يزعزع
فيلم »الزائر«
الأميركي
(امبير صوفيل)، الحائز جائزة أفضل فيلم في مهرجان دوفيل السينمائي ،٢٠٠٨
الصورة النمطية للولايات المتحدة الأميركية التي تشكلت سينمائياً عبر سنوات
طويلة،
والتي تبدو فيها بلد »تمثال الحرية«، شديدة الإبهار والجاذبية.
فتوماس ماكارثي،
مؤلف ومخرج الفيلم، استخدم صورة تمثال الحرية في سياق تهكمي ساخر، ليظهر
عدم
الحرية، وليصور العدائية التي تحصنت بها الولايات
المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من
أيلول، في وجه كل من هو غريب عنها، وتحديداً في وجه العرب والمسلمين. لقد
أنسن
ماكارثي الأزمة الثقافية في الولايات المتحدة، وجسدها في علاقة تزاوج ثقافي
حضاري
بين رجل أميركي، والتر فايل، وشاب عربي سوري، طارق الخليل.
علاقة صداقة بدأت بحب
مشترك للموسيقى، وخلُصت إلى ترحيل طارق إلى بلده، وإلى إعلان والتر شعوره
بالخجل من
سياسة بلاده تجاه الأجانب، وتمرده عليها.
بين
المشهد الأول والمشهد الأخير من
الفيلم، تحولٌ جذري في شخصية بطل الفيلم، والتر فايل، الذي يلعب دوره
ريتشارد
جنكينز. فوالتر، الاستاذ الجامعي لمادة الاقتصاد في جامعة كونيكتيكيت، يعيش
حياة
روتينية مملة. تذكرنا شخصيته ببطل رواية »السأم« لألبرتو
مورافيا. يجسد والتر مفهوم
»السأم«
الذي تحدث عنه مورافيا في كل أبعاده، من حيث انقطاع الصلة بينه وبين كل
الأشياء المحيطة به. يبدو دائماً في حالة لا انتماء. رجل قد يقضي وقتاً
طويلاً في
العتمة قبل أن ينتبه إلى غياب الضوء، رجل يحدق في الفراغ. يجسد
جنكينز هذا الدور
بشكل متقن، بحيث لا يستطيع المشاهد أن يمنع الاحباط من التسلل إليه.
الغضب
نقطة
التحول الأولى في الفيلم تحصل عندما يذهب والتر إلى نيويورك لحضور مؤتمر،
وإذا به يتعرف إلى طارق، الشاب السوري الذي يعيش وصديقته
السنغالية في شقة والتر في
نيويورك بصفة غير قانونية. يتمسك والتر بوجود الشابين معه في المنزل. وتنشأ
علاقة
صداقة بين الرجلين، حين يحاول طارق تعليم والتر العزف على آلة
الطبلة. مع الوقت،
يكتشف والتر شغفه بهذه الآلة التي تخرجه عن صمته وعن سأمه. ويبدأ باكتشاف
الحياة من
خلال أطراف أصابعه التي يطرق بها على الطبل.
أما نقطة
التحول الثانية في
الفيلم، فهي عندما يتم اعتقال طارق لأنه مقيم غير شرعي على الأراضي
الأميركية.
يتأهب والتر حينها للمساعدة، يُخلص لقضية صديقه العربي مدركاً أن ما حصل
بحقه كان
غير عادل. لقاء والتر بوالدة طارق، التي تقوم بدورها الممثلة
العربية هيام عباس، هو
في
الواقع نقطة التحول الثالثة في الفيلم. تنشأ بين الاثنين علاقة حب نبيلة
رغم
الاختلاف الثقافي بينهما. الصدمة تحصل حين يعلم والتر أنه قد تم ترحيل طارق
إلى
بلاده. يفجر حينها كل مكبوتاته غضباً. يتمرد على بلده، ينتقد
لاعدالتها. ينتقد
تخوفها من أناس أطلقت عليهم مسبقاً صفة الارهابيين من دون أن تدرك أن
لهؤلاء حياة
وعائلات وأشخاصا ينتظرونهم ويخافون عليهم.
لقد تطورت
شخصية والتر بشكل منطقي،
وبشكل ممتع درامياً أيضاً، لا سيما أن ريتشارد جينكينز أتقن دور الرجل
اللامنتمي
الباحث عن شغف، والرجل الذي يعيش الموسيقى بكل حواسه، وحتى دور الحبيب
المنغمس مع
ألم حبيبته. تطورت الشخصية بين المشهد الأول حيث كان والتر يقف
مديراً ظهره، يتأمل
العالم من خلال شباك منزله، وكل علامات الاحباط بادية على وجهه، والمشهد
الأخير،
وهو يعزف على الطبل بكل عنف، بكل قوة أوتي بها، ليتخلص من كل الغضب الكامن
في صدره.
تعدد
الهويات
أغنى ما
في الفيلم، وهو أمر غير مألوف كثيراً في الأفلام
الأميركية، هو تعدد جنسيات أبطال الفيلم. فـ»الزائر«، كما فيلم »بابل« قبله
للمخرج
أليخاندرو غونزاليس، فيلم جامع لهويات متعددة. والتر الأميركي،
طارق ووالدته
السوريان، وزينب السنغالية. والروابط بين الأربعة متنوعة وعميقة، بين الحب
والصداقة. وما يضفي المصداقية على الفيلم، هو استخدام اللغة العربية وفق ما
يتطلبه
المشهد. فمن المقنع أن يخاطب طارق والدته بالعربية، ومن المقنع
أيضاً أن تكون في
ردود فعلهما العفوية شيء من هويتهما الأصلية.
قليلة هي
اللحظات التي تتدخل فيها
الموسيقى كخلفية للمشاهد، وإن تدخلت فهو صوت بعيد لموسيقى البيانو. فقد
تعمد
ماكارثي عدم إضافة المؤثرات الصوتية وحتى الحركية، حتى يقف المشاهد وجهاً
لوجه أمام
الممثلين. لا أضواء، ولا زينة، ولا ألوان كثيرة. حتى مشاهد
مدينة نيويورك افتقرت
للأنوار، وللصخب، لتبدو نيويورك مدينة عادية. رغم ذلك، فإن الموسيقى التي
يلعبها
والتر وطارق بعزفهما على آلة الطبلة، تولد حياة وحيوية، تعكس الانسجام الذي
تولد
بين شخصين شديدي الاختلاف.
في
الفيلم، استخدم ماكارثي أكثر من إشارة للدلالة
على الانغلاق الذي تفرضه الولايات المتحدة على نفسها. منها العلم الأميركي
الذي
أقحمه في بعض المشاهد التي تحمل انتقاداً لسياستها، وكأنه يذكر
المشاهد أن هذه
التصرفات المتطرفة هي من صنع صاحب هذا العلم المرفرف. ومن الإشارات الأخرى،
بوستر
فيه صور لأشخاص من مختلف الانتماءات كُتب عليه »قوة أميركا«. استخدمت هذه
الإشارات
في سياق معبر عن التوجه العام للفيلم.
في
الواقع، ان عنوان الفيلم، »الزائر«،
ينطبق على كل بطل من أبطال الفيلم. طارق الذي حل زائراً على الولايات
المتحدة وعلى
حياة والتر. ومنى، والدة طارق، التي أقرت أنها لطالما حاولت
الانتماء إلى هذا
البلد، لكنه هو لم يسمح لها بذلك. كذلك الأمر حتماً بالنسبة إلى زينب. غير
أن
الزائر الحقيقي هو والتر نفسه. هو زائر في وطنه، غريب فيه. أما الولايات
المتحدة
الأميركية، فهي المضيف الذي فشل في دور الضيافة. هي المضيف
الذي لم يحسن استقبال
حتى مواطنيه، وسود وجه مواطنيه أمام الأجانب، واضطرهم إلى الاعتذار
بالنيابة عنه.
السفير اللبنانية في
15
يناير 2009 |