مع نهاية
كل عام ينبغي أن تكون لنا وقفة، نراجع فيها ما هو إيجابي وما هو إيجابي
أولا، قبل أن نصر علي إحصاء السلبيات. فالنقد علم وليس فرعا من فروع
الأخلاق، بالمعني الأكاديمي لكلمة أخلاق أي «إيثيكس». بالطبع لا يهتم النقد
بآليات العمل التليفزيوني، وربما لا يعرف الكثيرون أن العقبة الأولي في
طريق تطور الدراما التليفزيونية هي المسئولون عن الإنتاج فمعيار الجودة
عندهم هو: «كم دقيقة سجلها المخرج وكم دقيقة سجلها ». وليس من قبيل المزاح
أن أطلق أكثر المخرجين الذين تعاملوا مع جهاز صوت القاهرة اسم: «الشركة
العامة لتعبئة الشرائط». ولن أدخل في التفاصيل فهي مؤلمة للغاية، وإنما
أشير إلي هذا الوضع لأتحدث عن عدد قليل من مخرجي المسلسلات استطاع رغم كل
العقبات، أن يقدم أعمالا جيدة. من هذه الأعمال: «قصة الأمس»، إخراج إنعام
محمد علي، و «عدي النهار»، إخراج إسماعيل عبدالحافظ، و «نسيم الروح»، إخراج
سمير سيف و «جدار القلب»، إخراج أحمد صقر، و «علي مبارك» إخراج وفيق وجدي،
و «ظل المحارب» إخراج نادر جلال.ولو اتخذنا مقياس المعاصرة، أي دراما تنتزع
خطوطها مما أحدث تغييرا جذريا في بيئة المجتمع المصري، ففي أول القائمة
مسلسل إنعام محمد علي. لماذا؟! لأن المسلسل يركز علي ما اسميه «الرأسمالية
البترولية»، فهو يكشف لنا عن دوافع هجرة علمائنا ومثقفينا ومهندسينا
وأطبائنا إلي الدول الشقيقة بالخليج العربي. لأنهم في بلدهم، لا يجدون
معيار تقييم الجهد البشري. خريج الجامعة، مثلا ما الذي يقبضه أول كل شهر كي
يدفع إيجار شقته، وهي بالإيجار الجديد بضع مئات؟. مثال بسيط لكن عندما تكون
صاحب نظريات علمية. ولديك قدرة علي تطبيقها، ولا تجد أمامك من يقدر جهدك
سوي فريق من المقاولين. أغلبهم في حاجة للالتحاق بمدارس محو الأمية، ماذا
تفعل غير أنك لو وجدت عملا في أي دولة خليجية، ويحدد لك راتبا وفق أسعار
السوق العالمي، لابد أن يحدث لك صدع. صدع يفصلك عن جذورك تدريجيا. وبقدر ما
تكون واعيا بنفسك وبمجتمعك، بقدر ما تقاوم، وتصبح فريسة لصراع نفسي مستمر.
هذا هو وضع المهندس أحمد الذي نراه في إحدي دول الخليج يكد كي يرسل إلي
زوجته الآف الدولارات، وهي تؤمن بأنها تحبه، وهو يؤمن بالمثل بأنه يحبها،
ولكن حبهما سرعان ما يتحول إلي حب من نوع آخر، حب الامتلاك، لأن زهرة
«إلهام شاهين» تكونت في ذاكرتها وفي وجدانها مناطق انفعالات جديدة، ما إن
تري عمال البناء وهم في عملية تشطيب فيلا - قصر حتي تتدفق مشاعرها وتتحول
الفيلا أو القصر إلي عشق جديد. أحمد المهندس «مصطفي فهمي» فء غربته، يحاول
نسيان تحولاته النفسية، تارة بارتياد المطاعم الفخمة أو التحدث مع مساعدته
«ميرنا وليد»، ولأنها معلقة، وهو بلا زوجة ترافقه، سرعان ما يقام بينهما
جسر عاطفي، ينتهي بزواج عرفي وفجأة ينتقل المهندس مصدر الآف الدولارات إلي
زوج يتوق لرؤية زوجته التي يحبها، والتي عندما يعود إلي بيته في القاهرة،
يتملكه نوع من «الفانتازم»، أي خيالات في ذهنه تريد أن تجد طريقها إلي
الواقع وواقعه هو أن يستعيد بداية علاقته بزوجته، عندما كانت علاقة حب
خالص. هل نسي زوجته المهندسة التي تزوجها في الخليج!الأخيرة تريد تأكيد
علاقتها اجتماعيا، الاعتراف بها كزوجة، أحمد يصارع، تكتشف الزوجة ما حدث.
قطيعة. ميل الزوجة إلي مسئول كبير بالخارجية، فهي لتكريس مكونات الطبقة
الجديدة وفي مقدمتها الفيلا - القصر أخذت ما يسمي إجازة بدون أجر. ومع
معرفة ما حدث تعود إلي الخارجية وتكاد ترشح لمنصب سفيرة. نهاية ميلودرامية.
لكن في حلقات كثيرة تلمس الصدق الفني، خاصة في نظرة طفلي أحمد وزهرة نظرات
اتهام، رغبة في المصالحة، يأس، هروب الابن إلي المخدر والفراغ تحطم جهاز
الابنة النفسي.النفاذ إلي ما يحدث من عمليات تحول من الداخل من خلال مشاعر
قمة إنسانيا، هو ما يجعل قصة الأمس، عملا رائعا خاصة أنه قدم للشاشة
الصغيرة وجوها شابة تعيد لها حياتها، قدم ميرنا والممثلة الشابة التي قامت
بدور الابنة، وأتوقع لها مستقبلا حافلا، ثم شقيقها. الأسرة التي تعاني من
غياب ابنائها، لأنهم فضلوا العمل في شركات بالخارج، إذ ليس لهم مكان في
وطنهم، هو أيضا محور مسلسل «جدار القلب» لكن هناك آلام - الطبيبة النفسية
«سميرة أحمد» التي صمدت في مؤسسة إصلاحية قائمة علي العلاج النفسي، ورغم كل
ما يحاك حولها من مؤامرات خاصة لشراء تقرير توقعه يؤكد إصابة ثري قتل زوجته
عن غير عمد، ولو لم تكتب تقريرها، ربما يقاد إلي حبل المشنقة «دور رائع
لسمير صبري» بين يقظة الضمير وما حدث لابنها، إذ اختطفه إرهابيون يفرضون
فدية بخمسة ملايين دولار، بين جذع آلام والالتزام بشرف المهنة، يقدم لنا
المسلسل ما كنا نفتقده في السنوات الماضية. تأنيب الضمير ويقظة الضمير، هما
مؤشران لصحوة ستحدث حتما في مجتمعنا المصري وتساهم الدراما التليفزيونية في
الإسراع بتكوين صورة غد مشرق.والغد المشرق في حاجة إلي لم شتات بنية
المجتمع المصري فنحن «تاريخيا وديالكتيكيا»، في مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة
«المعضلة» بين تكوين اجتماعي وتكوين مضاد، والاثنان قد تفاعلا لإحداث واقع
«مهجن» شذرات واقع. هذا هو محور مسلسل «عدي النهار» من أهم مزاياه أن
الحركة الدرامية هي صعود وهبوط في السلم الطبيقي، فنحن في مرحلة بدايات
ثورة يوليو، الاقطاعيون لا يعترفون بها، وفي وجدانهم هي عملية سلب لميراثهم
الشرعي، بينما أبناء الإقطاعيين، وقد اختلطوا بواقع جديد، ويتمثل ذلك في
«نبيل» ابن الباشا الكبير، أقول أبناء الإقطاعيين هم جيل التحول الاجتماعي
- السياسي - النفسي. هم أيضا في صراع فابن الباشا يقع في حب ابنة مسئول
كبير في أمن الدولة، إذا كنت قد فهمت دور «صلاح السعدني» الرائع، وابنة
الثوري رسميا، لها زميلة تعيش مع أسرتها في غرف بسطوح بيت يقع في إحدي
حارات الأحياء القديمة، ومع ذلك يتساوي الثلاثة: ابن الاقطاعي، ابنة
الثوري، ابنة الحارة، يتساوي الثلاثة في أنهم بمنطق التحولات الاجتماعية،
سيكونون قادة المستقبل.هل تسمح مراحل التحول الاجتماعي - السياسي - النفسي
بأن يسير تاريخ مصر في مساره الطبيعي؟ هل أفرزت المراحل التاريخية المصاحبة
لفترات التحول جيلا جديدا قائدا؟سؤال يطرحه المسلسل وبصدق. وكما قدمت إنعام
وجوها جديدة أسلوبها هو النظرة، الإيماءة، الصمت، الإنصات، أي كل مقومات
ممثل الدراما البصرية - السمعية، أيضا قدم لنا إسماعيل جيلا جديدا سوف يلعب
دورا رئيسيا في تغيير طرق الأداء، منهم نيكول ورزان وعبير ومني ومني الأخري،
وإسماعيل مثل إنعام لا يعطي في «الجنيريك» العناوين» الثواني الكافية
لقراءة أسماء هذه الباقة المتفتحة من نجوم الغد. وإذا كان إسماعيل
عبدالحافظ قد وضعنا علي شاطئين بلا جسر بينهما ولا حتي قنطرة، فسمير سيف،
يردنا إلي بداية القرن الماضي، إذا لم تخني الذاكرة نوستالجيا تسير في خط
هوانم جاردن سيتي، والملك فاروق إلخ..ومع ذلك فهي أقرب إلي الحكايات
المجازية منها إلي الدراما بمفهومها التقليدي المدرسي السائد عندنا. ابن
الحارة يتبناه باشا وابنة تابعة شيخ الحارة تكتشف في النهاية أنها ابنة
الباشا. إلي هنا لا بأس. ظاهريا نحن، أمام ميلودراما علي طريقة عودة الطفل
الضال. إلا أن سمير ينفذ إلي روح «أولاد البلد» روح الشعب، أبناء الحارة،
إنهم لا يستسلمون لا يقولون: «لا»، وحتي سعد الذي تربي في سرايا الباشا لا
يستجيب لأي إغراء: إما استعادة حق أبناء الحارة أو الموت. في النهاية هي
حنين لعصر كان فيه الرجال رجالا.لكن كل ما رأيناهم في شتي مراحل التحول
الاجتماعي ينسون نقطة البداية: التحول من الإقطاع إلي رأسمالية الدولة،
بدءا بتفتح العقلية المصرية علي عصر الثورة الصناعية. كيف تفوق الضرب؟ كيف
تخرج مصر من احتلال فرنسي لتقع في احتلال انجليزي؟هذه هي بداية طرح النهضة
في صيغة سؤال كيف نلحق بالتطور العالمي؟ بالتعليم «علي مبارك» بالمجابهة
وبالدستور وبحق المرأة في التعليم «رفاعة الطهطاوي» بمد الشاطئ الشرقي
للنيل بالشاطئ الغربي بواسطة سلسلة من الكباري. حتي تتحول الحقول إلي
مشيدات ومبان حديثة، بإنشاء الأوبرا والمسرح الكوميدي - الدرامي وللأسف
تحول أكبر مبني لمسرح في القاهرة إلي جراج للمطافي وإلي مكتب بريد بينما لو
ذهبت إلي باريس ستجد هذا المبني هو صورة طبق الأصل من الكوميدي فرانسيز وكل
هذا بفضل إسماعيل. كيف نربط هذه الجهود المضنية في خط درامي؟ سؤال يرد عليه
وفيق وجدي بمسلسل «علي مبارك»الدراما البصرية - السمعية ليست سكريبت «نص
سيناريو» يردد جانبه الأيسر شخصياته لا يكلفون أنفسهم قراءة الحركة والصمت
والانفعال واتجاه النظر علي الجانب الأيمن. والدراما البصرية السمعية ليست
مجرد كاميرا تحصر اثنين تم تفرقهما ويبدأ كل واحد يرد علي الآخر في كادر
فهذا التصور هو تصور الشاعر الجاهلي الذي يكتب الشعر ليغنيه من يقود الجمل
في الصحراء، شطرة علي اليمين وشطرة علي اليسار، هكذا بحر الرمل وبصريا هو
يعطينا صورة راكب الهودج فوق الجمل يميل يمينا، ثم يسارا. ويبرك الجمل.
فيجلس الممثلون، وينهض الجمل فينهض الممثل والجمل هو الكاميرا وهذه الحركة
لعجز المصور عن فهم الإضاءة الجانبية «» وكذلك الإضاءة غير المباشرة. لو
أنك سردت مصدر إضاءة علي وجه الممثل، أنت تلغي قسماته ويتفلطح وجهه ويصبح
قماشا أبيض. والدراما البصرية ليست مجرد ممثلين يحكون الموضوع علي أي
خلفية، فالخلفية في أي مشهد هي جغرافية المكان، وتحديد نوع حياة الشخصية،
هي وأي مكملات علي الأسطح وأي فراغ، كل هذا هو تكوين المشهد في أي دراما
بصرية سمعية. وما توقفت عنده من مسلسلات هي خطوة أولي نحو التحرر من آليات
العمل بالتليفزيون عندنا نحو خلق دراما حقيقية. هذه الطفرة لو اتخذت مسارها
الحق سوف تحدث تأثيرها علي تصميم الديكور وعلي الإضاءة «الناعمة - غير
المباشرة - الفيلنج» وعلي الماكياج. فهناك فارق كبير بين غرفة الماكياج
وبين صالون الحلاقة، فالماكيير رسام، ويتوقف علي فهمه للشخصية تجسيد
ملامحها أمام الكاميرا. وكل عام وأنتم بخير
جريدة القاهرة في 30
ديسمبر 2008 |