مدرّب سباحة يحاول استمالة زوجته، عبر تقديم يد العون إلى مهاجر كردي عراقي
يحلم بعبور المانش إلى بريطانيا... لكن القانون يعاقب بقسوة مَن يساعد أي
مقيم غير شرعي فوق الأراضي الفرنسيّة! فيليب ليوريه، أحد رواد «الموجة ما
بعد الجديدة»، يفضح سياسة جائرة تذكّر بالسنوات السوداء للاحتلال النازي
لم يكد يهدأ الجدل السياسي الذي أثاره في فرنسا فيلم «عيد التنورة» لجان
ـــــ بول ليليانفيلد، حتى تفجّر نقاش جديد على أثر نزول فيلم آخر إلى
الصالات بعنوان
Welcome (أهلاً وسهلاً) لفيليب ليوريه. وصل الأمر هذه المرة إلى البرلمان
الفرنسي، حيث أقيم عرض للفيلم المذكور الذي يروي معاناة المهاجرين السريين
في مدينة كاليه، شمال فرنسا. وبتأثير من الفيلم، تقدّم 150 برلمانياً
بمشروع قانون لتعديل المادة
L- 622
من قانون إقامة الأجانب التي تعاقب بالسجن 5 سنوات، وبغرامة قدرها 30 ألف
يورو، كل من يؤوي مهاجراً غير شرعيّ، أو يساعد أي أجنبي مقيم بصفة غير
قانونية في البلاد.
ينتمي مخرج «أهلاً وسهلاً» إلى جيل جديد في السينما الفرنسيّة، يعرف بـ«الموجة
ما بعد الجديدة»
Nouvelle
nouvelle vague. يتصدّى ليوريه ورفاقه لرياح الساركوزية في بلد فولتير، مؤسّسين
لتوجّه جديد سُميَ بـ«سينما المواطنة» التي تأتي امتداداً لـ«سينما
الالتزام» التي أسسها فرانسوا تروفو ورفاقه في الستينيات (راجع البرواز).
يسهم فيلم فيليب ليوريه، على غرار «عيد التنورة» و«عدن في الغرب» (إخراج
كوستا غافراس)، في فضح مطبّات السياسات الساركوزية، نسبة إلى عهد الرئيس
الفرنسي الحالي. تدور أحداث
Welcome في ميناء كاليه (شمال فرنسا) الذي يعدّ المعبر البحري الأقرب نحو
بريطانيا، وهو يستقطب منذ سنين أعداداً من المرشّحين للهجرة سرّاً نحو
«الفردوس الإنكليزي». ومع تشديد قوانين مكافحة الهجرة غير الشرعية، خلال
ولاية ساركوزي الأولى في وزارة الداخلية (2002 ــــ 2004)، تحوّلت مدينة
كاليه
Calais، بؤرةً متأزمة أمنياً وإنسانياً. إذ «علق» فيها مئات المرشحين
للهجرة، بسبب تعقيد فرص العبور نحو الضفة الأخرى لبحر المانش. وقد دفع
الأمر بمنظمة «الصليب الأحمر» إلى فتح مركز إقامة يتكفّل بهؤلاء المهاجرين
في بلدة سارليت القريبة. وبعد عودة ساركوزي إلى وزارة الداخلية، في 2005،
وشروعه في خوض الحملة التمهيدية لانتخابات الرئاسة التي كانت محاربة الهجرة
السرية أحد عناوينها، قرّر إغلاق مركز الصليب الأحمر في سارليت، وسنّ قانون
تنظيم إقامة الأجانب في فرنسا، المشار إليه أعلاه، والمتعلق بمعاقبة من
يساعد مهاجرين غير شرعيين. ما جعل فلول المرشحين للهجرة نحو بريطانيا
تتوارى عن الأنظار، هرباً من الملاحقات البوليسية وقدّمَ خدمة للآلة
الدعائية الانتخابية التي كانت تروّج لـ«سوبر ــــ رئيس». لقد استطاع ساركو،
كالعادة، أن يحلّ هذه المشكلة بمفعول
سحري!
لكن المنظمات الإنسانية لم تكف عن دق ناقوس الخطر، لافتة إلى أنّ السياسات
الساركوزية لم تعالج الهجرة السرية، بل اكتفت بإخفائها، مثلها مثل مشاكل
أحياء الضواحي، أو البطالة والإجرام التي يُتلاعب بالإحصاءات الرسمية
بشأنها، للانتقاص من تفاقمها أو لإعطاء الانطباع المخادع بأنها تتراجع...
وبدعوة من إحدى تلك المنظمات، زار فيليب ليوريه منطقة كاليه، حيث صُعق
بالأوضاع غير الإنسانية التي يتخبط فيها المرشّحون للهجرة السرية إلى
بريطانيا، حيث يضطرّون إلى التخفي في غابات المنطقة، هرباً من المطاردة
البوليسية، ليعيشوا في ظروف مزرية. بينما تعاني الجمعيات التي تحاول التكفل
بأوضاعهم الإنسانية من المضايقات القضائية.
من رحلته وسط تلك الفسيفساء من «مسحوقي العولمة» العالقين في كاليه، استوحى
ليوريه «أهلاً وسهلاً»، ويروي قصة إنسانية لمدرب سباحة من سكان المنطقة
يدعى سيمون (فانسان ليندون) يتعلّق بالمهاجر الكردي بلال (فرات آيفيري)
القادم من العراق، ويترجّاه بأن يعلّمه فنون العوم، ليقطع بحر المانش
سباحة، بهدف الالتحاق بحبيبته على الضفة الأخرى.
جعل فيليب ليوريه الهمّ العام يتداخل مع المعاناة الشخصية في القصة، فبطلنا
سيمون، يسعى إلى استعادة زوجته التي هجرته، ويجد في إصرار بلال على قطع بحر
المانش سباحة، للالتحاق بحبيبته، معادلاً رمزياً للتحدّي الذي يخوضه هو
الآخر لكسب حبّ الزوجة المفقود.
بعيداً عن أي نبرة خطابية، يسلّط المخرج الفرنسي الشاب الضوء على المضايقات
البوليسية التي تلاحق مدرب السباحة سيمون، لمجرد أنه ينقل في سيارته أو
يؤوي في بيته هذا اللاجئ الكردي. ووجد نواب المعارضة في الشريط الذي بادروا
إلى عرضه في البرلمان، مادة لتسليط الضوء على ذلك القانون الجائر الذي
قارنه بعضهم بقوانين «حكومة فيشي» أيّام الاحتلال النازي لفرنسا. قوانين
فيشي كانت تعاقب مَن يؤوي يهودياً أو يساعده. وفيلم ليوريه يصوّر الشرطة
الساركوزية تلاحق المهاجرين السرّين... وتحصيهم عبر دمغ أرقام على سواعدهم،
بالحبر غير القابل للمسح. تماماً كما كانت تفعل «الغستابو» مع اليهود
المرشحين للمحرقة.
أمّا الموالون للرئيس ساركوزي، وفي طليعتهم إيريك بيسون، أحد «وزراء
الانفتاح» اليساريين في الحكومة ويتولّى جعبة الهجرة والهوية الوطنية،
فشنوا حملة ضد الفيلم. ما مثّل دعاية إضافيّة لـWelcome الذي تجاوز المليون بطاقة،
بعد شهر على طرحه في الصالات.
من الالتزام إلى «سينما المواطنة»....
من لوران كانتيه الذي حصل فيلمه «بين الجدران» على السعفة الذهبية في
«مهرجان كان السينمائي الدولي» (2008)، وجان ــــ بول ليلينفيلد الذي سجلت
إيزابيل أدجاني من خلال فيلمه الأخير «عيد التنورة» عودة مدوّية إلى واجهة
السينما الفرنسية... مروراً بماتيو كاسوفيتش («الحقد»)، وغاسبار نوي («بلا
رجعة»)، وعبد اللطيف قشيش («المراوغة»، «أسرار الكسكس»)، وجاك أوديار
(«أنظر إلى الرجال وهم يسقطون»، «توقّف قلبي عن الخفقان»، «نبي»)، ووصولاً
إلى فيليب ليوريه الذي يأتي فيلمه
Welcome امتداداً لتجارب سابقة انصبّت كلها في تصوير عوالم المهمّشين
والمسحوقين
(«سقطوا من السماء»، «الزيّ اللائق إلزامي»)...تشهد السينما الفرنسية منذ
منتصف التسعينيات بروز جيل جديد من السينمائيين، باتوا يلقبون بـ«الموجة ما
بعد الجديدة». التسمية تؤكّد النقلة النوعية والنبرة التثويرية اللتين
تميزان تجاربهم، وتذكّر بالنقلة المفصلية التي مثّلها ظهور «الموجة
الجديدة» في الستينيات من القرن المنصرم.
لكن «الالتزام» بمفهومه التقليدي القديم، تراجع هنا لتحل محلّه نبرة جديدة
تسعى إلى التأسيس لـ«سينما المواطنة». من خلال «بلديّون»، استطاع رشيد
بوشارب وأبطال فيلمه الخمسة الذين ينتمون جميعاً إلى الجيل الثاني من أبناء
المهاجرين، إقناع الرئيس السابق جاك شيراك بإصدار قانون تأخر لأكثر من نصف
قرن للمساواة بين حقوق المتقاعدين في الجيش الفرنسي من ذوي الأصول
المغاربية، وبين غيرهم من قدامى المحاربين.
وعلى أثر الجدل الذي أثاره فيلم «عيد التنورة»، تأسّست أخيراً «نوادي
التنورة» في 26 مقاطعة فرنسية، من أجل محاربة التمييز الجنسي، والتضييق على
النساء والفتيات في الأحياء الشعبية الفرنسية. أمّا فيلم فيليب ليوريه الذي
أقبل على مشاهدته مليون فرنسي، فقد أسفر أيضاً عن عريضة وقّعها مليونا شخص،
تطالب بإلغاء العقوبات التي تهدّد كل من يمدّ يد العون أو يؤوي أحد
المهاجرين السريين. وقد بيّنت أحدث استطلاعات الرأي أنّ حوالى 77 في المئة
من الفرنسيين، يطالبون بإلغاء تلك العقوبات التي وضعها الرئيس الفرنسي
نيكولا ساركوزي، ويعتبرونها مخالفة لقيم الجمهورية الفرنسية ومبادئها.
الأخبار اللبنانية في
01/06/2009 |