رحل الفنان الكبير محمود مرسي عن عمر ناهز 81 عاما
تاركا
لذاكرة الفن ثروة كبيرة من الابداع حيث انتهت آخر فصول الحياة بمنزله بمدينة
الاسكندرية مسقط رأسه، بينما كان مشغولا بتصوير مشاهده الخارجية للمسلسل
التليفزيوني الجديد 'وهج الصيف'.. وكان رحيله صدمة ثقيلة
لزملائه ولكل عشاق
فنه.
'أخبار النجوم' تابعت رحلة حياة محمود مرسي من
البداية حتي اللحظات الاخيرة
وماذا يقول عنه زملاءه وتلاميذه من الفنانين والنجوم؟!
بدأ الفصل الاخير من حياة الفنان الكبير محمود
مرسي عندما
شعر بالتعب والارهاق قبل بداية تصوير المسلسل وفضل البقاء بمنزله حيث أوصي
ابنه
الدكتور علاء بمعاودته هو وزوجته الصحفية أمل فوزي للاطمئنان عليه وبالفعل
استمرت
متابعتهما له حتي نقل صباح السبت الماضي الي المستشفي ولفظ
أنفاسه الاخيرة متأثرا
بهبوط حاد في الدورة الدموية.
ونفذ الابن 'د. علاء' وصية والده الثانية التي
اوصي فيها بأن يدفن بمقابر الاسرة 'بالمنارة' شرق الاسكندرية دون ضجيج اعلامي..
حيث
عاش حياته زاهدا في الشهرة وأضوء النجومية.
ومحمود مرسي كان يمتلك معدنا فنيا
أصيلا من الصعوبة أن يتكرر مرة أخري وكان مثل ساحر عظيم يضع يده بخفة بارعة
في عقول
وقلوب الناس ليغيرهم الي الافضل فكان ظهوره في أي عمل بمثابة شهادة الضمان
للعمل
الفني.. وقفز بالاداء التمثيلي خطوات واسعة الي الرقي..
عاش محمود مرسي في حياته
عموما كما يعرفه الجميع بأخلاق الفارس.. ورحل عن دنيانا
كذلك فارسا عظيما بلا
أي ضجيج.
ذكريات
محمود مرسي من مواليد الاسكندرية عام 1923 ألحقه
والده
بالمدرسة الثانوية الايطالية بالاسكندرية قسم داخلي ولم تكن له علاقة بالعالم
الخارجي، الا من خلال والدته التي انفصلت عن والده، وبالرغم من هذا الانفصال
فقد
اعتادت الام أن تزور الابن يومي الخميس والاحد.
وكانت هي وحدها لمسة الحنان
والعطف التي تضيء حياته وذات 'خميس' جاءت كل الامهات وكل
الآباء يحملون هداياهم الي
أطفالهم الا محمود فهو الوحيد الذي تخلفت أمه عن الحضور لسبب لا يدريه، وقتها
وقف
محمود تحت الشجرة وحيدا باحساس الخائف الضائع وشعر بجرح عميق داخله ومن يومها
تعلم
محمود مرسي ألا يتعلق بأحد أكثر من اللازم.. وقد تعلم أن وراء
كل ارتباط واحتفاظ
تكمن مأساة الانفصال!
لذلك كان محمود مرسي حريصا علي أن يجنب ابنه
الوحيد 'علاء'
كل ما يمكن أن يخدش نفسيته وكان علي يقين أن جدته التي قامت بتربيته تحبه جدا
بعد
انفصاله عن زوجته الفنانة سميحة أيوب والدة د.علاء.
وقد التحق محمود مرسي بعد
تخرجه في المدرسة الثانوية بكلية الآداب جامعة الاسكندرية قسم
الفلسفة وعاش أغلب
أوقاته
بعيدا عن التعامل مع الآخرين.
وعن أسباب انعزاله الدائم عن الوسط الفني
والناس كان يقول: 'مش بيقولوا ابعد عن الشر وغني له، فاذا كانت
الانعزالية ستبعدني
عن الشر والقيل والقال، فأنا انعزالي لا أفضل الجلوس في مجتمعات النميمة. أما
اذا
دعيت لمكان يكون الفن فيه بأسلوبه الصحيح فأنا موجود فيه ولا امتنع عنه
ابدا.....'
العزلة
ورغم انعزاله عن الناس الا انه كان يأتنس بهم في
عمله
يمرح معهم ويداعبهم داخل الاستوديو فعندما كان يدخل الاستوديو.. كان يداعب
زملاءه
بابتسامته ثم يدخل مباشرة الي المكياج ليعيش في جو الشخصية،
ويطلب 'الورق'
السيناريو والحوار للمشاهد التي سيتم تصويرها.. ويقرؤها جيدا ثم ينفصل تماما
عن
المناخ المحيط به ويعيش عالمه الخاص، وأحيانا يخرج ويتجه الي
احد الوجوه الجديدة
الذي سيصور معه المشهد.
ولم يستعن محمود مرسي رغم نجوميته يوما بمساعد
له في
الملابس 'لبيس' بل يحتفظ بمعظم ملابس المسلسل داخل الاستوديو.
يعيش الموقف
الذي يصوره معايشة كاملة لدرجة أن ردود أفعاله وكلامه للآخرين، تكون طبيعية
رغم أن
الكاميرا تكون غير مسلطة عليه وهذا هو 'التكنيك العالي' جدا فهو يحفظ المعني
قبل
الكلمة.. لذلك يخرج منه الكلام بتلقائية.
الاستاذ الجامعي
استقال محمود مرسي
من التدريس ثم سافر الي فرنسا ليدرس الاخراج السينمائي وهناك
امضي خمسة أعوام حتي
انتهت أمواله فرحل الي لندن وعمل هناك بهيئة الاذاعة البريطانية
B. B. C
وبعد سبعة
شهور من تعيينه حدث العدوان الثلاثي عام ..1956 وشعر بكراهية لوجوده علي
الارض
البريطانية، فعاد والتحق بالبرنامج الثاني بالاذاعة المصرية.
وكان الاستاذ
الجامعي في حياة الانسان والفنان محمود مرسي فترة خصبة اعطي
لتلاميذه من فنه
وتاريخه وخبرته بقدر ما استطاع.. وفضل الابتعاد مرة أخري تاركا الفرصة للجيل
الجديد
واعترض علي فكرة التجديد أو المد لسنوات
أخري لقناعته انه لابد للعناصر الجديدة
أن تأخذ فرصتها فطريقها ولابد أن تتجدد الدماء.
واحترف محمود مرسي الاخراج
الاذاعي عقب اتمام فترة عمله بالبرنامج الثاني وفي صيف عام
1957 عرض عليه المخرج
يوسف شاهين العمل في فيلم 'باب الحديد' مقابل 50 جنيها الا انه رفض هذا العرض
وفي
عام 1963 وافق علي عرض المخرج السينمائي نيازي مصطفي لبطولة فيلم 'الهارب'
مقابل
300
جنيه وقبل محمود مرسي الذي أصبح زوجا وأبا واعتقد انها المرة الاولي
والاخيرة
التي يقدم فيها دور شرير.. ولكنه أصبح نموذجا جديدا للشرير علي شاشة السينما
وقدم
محمود مرسي حوالي 50 فيلما يأتي في مقدمتها رائعته الشهيرة 'شيء من الخوف'
اخراج
حسين كمال أمام شادية.
وقدم لنجيب محفوظ عددا من الافلام أهمها 'السمان
والخريف، الشحات، وثرثرة فوق النيل، وسعد اليتيم أمام أحمد زكي ونجلاء فتحي،
وليل
وقضبان أمام سميرة أحمد'.
وكان له نصيب في بطولة الافلام الدينية منها 'فجر
الاسلام' اخراج حسام الدين مصطفي.
وتعاون مع المخرج كمال الشيخ في بطولة عدة
أفلام سينمائية منها ثمن الحرية، الليلة الاخيرة.. أمام فاتن
حمامة وقدم أمام سعاد
حسني 'زوجتي والكلب' وأمام شادية 'امرأة عاشقة وأمواج بلا شاطيء'.
وكان له نصيب
في الاعمال الوطنية أهمها 'أغنية علي الممر' اخراج علي
عبدالخالق و'أبناء الصمت'
اخراج محمد راضي 'وطائر الليل الحزين' أمام محمود عبدالعزيز وعادل أدهم
واخراج
يحيي العلمي.
العائلة
وقد حقق محمود مرسي جماهيرية غير عادية في
المسلسلات
التليفزيونية التي قدمها ومنها 'رحلة أبو العلا البشري، وسفر الاحلام'.. فكان
دون
كيشوت عصريا يحارب بأخلاق الفارس النبيل وبأسلحة داستها الاقدام.. يحارب
طواحين
الزيف بكل ما يملك.
وفي مسلسل 'العائلة' تأليف وحيد حامد واخراج اسماعيل
عبدالحافظ قطع محمود مرسي من خلال شخصية الناظر والاب كامل
سويلم أن الارهاب.. اعمي
يعيش بلا منطق ولا وعي.
وبسبب شخصية سي السيد أحمد عبدالجواد في ثلاثية
نجيب
محفوظ بين القصرين وقصر الشوق.. والتي كان لها أثر كبير علي اختياره لأي
عمل
يمثله بعدها فقد كان حريصا علي أن تكون ادواره القادمة علي نفس
المستوي.
وقد
حاول اقناع السيناريست الراحل محسن زايد لانتهاء من كتابة الجزء الثالث
'السكرية'
لتصويره ولكن زايد أكد صعوبة هذا الامر
لانه يتناول مختلف الاتجاهات السياسية وهو
ما لا يمكن التصريح بعرضه.
وكان للمؤلف أسامة أنور عكاشة نصيب كبير في أعمال
محمود مرسي منها 'لما التعلب فات' اخراج محمد النجار، 'رحلة أبو العلا البشري'
،
و'سفر الاحلام' وأخيرا 'وهج الصيف' الذي لم يستكمله.
وعندما سئل محمود مرسي عن
أسباب زهده وابتعاده عن الصحافة والاعلام أجاب: أنا لست من
هواة الاحاديث المنشورة
ولا أفضلها لأن الكلام فيها دائما مكرر ومعاد والاجابة فيها دائما لا تتغير
ثم ماذا
هناك من جديد لأقوله؟! واتصال النجم أو الفنان بجمهوره يأتي عن طريق العمل في
المقام الاول، ذلك الاتصال هو حوار علي المستوي الروحي والعقلي
والوجداني وأنا لم
اقاطع الجمهور لأن الفنان ليس بمقدوره أن ينعزل عن فنه أو جمهوره ثم اني
انسان قبل
أن اكون فنانا.. وأنا واحد من هؤلاء الذين لا يجيدون التحدث عن
أنفسهم.
الجوائز
وحصل الراحل محمود مرسي علي عدة جوائز منها جائزة
الدولة
التقديرية عام ..2000 كما حصل علي مجموعة من جوائز التكريم والتفوق عن أعمال
منها
شيء من الخوف، أغنية علي الممر، السمان والخريف، الشحات، الليلة الاخيرة.
وكرمته
وزارة الثقافة عن جهوده كأستاذ لمادة الاخراج بالمعهد العالي
للفنون
المسرحية.
كما كرمه مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان الاذاعة
والتليفزيون.
فنان أصيل
يقول كمال الشناوي: محمود مرسي فنان أصيل غير قابل
للتزييف.
كان الراحل محمود مرسي فنانا عظيما وأصيلا لم
تستطع أضوء الشهرة
والنجومية أن تزيفه، وبالرغم من نجوميته ظل معلما ومربيا فاضلا تتلمذ علي
يديه
العديد من كبار الفنانين الذين تشرفوا بأن يكون محمود مرسي استاذا لهم بمعهد
السينما.
مسلسل 'زينب والعرش' كان أهم اللقاءات التي جمعت
الفنان كمال الشناوي
بالراحل محمود مرسي وهو اللقاء الذي وصفه الشناوي بمباراة التمثيل حيث قال :
كان
مسلسل 'زينب والعرش' بمثابة مباراة في التمثيل كما وصفه المخرج الراحل يحيي
العلمي
ولقد لاحظت خلال هذا العمل مدي حرص محمود مرسي علي الكلمة الصادقة والتمثيل
باحساس
راق وكأنه يعزف سيمفونية وبالرغم من ذلك لم تتملكه الغيرة الفنية في يوم من
الايام
ولم يكن للأنانية أي معني في قاموس مشاعره.
هرم فني
بصوت متأثر تتملكه نبرات
الشجن وصفت الفنانة نادية لطفي الازمة القلبية التي رحل علي
اثرها الفنان محمود
مرسي بانها أزمة في قلب الفن المصري والعربي الذي كان الراحل واحدا من رموزه
حيث
قالت:
ان محمود مرسي أشبه بهرم فني يضم العديد من القيم
الاخلاقية والرسائل
الابداعية، لقد كان نموذجا للانسان المثقف أخلاقيا قبل ثقافته المهنية
والعلمية
الواسعة وقدوة لكل الفنانين بكبريائه وتقديسه لعمله ونقاء
سريرته.
وتسترجع
الفنانة نادية لطفي لقاءاتها مع الراحل الكبير محمود مرسي في
افلام الباب المفتوح
والخائنة، والسمان والخريف مؤكدة أن تتويج محمود مرسي لتلك الاعمال قد اضفي
علي
نسيجها الفني مزيدا من الجودة والاناقة التي طالما تميز بها اداء محمود مرسي
طوال
مشواره الفني.
فنان عالمي
ويري محمود ياسين انه اذا كانت السينما العالمية
تفاخر بسير لورانس أوليفيه وغيره من كبار النجوم فاننا لابد أن نتفاخر أيضا
بسير
محمود مرسي حيث يقول:
لقد كان الفنان الراحل استاذا بمعني الكلمة وواحدا من
عمالقة الفن المصري وهو مدرسة وأكاديمية فنية في حد ذاته وفوق كل ذلك كان
قيمة
أخلاقية رفيعة نادرة الوجود اضافة لكونه قيمة ثقافية اشبه
بموسوعة خبرات فنية
وابداعية وانسانية تشكل شخصية شديدة الثراء الفكري.
ويضيف محمود ياسين قائلا:
لقد اتيحت لي فرصة الاقتراب من الفنان محمود مرسي والتعرف علي الجوانب
الانسانية
التي رسمت ملامح شخصيته خلال لقاءاتي الفنية معه بداية من دوري الصغير في
رائعة
'شيء
من الخوف' ثم 'ليل وقضبان' الذي جسدت فيه دور البطولة أمام العملاق محمود
مرسي
ثم المسلسل الاذاعي 'البحث عن الذات' والذي قدم خلاله شخصية عزيز المصري ولقد
لمست
خلال تلك اللقاءات مدي نقاء شخصية هذا الفنان وصدقه.
آخر الفرسان
علاقة صداقة
طويلة ممتدة الجذور تلك التي ربطت بين الفنان الراحل محمود
مرسي والفنان سعد اردش
الذي تحدث بنبرة حزن علي فراق الاستاذ والصديق قائلا: محمود مرسي قامة علمية
وابداعية جعلتني اعتبره آخر فرسان الفن العظماء الذين يندر ان يجود بهم
الزمان سواء
في ميدان الابداع أو ميدان البحث الاكاديمي، لقد ضرب محمود
مرسي كممثل عملاق المثل
الاعلي في بساطة وعمق الاداء وعظمة التشريح ويكفي ان نلاحظ الجهد البحثي الذي
قام
به في بناء شخصية 'سي السيد' الذي قدم خلالها تصورا علميا ودقيقا للشخص
البرجوازي.
ويضيف سعد اردش: لقد كان محمود مرسي أول من كسر
قاعدة ان الممثل مؤد
ولا يرشح لجوائز الدولة وكان أول من كرمتهم الدولة لكونه أستاذا عظيما وفنانا
مبدعا.
فنان عظيم
يقول يحيي الفخراني : محمود مرسي فنان عملاق أهم
ما يميزه
احترامه لنفسه وفنه وجمهوره وهذه صفة قليلة الوجود حاليا فلم يكن الفنان
الراحل
مقدما علي تقديم أية أعمال تطرح أمامه بالرغم من كثرتها الا اذا كانت تلك
الاعمال
علي القدر الذي يرضاه من الاحترام والرقي الفني ولقد شعرت خلال
لقائي معه في مسلسل
'لما
التعلب فات' انه ليس مجرد فنان عظيم بل أب لكل أفراد العمل وكم كانت سعادتي
غامرة بالوقوف أمام هذا الفنان العظيم وهو ما دفعني الي أن اصر خلال توقيعي
علي
العقد الخاص بالمسلسل علي كتابه اسمه قبل اسمي في التتر.
رجل عجيب!
مواقف
انسانية عديدة كتبت فصول علاقة الحب والصداقة والاحترام التي
جمعت بين محمود مرسي
والمخرج سمير العصفوري حيث يقول: لقد تميز أستاذي الراحل بعدة لزمات أثناء
حديثه
مثل 'الراجل ده عجيب' ولقد قام بالتدريس لي المعهد العالي للفنون المسرحية
وذلك في
ستينيات القرن الماضي ولقد كان له أسلوب مميز في التدريس لا
يعتمد علي التلقين بل
علي منهج التساؤل والتشابك لدرجة جعلته يطبق تلك النظرية علي ادائه
كممثل.
ويتذكر سمير العصفوري احد مواقفه مع محمود مرسي
عقب نكسة عام 1967 بأيام
حيث يقول : لقد قرر محمود مرسي في ذلك الوقت عندما كان مديرا للمسرح الحديث
تقديم
مسرحية مأساة الحلاج وقال يومها 'اذا سقطت المسرحية في ظل الظروف الحالية
فلنسقط
وقوفا وبشرف' ولم تمض أيام حتي تم عزله من ادارة المسرح
الحديث. ولن انسي طوال
حياتي اللقب الذي اطلقه علي وهو مستر 'بيردزلي' وهي ترجمة لكلمة عصفوري.
فراق
محمود مرسي كان أمرا عصيبا علي قلب الفنان محمود الجندي الذي
اعتبر من تلاميذ محمود
مرسي عزاؤه الوحيد علي رحيله حيث يقول: نحن لا نملك سوي التسليم لقضاء الله
وقدره
ولقد ترك الاستاذ الكبير وراءه جيلا يقتدي به ولقد كان لنا نعم القدوة حيث
كان
مثالا للفنان الذي لا يقبل التنازلات واتمني أن تسير الاجيال
القادمة علي دربه
وتتعلم من اخلاصه لفنه.
# # #
صور نصف مشاهده فقط
القدر يخطف 'الاستاذ' من وهج الصيف!
تحقيق: محمد قناوي
في البداية يقول السيناريست عاطف بشاي: 'محمود
مرسي' قيمة
فنية عظيمة وفنان شامخ من اهرامات الفن في مصر، بالاضافة إلي كونه استاذا
اكاديميا
وأنا أحد تلاميذه في معهد السينما بداية من عام 1973 فقد تتلمذت علي يديه حيث
كان
يدرس لي مادة الاخراج، وقد كان اللافت للنظر أن محاضرة محمود
مرسي لاتقتصر علي طلبة
معهد السينما أو الاكاديمية فقط بل كان الفصل الدراسي يمتليء بمئات الطلبة
والمثقفين، طلبة من كلية الاداب والحقوق، لدرجة أن مستمعيه
كانوايجلسون علي الارض
رغم أنها محاضرة متخصصة وهذا يعود إلي ثقافته وغزارة معلوماته وأسلوبه الشيق
الممتع
في الحديث، وأنا شخصيا استفدت منه جدا لأنهصاحب فضل عظيم..
ويضيف بشاي: تخرجت في
المعهد واحترفت كتابة السيناريو وطوال السنوات الماضية كنت
اكتب أدوارا مناسبة له
وكنت شغوفا أن يعمل لي مسلسلا.. عشرات السيناريوهات علي مدي هذه السنوات ولم
يتم
اللقاء لأسباب مختلفة إما الشخصية لاتعجبه أو تحدث مشاكل انتاجية تعوق
التعاون بيني
وبين استاذي ورغم ذلك لم أيأس وانتظرت اللحظة المناسبة حتي كتبت سيناريو 'وهج
الصيف' وأتفقت أنا والمخرج هشام عكاشة علي أن يلعب بطولته
الفنان الكبير 'محمود
مرسي' وأرسلنا له السيناريو وفوجئت بأنه يتصل بي ويبدي أعجابه بالسيناريو
وأعلن
موافقته دون أيه تحفظات وقال لي: 'أخيرا يابشاي' نلتقي في عمل معا.. وبدأ
الاستعداد
للتصوير وبعدها بأيام فوجئت بمكالمة تليفونية منه تبلغني بأن
هناك غلطة مطبعية في
أحد المشاهد ويريد تصليحها وكان بامكانه أن يصلحها من تلقاء نفسه ولكن لأنه
الاستاذ
رفض أن يتعدي علي حق من حقوق المؤلف.. هذا من فرط أمانته ودقته الشديدة..
ويشير
عاطف بشاي إلي أنه طوال علاقته بالاستاذ لم يشعر بأنه يتعالي
مثل أغلب النجوم
ويقول: هذا الفنان القدير لم تغره النجومية ولم يشعر بقيمته كممثل عظيم،
فدائما
يشعرك أنه تلميذ وليس العكس وهناك الكثير من الصفات النادرة التي منحها الله
لمحمود
مرسي.. فهو عف اللسان.. زاهد في الفن زهدا غير عادي لم يقدم في حياته تنازلا
واحدا.
ويتذكر عاطف بشاي أول يوم لتصوير 'وهج الصيف'
ويقول: كان محمود مرسي أول
الحاضرين للاستديو وجاء حافظا لدوره، وجلس يذاكره مرة أخري، وشعرت أنه
كالتلميذ
الذي يريد أن يتعلم وبعد أن انتهي من تصوير أول مشهد سأل الجميع عن ادائه!!
وحول
المشاهد التي صورها في المسلسل يقول بشاي: الفنان الراحل صور مشاهد ديكور
مكتبه
وبعض المشاهد القليلة الأخري والتي لاتتجاوز ربع مشاهده في
المسلسل لذلك لا أخفي
سرا اذا قلت إنه من المستحيل استكمال تصوير المسلسل بايجاد مبرر درامي
لانتهاء دور
الفنان الراحل لذلك نبحث حاليا مع المخرج علي حلول وان كنت أري أنه لابد من
اعادة
تصوير الدور والديكور الذي صوره بممثل آخر..
وعن الشخصية التي كان يلعبها الفنان
الراحل يقول عاطف بشاي: كان يجسد شخصية 'عبدالرحمن الرمادي' وهو رجل أعمال
شرير جمع
ثروته بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، لايتورع عن تصفية
خصومه جسديا ولكنه ليس
شريرا بالشكل النمطي أو التقليدي ولكن ككائن بشري يمارس الشر لأنه يحبه ولأن
قيم
طبقته تجعل من الشر وسيلة لتحقيق مصالحه فشره وسيلة وليس غاية، والرمادي شخص
له
جوانب انسانية متعددة فهو شرير في مناطق لكنه أيضا خفيف الظل
ويحب المرح.
غياب
الاستاذ
المخرج هشام عكاشة يقول: علاقتي بالاستاذ بدأت
أثناء دراستي بمعهد
السينما حيث كان يدرس لي مادة الاخراج لكنه لم يستمر في المعهد سوي عام واحد
اثناء
وجودي فيه، ثم بعد ذلك تجددت علاقتي به أثناء عملي كمساعد مخرج أول للمخرج
محمد
فاضل في مسلسل 'أبوالعلا 90' ومنذ ذلك التاريخ وأنا علي اتصال به.. محمود
مرسي رجل
نادر قلما يجود به الزمان لذلك كنت حريصا علي التواصل معه حتي لو
تليفونيا..
ويضيف هشام عكاشة: عندما بدأت الاستعداد لتصوير مسلسل 'وهج الصيف'
فكرت أنا والسيناريست عاطف بشاي في ارسال السيناريو له ولكن في نفس الوقت كان
لدي
شك في قبوله للعمل ولكن لأنه فنان كبير ويعرف قيمة الدور الحقيقية فقد وافق
دون أي
تحفظات وبصراحة كنت سعيدا جدا بعمل ممثل في قيمة محمود مرسي في
ثاني تجاربي
الاخراجية.. وبصراحة أنا أكثر واحد حزين علي فراقه لأنه كان يعمل معي منذ
اسبوع
واحد فقط.
سألت هشام عكاشة عن ملاحظات محمود مرسي علي
السيناريو أثناء البروفات
فقال: هذا الرجل عظيم بقيمته الفنية والانسانية فقد فوجئت به مع أول جلسة عمل
يسألني عن تصوري للشخصية فقلت له: يا أستاذ أنا منتظر أن تقول لي عن تصورك
الشخصي
فقال لي: لا.. أنا هنا الممثل وأنت المخرج فكيف تري الشخصية
وبأي شكل يتم تقديمها..
هذا هو محمود مرسي الاستاذ الذي يعرف دور المخرج ودور الممثل في العمل
الدرامي!!
ويضيف: محمود مرسي انسان صادق مع نفسه وفنه وواضح
ومثقف يمنحك تفاصيل
أنت كمخرج تري أنها تزيد من عملك وترفعه لعنان السماء هذا غير الحالة التي
يهيئها
في الاستديو لتجعلك تعمل بدون تعب حتي الممثلين المشاركين في العمل تجدهم
يحضرون
الاستديو محتشدين وفي أحسن حالاتهم لأنهم يعملون أمام محمود
مرسي وهو مايوجد طاقات
ابداعية.. فلا تتصور كم الخسارة التي وقعت علي كمخرج بوفاة هذا الفنان الكبير
وأنا
لا أقصد الخسارة المادية فتعويضها سهل جدا ولكن خسارتي لفنان مبدع كان
سيرفعني
بالعمل الذي يشارك فيه.
وعن المشاهد التي صورها قال هشام: صور محمود مرسي
ما
يقرب من نصف مشاهده ولكن للاسف الشديد كلها مشاهد متفرقة وهي عبارة عن ردود
أفعال
لاحداث لم يتم تصويرها بالاضافة إلي الحدث الرئيسي للرواية لم
يتم تصويره فهو لم
يصور غير ديكور شركته.. لذلك فمن المستحيل أن نحتفظ بهذه المشاهد في العمل
الدرامي
وفي نفس الوقت أشعر بأزمة نفسية كبيرة تجاه التصرف في المشاهد التي صورها
وليس من
السهل علي الآن اختيار فنان يقوم بدوره!!
وقال: في يوم وفاته وأثناء الاعداد
لتصويره مشهد داخل الاستديو جاءنا الخبر والصدفة وحدها هي التي جعلتنا نصور
مشهدا
في نفس المكان الذي كان مقاما فيه ديكور مكتب الفنان الراحل وبمجرد أن دخلت
الاستديو شاهدته أمامي إنهرت وظللت اكثر من ساعتين لا أعرف
ماذا أفعل؟!
وأشار
إلي أنه سيضطر خلال الأيام القليلة القادمة إلي عمل تعديلات
جذرية في جدول تصوير
المسلسل بحيث يصور كل المشاهد غير الموجود فيها لحين اختيار بطل جديد
للرواية.
بين القصرين
كمال أبورية كان آخر فنان صور معه الراحل محمود
مرسي
مشهدا في 'وهج الصيف' الاسبوع الماضي وكان المشهد عبارة عن خمس صفحات يقول
عنها
كمال أبوريه: عندما تم ابلاغي بخبر وفاة الفنان العظيم لم
أتمالك نفسي وأنا الذي
كنت أصور معه مشهدا منذ أسبوع واحد فقط عبارة عن مشهد أطلعه علي بروفات
الجريدة
التي يصدرها وأنا أجسد دور صحفي وهو رجل أعمال يعطيني توجيهاته بخصوص المادة
المفترض أن تكون مع العدد الاول وطوال المشهد هو الذي يتحدث
وأنا أستمع اليه
وأستغرق تصوير المشهد اكثر من ساعتين.. هذا المشهد يطاردني منذ وفاته وحتي
الآن..
ويضيف كمال أبورية: التقيت لأول مرة بالفنان محمور
مرسي اثناء مشاركتي في
الثلاثية 'بين القصرين' وكنت أجسد شخصية ابنه واستغرق تصوير هذا المسلسل ست
شهور ما
بين القاهرة ودبي وكان يعاملني كابن له وبعد 15 عاما التقينا في 'وهج الصيف'
وعندما
تقابلنا في أول يوم تصوير سلمت عليه وقال لي: فاكر يا أبوريه
عملنا مع بعض من 15
سنة وها نحن نلتقي مرة أخري فقلت له: سوف نلتقي عشرات المرات يا أستاذ فقال:
مش
معقول يا الله حسن الختام! لقد كان يملك احساسا بأن نهايته قريبة وكنت أري
ذلك في
عينية منذ بداية التصوير، فلأول مرة كنا نري فيها محمود مرسي يحب الجلوس داخل
البلاتوه ومع المصورين ولايجلس في غرفته وكأنه يريد أن يودع
فنه الذي عشقه. فرحم
الله محمود مرسي الانسان والفنان الصادق عفيف اللسان الذي يحرص علي انكار
ذاته
وموهبته وقدره!
ويتمني أبوريه أن تتاح له الفرصة لأن يحتفظ
بالمشاهد التي صورها
مع الفنان محمود مرسي في مكتبته علي الأقل..
الحفيدة
لميرنا المهندس مكانة
خاصة في قلب محمود مرسي وهو الذي اختارها لتجسد شخصية حفيدته
في مسلسل 'وهج الصيف'
ونفس المكان في قلب ميرنا لمحمود مرسي والتي انهارت بمجرد سماعها خبر وفاته
وظلت
صامتة غير مصدقة ما حدث.
تقول ميرنا المهندس: لست غريبة علي هذا الفنان العظيم
الذي من حسن حظي بين بنات جيلي أنني اكثر واحدة منهن عملت
وتعلمت وتتلمذت علي يد
الاستاذ.. فقد كان أول لقاء معه في مسلسل 'أبوالعلا 90' وكان لقاء تعارف
وثاني لقاء
هو 'بنات أفكاري' وكل مشاهدي في المسلسل معه، أما اللقاء الثالث الذي لم
يكتمل
بوفاته فهو وهج الصيف.
وتضيف ميرنا: كنت دائما أشعر بمتعة غير عادية وأنا أقف
امامه أتعلم منه الاداء وفي نفس الوقت كان يشعرني أنني ابنته
ويفتح حضنه لمشاكلي
ويحاول حلها.. وكان قبل كل مشهد يجمعنا يجلس معي لنراجع الحوار ويضحك كثيرا
فهو
خفيف الروح وكان يعيش أسعد أيامه قبل وفاته بأيام فقد ملأ البلاتوه ضحكا
ومرحا كأنه
يودع الحياة بابتسامته وضحكته الساحرة.
وتؤكد ميرنا كل الذي اتذكره الآن هو آخر
يوم تصوير لي في المسلسل وبعد أن انتهيت ذهبت لأودع الجميع فوجئت به يقول:
ياجماعة
شوفوا مشاهد للبنت دي علشان تقعد معانا.. والآن أقول ياليتني
ذهبت للبلاتوه كل يوم
لأراه قبل أن يرحل عن دنيانا.. ولا أملك له سوي الدعاء والرحمة.
|