بالرغم من أن الإعلان عن مهرجان القاهرة السينمائي يسبق البداية الفعلية لمراسم حفل الافتتاح والفعاليات التي تلحقه، إلا أن الثابت في كل عام هو تأخر الأفلام المصرية في التقدم للمسابقة، وكالعادة ينتحل المنتجون والمخرجون الأعذار ولا يجدون شيئا يبررون به التأخير غير عدم الانتهاء من تحميض الأفلام وطبعها أو عطل في أجهزة المونتاج أو غير ذلك من الحجج الواهية غير مكترثين باللوائح والقوانين التي تحتم التقدم بالأفلام للمسابقة قبل وقت كاف من بداية الدورة متكئين في ذلك على ما تمنحه إدارة المهرجان من تسهيلات للفيلم المصري بصفة خاصة ليكون جاهزا لتمثيل بلاده في مهرجانها الدولي، حيث لا يجوز أن تستقبل الدولة المضيفة كل أفلام العالم، فيما تبقى هي نفسها خالية الوفاض تبحث عن فيلم جيد يمثلها، والحقيقة أن هذه الإشكالية باتت لزمة أساسية من لزمات المهرجان تتكرر كل عام وعادة لا تنقطع برغم توصيات اللجنة العليا واللجان المنبثقة عنها بضرورة استيفاء الشروط الخاصة بالمشاركة المصرية مبكرا إسوة ببقية الدول، ولكن مع كل هذا التشديد تظل المشكلة قائمة ولم يعد أمام الإدارة الموقرة غير الانتظار بوصفه علاجا مثاليا لهذه الحالة المستعصية التي يقابلها بالطبع مساوئ وأضرار تتمثل في سرقة الأضواء من الفيلم المصري وذهابها إلى افلام أخرى يتم التركيز عليها في التغطيات الصحافية والإعلامية تشتم رائحة تميزها بعد مشاهدتها مباشرة من قبل لجنة المشاهدة وتتسرب أخبارها فتصبح في موقع الصدارة مثل الفيلم الإفريقي 'الرسول' ونظيره الآخر ثلاث قرود، والأخير سبق عرضه بمهرجان دمشق بسورية الذي انتهت فعالياته مؤخرا ولاقى استحسانا كبيرا، وفي غمرة السباق تبرز السينما العربية بشكل خاص في هذه الدورة، لا سيما أنها تخلصت من عقدة التحفظ وصارت تطرح بجرأة قضايا مهمة في مرمى الأنظمة وتسجل عليها نقاط بعد فترة طويلة من السكوت الموحي بالضجر وهو ذاته العنوان المستخدم في أحد الأفلام السورية 'أيام الضجر' للمخرج عبداللطيف عبدالحميد، إذ يطرح الفيلم رؤية تميل إلى محاكمة فترات سابقة من الحكم السوري ترجع إلى عام 58، حيث يتحفظ عبدالحميد على مشروع الوحدة المصرية ـ السورية لكونه مشروعا لم يكتمل كانت سلبياته أكثر من إيجابياته حسب وجهة نظره التي لا تنطوي على عداء للمشروعات ولكنها تعبر عن صدمة فنان قومي بنى آمالا عريضة على الوحدة ولم تتحقق.

ولكون السينما السورية محببة لدى الجمهور المصري برغم ما يبدو من تنافس شائك استضاف المهرجان فيلم 'حسيبة' للمخرج ريمون بطرس والذي تدور أحداثه في الفترة ما بين 1927 ـ 1950، حيث يتم رصد التحولات السياسية والاجتماعية بهذه الحقبة من خلال عدد من النساء الدمشقيات تنعكس عليهن تلك التحولات بشكل واضح وتغير الكثير من واقعهن تغيرا ايجابيا، ويعتمد المخرج في تجسيد رؤيته الدرامية المأخوذة عن رواية للكاتب خيري الذهبي تحمل نفس العنوان على المكان كبطل حقيقي للأحداث يصور عبر شوارعه وحواريه جماليات دمشق المعمارية وعراقة حضارتها، وفيما تتجلى محاسن السينما السورية على هذا النحو تقفز قضايا السينما الفلسطينية بزخمها الثوري في فيلمين هما 'عيد ميلاد ليلى' للمخرج رشيد مشهراوي، و'ملح البحر' إخراج 'آن ماري جاسر'، فالأول تدور أحداثه حول أبو ليلى، القاضي الذي يعيش في رام الله ويعاني من التناقضات الاجتماعية والسياسية التي تضطره إلى العمل كسائق تاكسي، يطول بنا القاضي السائق في رام الله لمدة يوم كامل لنتعرف على نمط الحياة في تلك المدينة الباسلة وكيف أن سكانها يعيشون ظروفا قاسية لكنهم يصرون على البقاء والعمل والكفاح، الفيلم الثاني لآن ماري تدور قصة حول 'ثريا' الفتاة الجميلة إبنة الطبقة المتوسطة التي كانت تعيش في المهجر ثم عادت بعد وفاة جدها لتبحث عما تركه من ممتلكات، وفي هذا الإطار تتداعى المواقف والحوارات ونقف على المضمون العام للفيلم وهو أن أبناء المهجر لديهم إنتماء كبير أيضا لموطنهم الأصلي فلسطين برغم المسافة الفاصلة بينهما، تأتي كذلك السينما الجزائرية حاضرة تماما في المشهد الفني فهي تشارك بثلاثة أفلام من بينها فيلم 'قضية رجال' إخراج أمين قيس وهو يعتمد على الأسلوب البوليسي المثير فبطلة فجر خاص يعيش في نيويورك يظل طوال الوقت يبحث عن مرتكب جريمة قتل في حادث غامض وملابسات أكثر غموضا، يرمز الفيلم إلى حادث تفجير المركز التجاري العالمي.

ومن تونس والمغرب والبحرين تتوافر أفلام على مستوى عال من الجودة والتقنية الفنية تتجه نحو النقد السياسي ايضا فهناك فيلم يحمل عنوانه 'رقم واحد' للمخرجة زكية الظاهري وهو اسم يشير إلى البطل، صاحب مصنع للملابس الجاهزة يعتبر نفسه الشخص رقم واحد في المصنع وما دونه أصفار على الشمال وهي دلالة درامية لها معناها السياسي المعادي للرأسمالية المستغلة ترفضها بوضوح المخرجة المغربية، كما يعرض فيلما تونسيا آخر بعنوان 'الحادثة' للمخرج رشيد فيرشيو لا يعدو كونه فيلما بوليسيا يجمع بين الإثارة الدرامية التأثيرية ومشهيات السينما التي تعتمد على قصص الحب العاطفية، غير أنه يطرح على هامش أحداثه فكرة الجمع بين الزوجة والحبيبة في إيحاء وهمي إلى أن الأحداث ترمي إلى أبعد من ذلك، تبقى البحرين التي تشارك بفيلم وحيد هو 'أربع فتيات' للمخرج حسين الحليبي يتناول حياة أربعة من الفتيات يتمردن على تقاليد المجتمع البحريني ويقمن بالعمل اليومي الشاق رغبة منهن في المساواة بالرجل فيتعرضن إلى نقد شديد من أهلهن وذويهن ومع ذلك يواصلن كفاهن ويعلن استقلالهن بعيدا عن دولة الرجل وقوانينه.

وتمثل معظم الأفلام العربية المرشحة للمشاركة في المهرجان إتجاها معارضا للثقافة السائدة يعتقد أن يمتد طويلا ويخلص السينما العربية من كتبها وكلاسيكيتها ويجعلها أكثر انفتاحا على الجمهور العالمي، خاصة لو تم التغلب على عوائق اللهجة.

القدس العربي في 7 يناير 2009