، اذ يصعب اخفاء الاعجاب الذي
يثيره ذلك الممثل الطابع القرن العشرين بعبقرية مهنية، مع الاعتراف
بالتناقض الواضح بين ادائه المهني المتماسك وأدائه الانساني المشتت في
حياته الخاصة.
في الاول من تموز، وفي منزله في لوس انجلس، اقفل عينيه للمرة الاخيرة بعدما
خانته رئتاه وما عادت آلة التنفس تنفع. عن عمر الثمانين انطفأ مارلون
براندو من دون ان يأفل نجمه!
في سيرته الطويلة، غلب التمثيل المسرحي اولا على لامبالاته في اختيار مهنة
وطريقة عيش، ثم تغلبت مهنة السينما السهلة على خيار المسرح المتعب قبل ان
يأتي العمل السياسي الملتزم ليحتل المكان الاول ضمن اهتماماته. في الحقبة
الاخيرة من حياته، استيقظ عنده الحس العائلي فحاول ان يقوم بدور الاب
العادي على قبيلة اكبر من ان تكون عائلة عادية.
مارلون براندو الممثل النابغة، مارلون براندو الـ دون جوان الابدي، مارلون
براندو الساخر من قوانين هوليوود، مارلون براندو المناضل المدافع عن
الاقليات ولاسيما عن الهنود الاميركيين، براندو الرومانسي الحالم بتحويل
جزيرة في تاهيتي مجتمعا مكتفيا بذاته لئلا تلوثه المدنية. براندو المخلف
وراءه نسبة كبيرة من النساء المنتحرات ونسبة اكبر من اولاد شرعيين
وغيرهم... كلهم مارلون براندو واحد نحاول ان نشربه كأسا سلسا في ملف متشابك
مثل حياته وموزع على اكثر من حلقة متقاطعة.
لينا خليل
طفولة مهملة
ولد مارلون براندو في 3 نيسان عام 1924 في نبراسكا في الولايات المتحدة.
وهو الولد الثالث بعد شقيقتين. تربى في كنف عائلة غريبة عجيبة، والده
(ويدعى ايضا مارلون) مروّج تسويقي في شركة للمواد الكيميائية المستعملة في
المواد الغذائية (قبل ان يصير مديرا)، يمضي ايامه على الطرق لتسويق
المنتجات مغتنما الفرص في الوقت نفسه لاقتناص المغامرات النسائية. عرف كيف
يؤمن حياة رغيدة لعائلته، لكن من جهة ثانية كان ذا طبع قاس وشرس يضرب زوجته
حين تلومه على خياناته المتعددة ولا يعطي الاهمية الكبيرة لأولاده. عنه قال
مارلون براندو في مذكراته التي كتبها في عمر السبعين: كنت احمل اسمه لكن لم
انجح يوما في استدرار عاطفته او انظاره. كان يجد لذة في تحطيمي مرددا بأني
سأكون دوما عديم النفع. كنت احبه واكرهه في آن واحد. كان رجلا مخيفا غاضبا
مستعدا دائما للضرب ولاعطاء الاوامر. ربما من اجل هذا لم اتحمل كل ما يمثل
السلطة طوال حياتي .
والدته دوروثي امرأة جميلة دينامية وحيوية بدأت مهنة التمثيل ولعبت امام
الممثل هنري فوندا في احدى الفرق الدرامية المحلية. في محاولة لمداواة حسرة
تحطم احلامها المهنية وخيانات زوجها المتكررة وتعرضها الدائم للضرب، كانت
تغرق خيبتها بمعاقرة الخمرة حتى الاغماء. منها اخذ مارلون حساسية مفرطة
وطبيعة معقدة فأحبها جدا رغم حضورها الغائب. في سيرة حياته قال عنها:
تنقصني الكلمات لوصف رائحة امي حين كانت تشرب. مزيج غريب كان دليلا على
ادمانها لذا كرهته. ومع هذا، كانت هذه الرائحة تجذبني الى نساء التقيتهنّ
لاحقا في حياتي... اعتقد اني اخذت من امي سماتي الغريزية وحبي للموسيقى.
ومن المؤكد اني ورثت من ابي قوتي البدنية وقدرتي على التحمل وميلي الى
التحكم في الآخرين ... ونسي ان يقول شجاعة جعلته يواجه اباه وكان في
الرابعة عشرة حين ضبطه مرة ينهال ضربا على الوالدة متحديا اياه بالكلمات
الآتية: اذا ضربتها مرة بعد سوف اقتلك . فكانت المرة الاولى التي يتراجع
فيها ابوه امام تحد جسدي.
براندو والمربية
من الاشخاص الذين طبعوا كذلك طفولة براندو مربيته ايرني. كان في الثالثة او
الرابعة من عمره حين انتقلت لتقطن في المنزل كمربية خاصة له. في كتابه وصف
بعاطفة عارمة الاوقات التي كانا يمضيانها معا ليلا ونهارا. كانت في الثامنة
عشرة وكانت تنام بجانبه فكان يشعر كأنها ملك خاص له، حتى جاء ذلك اليوم
الذي طردت فيه من المنزل الوالدي (لانها كانت حاملا من شاب تعاشره). عندما
ادرك براندو الصغير انها ذهبت الى الابد، شعر بأحلامه تموت على ما وصف في
كتابه. كانت امي تركتني منذ زمن طويل من اجل الكحول، وها هي ايرني ترحل.
طوال حياتي سوف اعيد خلق وضع مماثل وابحث عن نساء يتركنني. ومنذ هذاليوم
بالتحديد شعرت بنفسي انسحب من العالم .
طبعا لا يوافق الجميع رأي براندو بان النساء هنّ من كنّ يتركنه. الحري انه
كان يتركهن اولا ربما خوفا من ان يسبقنه على اتخاذ هذه الخطوة تحاشيا
لاحياء شعور الماضي نفسه. وحتى العدد المرتفع للنساء المنتحرات واللواتي
حاولن الانتحار في تاريخ علاقاته الحافل، لم يدفعه الى الاعتراف بالامر. بل
اكثر، تجاهل ذكرهن في كتابه. طبعا قد لا تكون له صلة مباشرة بدوافع
انتحارهن لكن جميعهن شكّلن في يوم ما جزءا من حياته. بين اللواتي نجحت
محاولاتهن نذكر الممثلتين: جا سكالا وبير انجيلي، وسكرتيرته السابقة سوزان
سلايد، وشريكته في تمثيل فيلم
One eyed
Jacks
بينا بيلليسير. الى هذه اللائحة تضاف اسماء لم تنجح محاولاتهن في الانتحار
ومنهن صديقته السابقة التي ارتبط معها بعلاقة طويلة ريتا مورينو وايضا
فرانس نويين بالاضافة الى زوجته السابقة آنا كاشفي.
المستقل المشاغب
في عمر السادسة انتقلت عائلة براندو الى ولاية الينوي. هناك عاش بوهيمية
لامبالية من دون اي قواعد رادعة او نظام. في تلك الحقبة كان، وبحسب شهادة
اختيه، صبياً صغيرا جديا شديد العزم . كان يحب اختراع المقالب جانحا بقوة
الى الاستقلالية. اعتاد جلب اغراض متنوعة الى المنزل كان يعثر عليها بين
النفايات. تعاطفه مع المعوزين برز واضحا منذ صغره. فكان يصطحب الى المنزل
مشردين. وفي احد الايام اتى الى المنزل بامرأة سكيرة. احب كذلك الحيوانات
الضائعة فكانت حديقة البيت تغص بدواجن وكلاب وارانب وحصان وبقرة وهررة
وعصافير وكأنها مأوى ومزرعة.
من جهة ثانية كان تلميذا فاشلا صعب المراس غير مسؤول. لم ينجح شيء في اثارة
اهتمامه ولم يشترك في اي من النشاطات المدرسية، والسبب وجيه: كان يمضي معظم
ايام بعد الظهر معاقبا! في يوم من الايام قرر والده ان الاوان قد آن لوضع
حد لسلوكه غير المنتظم فسجله في مدرسة عسكرية كان بدوره تعلم فيها. لكن
مارلون الابن كان كارثة. لم يهو الحياة العسكرية ولا الحياة النظامية. كان
اصبح في السادسة عشرة من العمر وطرد سابقا من اكثر من مدرسة. واكثر ما كان
يزعج براندو في الحياة العسكرية هو ضرورة انصياعه لدوام محدد هو القائل احب
اسلوب الحياة حيث الوقت لا يعني شيئا . لذا عمد ذات ليلة الى فك الجرس الذي
كان يوقظه في المدرسة ودفنه، لاحقا اعترف في قرارة نفسه بأنه ارتكب خطأ
بعدما استبدلت ادارة المدرسة الجرس ببوق ينفخ كل ساعة!
في ربيع 1994 حصل المحتم وطرد من المدرسة العسكرية نتيجة لسلسلة اعمال
تخريبية قام بها منها وصل التيار الكهربائي الى قبضات الابواب! لكن السبب
المباشر كان وضعه قنبلة صنعها من المفرقعات امام باب غرفة استاذ. حار والده
المستشاط غضبا ماذا يفعل بابنه العاق فوجد له وظيفة في شركة تصريف. بعد ستة
اسابيع، وبعدما تعب من مد القساطل في الحفر، قرر براندو الانتقال الى
نيويورك حيث كانت تدرس شقيقتاه.
في الحلقة المقبلة الى قطار الشهوة... والشهرة #
كان وحشا وملاكا وطاغيا بحضوره، شفافا ومدمرا. ومن كان مثله لا يمكن الموت
ان يأتيه قاضيا بل مذكرا بأن للحياة دورها وقد حان وقت تأملها.
براندو لا يموت فمن كان يسخر من الموت بالحياة لا تعود سخافات الموت الجسدي
تعنيه.
ولا يموت براندو لأنه بين القلائل الذين لا يفعل الموت سوى التذكير
بوجودهم. ولأنه يكتفي في حضرة الموت بابتسامة ساخرة، ولأنه من النوع الذي
ينتحر عندما يولد فلا يعود الموت حينذاك سوى تحول فيزيائي تافه.
وبراندو لا يموت لأن حياته كانت انتقاما صريحا من فعل الولادة.
واذ يفرد الدليل صفحاته في حلقات لحياة مارلون براندو واعماله، يدعو الى
اعادة اكتشاف احد العباقرة في مجال الفن الدرامي.
جوزف بو نصار
|