يعبر فيلم
"الوعد" عن مدى ما بلغه كاتبه وحيد حامد من خبرة عميقة فى الحياة والفن على
السواء، يعبر عن تأملات فى العالم والمجتمع الإنسانى بقدر ما يعبر عن مقدرة
متميزة فى التجسيد الدرامى للتأملات والملاحظات والأفكار.
فيلم
"الوعد" من هذه الناحية شأنه كمجمل الأفلام التى كتبها وحيد حامد فى
السنوات الأخيرة، مثل فيلمه السابق "الأولة فى الغرام" إخراج محمد على ومن
قبل "دم الغزال" إخراج محمد ياسين الذى أخرج "الوعد" أيضاً، و"عمارة
يعقوبيان" إخراج مروان وحيد حامد عن النص الروائى اللامع لعلاء الأسوانى.ولوحيد
حامد رحلة طويلة فى تأمل الحياة بتعمق والتجسيد الدرامى بتفوق، فمن ينسى
رائعته "أنا وأنت وساعات السفر" (أداها فى مسلسل بديع بالراديو محمود مرسى
وسهير البابلى، وأداها فى فيلم ممتع يحيى الفخرانى ونيللي)، أو مسلسله
الأخاذ فى التليفزيون "سفر الأحلام" إخراج سمير سيف، (بطولة محمود مرسى
أيضاً) ومن ينسى تجسيده الدرامى البليغ لمعنى سقوط الطاغية فى أعقاب مصرع
السادات من خلال عمله ـ مسلسل الخامسة والربع بإذاعة البرنامج العام ـ
"قانون ساكسونيا" وقد كان أول تجسيد درامى عن رؤية لترديات عصر السادات،
مثلما كان ـ فى نفس اللحظة المبكرة ـ "خريف الغضب" لمحمد حسنين هيكل هو أول
دراسة علمية عن هذا العصر وتلك الترديات.
ويتعاون
وحيد حامد فى أعماله الأخيرة مع جيل جديد من المخرجين، مثل محمد ياسين
ومحمد على وابنه مروان حامد وغيرهم، وكلهم من المخرجين الموهوبين الذين
لديهم ما يضيفونه لنص ورؤية المؤلف الكبير، بمزيج لديهم من التمكن الحرفى
وروح حداثة لجيل شاب طامح إلى التطوير والتجديد.
تنطلق
الرؤية فى فيلم "الوعد"، ويكون تجسيدها، من خلال صداقة مدهشة تنشأ بين شيخ
وشاب، هما "يوسف" (محمود ياسين) الشيخ المنسحب من الحياة والعمل، من الحياة
بحكم المرض العضال الذى حكم عليه بموت عاجل ينتظره، والمنسحب فى الآن ذاته
من العمل كعضو انضوى طويلاً ضمن منظومة أو مؤسسة إجرامية مترامية الأطراف،
و"عادل" (آسر ياسين) الشاب الذى يتعرف على يوسف فى استهلال الفيلم ويعمل
بذات المنظمة، قادماً إليه بمبلغ كبير من "السحراوي" رئيسها (غسان مسعود)،
والذى كان "ضابط مباحث سابق" وخرج من المؤسسة الأمنية ليحكم وليصبح مؤسسة
وحده، خارجة على الأمن وكل شيء ويشمل نشاطها كل شيء وتقترف أى جرم، ويصف
يوسف المبلغ بأنه (مكافأة نهاية الخدمة إذن!).
لكن الشيخ
يفاجأ الشاب بأنه يهبه هذا المال، أو بالأصح معظمه، ماعدا ما يكفى لتكاليف
دفنه على نحو خاص يحدده: (أريد أن أدفن فوق ربوة عالية.. تطل على بحر..)،
فهو كما يقول قد عاش الحياة على نحو لا يحبه تماماً.. ويريد على الأقل أن
يكون موته ومثواه على الشكل الذى يحب!.
ولا يطلب
يوسف من عادل بعد ذلك سوى أن يسأل عنه بالتليفون مرتين يومياً، حتى إذا
اكتشف أنه مات (سواء بالمرض أو على يد رجال السحراوى.. والاحتمال الأخير هو
ما سوف يحدث!)، لا تستمر جثته بغير دفن ليوم واحد، فعليه أن يجهز متطلبات
الدفن.. والصندوق.. وهنا يكتشف عادل أن يوسف قبطى (إنه يوسف غبريال)،
وتستمر الصداقة بل تصبح أمتن يوماً عن يوم.. فى تعبير بسيط وآسر عن صداقة
بين مسلم وقبطى، دون أى صخب أو افتعال أو حديث ممجوج عن وحدة وطنية
بالأسلوب المعهود.. إن تعبير الفيلم جاء فى ذلك طبيعياً ناعماً مدهشاً، كما
لو أنه غير مقصود!.
وهنا
يتعرف على الشاب "جرجس" (أحمد عزمي) الذى يعمل فى دفن الموتى الأقباط، وهو
دور ليس كبيراً لكنه يظل نموذجاً بشرياً درامياً فى الذاكرة، سواء "كتركيبة
شخصية" يتقن الفيلم صياغتها أو كأفضل أداء لممثل الدور.
ونسمع على
لسان يوسف، المسن المجرب الآفل، نصائح لعادل الشاب الذكى الطامح، هى من
أجمل ما كتب وحيد حامد من حوار، فى بعض أجمل مشاهد الفيلم تمثيلاً
وإخراجاً، وهى نصائح سوف تؤثر لاحقاً فيما تبقى من الفيلم، وسوف تقود
"عادل" على نحو أو آخر إلى مصيره.
ولعل هذا
القسم ـ الأول ـ من الفيلم هو أثمن ما فيه، على الرغم من الجهد الملحوظ
المبذول بعد ذلك فى الفيلم، من قبل جميع المساهمين فى العملية السينمائية
الفنية التى أدارها بتمكن كبير المخرج محمد ياسين، فى أحسن أفلامه كمخرج
حتى الآن، سواء فى المشاهد ذات الطابع الإنسانى الأخاذ، أو فى تجسيد الصراع
بين عادل و"السحراوي" الذى يستغرق معظم الفيلم بعد ذلك، والمتضمن لمطاردات
ومعارك "أكشن" متقن، وهروب لعادل من مصر إلى المغرب، بمبلغ ضخم من المال
طارده السحراوى من أجله، ثم عودة من المغرب إلى مصر وما جرى أثناء ذلك كله
من تعرف على امرأة أحبها عادل هى "فرحة" (روبي) فى مصر وعلى أخرى مغربية
ساعدته فى المغرب، ذبحت ودفعت حياتها ثمناً لهذه المساعدة على يد مجرمين
متعاونين مع السحراوى فى "طنجة" والمغرب.
إن
"الوعد" يؤكد على امكانات المخرج محمد ياسين، ومقدرته فى إدارة العناصر
الفنية للفيلم، والتى حفلت ببعض أفضل وأقدر الموهوبين فى المجالات
المختلفة، فى التصوير (محسن أحمد)، والمونتاج (معتز الكاتب)، والديكور (رامى
دراج) والموسيقى (تامر كروان).
أما فى
التمثيل فقد قدم محمود ياسين أداء ممتعاً راقياً، يذكرنا بأدائه الذى كان
الأداء الأفضل والأجمل فى فيلم "الجزيرة" بالعام السابق ـ رغم أنه ليس
الدور الرئيسى فى الفيلمين ـ مؤكداً محمود ياسين بذلك أنه أكثر أبناء نجوم
وأعلام جيله من الممثلين الرجال ليس فحسب حفاظاً على المستوى الكبير، وإنما
بلوغاً لدرجة مدهشة من النضوج.. وعلى صناع السينما المصرية ومنتجيها أن
يلاحظوا ذلك، وأن يفردوا له أفلاماً يقوم ببطولتها، وأن يعلموا أنه إذا
توفرت له الأفلام المناسبة فإنها سوف تعجب الجمهور بقدر ما ترضى النقاد
وسوف تحقق الإيرادات بقدر ما تحظى بالتقدير والاعتداد.
وبالإضافة
إلى التمكن المعهود وخصوصية الثقل والتاثير لغسان مسعود، والدور والأداء
اللافت لأحمد عزمى كما أشرنا، فإن روبى التى كانت اطلالتها الأولى فى فيلم
شاهين "سكوت هنصور"، أكدت فى "الوعد" أنها ممثلة قابلة للنضج والتطور
والاحساس المتزايد بجوهر ومكونات الشخصيات التى تؤديها، وسوف يعطيها هذا
الفيلم ثقة بنفسها كممثلة وليس فحسب كنجمة غناء لامعة فى لون الغناء الخفيف
الممزوج بالاغراء، أما آسر ياسين فبعد أن لاحظنا مقدرته كممثل متميز بدءاً
من المسلسل التليفزيونى "عمارة يعقوبيان" ووصولاً إلى فيلمه السابق "زى
النهارده" عام 2008 ايضاً، فإننا نجده فى "الوعد" قد حصل على أكبر مساحة فى
عمل حتى الآن، وتحمل عبئه الأساسى ووفق بدقة أداء واقتدار، حتى أننا لنعتبر
"الوعد" هو ميلاده كنجم جديد يضاف لأهم نجوم السينما المصرية المعاصرين،
ولعله أهم ميلاد لنجم (سوبر ستار) منذ أحمد السقا فى فيلم "شورت وفانلة
وكاب".
العربي المصرية في
6
يناير 2009 |