«الدائرة».. عنوان أول فيلم روائي طويل للمخرج الإماراتي نواف
الجناحي، وهو كمساهمة فنية متميزة يعتبر إحدى الولادات الصعبة والطموحة في
التجربة السينمائية التي خاضها الجناحي منذ ظهور أفلامه القصيرة في المشهد
السينمائي الإماراتي قبل سنوات من الآن. تحول فيلم (الدائرة) بقصد أو بدونه
إلى محطة أساسية ومفصلية في السياق الزمني والتاريخي للنتاج السينمائي في
الإمارات ودول الخليج، ذلك أن الفيلم وفور انتهائنا من مشاهدته في مهرجان
الخليج السينمائي بدا وكأنه يضيق الحصار على الأفلام الطويلة القادمة،
وكأنه وضع حاجزا من التحدي من الآن أمام الأعمال المزمع تنفيذها مستقبلا في
المنطقة، هذا التحدي مرده العناصر الفنية والأدائية والإنتاجية القوية التي
استند عليها العمل، وأخذ يبني عليها بثقة وتمكن ووضوح، بغض النظر عن الهنات
البسيطة في الإضاءة والألوان وخفوت الإيقاع العام في لحظات قليلة من زمن
الفيلم.
في مقاربة موضوعية يمكن لنا أن نشبه فيلم «الدائرة» للجناحي بفيلم
الكويتي خالد الصديق «بس يا بحر» الذي كان ــ رغم جوّه التوثيقي ــ بمثابة
اكتشاف فني مدهش ومبشر في بداية السبعينات من القرن الماضي ، فما حققه «بس
يا بحر» ــ الخارج من العدم كما يبدو ــ كان أقرب إلى الضربة البصرية
المدوخة في مناخ فقير سينمائيا ومشوش إنتاجيا وبالكاد يتعرف على ثقافة
التلفزيون والدراما والأفلام التسجيلية. ما حققه الصديق في ذلك الزمن
البعيد كان أشبه بعارض فني أو افتتان شخصي، ولكنه تحول إلى عقدة تاريخية
ولعنة فنية للسينما في الخليج، فلا الطفرات الاجتماعية ولا التحولات
السياسية والاقتصادية استطاعت أن تعمم هذه التجربة السينمائية في المنطقة
ولا أن تنقل عدواها الجميلة والمحفزة إلى السينمائيين القلائل في دول
الخليج المجاورة في تلك الفترة. ما قدمه الجناحي في (الدائرة) بعد أكثر من
خمسة وثلاثين عاما من ولادة فيلم (بس يا بحر) لم يخرج من فراغ سينمائي غامض
ولم يصدر عن فراغات تأسيسية كما حدث مع الصديق، ولكن الجناحي وفي ذات الوقت
استطاع أن يتجاوز سقطات ومشاكل الأفلام الروائية الطويلة التي أنتجت في
الإمارات والخليج خلال السنوات الخمس الفائتة، حيث يفصح الجناحي في أولى
تجاربه عن قدرات فنية وثقافة بصرية ولغة سينمائية مشبعة بشروطها القياسية.
هذه الشروط القياسية القائمة على السيناريو المحكم والرؤية الإخراجية
المرهفة والواعية واستثمار لحظات الصمت وشعرية المونولوج وتوظيف الحوار
لتعزيز المشهد، بالإضافة إلى عمليات الإنتاج وما بعد الإنتاج المتوفرة على
تقنيات تترجم مناخات النص وروحية الفيلم ككل. كل هذه العناصر ساهمت في
صياغة لغة سينمائية مشحونة بالأبعاد المكانية والنفسية، مع اعتناء واضح
بتوزيع الزمن وتجنب المبالغات والإقحام والقصدية في الحوار والموسيقا
وانفعالات الممثلين، وهي المشاكل التي كانت تقع فيها الأفلام الطويلة
السابقة وفقدت بسببها المصداقية والتواصل السلس مع بصر المشاهد وبصيرته.
شعرية الكتمان
يحكي الفيلم وفي زمن محصور بيوم واحد فقط وفي أجواء نفسية داكنة قصة
الصحافي إبراهيم (يقوم بدوره عبدالمحسن النمر) الذي يكتشف إصابته بالسرطان،
ويريد قبل رحيله أن يستعيد أمواله من شريكه الجشع كي يهبها لزوجته التي لا
تعرف عن مرضه شيئا، وفي خط زمني وأفقي مواز نرى عصابة مكونة من ثلاثة أشخاص
تحاول سرقة منزل قريب من منزل إبراهيم، وعندما يتدخل إبراهيم لإفساد خطة
العصابة يحدث الصدام بينه وبين أحد اللصوص وهو شهاب ــ يقوم بدوره بتميز
ملحوظ وبأداء احترافي الممثل الإماراتي علي الجابري ــ هذا الصدام ينشأ عنه
صراع وجدل وحوارات واعترافات سرعان ما تفضي إلى اتفاق مع اللص على سرقة
منزل الشريك الجشع للصحفي ومن ثم ترك اللص في سبيله، وفي نهاية الفيلم وفي
مشاهده الأحرى الموزعة برشاقة يلجأ المخرج لشيفرات رمزية و إيحاءات تمزج
بين الواقعي والمتخيل وبين ما هو قاس وظاهري وما هو شفاف وقابع في الصمت
والتأويل، وساعده في ذلك كثيرا المعالجة النصية والبنائية التي ساهم بها
السينمائي والشاعر مسعود أمر الله وأضفت على الفيلم مسحة أدبية وروحية كان
العمل بحاجة إليها كي يخرج من إطار التشويق والإثارة البوليسية إلى ما يطوع
هذه الإثارة ويثير حولها أسئلة وجودية وفلسفية عن الذات والآخر وعن الحب
والموت وعن شعرية الكتمان ومرارة المصادفات. وبمناسبة الاحتفاء الجماهيري
والنقدي الذي حظي به الفيلم في مهرجان الخليج، وبمناسبة قرب عرض الفيلم في
صالات السينما في الإمارات كان الحوار التالي مع نواف الجناحي : سألنا
الجناحي أولا عن قيمة فيلم الدائرة بالنسبة لمنجزه السينمائي السابق، وكذلك
بالنسبة للتجارب الفيلمية الطويلة الأخرى التي لم توازن بين الشرط الفني
والشرط التسويقي، فأشار إلى إنه بغض النظر عن التجارب التي سبقته فإنه ينظر
إلى الإنتاج السينمائي كأسلوب عمل لا يمكن أن يتشابه مع عمل الآخرين، ومن
يحكم على قيمة وجودة العمل في النهاية هم النقاد والجمهور.
النسخة رقم 18
وأضاف الجناحي : من المهم في الفيلم الروائي الطويل الاعتناء بالنص
وبقوة وتماسك السيناريو، فنحن في فيلم الدائرة مثلا قمنا بتعديل وغربلة
السيناريو عدة مرات وعندما وصلنا إلى النسخة الأخيرة كانت تلك هي النسخة
رقم 18 ! كما أن هناك مراحل إنتاجية مهمة لا يجوز الاستهانة بها حتى لا
يصاب الفيلم الطويل بحالة من التشتت والتفكك وخروجه عن سيطرة المخرج. وعن
فكرة الفيلم وبداية العمل به يقول الجناحي : « كتبت الفكرة الأولية للفيلم
في العام 2001 ولكن لظروف إنتاجية وانشغالات فنية مع أفلامي القصيرة لم
استطع الدخول في الجو الفعلي لإنتاج الفيلم، ولكنني في العام 2006 قمت
بإحياء المشروع مرة أخرى وإعادة كتابة النص ومعالجته بالتعاون مع السينمائي
مسعود أمر الله حتى خرج السيناريو بشكله النهائي الذي رأيتموه في الفيلم مع
بعض التعديلات الطفيفة التي فرضتها ظروف وأماكن التصوير الفعلية.
ردود أفعال
وعن ردود الأفعال المشجعة التي لقيها الفيلم بعد عرضه في مهرجان
الخليج السينمائي قال الجناحي : « ردود الأفعال المشاهدين هي دائما ما تكون
مؤشرا ومقياسا لقيمة العمل الفني وخصوصا عندما يتعلق الأمر بجمهور السينما
الذي تتداخل فيه أذواق ومرجعيات مختلفة، أنا سعيد بأن فيلم الدائرة لقى
قبولا واسعا وترحيبا لم أتوقعه من المشاهدين العاديين ومن النقاد الذين
حضروا المهرجان، وهذا التوازن بين الآراء والذهنيات المختلفة شئ نادر
الحدوث، وهو يحسب للفريق المشارك في الفيلم والذي ساهم في إخراج العمل بهذا
الشكل، رغم بعض النواقص والمشاكل التي اعترضتنا خلال التنفيذ. وعلق الجناحي
على تصنيف الفيلم الذي بدا مشوشا لدي البعض قائلا : « أستغرب من البعض الذي
صنف الفيلم على أنه « أكشن» رغم أنه شهد ضربة واحدة أثناء العراك الذي حدث
بين الصحفي واللص، كما أنه شهد إطلاق رصاصة واحدة فقط في نهاية الفيلم،
وعموما فإن التصنيف ليس مهما هنا بقدر أهمية التواصل العاطفي والروحي مع
المشاهد، فعندما يلامس الفيلم روح المتفرج أستطيع أن أصنفه بالفيلم الناجح،
وغير ذلك يظل محصورا في إطار التشويق والإثارة والترفيه ولا يمكنك مع هذه
العناصر لوحدها أن تدير وعي المشاهد وتقحمه في المنطقة السحرية التي يخلقها
فن السينما الخالص والبعيد عن تأثيرات المسرح والتلفزيون» . وعن تميز
الفيلم بالأداء التمثيلي الذي كان طاغيا ومشغولا عليه بدقة قال الجناحي : «
ركزت كثيرا على أداء الممثلين في الفيلم، لأنه أمر مفروغ منه ، والتمثيل
عنصر لا يقل أهمية عن النص المكتوب وعن الرؤية الإخراجية، فمهما كانت حكاية
الفيلم جميلة ومؤثرة ومهما كان القالب الإخراجي قويا ومتماسكا، فإن الممثل
الضعيف يمكن أن يفسد ويدمر كل تحضيراتك السابقة للفيلم». وفي سؤال أخير عن
سبب نجاح فيلم الدائرة وهل هو عائد إلى تراكمات العمل على الأفلام القصيرة،
أو على ثقافة المشاهدة والإطلاع على السينما من جانبيها النظري والتذوقي
قال الجناحي : « نجاح الفيلم هو نجاح مؤقت وقد تأتي أفلام أخرى وتتجاوز
«الدائرة»، ولكن عموما فإن ظهور فيلم جيد لأي مخرج يعود لخليط من الأسباب
التي يجب أن تكون مجتمعة حتى تخلق القوام الجمالي والفكري والعملي للمخرج،
وبالنسبة لي فقد استفدت كثيرا من العمل على الأفلام القصيرة وكذلك من
دراستي النظرية في الولايات المتحدة ومن دخولي مجال التمثيل وعملي الإداري
في المهرجانات السينمائية واحتكاكي ومعرفتي بصناع الأفلام، وكذلك القراءات
والمشاهدات المختلفة التي أشعر أنها تشكل الأرضية الخصبة لما يمكن أن نسميه
«اللاوعي الفني» للمخرج».
* سيناريست وصحفي (الإمارات)
الإتحاد الإماراتية في
14/05/2009 |