كل مرة يقدم فيها عمله للحضور، يبدأ بسرد حكاية ما، طرفة، تجعله يبدو كحكواتي يستمتع بالسرد، مأخوذاً بما يعبر خياله من صور. هو أحد  هؤلاء السينمائيين الذين نالوا مرتين الجائزة الذهبية في مهرجان نانت الدولي للقارات الثلاث عبر سنواته الثلاثين. الأولى عن «قصة حقيقية» المأخوذ عن حكاية واقعية. والذي شارك أيضاً في «البندقية»، والثانية عن «دلبران». في الفيلم الأول، كان أبو الفضل جليلي يبحث عن صبي لبطولة العمل. لكن ما إن وجده حتى انجرّ شيئاً فشيئاً إلى مشاكله، تخلى عن فكرة الفيلم الأساسية وحاول مساعدة هذا الصغير البائس  ليتخطى محن الحياة. الفيلم الثاني يدور حول صبي أيضاً. نوع آخر إنما البؤس واحد. على الحدود الأفغانية الإيرانية، عند منطقة «دلبران» المعزولة في الصحراء،  أحد المعابر الرئيسة لتهريب اللاجئين الأفغان إلى داخل إيران، يعبر شاب يافع ويبقى في تلك المنطقة للعمل عند زوجين عجوزين محاولاً التملص من رقابة السلطات المكلفة منع «تهريب البشر». هذان العملان، كبقية أعمال جليلي، منعا من العرض في إيران.

فيلمان قديمان (1996 و2001) أتيحت رؤيتهما من جديد في إطار الاحتفال بثلاثينية مهرجان نانت، فقد عرضت كل الأفلام الفائزة على مدى ثلاثين سنة. هل كان ليغير فيهما شيئاً لو حققهما الآن؟ «عمر الخيام قال ما معناه «ما مر قد مر وما سيأتي سيأتي». لا أنظر إلى الوراء». يجيبنا ونحن نسير في شوارع نانت، ثم يعود بصوته الجميل إلى دندنة أغنية تراثية إيرانية. ويتبعها بتلاوة متقنة لآيات من الذكر الحكيم.

ندخل قاعة العرض حيث ينتظره الجمهور ليقدم عمله «دلبران». يبدأ الكلام بالمجاملات المعهودة «أنا سعيد لكوني هنا» و... «ثم حين تطرأ مشكلة ما تعيق عملي ولا أجد حلا لها، أطلب الحل من الله. أثناء تصوير « دلبران» قرب الحدود مع أفغانستان، لم أجد امرأة عجوزاً للقيام بالدور النسائي، استنجدت بالله، وسمعت»: كف عن النظر نحو الأعلى وانظر إلى جانبك فالشخص القادم هو الحل».  ضحك الجمهور من العبارة الطريفة، ابتسم وقال: «لمَ تضحكون؟! هذا ما حصل فعلاً. أطلت سيارة قديمة وهبطت منها عجوز مع عصاها وقالت لي أنها جاهزة للعمل معي!».

حين كان أبوالفضل يصف الموقف، كان يسرد الحكاية كأنها صور متتابعة من مشهد سينمائي. «قدمت سيارة، توقفت فجأة أمامي، فتح الباب، أنزلت عصا، تبعتها ساق...».

في لقائي معه، قلت له إن الحكاية تبدو وهو يرويها على المستمعين كمشهد سينمائي. التفت نحو المترجمة منبهاً «سؤال ممتاز! عليك الترجمة الآن بطريقة دقيقة!». فكر للحظات، ثم استرسل بهدوء: «أتساءل باستمرار، كيف بمقدوري أن أعبرعن فلسفتي في الحياة، فالسينما قد تضعف أحياناً في التعبير عن القضايا الفلسفية ولذلك فإن كل ما لا استطيع تمريره من خلال الفيلم، أحاول الكلام عنه. كما أن ثمة رغبة دائمة لدي في شكر هؤلاء الذين يأتون لحضور فيلمي. لقد أعطوا وقتهم وجهدهم لرؤية ما فعلت، وأسعى إلى أن يكتسبوا شيئاً ما من عملي، أو على الأقل أن يسعدوا بمشاهدته. عبر سردي قبل الفيلم، أحاول بطريقة غير مباشرة أن أدخل المشاهد في عالمي. القصص التي أحكيها تختلف باختلاف الجمهور الذي أتوجه إليه».

اسألوا من يمنع؟

إذا هل ثمة مخاطبة مغايرة للجمهور الإيراني؟ يقول: «أفلامي لا تعرض في إيران. وباستثناء فيلم واحد لم يعرض أي من أفلامي الأربعة عشر. وحين أسأل عن السبب أجيب اذهبوا وأسالوا من يمنع!».

وحين نسأله إن كان ثمة تفسير شخصي له لهذا المنع، يرد «أنا إنسان مؤمن كما الآخرين في بلدي. ولكن هناك أهل الشريعة، وأهل الطريقة. أنا من هؤلاء الذين يحبون الله بقلبهم مثل الخيام، حافظ، سعدي... بعضهم يؤمن خوفاً، وآخر من أجل الجنة، والطرف الثالث لا يؤمن خشية أو رغبة أو بحثاً عن المزايا بل لأنه يحب الله  بقلبه. كرجل يحب إمراة لا لشكلها بل لشخصها. حين تكون لدي مشكلة أناجي ربي خلال الليل. وأحياناً تحل المشكلة، وفي أحيان أخرى يقول لي: «عليك بالتحمل بعض الشيء لتصبح رجلاً، وأقبل ذلك. ثم يعطيني نصيحة ثمينة» إليك وللقراء كذلك هذه العبارة. إذا حلت بك مصيبة ما فلا تقولي «يا الله لدي مشكلة كبيرة»، بل قولي للمشكلة «عندي رب كبير». الله هو خالق كل ما هو موجود على الأرض ولسنا سوى كاشفين له. لست بخالق بل كاشف».

ما يهم جليلي حقاً هو أسئلة الوجود والإيمان وهو لا يتابع السينما الإيرانية إلا فيما ندر، ومتابعته  لكياروستامي على سبيل المثال توقفت عند الأعمال الأولى لهذا المخرج وعند «أين منزل الصديق؟» تحديداً «ما يشغلني هو الفلسفة والأسئلة  حول الوجود والله».

وحين نعود أرضاً ونسأله عما سبق وكرره خلال لقاءاته مع الجمهور الفرنسي عن عدم تفضيله العمل مع محترفين في أفلامه، يفسر قائلاً: «المحترفون يؤدون العمل بطريقة عادية، يقبضون أجرهم عنه وينتهون منه. أما غير المحترفين، فهم كالعجينة التي يمكن تشكيلها كما نريد». إنه رأي قد يثير غضب هؤلاء، بيد أنه ينفي وجود أي مشكلة عنده مع المحترفين». ثمة البعض منهم في قسم من أفلامي. وهم يحبون العمل  معي لأن لديهم الرغبة في أن يكونوا هم أنفسهم كالعجينة. أحاول هذا معهم، ولكنهم كاللعبة المنفوخة ما أن تلمسها محاولاً تشكيلها حتى تنفجر! لذلك أقول للجيدين منهم، بأن علي أولا إزالة الهواء من دواخلهم قبل أن أعمل معهم. لقد عملت معي ممثلة يابانية معروفة في فيلمي الأخير «حافظ» ونجحنا معا ونال العمل جائزة». لدى جليلي مشاريع كثيرة وأفكار أكثر بيد أن  المال هو القليل!

قصة حقيقية

فجر يعقوب     الحياة     - 09/01/09//

يقدم المخرج الايراني أبو الفضل جليلي في فيلمه «قصة حقيقية» مأثرة تسجيلية سينمائية تدور أحداثها في إحدى ضواحي مدينة طهران من خلال حكاية الولد التركي الأصل صمد . وربما يكشف ولع المخرج هنا بحكاية هذا الولد نوعاً من سينما انتهجه لاحقاً مخرجون إيرانيون في بحثهم المستمرعن «أبطال» صغار لأفلامهم، من دون التقليل من شأن السينما نفسها في بلادهم في مرحلة مبكرة من تاريخها قبل أن تصل إلى حد التأزم الذي تبدو عليه. فما هو معروف حتى الآن على الأقل، هو عشق الفرد الايراني للفن السابع، وهو لا يدخر وسيلة من أجل حضور فيلم سينمائي مفرد أو بصيغة الجمع، حتى تكاد تقول بعض الاستبيانات أن معدل حضور الفرد الايراني للأفلام هو ثلاث مرات في الأسبوع، وهذه نسبة مرتفعة بالقياس إلى الكثير من دول العالم الثالث التي فارق الكثير من مواطنيها دور العرض والأفلام.

ولكن أبو الفضل جليلي الذي كرمه مهرجان نانت للقارات الثلاث هذا العام (25 نوفمبر - 2 ديسمبر 2008) هو ودزينة من المخرجين السينمائيين الذي أطلوا برؤوسهم عبر هذا المهرجان بالتحديد بمناسبة مرور ثلاثين سنة على انطلاقته يكشف عن تدهور أوضاع السينما في بلاده، فها هو يعود ليحيي المهرجان بفيلم بدا تلفزيونياً للغاية وقد استعان بمجموعة من طلابه «مجاناً» لينجزه، فيما سيكشف لنا من خلال قصة الولد التركي عن سيطرة التلفزيون وتأثيره الكبير في الحياة الايرانية، وهو يقود هذا الولد الفقير في أروقة المشافي الحكومية من أجل معاينة داء غريب أصاب ساقه اليسرى وأدماها، وهو حين كان يمنع من دخول هذا المشفى أو ذاك كان ينطق باسم التلفزيون مع أن فيلمه يصور بكاميرا ولغة سينمائيـة عاليـة لادراكه بالفـطرة قـوة وسيطرة هذا الجهاز الغريب في مواجهة الموظفين البيروقـراطيين الحكوميين والعقليات المتحجرة التي تتحكم بمؤسسات بلاده الصحية.

فيلم «قصة حقيقية» ربما يتنبأ بمآل السينما الايرانية، وبابعاد جليلي نفسه عن واجهة الفن الذي يحب، فيما هو يتسلى الآن بعمل بعض البرامج التلفزيونية هو ومجموعة من المخرجين الايرانيين الذين صنعوا لهذه السينما شهرتها في الخارج. ينتصر التلفزيون أحياناً في «معركة حقيقية» مع سينمائيين كبار، وقد تتراخى الأخت الكبرى في مواجهته أحياناً أخرى، ولكن قدر الأخ الصغير في مواجهتها له شأن آخر لا يقلل جليلي من قيمته أبداً.

الحياة اللندنية في 9 يناير 2009