يعتبر
فيلم «غومورا» امتداداً نزيهاً وواضحاً للسينما البديلة. فهو بجمالياته
الجديدة، وبوسائل التنفيذ التي استحدثها والتي جعلته أقرب الى الفيلم
التسجيلي والوثائقي أكثر مما هو فيلم روائي، أعاد السينما الى وظيفتها
الحقيقية. فالسينما عندما ولدت، لم تكن أداة لتصوير نجوم المجتمع، ولم تكن
بديلاً للكابريه، ولم تكن متنفساً للحاجة الى الحركة واستعراض سادية الحكام
والعصابات ورجال البوليس، كما أنها ليست فقط سينما البدعة أو عملاً منافياً
للأخلاق، بل ان لهذه السينما البديلة تاريخاً لا يقل أهمية عن تاريخ
السينما التقليدية.
الفيلم هو
رحلة مرعبة في تاريخ واحدة من عصابات الإجرام المنظم وتاريخها المليء
بالتفاصيل اللانهائية عن الأشخاص والوقائع، وهي على صخبها كأختها عصابة
المافيا، كتومة وغير ناطقة، إلا أن هذا الفيلم جاء ليكشف بصوت عال ومفضوح،
عن واحدة من امبراطوريات الرعب والقتل والمال في شبه الجزيرة الإيطالية.
فيلم «غومورا»
الذي اعتمد العامية النابوليتانية تمت ترجمته الى الإيطالية للمشاهدين
الايطاليين، والذي حققه للسينما المخرج الإيطالي ماتيو كارونه (36 سنة) عن
كتاب بنفس الاسم «غومورا... رحلة في الإمبراطورية الاقتصادية وحلم سلطنة
الكامورا»، يقوم على سيناريو كتبه ماوريتسيو باروجي، حيث اختار ست قصص
متداخلة من سياق الكتاب، لتقديم فكرة متكاملة عن المجتمع الذي تعمل من
داخله الجريمة المنظمة. والعنوان هو ترجمة حرفية لكلمة» عامورا» وتحريف
لكلمة « كامورا» قام بكتابته عام 2006 روبيرتو سافيانو( مواليد نابولي
1979) الذي تخرج من كلية الفلسفة، من إحدى جامعات نابولي، ويعيش بعيداً من
مدينته بعد أن هددته عصابات الكامورا التي تنتشر في مقاطعة كامبانيا
وعاصمتها الإقليمية نابولي. الكاتب الشاب المتخفي هددته العصابات بالقتل،
لأنه تجرأ على فضح أعمالها وعلاقاتها وارتباطاتها وزعماءها الحاليين
بالأسماء وبالأرقام والعناوين، وفضح وبجرأة كبيرة عالم الأعمال الخاص بها،
بعد ان قام بنشر هذا الكتاب الذي تجاوزت مبيعاته اكثر من مليون نسخة في
عموم البلاد، وهو يجمع العديد من الوثائق والمعلومات والأسماء والأماكن
والأسرار في هذا الشأن، لأن الكاتب نفسه عاش زمناً بين صفوفها بعد أن ولد
وترعرع في الأحياء التي تهيمن عليها وتسيّر من خلال بيوتها وأزقتها الضيقة،
أعمالها وعلاقاتها.
حياة سرية
يعيش
سافيانو الآن متخفياً ومتنقلاً بالسر تحت حماية مجموعة من رجال الأمن
الإيطاليين، بعد ان هدده زعماء هذه العصابة الإجرامية بالانتقام عاجلاً أم
آجلاً. وقد اصدر مجموعة حملة جائزة نوبل للسلام ومنظمات ومؤسسات محلية
وعالمية مذكرات تضامن واستنكار الى السلطات الإيطالية من اجل حماية هذا
الكاتب، بعد ان اعترف أحد التائبين من أفراد العصابة بوجود مخطط لتصفيته
وبأي ثمن.
لعل
الملاحظة الأولى التي يخرج بها مشاهد فيلم «غومورا» تكمن في ميله اليساري
الإنساني وكيفية تعاطيه بأسلوب تسجيلي يسمّر المشاهد أمام واقع واضح ومرعب
في آن واحد، وهو يرسم الملامح القاسية للمعاناة التي تخلقها الجريمة
المنظمة في مناطق الجنوب وكيف تغلغلت كالأخطبوط الى داخل المجتمع الإيطالي،
بدءاً من الأحزاب السياسية، الى البلديات والأقاليم ومروراً برجال الأعمال
والكنيسة والذين لا يريدون رؤية خفايا منظمة إرهابية تزرع الرعب في كل
مكان.
تدور
أحداث الفيلم في ضاحية «سكانبيا» الشعبية التي تطل على مدينة نابولي، والتي
بنيت للعوائل الفقيرة في بداية السبعينات من القرن الماضي، ليستعرض للمشاهد
صورة قريبة لعائلات هذه العصابات التي تتوافر لديها مبالغ طائلة من الأموال
«غير الشرعية» وهي تحاول «تنظيفها» من طريق استثمارها في النشاطات الشرعية
حيث يرافق التوسع في سوق المخدرات، ثراء فاحش وتنام مستمران، وهؤلاء الناس
في هذه المجمعات السكنية الكبيرة، ما زالوا يدورون في العجلة التي يشرف
عليها زعماء العصابة، غير آبهين بالنتائج. فعصابة «الكامورا» في رأيهم
قادرة على حماية من ينصاع لها والى مصالحها من دون اعتراض أو انتقاد، سواء
تحت الضغط والخوف من انتقام الزعماء أو باقتناع وبدافع اتفاق المصالح. انهم
في كل زاوية من زوايا هذه المقاطعة الجنوبية «كمبانيا» التي تعيش الفاقة
والفقر وتملأ شوارع مدنها تلال من النفايات، ويقتل بمعدل ثلاثة أشخاص
يومياً، ضحايا الجريمة المنظمة، مستعدون على الدوام بتقديم الفرش النظيفة
والوجبات الساخنة والكثير من الاحترام لكل زعيم من زعماء هذه العصابات وهو
يدخل أحد البيوت. فالواجب يقضي باستضافة هؤلاء ولا يسع أحد من الأفراد ان
يحرز من كان ذلك الشخص الذي كان عليه واجب استقباله، بل المهم هو إبداء
الولاء. أما من يحاول الانفراد بعمله الإجرامي بعيداً من إرادة الزعماء
وبعيداً من تنظيماتها ومهماتها، فمصيره التصفية الجسدية. وفي مجتمعات كهذه
تعيش في ظل مؤسسات رسمية عاجزة عن إيجاد حل لمشكلة الرغيف، لا يستطيع
المواطن ان يتفاءل بمستقبل مغاير غير الذي ترسمه عصابات الجريمة المنظمة،
ويكون الأطفال أول ضحايا هذه القاعدة المأسوية، التي تخلف وراءها جيلاً من
الأطفال والصبيان الذين لم يكملوا عاماً دراسياً واحداً والذين، ان لم
يهاجر السواد الأعظم منهم، تحولوا الى ممارسة مهنة الجريمة، بعد ان وجدوا
أنفسهم عاطلين من العمل.
نشاط مكثف
لقد قيل
الكثير عن نهايات عصر عصابات الإجرام المنظم على الساحة الإيطالية، وبأن
العرابين قد ماتوا ولم يبق منهم سوى أفلام السينما التي تحكي قصصهم. وأيضاً
انه لم يبق من العراب الشهير «دون كورليونه» إلا صوته المبحوح وصورة
«مارلون براندو» الذي مثل دوره في الفيلم الشهير «العراب». هذا القول عن
زمن هذه العصابات قد ولى وانقضى، فالجريمة المنظمة لم تكن في أي فترة من
تاريخها اكثر قوة وفاعلية وحضوراً أكثر مما هي عليه اليوم، هذا ما يريد ان
يقوله هذا الفيلم. فعصابات «الكامورا» زادت من حد اختصاصاتها، فبعد ان كانت
تهتم خصوصاً بتجارة المخدرات وفرض الأتاوات ثم الرشاوى، أصبحت الآن مثل
عصابات المافيا في جزيرة صقلية، اكثر فعالية في ميادين تبيض الأموال
والإرهاب والاختطاف وتجارة الأعضاء البشرية وتجارة السلاح والدعارة وتهريب
الآثار.
يقول لنا
الفيلم، إن عصابات الكامورا التي تنشط بضواحي مدينة نابولي، منظمة فريدة من
نوعها، وهي متشعبة وليس لها قيادة موحدة، انها تعتمد على العنف والتضامن
العائلي، وهي كذلك موزعة على مجموعات أسرية أو عضوية، وغالباً ما تكون هذه
المجموعات في حال من التنافس والحرب في ما بينها، مستفيدة من الذهنية
السائدة التي تمارس نشاطات غير قانونية عدة، وتتحكم بقسم كبير من السوق
المحلية السرية للمخدرات، وكيفية نقل ودفن النفايات السامة، الأمر الذي أدى
الى تسمم أراض زراعية كثيرة في مناطق الجنوب الإيطالي، وإشاعة أمراض
سرطانية متفرقة. كما تقوم عصابة الكومورا بتجارة النسيج، والهيمنة على
العمالة الأجنبية، وكيفية تهريب البضائع الصينية، وكيف تنتج الملابس لتباع
في أسواق الأزياء المحلية والعالمية، وتجارة الإسمنت المهرب، وإخفاء
الأسلحة الآتية من بلدان أوروبا الشرقية، وعقد صفقات مع عصابات من أميركا
اللاتينية ومنظمات من نيجيريا، إضافة الى عمليات غسل الأموال من خلال بيع
الالماس وإنشاء واجهات قانونية مثل المتاجر والحانات والمراكز السياحية في
عدد من بلدان أوروبا. هذا الى جانب سيطرة الكومورا على علب الليل ومحلات
الألعاب. فالصراع داخل هذه العصابة، هو صراع بين جماعة وأخرى، إلا ان
الجماعات هذه، تخضع لنظام يقوم على سلم طبقي، على رأسه بطل بطريركي، هو
الأب الروحي أو السلطة العليا.
تقود
المشاهد في قراءته للفيلم معان مضمرة خطيرة، تكشف له عن مرامي مثل هذا
العمل الفني الرائع الذي لا يصنعه مخرج تقليدي ولا يؤدي أدواره ممثلون
محترفون، إذ ان المخرج استخدم الناس الذين يعيشون في هذا المجمع السكني
الكبير، كممثلين. بعضهم كانت له علاقة مع جماعات الكومورا، ومنهم شابان
مراهقان رفضا الانضمام للعصابة وفضلا السرقة وابتزاز الآخرين، إلا ان
رفضهما كان ثمنه تصفيتهما جسدياً من قبل رجال العصابة.
يذكر ان
الفيلم فاز بإحدى جوائز مهرجان «كان» السينمائي في دورته الأخيرة الواحدة
والستين، كما عرض أخيراً في مهرجان دبي السينمائي الدولي، وفاز بجوائز
محلية إيطالية عدة، ودخل المنافسة للحصول على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم
أجنبي.
الحياة اللندنية في
9
يناير 2009 |