ضمن
فعاليات معرض الدوحة للكتاب الذي افتتح قبل أيام، نظمت سلسلة ندوات فكرية
حول النظرة العربية الى أميركا، شارك فيها عدد من الباحثين والمفكرين
العرب، وألقيت خلالها بحوث ومحاضرات حول نظرة العرب الى أميركا ماضياً
وحاضراً، في الفنون والآداب. هنا مساهمة في الحديث عن نظرة السينما
العربية، تنشر «الحياة» أجزاءها الرئيسة:
في بداية
هذا الحديث خبر سينمائي من مصر: هناك الآن مباحثات بين دار الشروق، وشركة
مصر العالمية للسينما، تتعلق بالشراكة بين المؤسستين في إنتاج فيلم سينمائي
مقتبس من رواية «شيكاغو» للكاتب علاء الأسواني.
وسأقول
الآن فوراً لماذا يصلح هذا الخبر بداية الكلام عن النظرة التي تحملها
السينما العربية، في شكل عام، الى أميركا... وسأقول أيضاً لماذا يحمل هذا
الخبر كل أهميته، وهو أمر أعتقد أن في إمكان الذين قرأوا الرواية أن يخمنوه
منذ الآن. فرواية «شيكاغو» هي في نظري، من الأعمال الفنية الأدبية العربية
الأولى التي ألقت على أميركا نظرة ذكية، تفصيلية وبالتالي منصفة، بل لعلها
تكون الجواب الواضح والعربي الممكن عن السؤال الذي راح الأميركيون يطرحونه
على أنفسهم غداة كارثة العمليات الإرهابية في نيويورك وواشنطن يوم 11 أيلول
(سبتمبر) 2001: لماذا يكرهوننا؟ ومن ناحية أخرى، تكاد الرواية التي هي الآن
على وشك أن تحول الى فيلم سينمائي، أن تكون نوعاً من إعادة التوازن الى ذلك
المد العربي الهائج المائج الذي تلى حادثة، لا أود على أي حال أن أتوقف
عندها كثيراً هنا: حادثة ذلك المواطن العراقي الذي رمى رئيس الولايات
المتحدة جورج دبليو بوش بحذاءيه قبل أسبوعين أو أكثر. لا أود التوقف عندها
مع ان في وسعها أن تخدم كثيراً في تبيان موضوعنا وذلك لسبب واضح: للحادثة
ظروفها الخاصة (نظرة مواطن عراقي الى احتلال الأميركيين بلاده)، في الوقت
نفسه الذي يمكن جزءاً أساسياً من ردود الفعل العربية عليها، أن يدخل في
سياق هذا الحديث. من هنا بدلاً من أن نحول هذه الجلسة الى كلام معظمه
مستهلك ومن المستحيل أن يكون فيه جديد حول هذه الحادثة بالذات، آثرت فقط أن
أشير الى الأمر آملاً أن يكون نقاشنا حول النظرة العربية في السينما الى
أميركا شيئاً آخر تماماً.
والآن
لماذا أرى أن نظرة «شيكاغو» - رواية الآن وفيلماً في ما بعد - الى أميركا،
نظرة منصفة، ببساطة لأن السينما العربية في تعميماتها المعتادة قدمت في
معظم الأحيان - على أي حال، في الأفلام القليلة التي تحمل مثل هذه النظرة -
صورة لأميركا اختزالية، وأكاد أقول موروثة في جذورها من أيام الحرب
الباردة: صورة تفترض أن أميركا هي السلطة الأميركية ووكالة الاستخبارات
المركزية الأميركية وأيديولوجيا الحلم الأميركي التي تسوّق من حين الى آخر،
في السينما الأميركية نفسها، وكذلك في انتشار كل ما هو أميركي في شتى أنحاء
العالم: من الكوكاكولا والماكدونالد والسراويل الجينز وما الى ذلك.
«شيكاغو» تأتي لتقول الى حد ما، شيئاً مغايراً: كل ما ذكرناه أعلاه هو جزء
من أميركا، وجه من وجوهها، ولكنه ليس كل أميركا. ونحن نُسقط نظرتنا على ذلك
الجزء نميل عادة الى التعميم. «شيكاغو» لا تعمم. هي تنظر الى وجوه أميركية
متعددة وتفرّق بينها. «شيكاغو» تعرف أن أميركا، مثل أي شيء في العالم، وقبل
كل شيء في كل زمان ومكان، فيها كل شيء، ومن الظلم، والحمق أيضاً، اختصارها
في وجوهها القبيحة فقط، كما يفعل عدد كبير مما يسمون بالمحللين الصحافيين
والخبراء الذين يكثر في زماننا هذا استدعاؤهم الى شاشات التلفزة ليتحدثوا
عن أميركا. ولعل الأسوأ والأقل إقناعاً - من ناحية المنطق، لا من ناحية
التعبئة الشعبوية - هم أولئك الذين درسوا في أميركا ونهلوا من علم جامعاتها
ومن الحرية الداخلية التي تلقنهم إياها حياتها الاجتماعية، ليقولوا فيها ما
إن يحصلوا على ذلك كله، ما لم يقله مالك في الخمر.
من
المسؤول؟
طبعاً لا
يمكننا أن نزعم هنا أن السينما، أو السينمات العربية، هي المسؤولة عن تلك
النظرة. ولكن من المؤكد أن هذه السينمات لعبت دوراً أساسياً في انتشارها.
وعلى الأقل حتى اللحظة التي عرض فيها يوسف شاهين، مخرجنا العربي الكبير
الراحل، فيلمه المميز «اسكندرية/ نيويورك»، إذ هنا في هذا الفيلم، عرف
شاهين كيف يفرق بين وجوه عدة لأميركا، غير أن هذا التفريق ظل عند مستوى
الحنين الى زمن مضى. كان سؤاله: أين هو جمالك الغابر يا أميركا - من خلال
اطلالته على نيويورك وصراعه مع ابنه الأميركي -؟ وآه كم أن الفوارق كبيرة
بين ماضي أميركا وحاضرها. إذاً في هذه النظرة، كان ثمة بعد، مجال لمسايرة
النظرة الشعبية العربية الى أميركا. ومن هنا لا بد من انتظار «شيكاغو» على
الشاشة الكبيرة، حتى نصل - لو حقق الفيلم أميناً للرواية، في هذا المجال
على الأقل - حتى نحصل على نظرة أكثر إنصافاً. وربما حتى نعثر على معادلة
لنظرة أخرى ألقاها فيلم جديد لبناني - انتج شراكة مع مصر - هو «دخان بلا
نار» على أميركا، من خلال حكاية لسنا ندري ما إذا كان لها أصل واقعي في
التاريخ اللبناني الحديث: حكاية حراس السفير الأميركي في بيروت وهم يطلقون
النار كيفما اتفق ويردون الناس قتلى في شوارع بيروت والجبل لمجرد الاشتباه
بكونهم إرهابيين.
أنا لا
أدري إذا ما كان شيء مثل هذا قد حدث حقاً، لكنني أعرف انني في العروض التي
شاهدتها لهذا الفيلم، مرة في أبو ظبي ومرة في بيروت، لمحت أمارات الارتياح
والتشفي على وجوه المشاهدين، ما يبين طبعاً أنهم يوافقون على هذا الاتهام
المباشر للأميركيين في فيلم آت من لبنان...
وهذا
التشفي يمكن هنا ربطه، طبعاً، بردود فعل الجمهور العريض على حادثة الحذاء،
ولكن أخطر من هذا كثيراً، بكميات الحلوى التي وزعت في كثير من المدن
العربية، يوم أعلن عن سقوط مبنَيَيْ برج التجارة العالمي في نيويورك، وسقوط
آلاف القتلى فيه، وفي مبنى وزارة الدفاع الأميركية في واشنطن. كانت فرحة
عربية لا توصف: فرحة يؤسفني أن أقول إن أستاذنا الكبير يوسف شاهين عبّر
عنها - شامتاً الى حد كبير - في الفيلم القصير الذي حققه ضمن إطار مشروع ضم
11 فيلماً لمخرجين من شتى أنحاء العالم، أريد منها أن تتحدث، بحرية عن تلك
الحادثة الإرهابية. أنا أعرف تماماً أن يوسف شاهين لم يكن ينظر الى الأمور،
في الحقيقة، على ذلك النحو (وهذا عبر عنه في «اسكندرية/ نيويورك» على أي
حال)، لكنه كان يعرف أن ثمة كثراً في هذا العالم، من عرب وغير عرب، يحبون
هذه النظرة ويحبون ألا يروا في أميركا - كل أميركا، كما يقول المخرج العربي
الذي يلعب دوره نور الشريف في فيلم شاهين القصير الذي أتحدث عنه - إلا الشر
المطلق.
ومن هنا
افترض أن رسم شاهين لهذه النظرة، كما رسم سمير حبشي (في «دخان بلا نار»)
لها، كما تصوير التلفزة العربية لها من خلال كل ذلك الإصرار - المرضي
أحياناً - على استعادة صورة الحذاءين الموجهين الى جورج بوش، كل هذا ليس في
نهاية أمره سوى مسايرة لذوق جمهور عريض، سيكون من المبالغة منا، على أي
حال، أن نقول إنه في نظرته هذه يظلم أميركا أكثر من ظلمها هي له على مدى
عقود من السنين.
وفي يقيني
أن لب المسألة يقع هنا بالتحديد. ويقع في نوعية الجواب الذي يمكن المرء أن
يرد به على السؤال الأميركي الذي أشرت اليه أعلاه: لماذا يكرهوننا؟ ولعلّي
أريد بهذا أن أقول، إن اللوم في نهاية الأمر لا يقع على السينما حتى وإن
بالغت واختزلت أو شوهت في نظرتها الى أميركا. اللوم هو على السياسة، وما
السينما وردود الفعل التي تنتجها أو تصوّر حقيقة وجودها، سوى صورة لهذه
السياسة (...).
والآن لا بد من أن ننتقل الى مكان آخر: الى لبنان، قبل أن نصل الى سينما
عربية أخرى (وسينما مصرية كذلك) دنت من هذا الموضوع، لقد أتينا في الحديث
أعلاه، على الأحدث بين الأفلام اللبنانية وهو فيلم «دخان بلا نار» لسمير
حبشي (...) لكن حبشي لم يكن الأول في هذا البلد الذي يدنو من أميركا
«سياسياً». بل لعل في إمكاننا أن نقول إن بعض السينما اللبنانية كان أبكر
في الدنو من النظرة الى أميركا من السينمات العربية الأخرى. والسبب في هذا،
هو الحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت في نسختها الأولى بين 1975
و1990... فعدد من السينمائيين اللبنانيين، التقدميين والمسيّسين حتى النخاع
في ذلك الحين، كان يرى أن «أميركا» هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن تلك
الحرب، ولكن هذا الكلام قد جاء فقط في فيلم من هنا أو موقف من هناك (في
«كفر قاسم» حتى وإن كان توجه برهان علوية تحدث فيه عن مذبحة اسرائيلية في
حق الفلسطينيين تعود الى 1956، مركزاً في مشهد شهير على السروال الداخلي
لمواطن فلسطيني مصنوع من كيس طحين فارغ يحمل العلم الأميركي، وفي «بيروت يا
بيروت» لمارون بغدادي الذي يحفل، من خلال حوارات المحامي الناصري الشاب
بإدانات لأميركا على سبيل المثال)، فإن هذا الكلام جاء قوياً كبيراً وشديد
الفصاحة في فيلم للراحلة رندة الشهال، وهو أول أفلامها «خطوة خطوة» (1978)،
إذ فيه - وفق العنوان - استندت المخرجة الى سياسة «الخطوة خطوة» الشرق
أوسطية لهنري كيسنجر لتقول إن تلك الحرب مرتبطة به وبسياساته.
والحال ان
هذه النظرة «المؤامراتية» الى الحرب اللبنانية وعلاقة السياسة الأميركية
بها، إذا كانت بدت مصطنعة الى حد ما، في الفيلم المشار اليه، فإنها كانت
ستبدو أكثر وضوحاً ومنطقية في فيلمين لبنانيين آخرين لم يتحققا - وفي هذا
دلالته الواضحة: فيلم لبرهان علوية (صاحب «كفر قاسم» 1975) عن حرب البترول،
كتب له السيناريو ولم يعثر على من ينتجه بعنوان «الأمير»، وفيلم لاحق كان
من المفترض أن يكون ثاني أفلام زياد دويري، المساعد السابق على الكاميرا
لكوينتن تارانتينو، بعد «بيروت الغربية» 1998، وكان من المفترض كما ينص
عنوانه أن يتناول «السياسة الخارجية الأميركية» كما «تقترف» في الشرق
الأوسط، بحسب تعبير المخرج في ذلك الحين. بالاستناد الى قراءة سيناريو أول
هذين المشروعين وما قيل عن الثاني، كان يفترض بكل منهما أن يكون علامة في
مجال التعبير عن نظرة السينمائي العربي الى السياسة الأميركية... وبالتحديد
بعيداً من مناهضة أميركا، المعهودة شعبياً وفي الكثير من الفنون العربية،
بما فيها أفلام جماهيرية غالباً ما تكون هزلية تمرر عبارة من هنا أو موقفاً
من هناك لإضحاك الشعب «على الأميركيين».
في انتظار
الرئيس
لو تحقق
مشروعا علوية ودويري، لكان من شأنهما أن يتكاملا، من ناحية مع فيلم كان
المغربي سهيل بن بركة قد حققه عام 1974 بعنوان «حرب البترول لن تقع» يتصدى
لفضح «الشركات العابرة الجنسية» المهيمن عليها أميركياً، والتي «تنهب»
بترول العالم الثالث، ومن ناحية ثانية مع فيلم أكثر جدية وعمقاً بعنوان
«زيارة السيد الرئيس» عام 1994 حققه المصري منير راضي عن رواية معروفة
للكاتب يوسف القعيد. صحيح أن هذا الفيلم الأخير لا يشكل مجابهة مباشرة مع
الصور الأميركية، لكنه يتوغل الى أبعد من هذا: يرسم الصورة من خلال أولئك
الذين تتكون عندهم، لينسف كل شيء في نهاية الأمر. فالحكاية هنا تدور في
قرية مصرية تدعى الضهرية، يسمع أهلها بأن الرئيس الأميركي، خلال زيارته
الميمونة الى مصر، سينزل لبعض الوقت في قريتهم، ولما كانت الصحافة المصرية
في زمن الانفتاح والتقارب مع أميركا قد أسرفت في الحديث عن بلايين
الدولارات التي ستأتي من أميركا، يقفز الحلم الأميركي بالثراء الى واجهة
الحياة في القرية ويروح الناس مستعدين لاستقبال الضيف الكبير وطرح مطالبهم
أمامه. آه كم تبدو لهم الحياة سعيدة في تلك اللحظات، وكم يبدو المستقبل
وضاء... الى درجة أن سكان القرية الريفيين يرتدون الثياب الأميركية لاجتذاب
اهتمام الرئيس الأميركي وعنايته. ولكن في النهاية يمر القطار ولا يتوقف في
القرية.
وفي
اعتقادي أن هذا الفيلم، من دون أي فيلم آخر، وربما في انتظار تبلور مشروع
«شيكاغو» كان الفيلم الذي أوصل الرسالة الأكمل والأوضح عن النظرة العربية
الى أميركا. فأميركا هنا، هي بالتحديد رئيسها، وهي الحلم الأميركي، وهي
أيضاً الصورة الأميركية الكريمة المنقذة التي تفنن صحافيون مصريون كثر في
الترويج لها، مع بدء الزمن الذي سمي زمن الانفتاح. وأميركا هذه، من دون أي
دنو من الشعب الأميركي نفسه ومن قيمه، هي التي تشكل في هذا الفيلم خيبة
الأمل وانهيار الحلم، وهما أمران نعرف أن السينما الأميركية نفسها لم تكف
يوماً عن الدنو منهما، وغالباً بقسوة هي أشد قسوة من السينما - أو السينمات
- العربية على أميركا. كما نعرف أن يوسف شاهين نفسه، في مواقف وأفلام عدة
له، تبناهما، مطوراً إياهما حيناً في هذا الاتجاه، وحيناً في الاتجاه
الآخر، وهو ما سأتحدث عنه باختصار بعد قليل. أما هنا فأود الإشارة الى فيلم
شعبي ناجح، يخيل اليّ أن جزءاً كبيراً من شعبيته يعود الى نظرته، الملتبسة
قصداً الى أميركا، هذا الفيلم هو «صعيدي في الجامعة الأميركية» للمخرج
السوداني، المقيم والعامل في مصر سعيد حامد. فمن ناحية مبدئية كان هذا
الفيلم يهدف الى مهاجمة التطبيع مع اسرائيل، غير أنه سرعان ما تحول من
مهاجمة اسرائيل ودمويتها وسياستها والتطبيع معها، الى مهاجمة أميركا،
وتحديداً من طريق مهاجمة أستاذ مصري متأمرك يحاكمه الطلاب ويحاكمون من
خلاله كل ما هو أميركي مازجين نهائياً بين السياستين الأميركية
والإسرائيلية.
فهل علينا
هنا أن نذكر أن كل النظرة العربية الى أميركا - سواء كانت موروثة أم غير
موروثة من سياسات الحرب الباردة - تقوم على هاتين القاعدتين؟ وهل علينا أن
نقول إنه إذا كان في وسعنا المساجلة حول صوابية الجزء الأول من النظرة،
والحديث عن الحلم الأميركي على أنه حلم غدر به، لا على أنه مخطئ من الأساس،
لا يمكننا أبداً أن نجادل في صوابية الجزء الثاني من النظرة. فالحال أن
علينا أن نقول ونؤكد دائماً، إنه إذا كان الوعي - أو حتى اللاوعي - العربي،
يبادل أميركا العداء، فإنما يكمن السبب في موقف أميركا نفسها من القضية
الفلسطينية، قضية العرب المركزية.
هنا، عند
هذا المستوى من الحديث، من المؤكد أن التوافق العربي العام والتام في
الموقف من أميركا، يجد كل مبرراته، بل يجد تبريراً إضافياً له، في مشهد
الرؤساء الأميركيين، السابقين دائماً، حيث يروحون معبرين، أفراداً أو
مجتمعين، مع تفهمهم للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، فقط بعد
مبارحتهم السلطة والقدرة على اتخاذ القرار. فالذي يغيظ هنا ينطلق من سؤال
لا بد من أن العقل العربي يجابه به سؤال الأميركيين: لماذا نكرههم، وهو:
كيف لم تدركوا، يا فخامة الرؤساء هذا الحق العربي حيث كنتم في البيت
الأبيض؟
الثلاثي
المشيطن
هذا البعد
قد يبدو هنا خارجاً عن السياق السينمائي الذي نتحدث عنه. لكنه في صلبه في
الحقيقة. ولعل خير مثال على هذا هو حيرة فنان كبير، ومسيّس حتى النخاع، مثل
الراحل يوسف شاهين أمام هذا التناقض الأميركي، وهي حيرة يعبر عنها أحياناً
في شكل منطقي (كما في «اسكندرية/ نيويورك») وأحياناً في شكل يكشف، حقاً،
تمزقات المثقف العربي، ولا سيما حين يجد نفسه مضطراً الى المزج في النظرة
العربية بين أميركا وإسرائيل، ما يشكل جوهر خيبة الأمل التي أضيف إليها
لاحقاً اعتبار للعولمة - خاطئ علمياً على أي حال - يجعلها صورة لإمبريالية
أميركية جديدة، ما أنتج ذلك «الثلاثي المشيطن الجديد» أميركا/ إسرائيل/
العولمة، الذي كان شاهين عام 1999، ومن جديد، أول ملتقطي تكوّنه في
الذهنيات العربية. بل ان شاهين، وقبل اندلاع مسألة الإرهاب على نطاق واسع
من خلال أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك، كان من أوائل الذين - على
المستوى السينمائي على الأقل - سيربطون كل هذا بالمسألة الإرهابية، موجهاً
- مرة أخرى - أصابع الاتهام الى أميركا... على مستوى الرمز - في «الآخر» -
ولكن الرمز المباشر الذي لا يدع مجالاً لأي شك. ففي «الآخر» ثمة رجل أعمال
مصري يأتي الى مصر متزوجاً من أميركية - سيعيّرها في أحد أقوى مشاهد الفيلم
بأصلها الوضيع، كتعبير عن حثالة المجتمع الأميركي (!) - وهذه الأميركية
تتولى الاتصال بإرهابيين لكي يخلصوها من فتاة مصرية أصيلة يتزوج ابنها
منها، فتكون النتيجة أن أولئك الإرهابيين يقتلون المصرية الشابة والابن
معها. كناية فصيحة لا تحتاج الى تفسير، ولا سيما أن يوسف شاهين، يدمج في
أحد مشاهد فيلمه خطاباً مدرسياً، حول العولمة يلقيه الناقد والمفكر
الأميركي والفلسطيني الأصل الراحل ادوارد سعيد، أمام صحافي، هو الآخر في
الحياة العامة مناضل مصري معروف، وقد تحول الاثنان لضرورات الفيلم الى
ممثلين لم يكن من شأن أي منهما أن يفوز بجائزة ما على أدائه على أي حال!
كان من الواضح أن يوسف شاهين يلجأ في «الآخر» الى قدر كبير من المبالغة كي
يسجل لنفسه فضلاً في نقل الصراع العربي الشعبي المعلن ضد أميركا وما تمثله
أميركا، الى موضع سينمائي بامتياز. وربما هو نفسه شعر بأن مبالغاته في هذا
الفيلم لن تلقى في العالم الخارجي، الصدى الذي كان يمكنه أن يأمله، لأن
أمور السياسة العالمية ليست على هذه البساطة (...).
والحال،
إننا إذا كان لنا أن نختتم، هنا، هذا الكلام كله، لا نجد بأساً في أن
نختتمه عند هذه النقطة: النقطة التي فحواها أن السينما العربية قالت ما
يعتمل في أذهان الناس عن أميركا سواء أكان مفتعلاً، موروثاً من زمن الحرب
الباردة - يعمل لحساب آخرين ناسباً تاريخاً من المساندة الأميركية للنزعات
الاستقلالية العربية حتى حرب الجزائر، مثلاً، ثم وقوف أميركا ضد فرنسا
وبريطانيا وإسرائيل أيام العدوان الثلاثي -، أم كان صحيحاً في مواقفه من
المبادرات الأميركية ضد العرب بوقوفها مع اسرائيل ظالمة كانت أم مظلومة أم
كان ملتبساً في ربطه العولمة بالإمبريالية الأميركية، وأخيراً حتمياً، في
نظرته الى الوجود الأميركي على أنه احتلال بغيض.
صحيح أن
السينما، في شكل عام، لم تقل هذا كله بعد، بالرهافة والدقة المطلوبتين
مفرقة بين عدوانية أميركا وأخلاقياتها، بين مبدعيها ويسارييها،
وديموقراطييها وليبرالييها، والفرص التي يتيحها لعشرات ألوف العرب طلاباً
أو مقيمين، من ناحية، وبين تكشيرها الدائم عن أنيابها وإتيانها بأمثال جورج
دبليو بوش الى الحكم، من ناحية أخرى.
لكنني
أعتقد في المقابل، وعلى رغم كل المؤثرات الظرفية، أن صورة أخرى لأميركا
ستبزغ قريباً وربما مع أعمال مثل «شيكاغو»، ولكن أيضاً ربما عبر آمال
متجددة حتى في البيت الأبيض، يمثلها اليوم انتخاب باراك أوباما وما يعنيه
هذا، آمال تعيد الى الأذهان إعجاباً عربياً دائماً حتى بشاغل للبيت الأبيض،
مثل جون كنيدي، أو برئيس لاحق عليه، نعرف الآن أنه كان في العقود الأخيرة
من أكثر شاغلي البيت الأبيض سعياً لحل المشاكل الشرق أوسطية ونعني به
الرئيس كلينتون.
والسؤال:
هل ستصل السينما يوماً الى التعبير عن هذا بدقة ورهافة؟
الحياة اللندنية في 2
يناير 2009 |