تتنوع الموضوعات التي يتناولها المخرج العراقي محمد توفيق بحسب الظروف
الذاتية والموضوعية التي تحيط به ففي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من
القرن الماضي أنجز عدداً من الأفلام الوثائقية التي تدور حول موضوعات
فلسطينية نذكر منها "مسيرة الاستسلام، ويوميات مقاتل، وأم علي، والطفل
واللعبة والناطور". وحينما إستقر به المقام في الدنمارك بدأ يكرِّس بعض
وقته للموضوعات الإنسانية الأُخَرْ ففي عام 2004 أنجز " صائد الأضواء " وهو
فيلم يتناول هواجس الإنسان العراقي المُغترب في الدنمارك. كما أنجزَ فيلم
"شاعر القصبة" الذي يرصد تجربة الخطاط العراقي محمد سعيد الصكار، وفيلم "
الفصول الأربعة وأنا" الذي استوحى فكرته الرئيسة من الموسيقار المعروف
أنتونيو فيفالدي. أما فيلمه الروائي القصير "نورا" الذي وضع لمساته الأخيرة
عليه قبل بضعة أسابيع وسوف يُعرض في "غراند فستسفال سينما 3" في دبي في
اليوم الأخير لمهرجان الخليج السينمائي الذي انطلقت فعالياته في التاسع من
أبريل الجاري. وكما في أفلامه السابقة "صائد الأضواء، باب السماء، ظلال
والفصول الأربعة وأنا" يعود محمد توفيق الى فضائه المفضل وهو الغوص في
طبيعة الشخصية العراقية والتنقيب في دهاليزها المعتمة، ومحاولة الإمساك
بهواجسها الداخلية، سواء أكانت هذه الهواجس وجودية أم روحية عميقة، أم
يومية عابرة، لكنها قد تترك أثراً لا يمكن التخلص منه أو الفِكاك من آثاره
الجسيمة. لقد إنتقى محمد توفيق هذه المرة شخصية نسائية عراقية تعيش في
المنفى الدنماركي البارد والموحش بكل معنى الكلمة، ووضعها في مواجهة عدسته
الذكية التي أحاطت بكل معالم هذه الشخصية التي تعيش وضعاً مرتبكاً وغير
مستقر لجهة توزعها بين ثلاثة أقطاب وهي الحبيب من جهة، وطليقها من جهة
ثانية، وطفليها اللذين لم نرهما قط في هذا الفيلم القصير، ولكننا نفهم من
سياق المكالمات الهاتفية أن وليداً مشاكس ويعتدي على أخته الصغرى دائماً.
البنية الرباعية للفيلم
مثل قاصٍ بارع بنى محمد توفيق الهيكل العام لقصته السينمائية
مُذكِّراً إيانا بفصول فيفالدي الأربعة أو بفصوله الشعرية، هو نفسه، التي
جسّدها في فيلمه الشاعري الجميل "الفصول الأربعة وأنا". وعلى وفق هذه
الطريقة فإن المراحل الأربعة للفيلم ستنتقل تلقائياً من مرحلة التخيّل
التجريدي الى المرحلة الواقعية المجزأة التي تأخذنا الى أعماق هذه الشخصيات
الخمس التي تتمثل بـ"نورا" نفسها، إضافة الى حبيبها مهنّد، وزوجها السابق
خليل، وطفليها وليد وأخته المقموعة التي جردّها كاتب السيناريو حتى من
إسمها وحوّلها الى مجرد كائن مقموع يثير الشفقة. وعلى الرغم من أن مدة
الفيلم هي عشر دقائق إلا أن المخرج نجح نجاحاً كبيراً في التعاطي مع جملة
من المشكلات التي تعاني منها "نورا" هذه الشخصية المأزومة التي تعاني من
ارتباك واضح جرّاء القرار الذي إتخذته قبل مدة في الإنفصال عن زوجها السابق
خليل، وليس هناك ضرورة للخوض في أسباب الإنفصال، وإنما هناك حاجة مُلِحّة
لمعرفة النتائج وكيفية التعاطي معها. يمكن للمُشاهِد أن يتخيّل أن عدم
الإنسجام بين نورا وخليل هو السبب الرئيس الذي حالَ دون إستمرار الزواج،
وربما هناك مشكلات أُخَرْ قد تمتد الى جوانب نفسية وإجتماعية وثقافية وما
الى ذلك. يلمس مُتلقي فيلم "نورا" تسارع الأحداث فمنذ المكالمة الهاتفية
الأولى يضعنا المخرج في قلب الحدث الرئيس فنعرف أن نورا، ذات الثلاثين
عاماً أو ربما أكثر بقليل قد فشلت في زواجها السابق للأسباب الغامضة التي
أشرنا إليها سلفاً. وأن صيغة الفشل الذي ذكرناها تواً لا تقتصر على نورا
حسب، وإنما تمتد الى زوجها السابق خليل الذي لم يستطع بدوره الحفاظ على
زوجته وطفليه الصغيرين اللذين تركهما موزعَين بين أبٍ غائب عن نظرهما طوال
الأسبوع، وبين أمٍ منشغلة بهواجسها العاطفية المتقدة، وحاجات جسدها
المتشابق الذي لا يجد حرجاً في الإعلان الصريح عن رغباته المكبوتة. لقد
حسمت نورا أمرها وإنفصلت عن خليل، وقررت الإرتباط مع مهنّد الذي تمحضه حباً
من نوع خاص كما هو واضح من معالم وجهها في أثناء الإتصال الهاتفي، أو من
خلال الكلمات الجميلة الناعمة التي تنساب من بين شفتيها. هذه الكلمات
المعسولة والمفعمة بالمحبة والتوق والشغف تكشف لنا بما لا يقبل الشك أنها
تحب مهنداً الى حد التماهي. ففي المكالمة الأولى ترددت على لسانها كلمة "
حبيبي وعمري " ست مرات، وهذا العدد الكبير يكشف عن طبيعة العلاقة العاطفية
وعمقها بين الطرفين. خصوصاً وأن معالم نورا "ميديا بيكرد" كانت معبِّرة
جداً، وقادرة على نقل الإيحاءات والمشاعر الحميمة التي تعتمل في داخلها.
لقد شكرته على الهدايا الكثيرة التي جلبها معه لأنه يعيش في مدينة أخرى،
وها هو يتجشّم عناء السفر الطويل كي يصل الى حبيبته نورا. وفي نهاية هذا
البوح العاطفي يسألها مهند عن موعد مغادرة الأطفال الى منزل أبيهم، فتعِده
بأنها ستتصل بطليقها وتعرف منه على وجه الدقة الوقت الذي يأتي فيه لإصطحاب
طفليه الى منزله. لا بد من الإشارة الى أن الفيلم برمته يدور في مترو
الأنفاق في المسافة المحصورة من منتصف العاصمة كوبنهاكن الى خمس محطات
باتجاه المطار. ويمكن أن نَصِف هذا الفيلم بأنه "فيلم مترو أنفاق" بإمتياز
لأن مجمل الأحداث تجري في ذلك النفق الأمر الذي يمنح الفيلم بُعداً أضافياً
يعمِّق ثيمة الغوص والتنقيب في أعماق الشخصية الرئيسة للفيلم وهي تعيش ذروة
إنفعالاتها العاطفية قبل أن يصل حبيبها المُرتقَب في مساء ذلك اليوم الجميل
الذي كانت تنتظره نورا من كثب. في المكالمة الهاتفية الثانية تتبدل معالم
نورا كلياً حينما تتصل بطليقها حيث تغيب الابتسامة الجميلة التي كانت
مُوزعة على معالم الوجه برمته ليحل محلها التجهّم واللغة الجافة التي تكشف
عن طبيعة العلاقة المتصحرة بين الطرفين. تستعمل نورا جملاً أمرية لا مجال
للتوسل فيها أو الرجاء " أوكي بعد ساعة أجهزهم، تعال أخذهم " وهي تعني
الأطفال طبعاً. وأكثر من ذلك فإنها تتمنى لو أنه يستطيع المجيء قبل الوقت
المحدد لتتخلص من ثقل المسؤولية المُلقاة على عاتقها. وحينما يقترح عليها
أن يعيد الأطفال يوم الأحد ترفض رفضاً قاطعاً بحجة أنها إنسانة أيضاً وتريد
أن ترتاح من مسؤولية الأطفال طوال أيام الأسبوع. أما المكالمة الثالثة فهي
مع إبنها الأكبر وليد، هذا الطفل المشاكس الذي يؤذي أخته الصغرى كثيراً،
غير أن الأم تنصحه أن يعتني بها بوصفه الأخ الأكبر الذي يجب أن يحيط شقيقته
الصغرى بإهتمام كبير. المكالمة الرابعة والأخيرة مع حبيبها مهند حيث تطمئنه
بأن كل شيء يسير على ما يُرام. وأنها لا تحتاج منه الى أي شيء، وإنما تطلب
منه أن يرتاح جيداً لأنه متعب جداً من السفر الطويل. وقد وعدته بتجهيز كل
الأكلات التي يحبها ولم يذقها منذ سنوات طوالا. الملاحَظ أن الإنسان الشرقي
معني بحاسة الذوق أكثر من أية حاسة أخرى خلافاً للأوروبيين الذين يُعنَونَ
بحاشة الشم. فهم يقولون مثلاً "أنهم يشمّون رائحة الجريمة" بينما نقول نحن
" سنذيقهم مرّ العذاب"، كما نستعمل نحن حاسة البصر ولكن بشكل سلبي حينما
نقول " سأُريكَ نجوم الضحى". يبدو أن نوراً أوروبية الذهنية، ولذلك فهي
تحتسي النبيذ الأحمر وتفضله على المشروبات الروحية الأخرى. ثم تطلب منه أن
ينام جيداً لكي يأتي لزيارتها وهو في كامل صحوه وأريحيته التي لا ينغِّصها
التعب أو الإرهاق.
النهاية الذكية
على الرغم من أن نوراً هي امرأة متحررة وقد قررت أن تعيش على وفق
قناعاتها وتصوراتها الأوروبية، أو هكذا أوحت لنا من خلال هذه الدقائق
العشر، إلا أنها تفاجئنا في نهاية الفيلم أنها تبحث في حقبيتها عن قطعة
منديل ورقي كي تنظِّف وجهها من المكياج، ثم ترتدي حجاب الرأس لتُوهم
الآخرين بأنها امرأة محجّبة تحافظ على العادات والتقاليد الاسلامية في بلد
أوروبي مثل الدنمارك، بينما هي ذاهبة في حقيقة الأمر لتوديع طفليها
وإستقبال حبيبها مهند الذي ينتظرها هو الآخر على أحرّ من الجمر. لم ينتهِ
الفيلم حينما تتحجب نورا وتتهيأ للخروج من مترو الأنفاق متجهة الى بيتها
وتوديع طفليها وإستقبال حبيبها مهند، وإنما ظل القطار تحت الأرضي يسير الى
الأمام في نفقه المظلم وكأنه ذاهب الى جهة مجهولة ونائية، لكن واقع الحال
يكشف أن هذا القطار أو سواه من القطارات تحت الأرضية تذهب الى أمكنة معروفة
سلفاً، ولكن تأويلي النقدي أو النفسي لهذه النهاية أن نورا على الرغم
تحجّبها إلا أنها ذهبت لملاقاة حبيبها التي ستتعرى أمامه من كل الأقنعة
الزائفة التي إرتدتها، أو تلك التي فرضها المجتمع بتقاليده وعاداته البالية
المقيتة التي لا نحترمها في أعماقنا، ولكننا نطبقها خشية من الألسن
المنافقة الحادة التي تستطيع أن تنال حتى من الرموز الطاهرة التي تعيش بين
ظهرانينا. وقبل أن أُنهي هذا المقال لا بد من الإشارة الى جمالية الأداء
المعبِّر لهذه الفنانة المبدعة ميديا رؤوف، والقادرة على التجسيد والتعبير
والتحكم بملامح وجهها والإشارات التي تبعثها لنا، نحن المتلقين. ولمن لا
يعرف الفنانة ميديا رؤوف بيكرد نقول إنها خريجة قسم التمثيل في أكاديمية
الفنون الجميلة، جامعة بغداد لعام 1989. إشتركت في العديد من المسرحيات
التي تشكِّل ذاكرة المسرح العراقي مثل "الزيارة" إخراج إبراهيم عاشور،
"الذي جلس وحداً" لهادي المهدي، " الملك لير، وأحزان مهرِّج السيرك" لصلاح
القصب، "لمن الزهور" لعزيز خيّون، "الحارس" لشفيق المهدي، "مارا- صاد"
لشمال عمر، في إنتظار سيامند" إخراج وتمثيل ميديا رؤوف ونيكار حسيب، "سنمّار
والنار والحصار" لعصمان فارس، " مكابدات رسّام- دريا" إخراج وتمثيل ميديا
رؤوف أيضاً. غادرت ميديا العراق عام 1992 الى سوريا الشقيقة حيث عيّنت هناك
عضواً في المسرح القومي السوري. كما قدمت هناك عدداً من المسرحيات نذكر
منها "سرير دزدمونة" لناجي عبد الأمير، " الحب الكبير" لمأمون الخطيب، " دم
شرقي- الكراهية- جذور الحب" لهادي المهدي، "تراتيل" لعلي إسماعيل. كما
إشتركت في المسلسل التلفزيوني " نداء المتوسط" لباسل الخطيب. غادرت ميديا
سوريا الى الدنمارك عام 2000 حيث أعادت هناك عرض مسرحية "دم شرقي" بأسلوب
جديد ومغاير في مدينتي كوبنهاكن ونيكوبين ب". ولا تزال منشغلة بهمومها
الفنية التي تتوزع بين المسرح والسينما. وفي الختام لا بد من الاقرار بأن
هذا الفيلم يعد إضافة حقيقية لتجربة المخرج المبدع محمد توفيق السينمائية،
كما أنه يعد علامة فارقة في تجربة الفنانة العراقية الكردية المتألقة ميديا
رؤوف بيكرد التي تمتلك مواصفات الفنانة السينمائية الناجحة.
إيلاف في
22/05/2009 |